الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - فقه الإحسان
قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)} [النساء: 125].
وقال الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34، 35].
الإحسان هو فعل الشيء الحسن، سواء كان المأمور به إحساناً إلى الناس، أو إحساناً إلى النفس.
وقد رغب الله عباده في هذا وهذا بقوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} [البقرة: 195].
وكلما كان العبد أكثر إحساناً إلى نفسه وإلى غيره كان أقرب إلى رحمة الله، وكان ربه قريباً منه برحمته كما قال سبحانه:{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 56].
وأعظم الإحسان: الإيمان بالله، وتوحيده، وطاعته، والإنابة إليه، وأن تعبد الله كأنك تراه.
قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم ما الإحسان؟، قال:«أنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإنَّهُ يَرَاكَ» متفق عليه (1).
واختص أهل الإحسان برحمة الله، لأنها إحسان من الله، والإحسان إنما يكون لأهل الإحسان من خلقه، لأن الجزاء من جنس العمل، فكما أحسنوا بأعمالهم، أحسن الله إليهم برحمته كما قال سبحانه:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60].
ومعناه: هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا أن يحسن إليه ربه.
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (50) واللفظ له، ومسلم برقم (9).
وقد أنعم الله على العباد وأحسن إليهم بنعم لا تعد ولا تحصى، ومن أعظم أنواع الإحسان والبر أن يحسن سبحانه إلى من أساء، ويعفو عمن ظلم، ويغفر لمن أذنب، ويتوب على من تاب إليه، ويقبل عذر من اعتذر إليه.
وقد ندب الله المحسن الكريم عباده إلى هذه الشيم الفاضلة، والأفعال الحميدة، وهو أولى بها منهم وأحق.
وإذا عصم الله العباد من الذنوب فعلى من يتوب ويغفر، ويعفو ويصفح، ولو شاء الله ألا يعصى في الأرض طرفة عين لم يعصَ، ولكن حكمته تأبى ذلك.
والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، يحسن إلى من أحسن إليه وإلى من أساء إليه، فالإحسان يطفئ نار العداوة والحسد والبغي.
وكلما زاد عدوك أذىً وشراً وحسداً وبغياً ازددت إليه إحساناً، وله نصيحة، وعليه شفقة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما ضربه المشركون حتى أدموه، فجعل يسلت الدم عنه ويقول:«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» متفق عليه (1).
فقابل إساءتهم العظيمة إليه بأربع مقامات من الإحسان:
عفوه عنهم عن حقه .. استغفاره لهم .. اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون .. استعطافه لهم بقوله قومي.
وكل إنسان له ذنوب بينه وبين ربه يخاف عواقبها، ويرجوه أن يعفو عنها، ويغفرها له.
ومع هذا لا يقتصر سبحانه على مجرد المسامحة والعفو حتى ينعم عليك ويكرمك، ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله.
وإذا كان الإنسان يرجو هذا من ربه فما أجدره أن يعامل به خلقه ويقابل به إساءتهم، ليعامله الله هذه المعاملة.
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3477)، واللفظ له، ومسلم برقم (1792).
فالجزاء من جنس العمل، فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك، يفعل الله معك في ذنوبك وإساءتك جزاءً وفاقاً.
فانتقم بعد ذلك أو أعف، وأحسن أو اترك، فكما تدين تدان.
ومن تصور هذا المعنى وشغل به فكره هان عليه الإحسان إلى من أساء إليه، هذا مع ما يحصل له بذلك من نصر الله ومعيته كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128].
هذا مع ما يتعجله المحسن من ثناء الناس عليه، وكونهم معه على خصمه، فهو بهذا الإحسان قد استخدم عسكراً لا يعرفهم ولا يعرفونه، ولا يريدون منه مالاً ولا طعاماً.
ولا بد للمحسن إلى عدوه وحاسده من إحدى حالتين:
الأولى: إما أن يملكه بإحسانه فيستعبده وينقاد له ويذل له ويبقى من أحب الناس إليه.
