الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - فقه الإيمان بالله
وقال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15].
وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)} [النساء: 136].
الله تبارك وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، وخلق فيه ثلاث أوان:
آنية للطعام والشراب وهي المعدة.
وآنية للعلوم والمعارف وهي العقل.
وآنية للإيمان والتوحيد وهي القلب.
وجعل سبحانه كمال الإنسان بتكميل هذه الثلاث.
فكمال الأولى بأكل الحلال الطيب .. وكمال الثانية بمعرفة علوم الأنبياء .. وكمال الثالثة بالنظر في الآيات الكونية والآيات الشرعية.
والإيمان قلب الإسلام ولبه، واليقين قلب الإيمان ولبه، وكل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوة فمدخول، وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول، والإيمان الحقيقي هو الذي يبعث النفس لتقديم أوامر الله على كل شيء، مع المحبة والتعظم والذل لله.
والإيمان له ظاهر وباطن:
فظاهره قول اللسان، وعمل الجوارح .. وباطنه تصديق القلب، وانقياده لربه، ومحبته له، والأنس به، وإخلاص العمل له.
فلا ينفع ظاهر لا باطن له وإن حقن الدماء، وعصم المال والذرية.
ولا يجزي باطن لا ظاهر له، إلا إذا تعذر مؤقتاً بعجز أو إكراه أو خوف هلاك.
وتخلف العمل ظاهراً مع عدم المانع دليل على فساد الباطن، وخلوه من الإيمان، ونقصه دليل على نقصه، وظهور العمل الصالح دليل قوة الإيمان، وأكثر الناس، أو كلهم يدعون الإيمان:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف: 106].
وأكثر المؤمنين عندهم إيمان مجمل، وأما الإيمان المفصل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم معرفةً وعلماً، وإقراراً ومحبة، ومعرفة بضده وكراهيته، فهذا إيمان خواص الأمة من الأنبياء والصديقين.
وكثير من الناس حظهم من الإيمان الإقرار بوجود الله، وأنه وحده الذي خلق السموات والأرض وهذا لا يكفي.
وآخرون الإيمان عندهم هو النطق بالشهادتين، سواء كان معه عمل أو لم يكن، وسواء وافق تصديق القلب أو خالفه.
وآخرون الإيمان عندهم عبادة الله بحكم أذواقهم ومواجيدهم، وما تهواه نفوسهم، من غير تقيد بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وآخرون عندهم الإيمان مجرد تصديق القلب بأن الله سبحانه خالق السموات والأرض، وأن محمداً عبده ورسوله، وإن لم يقر بلسانه ولم يعمل شيئاً.
وآخرون عندهم الإيمان ما وجدوا عليه آباءهم وأسلافهم بحكم الاتفاق كائناً ما كان، يرونه حقاً يجب اتباعه:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)} [لقمان: 21].
وآخرون عندهم الإيمان مكارم الأخلاق، وطلاقة الوجه، وإحسان الظن بكل
أحد، وترك الناس وغفلاتهم.
وآخرون عندهم الإيمان التجرد من الدنيا وعلائقها، وتفريغ القلب منها، والزهد فيها، فإذا رأوا رجلاً هكذا جعلوه من سادات أهل الإيمان، وإن كان منسلخاً من الإيمان علماً وعملاً.
وأضل من هؤلاء من جعل الإيمان هو مجرد العلم وإن لم يقارنه عمل.
وكل هؤلاء لم يعرفوا حقيقة الإيمان، ولا قاموا به، ولا قام بهم، ولا ذاقوا طعمه ولا حلاوته.
بل الإيمان وراء ذلك كله، وهو حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علماً، والتصديق به عقداً، والإقرار به نطقاً، والانقياد لله محبةً وخضوعاً، والعمل بشرعه باطناً وظاهراً، والدعوة إليه، وعدم الالتفات إلى ما سواه.
هذا أساس الإيمان، وكماله في الحب في الله، والبغض في الله، والعطاء لله، والمنع لله، وأن يكون الله وحده إلهه ومعبوده.
والطريق إليه تجريد متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى ماسوى الله.
وموانع الإيمان أربعة:
الكبر .. والحسد .. والغضب .. والشهوة.
فالكبر يمنع الإنسان من الانقياد لله ورسوله.
