الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 - فقه الاستفادة من الإيمان
قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97].
وقال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} [التوبة: 72].
الله تبارك وتعالى هو الغني وحده لا شريك له، وخزائن كل شيء عنده، وخزائنه مملوءة بكل شيء، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ويطعم من يطيعه ومن يعصيه، ويرحم من استرحمه، ويغفر لمن استغفره، ويعطي من سأله، ويجيب من دعاه، ويغيث من استغاثه، ويتقرب إلى من تقرب إليه، وهو الغني الحميد.
غافر الذنوب، وساتر العورات، وكاشف الكربات، وفارج الهموم، وشافي الأمراض، وهادي الضال، ومعافي كل مبتلى، وميسر كل عسير، وواهب كل نعمة، ودافع كل نقمة.
وهو سبحانه الذي خلق الخلائق، وخلق الأرزاق، وخلق الأحوال، وقسم الأرزاق، وقدر الآجال، وله خزائن السموات والأرض كما قال سبحانه:{وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)} [المنافقون: 7].
وجميع المخلوقات والكائنات، وكل الأرزاق والنعم، وكل شيء في هذا الكون خزائنه عند الله كما قال سبحانه:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21].
فكل شيء خزائنه عند الله:
خزائن الأرزاق .. خزائن النعم .. خزائن الطعام .. خزائن المياه .. خزائن الحبوب .. خزائن الثمار .. خزائن النبات .. خزائن الأشجار .. خزائن الحيوان .. خزائن الرياح .. خزائن النجوم .. خزائن المعادن .. خزائن الذهب .. خزائن
الفضة .. خزائن الحديد.
خزائن العزة .. خزائن الرحمة .. خزائن الهداية .. خزائن النعيم .. خزائن العذاب .. خزائن الحكمة .. خزائن العلم .. خزائن القوة .. خزائن النور .. خزائن السمع .. خزائن البصر .. خزائن العقول .. وخزائن كافة المخلوقات في العالم العلوي والسفلي .. وفي الدنيا والآخرة .. كلها في قبضة الله .. وبيد الله وحده لا شريك له.
وللاستفادة من خزائن الله هناك طريقان:
طريق الأموال والأسباب .. وطريق الإيمان والأعمال الصالحة.
فالأول لعموم البشر، والثاني خاص بالمؤمنين.
فكل مسلم بقدر إيمانه وأعماله الصالحة يستفيد من خزائن الله.
وأكثر المسلمين اليوم يستفيدون من خزائن الله بواسطة الأسباب، لا بواسطة الأعمال.
وبسبب ضعف الإيمان نقدم الأسباب على الأعمال، وهذا بسبب الخسارة في الدنيا والآخرة، فالواسطة بين المؤمنين وربهم هي الأعمال لا الأسباب كما قال سبحانه:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].
وجميع الأنبياء جاءوا ليدلوا الناس على الاستفادة من قدرة الله بالإيمان والأعمال الصالحة.
والله عز وجل أعطانا الأسباب التي نستفيد بها من قدرة الله وهي الإيمان والأعمال.
وأعطانا الأسباب الظاهرية ابتلاء من الله، ليعلم من يعتمد عليها ممن يعتمد على الله في حصول المطلوب.
فأحياناً تفعل، وأحياناً لا تفعل، حسب أمر الله الذي خلقها.
فيحصل الشفاء بالدواء، والشبع بالأكل، والري بالشرب، والنبات بالماء
وهكذا.
وهذا كله ابتلاء من الله يحصل أمام العبد، والمطلوب نفي هذه الأشياء، وإثبات اليقين على الله وحده.
وإذا جاء اليقين على الأسباب والأشياء، اعتمد عليها الإنسان، فكانت سبباً لهلاكه كما حصل لفرعون الذي اعتمد على ملكه، وكما حصل لقارون الذي اغتر بماله.
وكما حصل لقوم نوح الذين اغتروا بكثرتهم، وكما حصل لقوم عاد الذين اغتروا بقوتهم، وكما حصل لقوم ثمود الذين اغتروا بصناعتهم، وغيرهم ممن طغى وتجبر وأفسد في الأرض.