الثانية: وإما أن يفتت كبده ويقطع دابره إن أقام على إساءته له، فإنه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه.
والإحسان إلى الناس ومواساتهم بالمال له ثلاث مراتب:
الأولى: أن تنزل أخاك المسلم منزلة عبدك فتقوم بحاجته من مالك، وتعطيه ابتداء، ولا تحوجه إلى السؤال.
الثانية: أن تنزله منزلة نفسك، وترضى بمشاركته إياك في مالك.
الثالثة: وهي أعلاها أن تؤثره على نفسك، وتقدم حاجته على حاجتك، وهذه مرتبة الصديقين، ومنتهى درجات المتحابين.
فإن لم تصادف نفسك في مرتبة من هذه الرتب مع أخيك، فاعلم أن عقد الأخوة لم ينعقد بعد في الباطن، وإنما الجاري بينكما مخالطة رسمية لا وقع لها في العقل والدين.
والإحسان إلى الخلق نوعان:
الأول: إحسان عام يستطيعه كل إنسان ببذل المال، وطيب الكلام.
الثاني: إحسان خاص لا يستطيعه إلا خواص الخلق، وهو الإحسان إلى من أساء إليك، خاصة من له حق كبير عليك كالأقارب والأصحاب، فمن أساء إليك منهم فقابل إساءته بالإحسان إليه.
فإن قطعك فصِلْهُ .. وإن ظلمك فاعفُ عنه .. وإن حرمك فأعطِه .. وإن هجرك فطيب له الكلام .. وابذل له السلام .. فإذا قابلت الإساءة بالإحسان .. حصلتْ فوائد عظيمة للطرفين.
ولا يستوي عند الله ولا عند الخلق فعل الحسنات والطاعات التي يحبها الله، وفعل السيئات والمعاصي التي يبغضها الله، كما لا يستوي الإحسان إلى الخلق ولا الإساءة إليهم.
بل ذلك كله مختلف في الذات والصفات والجزاء: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)} [فصلت: 34].
فالنفوس مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته، وعدم العفو عنه، فكيف بالإحسان إليه؟.
ولا يصل إلى هذه الرتبة العالية إلا من صبر، وعرف جزيل الثواب، وامتثل أمر ربه:{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 35].
وكل ما خلقه الله عز وجل فيه إحسان إلى عباده يشكر عليه، وله فيه حكمة تعود إليه، يستحق أن يحمد عليها لذاته.
وجميع المخلوقات فيها إنعام على عباده يحصل بها هدايتهم، وتدل على وحدانيته، وصدق أنبيائه، وهي توجب الشكر لما فيها من النعم، وتوجب التذكر لما فيها من الدلالة على عظمة الله وقدرته، وما يحصل بها من الإيمان والعلم والعمل.
والعبد يدعوه إلى عبادة الله داعي الشكر، وداعي العلم بربه وآياته ومخلوقاته، وقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، وتعظيم وإجلال من هو أكبر منها.
والله عز وجل هو المنعم المحسن إلى جميع خلقه، فما بالعباد من نعمة فمنه وحده لا شريك له:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)} [النحل: 53].
وأفضل النعم وأجلها وأعظمها نعمة الإيمان والأعمال الصالحة.
وما يصيب الإنسان نوعان:
إن كان يَسُرهُ فهو نعمة بينة كالإيمان والأعمال الصالحة، والأهل والأموال والأولاد ونحوها.
وإن كان يسوؤه فهو نعمة خفية كالمصائب والآلام، يكفر الله بها خطاياه، ويرفع بها درجاته، ويثاب بالصبر عليها، وفيها حكمة ورحمة لا يعلمها العبد.
والنعمتان كلاهما إحسان من الله، وتحتاجان مع الشكر إلى الصبر، أما الضراء فظاهر، وأما نعمة السراء فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها.
لكن لما كان في السراء اللذة ومن الضراء الألم اشتهر ذكر الشكر في السراء، والصبر في الضراء، والله منعم بهذا كله، وإن كان لا يظهر ابتداءً لأكثر الناس، فإن الله يعلم وأنتم لا تعلمون.