والحسد يمنعه قبول النصيحة وبذلها.
والغضب يمنعه العدل والتواضع.
والشهوة تمنعه التفرغ للعبادة.
وهذه هي أركان الكفر.
فإذا انهدم ركن الكبر سهل عليه الانقياد للحق.
وإذا انهدم ركن الحسد سهل عليه قبول النصح وبذله.
وإذا انهدم ركن الغضب سهل عليه العدل والتواضع.
وإذا انهدم ركن الشهوة سهل عليه الصبر والعفاف وتقديم أوامر الله.
وجميع الآفات التي تحصل للبشرية متولدة من هذه الأربعة، وإذا استحكمت في القلب أرته الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل، والمعروف في صورة المنكر، والمنكر في صورة المعروف.
وإذا تأمل الإنسان كفر الأمم السابقة رآه ناشئاً منها، وعليها يقع العذاب، وتكون خفته وشدته بحسب خفتها وشدتها.
فمن فتحها على نفسه فقد فتح عليه أبواب الشرور.
ومن أغلقها عن نفسه فقد أغلق عنه أبواب الشرور.
ومنشأ هذه الأربعة من أمرين:
أحدهما: جهل العبد بربه .. والثاني: جهل العبد بنفسه.
فالإنسان لو عرف ربه بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، وعرف عظمته وجلاله، وآلاءه وإنعامه، وعرف نفسه بالنقائص والآفات، لم يتكبر ولم يغضب لها، ولم يحسد أحداً على ما آتاه الله من فضله.
فالحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله، فإن الحاسد يكره نعمة الله على عبده، وقد أحبها الله له، ويحب زوالها عنه، والله يكره ذلك، فهو مضاد لله في قضائه ومحبته وكرامته.
ومن أجل هذا كان إبليس عدو الله حقيقة، لأن ذنبه كان عن كبر وحسد.
وقلع هاتين الآفتين بمعرفة الله وتوحيده، والرضى به، والإنابة إليه.
وقلع الغضب بمعرفة النفس، وأنها لا تستحق أن يغضب لها، فإن ذلك إيثار لها بالرضى والغضب على خالقها.
وأحسن ما تدفع به هذه الآفة أن يعودها أن تغضب لله سبحانه وترضى له، وذلك يدفع الرضى والغضب لها.
أما الشهوة فدواؤها صحة العلم والمعرفة، بأن إعطاءها شهواتها أعظم أسباب هلاكها وحرمانها، فالشهوة كالنار إذا أضرمها صاحبها بدأت بإحراقه.
والغضب كالسبع إذا أفلته صاحبه أكله وأهلك غيره.
والحسد بمنزلة معاداة من هو أقدر منك.
والكبر بمنزلة منازعة الملك ملكه، فإن لم يقتلك طردك عنه.
وللإيمان علامات .. وللكفر علامات .. وللنفاق علامات.
وعلامة الإيمان:
أن نتوجه دائماً إلى الله في جميع أحوالنا، وفي حل مشاكلنا، ولا نتوجه إلى غيره مهما كان، فهو وحده خالق كل شيء، ومالك كل شيء، والقادر على كل شيء، وخزائنه مملوءة بكل شيء:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186].
وبقدر المجاهدة من أجل الدين، الله يرزق العبد الإيمان واليقين.
وإذا نزل بنا حال من جوع، أو مرض، أو خوف، أو غيرها نتوجه إلى الله، ونعمل ما عمله النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال، وبذلك يكشف الله ما نزل بنا من سوء أو بلاء، ويبدل ما نكره بما يحب، وما يسوؤنا بما يسرنا.
فعند الخسوف نتوجه إلى الله ونصلي.
وعند الجدب والقحط نتوجه إلى الله، ونطلب السقيا منه، ونصلي.
وكذلك عند المرض نتوجه إلى الله، ونسأله الشفاء، ثم نتناول الدواء.
فنتوجه إلى الله دائماً في طلب الخير، ودفع الشر في جميع الأحوال الصغيرة والكبيرة، ولا نتوجه إلى المخلوق أبداً:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)} [النمل: 62].