وإذا كان اليقين على الله وحده لم يلتفت الإنسان إلى الأسباب، لأن الله معه، وإذا كان الله معه فلا يحتاج إلى أحد، سواء كانت عنده الأسباب، أم ليست عنده الأسباب.
فالله يعطي وينصر ويعز بالأسباب .. وبدون الأسباب .. وبضد الأسباب .. وهو على كل شيء قدير.
فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله؟.
وكم من نبي نصره الله على أعدائه مع كثرتهم وقوتهم؟.
وكم من ذليل فقير أعزه الله بالإيمان وليس معه من الأسباب شيء؟.
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)} [آل عمران: 123].
وكلما تبدل اليقين وصار على الأسباب لا على الله أرسل الله نبياً يرد الناس إلى (لا إله إلا الله).
فإذا جاء اليقين الصحيح على الله الذي بيده كل شيء، لم يلتفت الإنسان إلى الأسباب، بل يؤمن بها، ويفعلها ولا يعتمد عليها، بل يعتمد على الله وحده.
فيذهب إلى العمل .. ويأكل الطعام .. ويشرب الدواء .. ويعد القوة .. ويبذر الحب .. امتثالاً لأمر الله في هذه الأشياء .. فالأسباب نفعلها .. ولا نتوكل إلا
على الله وحده.
فكل المخلوقات محتاجة في وجودها إلى الله .. ومحتاجة في بقائها إلى الله .. ومحتاجة في تأثيرها إلى الله .. فهي لا تنفع ولا تضر إلا بإذن الله.
وكل ما في الكون ملك لله يعطي منه من يشاء، ويسلبه إذا شاء كما قال سبحانه:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} [آل عمران: 26].
والماء والنار والرياح مخلوقات عظيمة ولكن ليس بيدها شيء، وهي في قبضة الله، يصرفها كيف يشاء هي وجميع الكائنات في السماء والأرض.
إن أمرها الله بالنفع نفذت أمر الله .. وإن أمرها بالضر نفذت أمر الله .. وهي عبيد من عبيده سبحانه، لا تعصي له أمراً .. ولا تملك إلا الطاعة لفاطرها ومبدعها:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)} [مريم: 93، 94].
فالخلق كله والأمر كله لله وحده لا شريك له: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].
فالله على كل شيء قدير .. إن شاء أنزل الماء بالسنة الجارية، كما ينزل من السحاب .. وإن شاء أخرجه بضد الأسباب .. كما فجره عيوناً من الحجارة اليابسة لموسى صلى الله عليه وسلم وقومه.
وقد جعل الله في الدنيا حياة الأسباب موجودة، وحياة الأعمال موجودة.
فمن اجتهد على الأسباب، جاء عنده اليقين على الأسباب، ومن اجتهد على الإيمان والأعمال، جاء عنده اليقين على قدرة الله عز وجل.
والله عز وجل يقضي الحاجات بالإيمان والأعمال قطعاً، ويقضيها بالأسباب امتحاناً وابتلاءً للمؤمن، واطمئناناً للكافر.
وأحياناً نفعل الأسباب ولا تظهر النتائج لتذكير العباد بالخالق.
والله سبحانه يقضي حاجات العباد بهذا وهذا، بقدرته من الأرض أو من
السماء، بالأسباب وبدون الأسباب، وبضد الأسباب، فقد أعطى الله بني إسرائيل مع موسى صلى الله عليه وسلم الماء من الحجر من الأرض، وأعطاهم المن والسلوى من السماء، ورزق مريم طعاماً بلا شجر، وابناً بلا ذكر، وأخرج النبات من الأرض، وأظهر الثمر من الشجر، وأخرج الحليب من الضرع، والنور من الشمس، والكلام من اللسان.
وهذا كله من الله وحده لا شريك له، وهذه المخلوقات مظاهر لقدرة الله، فلا الأرض تعطي، ولا السماء تعطي، وإنما المعطي والرازق واحد لا شريك له.