وذنوب الإنسان من نفسه، ومع هذا فهي مع حسن العاقبة نعمة، وهي نعمة على غيره كذلك لما يحصل بها من الاعتبار:{فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)} [النساء: 19].
ولا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، فإذا قضى الله بأن يحسن فهو مما يسره، وإذا قضى له بسيئة فهو إنما يستحق العقوبة إذا لم يتب.
فإن تاب أبدلت حسنة، فيشكر عليها، وإن لم يتب ابتلي بمصائب تكفرها، فيصبر عليها، فيكون ذلك خيراً له.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ» أخرجه مسلم (1).
والله عز وجل يحب المحسنين في عبادة الله، المحسنين إلى عباد الله، المحسنين إلى أنفسهم، المحسنين في جميع أعمالهم، ولمحبته لذلك أمر به فقال:{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} [البقرة: 195].
والله عز وجل يعطي على العمل الحسن الأجر الحسن، والدار الحسنى كما قال سبحانه:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)} [يونس: 26].
وأحسن الناس وأسعدهم وأفضلهم هو المؤمن الذي استسلم لربه، وأحسن عبادته باتباع شريعته التي أرسل بها رسله وأنزل بها كتبه، وجعلها طريقاً لخواص خلقه وأتباعهم:{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)} [النساء: 125].
ومعية الله بالنصرة والتأييد والتمكين مع أهل الإيمان والصبر، وأهل التقوى والإحسان كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128].
وقد وعد الله كل من أحسن في عبادة الله، وأحسن إلى عباد الله بالثواب الجزيل كما قال سبحانه:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44)} [المرسلات: 41 - 44].
ومراتب الدين ثلاث:
الإسلام .. والإيمان .. والإحسان.
وكل مرتبة لها أركان، والإحسان أعلاها.
(1) أخرجه مسلم برقم (2999).
فالإسلام يمثل أعمال الجوارح .. والإيمان يمثل أعمال القلوب .. والإحسان إتقان تلك الأعمال، وحسن أدائها، مع كمال التوجه بها إلى الله.
والإحسان في العبادة له مرتبتان:
الأولى: أن يعبد الإنسان ربه كأنه يراه عبادة طلب وشوق، ورغبة ومحبة، وهذه أعلى المرتبتين.
الثانية: إذا لم تعبد الله كأنك تراه فاعبده كأنه هو الذي يراك عبادة خائف منه، هارب من عذابه وعقابه، معظم له ولأمره.
والناس متفاوتون في هذه الرتب.
فالحب لله يولد الشوق والطلب، والتعظيم يولد الخوف والهرب .. وفي هذا كمال العبودية لله .. وكمال الحب له .. وكمال التعظيم له .. وهذا هو الإحسان في عبادة الله سبحانه كما قال سبحانه:{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)} [لقمان: 22].
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لا يُرَى عَلَيْهِ أثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إلى النَّبِيِّ، فَأسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إلى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: «الإِسْلامُ أنْ تَشْهَدَ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ، إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا» قال: صَدَقْتَ. قال فَعَجِبْنَا لَهُ. يَسْألُهُ وَيُصَدِّقُهُ. قال: فَأخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ. قال: «أنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الاخِرِ. وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» قال: صَدَقْتَ. قال فَأخْبِرْنِي عَنِ الإحْسَانِ. قال: «أنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» أخرجه مسلم (1).
(1) أخرجه مسلم برقم (8).
والإحسان درجات، والمحسنون درجات، أفضلهم الأنبياء ثم أتباع الأنبياء.
وكان الأغنياء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يذهبون إلى الفقراء لإعطائهم الصدقات والزكاة، ولما فقدت الدعوة إلى الله قعد الأغنياء فجاء الفقراء إلى أبواب الأغنياء فحدث في المسلمين أربع آفات:
الكبر في الأغنياء .. والذلة في الفقراء .. وشكوى الخالق إلى المخلوق .. وانشغال الخلق بطلب ما تكفل الله به عن أداء ما أمر الله به.