ومن علامات الإيمان:
كثرة ذكر الله .. ولزوم الطاعات .. والنفرة من المعاصي .. ولذة مناجاة الرب .. والأنس بالله .. ومحبته .. ومحبة كلامه ورسله وأوليائه .. ومحبة دينه وشرعه ..
وأن تسر المؤمن الحسنات .. وتؤلمه السيئات.
وأن تكون عبادته في الخفاء أقوى منها في العلانية .. وأن يقوي يقينه وتوكله على ربه .. فيستوي عنده التراب والذهب .. ويستوي عنده مدح الناس وذمهم، ولا يفرح بما أوتي .. ولا يأسى على ما فات.
وأن يرى أن ما عند الله هو القريب، وما عنده وعند الناس هو البعيد .. وأن يعبد الله ويدعوه ويسأله كأنه يراه .. وأن يتوجه إلى ربه الذي بيده كل شيء .. ولا يلتفت لأحد سواه .. فيكون أمامه الملك الأعظم والميت سواء .. ليس بأيديهم شيء .. بل الأمر بيد الله وحده لا شريك له.
وبذلك تنمو شجرة الإيمان، فتورق، ثم تزهر، ثم تثمر، وتملأ العالم بالخيرات والبركات والثمرات كما قال سبحانه:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)} [إبراهيم: 24، 25].
فشجرة الإيمان أصلها ثابت في قلب المؤمن علماً واعتقاداً، وفرعها من الكلم الطيب، والعمل الصالح، والأخلاق الطيبة، والآداب الحسنة، في السماء دائماً، فيصعد إلى الله جميع الأقوال والأعمال التي تخرجها شجرة الإيمان.
وشجرة الإيمان تحتاج إلى تعهدها بالسقي .. وهو المحافظة على أعمال اليوم والليلة من الطاعات والعبادات .. وإلى إزالة ما يضرها من الصخور والنوابت الضارة وهو العفة عن المحرمات قولاً وفعلاً.
وإذا تم هذا نما البستان وزها، وأخرج الثمار المتنوعة.
ولرؤية الأشياء في هذا العالم، خلق الله لنا نورين نميز بهما بين المخلوقات والأشياء، ونستفيد منها.
وهذان النوران هما:
النور الداخلي وهو نور العين .. والنور الخارجي كالشمس والسراج ونحوهما، ولا تتم الرؤية إلا بهما معاً، وإذا فقد أحد النورين، لا نستطيع الاستفادة الكاملة
من هذا العالم.
ولكن بهذين النورين لا نستطيع أن نميز بين الكفر والإيمان، والطاعات والمعاصي، فالإيمان والأعمال والصفات كالتقوى والتوكل، لا تظهر بهذين النورين.
فجعل الله لمعرفة ذلك نورين آخرين هما:
نور أنزله الله من السماء وهو القرآن الكريم هدى ونور.
والنور الآخر أمرنا الله أن نجتهد حتى يأتي في قلوبنا وهو نور الإيمان، ومن ليس عنده نور الإيمان لا يستفيد من نور القرآن.
ولمعرفة الحق، والاستفادة منه، والعمل به، والدعوة إليه، لا بد من النور الخارجي وهو القرآن، والنور الداخلي وهو الإيمان، ومحله القلب، وباجتماع هذين النورين تحصل الهداية:{نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)} [النور: 35].
والإيمان بالله يأتي في حياتنا بمعرفة أسماء الله وصفاته وأفعاله، ويأتي بطريق الدعوة والمجاهدة كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69].
فالدعوة تزيد الهدى، والهدى يزيد الإيمان، والإيمان يحرك الجوارح للأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة توجه العبد إلى الصفات الحميدة من التقوى والإيثار، وحب الله ورسوله، وحسن الخلق، وبذلك يرضى الله سبحانه، ويدخل أهل الإيمان الجنة.
وخزائن الغني الكريم مملوءة بالأرزاق والنعم، وأغلى شيء في خزائن الله هو الإيمان، وللحصول عليه لا بد من الجهد كما اجتهد الصحابة رضي الله عنهم.
فقد اجتهدوا أولاً على تحصيل الإيمان ببذل كل شيء من أجله، وترك كل شيء من أجله، فلما بذلوا وتركوا أعطاهم الله الإيمان والرضوان.