فالخالق واحد، والمعطي واحد، وأماكن التسليم والنفع متعددة، ومظاهر القدرة مختلفة:{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31].
فالمعطي والمانع، والنافع والضار، والمعز والمذل هو الله وحده لا شريك له.
فالطعام مخلوق وقد أمر الله بأكله، وجعله سبباً للحياة، ولكن ليس بيده شيء فهو لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله، يأكله الصغير فيكبر وينمو، ويأكله الكبير فيضعف وينقص.
والماء مخلوق وقد أمرنا الله بشربه، وجعله سبباً للحياة، ولكن ليس بيده شيء فهو لا ينفع ولا يضر إلا بأمر الله، يشربه الإنسان فيحيا، وأحياناً يشربه فيموت، ومن طبيعته الإغراق، ولكنه مملوك لله أمره الله فانفتح لموسى ومن آمن معه، وأغرق فرعون وقومه في آن واحد، وحمل موسى وليداً حتى أدخله في قصر فرعون، وأغرق كفار قوم نوح قاطبة.
والنار مخلوقة وقد جعلها الله سبباً لمصالح العباد، ومن طبيعتها الإحراق، ولكنها لا تنفع ولا تضر إلا بإذن الله، فهي مملوكة مدبرة.
إن جاءها أمر الإحراق أحرقت، وإن جاءها أمر الحفاظة أطاعت وحفظت، كما جعل الله النار برداً وسلاماً على إبراهيم صلى الله عليه وسلم:{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء: 69].
فسبحان مالك الملك، وسبحان من نواصي الخلائق كلها بيده يفعل بها ما يشاء:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)} [الرعد: 2].
وإذا جاءت مصيبة على الإنسان فحلها بيد الإنسان بأن يمتثل أوامر الله على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا غير ما في قلبه وجاء عنده اليقين على ربه غير الله بدنه وحاله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
وإذا جاءت علينا أحوال شديدة نشكوها أمام الخالق وحده، ونتضرع إليه في كشفها، ولا نذكرها أمام المخلوق العاجز الضعيف، بل نشكو أحوالنا فقط إلى الله، ونفعل الأسباب التي أمر الله بها في حدود الاستطاعة.
فالله أعطانا بمنه وكرمه الإيمان والأعمال، لجميع الأحوال، فإذا قمنا بالأعمال التي يرضى الله بها أصلح الله الأحوال بقدرته.
كما سأل النبي صلى الله عليه وسلم في بدر النصر على الكفار، فنصره الله بقدرته، ولم يتوجه إلى الفرس ولا إلى الروم، ولا لبشر ولا لسبب، بل توجه إلى الناصر الذي يملك النصر وحده كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)} [آل عمران: 123].
وإبراهيم صلى الله عليه وسلم لما دعا قومه إلى الإيمان فأبوا وأرادوا إحراقه بالنار توجه إلى ربه في طلب النجاة، ولم يتوجه لأحد سواه، فأنجاه الله وخذلهم كما قال سبحانه:{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)} [الأنبياء: 68 - 70].
ونوح صلى الله عليه وسلم لما دعا قومه إلى الإسلام فأبوا واستكبروا، وعادوه، دعا عليه ربه فأغرقهم بالماء، وأنجاه ومن آمن معه كما قال سبحانه:{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)} [القمر: 10 - 15].
وقال سبحانه: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ
الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)} [الأنبياء: 76، 77].
وأيوب صلى الله عليه وسلم حين ابتلاه الله ببلاء شديد، فقد سلط الشيطان على جسده ابتلاء من الله، فنفخ في جسده فتقرح قروحاً عظيمة، ومكث مدة طويلة، واشتد به البلاء، ومات أهله، وذهب ماله فوجده الله صابراً راضياً عن ربه.
فدعا ربه، فكشف ضره، ومنحه مع العافية من الأهل والمال شيئاً كثيراً كما قال سبحانه:{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)} [الأنبياء: 83، 84].
فمتى يستفيد المؤمنون من قدرة الله، بالتوجه إليه وحده في كشف الكربات والأمراض، ودعائه، وحسن الصبر على بلائه، والله سميع مجيب.