وجاءت الذلة على المسلمين في أكثر بلاد الإسلام، ووقف أكثر الناس بأبواب المخلوقين ينشدون العزة والغنى عند الذليل الفقير، وتركوا باب الغني الحميد.
والناس يتفاوتون في الأنس بالله، والأنس بغير الله.
فالمؤمن أنسه بالله وطاعته وامتثال أمره ولذة مناجاته.
فمن وجد أنسه بالله في الوحدة، وفقده بين الناس فهو صادق ضعيف.
ومن وجده بين الناس، وفقده في الخلوة فهو معلول.
ومن فقده في الخلوة وبين الناس فهو ميت مطرود.
ومن وجده في الخلوة وبين الناس فهو المحب الصادق القوي في حاله.
ومن كان فتحه في الخلوة لم يكن مزيده إلا منها، ومن كان فتحه بين الناس بنصحهم وإرشادهم كان مزيده معهم.
والراغبون ثلاثة أقسام:
راغب في الله .. وراغب فيما عند الله .. وراغب عن الله.
فالمحب راغب في الله .. والعامل راغب فيما عند الله .. والراضي بالدنيا من الآخرة راغب عنه.
ولا صلاح للقلب ولا نعيم له إلا بأن تكون رغبته إلى الله عز وجل وحده في جميع أحواله.
ومن كانت رغبته في الله كفاه الله كل مهم، وتولاه في جميع أموره، ودفع عنه كل شر، وصانه من جميع الآفات، ومن آثر الله على غيره آثره الله على غيره،
ومن كان لله كان الله له، ومن عرف الله لم يكن شيء أحب إليه منه، ولم تبق له رغبة فيما سواه إلا فيما يقربه إليه، ويعينه على سفره إليه.
وكلما ازدادت معرفة العبد بربه ازدادت هيبته له، وخشيته إياه كما قال سبحانه:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
وأعقل الخلق من آمن بالله ورسوله ورغب فيما عند الله، وأسفههم من رغب عن ذلك كما قال سبحانه:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)} [البقرة: 130].
ومن رغب عن الله ونسيه فعقوبته أن ينساه الله، وينسيه حظ نفسه كما قال سبحانه:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 19].
وهذا تمام العدل من الرب بأن نسيهم كما نسوه، وأنساهم حظوظ أنفسهم ونعيمها وكمالها، وأسباب لذتها وفرحها، عقوبة لهم على نسيان المحسن إليهم بصنوف النعم، المتحبب إليهم بآلائه وإحسانه.
فقابلوا ذلك بنسيان ذكره، والإعراض عن شكره، فعدل فيهم: بأن أنساهم مصالح أنفسهم فعطلوها .. وليس بعد تعطيل مصلحة النفس إلا الوقوع فيما تفسد به .. وتتألم بفوته غاية الألم.
وإحسان الرب إلى الخلق لا يحيط به أحد، وأعظم إحسان الرب إلى عباده إنزال الوحي عليهم، وهدايتهم إلى الإيمان والتوحيد.
وأعظم إحسان العبد إحسان العبودية لربه، بأن يعبده كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإنه يراه.
وإحسان العبد له ثلاث حالات:
الأولى: إحسان إلى النفس بحملها على طاعة الله، والمسارعة إلى الخيرات، والأعمال الصالحة.
الثانية: إحسان في عبادة الله بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
الثالثة: إحسان إلى عباد الله تعالى، وذلك بإيصال جميع أنواع الخير لهم.
وقد وعد الله المحسنين بالثواب الجزيل كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)} [التوبة: 120].
ومن أعظم الإحسان إلى الخلق تعليمهم ما ينفعهم في دينهم، وما يكون سبباً لنجاتهم في الدنيا والآخرة، من العلم بالله وأسمائه وصفاته، ودينه وشرعه، وتحذيرهم مسالك الشر والهلكات.