ثم اجتهدوا على حفظ الإيمان، بلزوم حلق الذكر، وبيئات الإيمان، والقيام
بالأعمال الصالحة التي تجلب البركات .. وترفع العقوبات.
ثم اجتهدوا للاستفادة من الإيمان في حياتهم، بالتوجه إلى الله دائما في قضاء حاجاتهم، فإذا دعوا استجاب الله لهم، كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم في بدر، فأنزل الله الملائكة مدداً لهم، وكما دعا نوح صلى الله عليه وسلم على من كفر من قومه، فأغرقهم الله بالماء، وبذلك يزيد إيمانهم، وتقضى حاجاتهم.
ثم اجتهدوا لنشر الإيمان في العالم، وبذلك تحصل لهم الهداية، وزيادة الإيمان، ويحصل لغيرهم الإيمان.
فبالدعوة يزيد الإيمان، وتزيد الأعمال، ويزيد دخول الناس في الإسلام.
ويقوى الإيمان ويزداد .. كلما زادت المعرفة بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله .. وعظمته وكبريائه .. ومعرفة نعم الله وآلائه .. ومعرفة وعده ووعيده .. ومعرفة نعيم الجنة ومتاعها .. ومعرفة عذاب النار وأهوالها.
ويتم ذلك بالنظر في الآيات الكونية، والنظر في الآيات الشرعية، وكثرة ذكر الله، وبذلك يحصل اليقين على الله، وتطمئن القلوب بذكره كما قال سبحانه:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28].
وبذلك يتأثر القلب، ثم تتأثر الجوارح، ثم تأتي الرغبة في الطاعات، والنفور من المعاصي، ويشتاق الإنسان إلى ربه، وإلى نعيم الجنة، ويتلذذ بالعبادة وذكر الله، ومجالسة الصالحين والمصلحين.
وبذلك تتكون بيئة الإيمان، وبيئة العبادة، وبيئة الدعوة، ويأتي فكر الآخرة.
وكما أن النبات والحيوان لا بد له من بيئة حتى يكبر ويزيد، فكذلك الإنسان لا بد له من بيئة صالحة حتى يزيد إيمانه، وتقوى أعماله، وتحسن أخلاقه.
وبيئة الإيمان والأعمال الصالحة هي التي تقام فيها الأعمال الانفرادية، والأعمال الاجتماعية.
فالانفرادية كتلاوة القرآن بالتدبر، والأذكار، والأدعية، والاستغفار، ونوافل
الطاعات، وتذكر الموت، ومحاسبة النفس ونحو ذلك.
والأعمال الاجتماعية كالدعوة إلى الله، والتعليم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، وصلاة الجماعة، وإكرام الناس، والإحسان إليهم، ليرغبوا في الدين والطاعات، وكسب الحسنات.
وبيئة الإيمان تتكون من ثلاثة أشياء:
المكان كالمسجد .. والجماعة .. والأعمال الانفرادية والاجتماعية مع التقوى، فلحفاظة الإيمان لا بد من التقوى، فهي سور الإيمان.
وهذه الأعمال اليومية، هي أوامر الله على الإنسان الذي خلقه الله وهداه واشتراه، ووعده الجنة، تحفظه وتزكيه وتطهره، فضلاً عمن يهتدي ويصلح بسببه.
وفي البيئة التي فيها الإيمان، والأعمال، والصفات، يسهل الحصول على أمور أربعة:
فهم الدين .. العمل بالدين .. الترقي في الدين .. نشر الدين.
ولذلك أمرنا الله عز وجل بلزوم هذه البيئة لنظفر بذلك كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119].
وإذا دخل الإيمان في القلب، سهل على الإنسان امتثال أوامر الله، فالإيمان كالصحة، كلما قوي زاد العمل.
فالمريض لا يستطيع أن يأكل ولا يمشي ولا يعمل، فإذا عالج بدنه حصلت له الصحة بإذن الله عز وجل، فإذا أراد أن يأكل أو يمشي أو يعمل سهل عليه ذلك.
وهكذا إذا حصلت للإنسان حقيقة الإيمان، ورسخ في قلبه ذلك، سهل عليه قبول أوامر الله، وامتثالها، وحبها والمسارعة إليها، واجتناب ما حرم الله.