ويونس صلى الله عليه وسلم أرسله الله إلى قومه فلم يؤمنوا، فوعدهم بنزول العذاب بأن سماه لهم، فلما جاءهم العذاب عجوا إلى الله وتابوا، فرفع الله عنهم العذاب كما قال سبحانه:{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)} [يونس: 98].
ولكنه صلى الله عليه وسلم ذهب مغاضباً لقومه، وخرج من بين أظهرهم قبل أن يأمره الله بذلك، وظن أن الله لا يقدر عليه، وعرض له هذا الظن فركب السفينة فأوشكت على الغرق، فاقترعوا من يلقى في البحر، لئلا تغرق السفينة، فأصابت القرعة يونس، فألقي في البحر، فالتقمه الحوت، وذهب به إلى ظلمات البحار، فنادى في تلك الظلمات ربه ومولاه فأنجاه كما قال سبحانه:{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 87، 88].
فأقر لربه بكمال الألوهية، ونزهه عن كل عيب وآفة ونقص، واعترف بظلم نفسه
وجنايته فكشف الله ضره وأنجاه، وكذلك ينجي الله المؤمنين.
وفي هذا وعد وبشارة لكل مؤمن وقع في شدة وغم أن الله تعالى سينجيه منها، ويكشف عنه ضرها لإيمانه كما فعل بيونس صلى الله عليه وسلم.
وزكريا صلى الله عليه وسلم من رحمته للخلق، ونصحه لهم لما قرب أجله خاف ألا يقوم أحد بعده مقامه في الدعوة إلى الله والنصح لعباده، وأن يكون في وقته فرداً ولا يخلف من يشفعه ويعينه على ما قام به.
فاستجاب الله له، ووهب له ابناً سماه يحيى، وأصلح رحم زوجته للولادة كما قال سبحانه:{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 89، 90].
ومريم ابنة عمران التي حفظت فرجها من الحرام، بل ومن الحلال فلم تتزوج لاشتغالها بالعبادة، واستغراق وقتها في طاعة ربها، وخدمة بيت المقدس، رزقها الله ولداً من غير أب، فنفخ فيها جبريل بأمر الله، فحملت بإذن الله:{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)} [التحريم: 12].
فهؤلاء الأنبياء والمرسلون وصفهم الله بالصبر:
الصبر على طاعة الله .. والصبر عن معصية الله .. والصبر على أقدار الله المؤلمة.
فهذه أقسام الصبر الثلاثة، ولا يستحق العبد اسم الصابر حتى يوفيها حقها.
وهؤلاء الأنبياء قد وفوها حقها، وقاموا بها كما ينبغي.
ووصف الله الأنبياء كذلك بالصلاح، وهو يشمل:
صلاح القلوب بمعرفة الله ومحبته والإنابة اليه كل وقت.
وصلاح الجوارح باشتغالها بطاعة الله وكفها عن المعاصي، والتحلي بمكارم الأخلاق.
فبصبرهم وصلاحهم أدخلهم الله في رحمته، وجعلهم من المرسلين، وأثابهم الثواب العاجل والآجل، وجعل لهم لسان صدق في الآخرين.
وهؤلاء الأنبياء والرسل كانوا على خلق عظيم وعمل لله مستديم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 90].
فكل مخلوق لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله، والأشياء ومعية الأشياء لا تنفع، بل الذي ينفع هو الله وحده لا شريك له.
فنجتهد حتى يكون الله معنا، وإذا كان الله معنا فما نحتاج إلى غيره أبداً.
ومعية الله تكون معنا بثلاثة أشياء:
اجتماع القلوب .. العمل لوجه الله .. وأن يكون العمل على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبحسب اليقين على الله، وعلى قدرته ونصرته، تكون معيته معنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].
فحفظه الله سبحانه حتى بلغ الدين للأمة، وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، ثم توفاه بعدما بلغ البلاغ المبين، صلوات الله وسلامه عليه.
وإذا تغير اليقين جاءت المصائب، ونقصت الطاعات، فقد يصلي المرء ويرى أن الصلاة تحجبه عن طلب الرزق.