وهي وظيفة الأنبياء والرسل وأتباع الرسل، وبهذا كانوا أعظم الناس إحساناً إلى الخلق، لما يحملونه من الخير للبشرية، ولهم عليهم من المنّة والفضل ما لا يؤدي شكره أحد كما قال سبحانه:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164].
والله سبحانه غني كريم يحسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة منه وإحساناً.
فهو لم يخلق خلقه ليتكثر بهم من قلة، ولا ليعتز بهم من ذلة، بل هو القوي العزيز، ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة.
لا يوالي سبحانه من يواليه من الذل كما يوالي المخلوق المخلوق، وإنما يوالي أولياءه إحساناً ورحمةً ومحبةً لهم.
وأما العباد فهم لفقرهم وحاجتهم يحسن بعضهم إلى بعض لحاجته إلى ذلك، وانتفاعه عاجلاً أو آجلاً.
ولولا تصور ذلك النفع لما أحسن إليه فهو في الحقيقة إنما أراد الإحسان إلى نفسه، وجعل إحسانه إلى غيره وسيلة إلى وصول نفع ذلك الإحسان إليه.
فإنه إنما يحسن إليه لتوقع جزائه في العاجل، أو معاوضة إحسانه، أو لتوقع حمده وشكره.
وكذلك هو إنما يحسن إليه ليحصل منه ما هو محتاج إليه من الثناء والمدح، فهو محسن إلى نفسه بإحسانه إلى الغير، وإما أن يريد الجزاء من الله تعالى في الآخرة فهو أيضاً محسن إلى نفسه بذلك، وإنما أخر جزاءه إلى يوم فقره وفاقته، فهو غير ملوم على هذا القصد فإنه فقير محتاج.
فكل محسن إنما يحسن إلى نفسه في الحقيقة كما قال سبحانه: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7].
فالله سبحانه لم يخلق الجن والإنس لحاجة منه إليهم، ولا ليربح عليهم، لكن خلقهم جوداً وإحساناً ليعبدوه، فيربحوا هم عليه كل الأرباح التي مع كونها لا تخسر تضاعف لهم كما قال سبحانه:{مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)} [الروم: 44].
وقال الله سبحانه: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت: 6].
والله جل جلاله إذا أعطى عبده مالاً فإنما يريد منه أن يمتثل أمر الله فيه، وينفقه فيما شرعه الله، ويتحرى أفضل ما عنده فينفق منه، وخير ما لديه فيشارك الآخرين فيه.
فالإنفاق تطهير للقلب، وتزكية للنفس، ثم منفعة للآخرين وعون.
أما وجوه الإنفاق والإحسان:
فقد علم الله أن الإنسان يحب ذاته فأمره أولاً بكفايتها قبل أن يأمره بالإنفاق على من سواها، وأباح له الطيبات من الرزق، وحثه على الانتفاع بها في غير إسراف ولا مخيلة.
وعلم الله أن الإنسان يحب أول ما يحب أفراد أسرته الأقربين عياله ووالديه، فسار به خطوة في الإنفاق وراء ذاته إلى هؤلاء الذين يحبهم، ليعطيهم من ماله وهو راض، ويكفل أقرب الناس إليه.
فأخذهم من القريب، أكرم لهم من أخذهم من البعيد، وفي ذلك إشاعة للحب
والسلام في المحضن الأول بمكافأة والديه على إحسانهم له، ورحمة صغاره وزوجه الذين هم أقرب الناس إليه.
وعلم الله كذلك أن الإنسان يمد حبه وحميته بعد ذلك إلى أهله كافة، فسار به الرحمن الرحيم خطوة أخرى في الإنفاق وراء أهله الأقربين.
تساير عواطفه الفطرية .. وتقضي حاجة هؤلاء .. وتقوي أواصر الأسرة البعيدة: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)} [الأنفال: 75].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ» أخرجه الترمذي والنسائي (1).
وعندما يفيض ما عند المسلم عن حاجة هؤلاء وهؤلاء بعد ذاته فإن الإسلام يأخذ بيده لينفق على طوائف من البشرية، يثيرون بضعفهم، وحرج موقفهم عاطفة النخوة والرحمة فيه، وفي أولهم الفقراء من اليتامى والمساكين، ثم أبناء السبيل، والمؤلفة قلوبهم، والغارمون. وهكذا، وهو في كل ذلك مأجور كما قال سبحانه:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)} [البقرة: 274].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا» . يَقُولُ: «فَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ» أخرجه مسلم (2).
ثم يربط الله هذا الإحسان وهذا الإنفاق بالأفق الأعلى فيستجيش في القلب صلته بالله فيما يعطي وفيما يفعل وفيما يضمر: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)} [البقرة: 272].
(1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (658)، صحيح سنن الترمذي رقم (531).
وأخرجه النسائي برقم (2582)، وهذا لفظه، صحيح سنن النسائي رقم (2420).
(2)
أخرجه مسلم برقم (997).
وهؤلاء الذين أحسنوا الاعتقاد، وأحسنوا العمل، وأحسنوا القول، وأحسنوا إلى أنفسهم، وأحسنوا إلى غيرهم، وأحسنوا معرفة الصراط المستقيم المؤدي إلى دار السلام.
هؤلاء ماذا أعد الله لهم من النعيم والثواب الجزيل؟: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)} [يونس: 26].
فلهم الحسنى جزاء ما أحسنوا، وعليها زيادة من فضل الله غير محدودة، وهم ناجون من كربات يوم الحشر، ومن أهوال الموقف، والنجاة من هذا كله غنيمة وفضل من الله يضاف إلى ما سبق.
والوالدان يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد والإحسان إليهما، والتضحية بكل شيء من أجلهم.
وكما تمتص النابتة الخضراء كل شيء في الحبة فإذا هي فتات، كذلك يمتص الأولاد كل رحيق، وكل عافية، وكل جهد، وكل هم من الوالدين، فإذا هما شيخوخة فانية عاجزة، وهما مع ذلك سعيدان.
ولكن الأولاد سرعان ما ينسون هذا كله .. ويندفعون إلى الأمام .. إلى الزوجات والذرية .. ومن ثم يحتاج الأولاد إلى استجاشة وجدانهم بقوة .. ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف وهم الوالدان.
ومن هنا يأتي الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله، يحمل معنى الأمر المؤكد بعد الأمر المؤكد بعبادة الله كما قال سبحانه:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء: 23، 24].
والله تبارك وتعالى هو المحسن إلى عباده بصنوف النعم، وهو الذي خلق كل شيء، وكل ما خلقه الله يتجلى فيه الإحسان والإتقان.
فلا تجاوز ولا قصور .. ولا زيادة عن حد الإحسان ولا نقص .. ولا إفراط ولا تفريط .. في حجم أو شكل أو وظيفة.
كل شيء مقدر بحكمة، كل شيء من الذرة الصغيرة إلى أكبر الأجرام، كلها يتجلى فيها الإحسان والإتقان.
وكذلك الأعمال والأعمار، والأطوار والحركات كلها من خلق الله، مقدرة تقديراً دقيقاً في موعدها وفي عملها وفي مآلها.
وكل مخلوق أوجده الله ليؤدي دوره المقدر له في هذا الوجود، قد أعده الله لهذا الدور، وزوده بما يؤهله لأداء هذا الدور.
هذه الخلية الواحدة المجهزة بشتى الوظائف .. هذا النبات الصاعد .. هذه الحيوانات التي تجول في هذا الكون، وهذه الأسماك التي تسبح في بحاره .. وهذا الطائر الذي يسبح في الفضاء .. وهذه الزواحف التي تدب على وجه الأرض .. وهذا الإنسان المختلف الألوان والأجناس واللغات .. وهذه الكواكب الثابتة والسيارة .. وهذه الشمس الملتهبة .. وهذا القمر الساري .. وهذه الأفلاك والعوالم، وكل شيء تبصره أو لا تبصره .. متقن الصنع .. بديع التكوين .. يتجلى فيه الإحسان والإتقان.