فلو قيل له تصلي وتدخل الجنة قال نعم.
ولو قيل له تصلي والله يرزقك، قال هذا مشكل، ولذلك يترك الصلاة، ويشتغل بطلب الرزق، وهو يتلو:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} [البقرة: 45].
فما أحرى المؤمنين بالاستفادة من قدرة الله، ومن خزائن الله بالإيمان والأعمال الصالحة، في الدنيا والآخرة.
ألا من مشمر إلى الجنة؟ .. ألا من منافس في الفضائل والأعمال؟ .. ألا من
مسارع إلى الخيرات؟ .. ألا من مشتاق إلى القصور والحور؟.
يا حسرة على العباد ماذا علموا وماذا جهلوا؟ وماذا ضيعوا؟.
إن كل ذهب في العالم أجمع لو جمعناه لكان أدنى أهل الجنة عنده مثله عشر مرات، وكل شجر وثمر في العالم أجمع لو جمعناه لكان أدنى أهل الجنة عنده مثله عشر مرات.
وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام على الجواد المضمر السريع ولا يقطعها.
فسبحان من بيده ملك الخلائق أولها وآخرها، وملك المسافات بدايتها ونهايتها.
ومن قال (سبحان الله) غرست له نخلة في الجنة، وجميع أشجار الجنة من ذهب، فكم تكون أشجار الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين؟.
وقصور الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وعرضه وطوله مد البصر.
ومن صلى كل يوم اثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة، فإذا صلى سنة كاملة كم يكون له قصر من ذهب؟.
فكم تكون قصور الأنبياء؟، وكم تكون قصور المؤمنين في الجنة؟.
ولو جمعنا جميع الذهب في الدنيا، وجميع الذهب الذي في جنات الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وجمعنا ما يعطى لمحمد صلى الله عليه وسلم من الذهب، فكل ذلك بالنسبة لما في خزائن الله كالذرة بالنسبة للجبل، لأن ما في الدنيا والآخرة مهما يكن فهو محدود، وما في خزائن الله غير محدود.
ولو أن الإنس والجن جميعاً سألوا الله، فالله يعطيهم كل ما طلبوا، ولا ينقص ذلك مما في خزائنه، إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، لأن ما سألوه محدود، وما عند الله غير محدود.
هذا بالنسبة للذهب، فكيف بخزائن النعم الأخرى من المياه والثمار، والحبوب، والفواكه، وخزائن النجوم والكواكب والشهب.
وخزائن الرحمة والقوة والمغفرة .. وخزائن الحكمة والحلم والعلم .. وخزائن الأرواح والأنفس .. وخزائن النبات والحيوان .. وخزائن النعيم والفرح والسرور .. وخزائن العذاب والغضب والبطش .. وخزائن الأمن والخوف .. وخزائن العالم العلوي والعالم السفلي.
فسبحان من هذه خزائنه .. ومن هذا ملكه .. ومن هذا قدرته .. ومن هذه عظمته.
يا حسرة على العباد ماذا فاتهم من الأوقات؟.
وكم حرموا أنفسهم من الخيرات والبركات؟.
ماذا زرعوا وماذا حصدوا؟ .. وماذا قدموا؟ .. وماذا أخروا؟.
إن علينا أن نحاسب أنفسنا كم مشينا في مراد الله؟، وكم مشينا في مراد النفس؟.
وقيمة الإنسان بصفاته لا بذاته، ففي المخلوقات من هو أكبر منه، وأقوى منه.
وأصل العبادة المحبة، وبرهانها ذكر المحبوب، وتنفيذ أوامره في كل وقت، فمتى يذكر العبد ربه؟، ومتى يستحي من معصيته؟.
وإذا عرفنا قيمة العمل وثمراته زاد تقديرنا للعمل، والإكثار منه، والتلذذ بأدائه، والمسارعة إليه، والمنافسة فيه، وأحسن الأعمال طاعة الله ورسوله في كل حال.