هذا: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)} [النمل: 88].
فسبحان: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 2، 3].
إن العين المفتوحة والقلب البصير يرى الحسن والإحسان في هذا الوجود بتجمعه، ويراه في كل أجزائه وأفراده.
والنظر والتأمل في مخلوقات الله حيثما اتجه النظر أو القلب أو الذهن يمنح الإنسان رصيداً ضخماً من ذخائر الحسن والجمال المبثوث في هذا الكون،
فتسكب الإيمان والإجلال للرب في القلب، وهو يتجول في هذا المعرض الإلهي الكبير، ويتملى ما فيه من آيات الإحسان والإتقان، في كل ما يراه، وما يسمعه، وما يدركه.
ويتصل من وراء هذه الأشكال الحسنة الفانية بالمحسن الباقي: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 6، 7].
ولا يدرك الإنسان شيئاً من هذا النعيم في رحلته على الأرض إلا حين يستيقظ من همود العادة، ويبصر بنور الله، فتنكشف له الأشياء عن جواهرها الثمينة الجميلة.
فيتذكر الله الخالق البارئ المصور كلما وقعت عينه أو حسه على شيء من بدائعه، فيحس الصلة بين الخالق وما خلق، والمبدع وما أبدع، فيزيد شعوره بجمال ما يرى وما يحس، لأنه يرى من ورائه جمال الله وجلاله.
والإحسان لب الإيمان وروحه وكماله بكمال الحضور مع الله عز وجل، ومراقبته الجامعة لخشيته ومحبته ومعرفته والإنابة إليه، والإخلاص له.
ويتم الإحسان ويكمل بثلاثة أمور:
الأول: الإحسان في القصد بأن يجعله تابعاً للعلم، والعلم هو اتباع أمر الله وشرعه، خالصاً لله صافياً من الأكدار.
الثاني: الإحسان في الأحوال بأن يحفظها ويصونها بدوام الوفاء، وتجنب الجفاء، والانقياد للهدى.
الثالث: الإحسان في الوقت بأن تعلق همتك بالحق وحده، ولا تعلق همتك بأحد غيره، وأن تجعل هجرتك إلى الله سرمداً.
ولله على كل عبد هجرتان:
هجرة إلى الله سبحانه بالتوحيد والإيمان، والإخلاص والإنابة، والمحبة والذل، والخوف والرجاء، والعبودية.
وهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بالتحكيم له، والتسليم والتفويض والانقياد لحكمه،
وطاعته وتلقي الأحكام من مشكاته.
والإحسان نوعان:
أحدهما: إحسان قاصر على النفس لا يتعداها إلى سواها، وأعلاه حملها على الإيمان بالله وطاعته وطاعة رسوله.
الثاني: إحسان يتعدانا إلى غيرنا وهو يتعلق بالقلوب والأبدان.
فإحسان القلوب يكون بإرادة كل نفع للعباد، والصبر على المظالم، وأن يحب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه، ويوقر من يستحق التوقير.
وإحسان الأبدان أقسام:
ومنه نقل الملك إلى الغير بالهبات والصدقات .. وإباحة المنافع والأعيان كالعواري والضيافات .. والإسقاط كالعتق والإبراء من الديون .. والعفو عن القصاص والحدود وسائر العقوبات.
ومنه الإعانة على الطاعات بتعليمها والمساعدة على فعلها.
ومنه الإعانة بكل نفع عاجل أو آجل فعليّ أو قوليّ كهداية الضال، وخدمة العاجز، وفك الأسير، وإرشاد الحيران.
ومنه حسن الأخلاق كإظهار البِشر، وطلاقة الوجه، والتبسم في وجوه الإخوان.
وإحسان الإحسان أن يفعل أعلى مراتبه خلياً من الشبه والأذية، والإذلال والمنّة، بالاستقامة على الدين، والدعوة إليه.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [افصلت: 33].