وأرزاق الدنيا والآخرة بيد الله، لكن أرزاق الدنيا تكفل الله بها، كما قال الله سبحانه: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا
(1) أخرجه مسلم برقم (2577).
بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)} [الزخرف: 32].
وأرزاق الآخرة لا بد لها من العمل، كما قال سبحانه:{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)} [الإسراء: 19].
وإذا عرفت القلوب عظمة الله، وسعة ملكه، وبره وإحسانه، وعظمة خزائنه فكيف لا تتوجه إليه، وتقف بباب أفقر خلقه إليه؟:{أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} [المائدة: 74].
وهل في الكون من يستحق أن يعبد، ويستحق أن يحمد، ويستحق أن يسأل إلا الله وحده لا شريك له:{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)} [الأنعام: 71].
فبالإيمان والأعمال الصالحة يحصل للمؤمنين في الدنيا:
الفلاح .. والهداية .. والنصر .. والعزة .. والتمكين في الأرض .. وحفظهم من
الأعداء .. والأمن .. والنجاة من الهلاك .. والحياة الطيبة .. ونزول البركات .. ومعية الله.
ويحصل لهم في الآخرة:
دخول الجنة .. والخلود فيها .. والتمتع بألوان النعيم .. والرضوان من الله .. ورؤيتهم له .. وسماع كلامه:
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} [التوبة: 72].
وحقيقة الدين ولبه اليقين .. وهو تغيير العواطف من المخلوق إلى الخالق، ومن الدنيا إلى الآخرة.
ومن ذات الله تنزل الأوامر الشرعية، ومن ذات النفس تخرج أوامر الشهوات، وللحصول على السعادة لا بدَّ من تقديم أوامر الله على أوامر النفس.
وجميع الأوامر التي أمر الله بها لها مقابل من الحسنات قولاً وفعلاً واعتقاداً، وجميع النواهي التي نهى الله عنها لها مقابل من العقوبات في الدنيا والآخرة.
وللاستفادة من قدرة الله لا بد من امتثال أوامر الله على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا عمل الإنسان الأعمال الصالحة والقلب متوجه إلى غير الله كانت هذه الأعمال سبباً للحرمان ودخول النار: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110].
فبكمال الإيمان والتقوى يستفيد المؤمن من خزائن الله، والتقوى هي طاعة الله في كل حال.
وحفظ التقوى يقوم على أصلين:
البيئة .. والمذكر .. فآدم في الجنة وقع في المعصية لعدم البيئة والمذكر كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)} [طه: 115].
فعلاج النسيان بالتذكير .. وعلاج ضعف العزيمة بتكوين البيئة الصالحة التي تنشط الإنسان للطاعة، وتزجره عن المعصية.
وقد خلق الله الإنسان وجعل مقصد حياته عبادة الله وحده لا شريك له، وأذن له بالاستفادة من هذا الكون كما قال سبحانه:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} [الأعراف: 31].
ولكن الإنسان خالف الأمر فجعل الضرورة مقصداً، وأسرف على نفسه، فنزلت به المصائب والعقوبات: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].
والإيمان يزيد وينقص، وبقدر الجهد للدين يزيد الإيمان، ثم تزيد الأعمال، وعلى قدر الإيمان تكون الاستفادة فذرة من ذهب وجبل من ذهب كلاهما يسمى ذهباً، ولكن على قدر كمية الذهب تكون الاستفادة.
فذرة من ذهب، وجبل من ذهب، كلاهما يسمى ذهباً، ولكن على قدر كمية الذهب تكون الاستفادة.
وهكذا الإيمان، بذر الإيمان مثل الذرة فأجره على قدر إيمانه، ولكن من اجتهد على إيمانه حتى صار قوياً فأجره على قدر إيمانه، واستفادته من الإيمان بحسب قوته، ومن عنده شجرة ولم يجتهد عليها تسمى شجرة، لكن من اجتهد عليها كبرت وأخذ منها الثمار الطيبة الكثيرة.
وهكذا الإيمان، له شعب كثيرة، يجني المسلم من خلالها أنواع الثمرات، وجزيل الحسنات.
اللهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)} [البقرة: 201].