وكلما زاد الإيمان زاد العمل، وكلما أقبل على الله أعانه الله ووفقه وهداه، ولا يتم ذلك إلا بالتضحية بالشهوات، وتقديم أوامر الله عليها، وبذل الجهد لإعلاء كلمة الله.
فأداء العبادات كالصلات مثلاً يتطلب التضحية بالشهوات التي يحبها الإنسان، وتصور تلك الشهوات.
فالمسلم في الصلاة يترك شهوة الأكل والنوم، وشهوة التجارة، وشهوات الدنيا، ويترك تصور تلك الشهوات بالإقبال على الله، فيعبد الله كأنه يراه، ولا ينشغل بما سواه.
وإذا طلب الله منا تكميل شيء كالعبادات مثلا، نسينا وتركنا جميع الأشياء لتكميل هذه العبادة، فمن أكمل العبادات، وأخر الشهوات أكمل الله شهواته يوم القيامة، ووفقه في الدنيا لما فيه سعادته.
ومن ضحى بشهواته في الدنيا أكملها الله له يوم القيامة.
ومن أكمل لله ما يحب في الدنيا من الإيمان والأعمال الصالحة أكمل الله له ما يحب يوم القيامة من الشهوات والمسرات: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17].
والإيمان درجات متفاوتة لا يحصيها إلا الله.
والعباد بالنسبة للإيمان ثلاثة أقسام:
الأول: مَن إيمانهم ثابت لا يزيد ولا ينقص وهم الملائكة.
الثاني: من إيمانهم يزيد ولا ينقص وهم الأنبياء والرسل، الذين رباهم الله واصطنعهم لنفسه من البشر.
الثالث: مَن إيمانهم يزيد وينقص، وهو إيمان بقية البشر، وهؤلاء إيمانهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
فإذا زاد الإيمان جاء الإقبال على الطاعات، والنفرة من المعاصي.
وإذا نقص الإيمان ضعف الإقبال على الطاعات وجاءت الرغبة في المعاصي.
فكل طاعة تزيد الإيمان .. وكل معصية تنقص الإيمان .. وكل طاعة تزيد نور القلب .. وكل معصية تملأ القلب ظلمة.
والإنسان كالبذرة فيها شجرة كاملة، فإذا بذرناها واجتهدنا عليها، ظهرت
جذورها وأغصانها وأوراقها وأزهارها وثمارها.
وكذلك الإنسان فيه طاقات واستعدادات للخير والشر.
فإذا اجتهدنا عليه، ودخل الإيمان في قلبه، ظهرت طاقاته المحمودة من العلم والعبادة والدعوة، وحسن المعاملات والمعاشرات والأخلاق، وظهرت زينته على بدنه، كما تظهر الأوراق والزهور والثمار على الشجرة.
فكما أنه إذا دخل الماء إلى الشجرة تفتحت بالأوراق والأزهار والثمار، فكذلك إذا دخل الإيمان في القلب أثمر الأعمال الصالحة، وتفتحت الجوارح بالأعمال والعبادات والدعوة، وطلب الأعمال كما يطلب العطشان الماء.
والإيمان له ركنان لا يقوم إلا بهما:
أحدهما: السمع المتضمن للقبول، لا مجرد سمع الإدراك المشترك بين المؤمنين والكفار.
والثاني: الطاعة المتضمنة لكمال الانقياد بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي.
وفي ذلك كمال الإيمان .. وكمال القبول .. وكمال الانقياد كما قال سبحانه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51].
ولما جاء الإيمان في حياة الصحابة جاء أمران:
الأول: الاستعداد لفعل الأوامر والتلذذ بها، والتنافس فيها، والمسارعة إليها.
الثاني: النصرة من الله، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل، والتمكين في الأرض.
وكل من أقر بلا إله إلا الله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تغير فكره .. وتغير يقينه .. وتغير شكله .. وتغير شغله .. وتغير عمله .. وتغير مقصد حياته: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)} [البقرة: 138].
وقد كان إيمان الصحابة قوياً في أعماق قلوبهم، فكلما اصطدمت أحوالهم الخاصة بأوامر الله آثروا دين الله على أحوالهم، ولم يبالوا بها.
فتحملوا الجوع والعطش، ومفارقة الأهل والأوطان، وصبروا على كيد الأعداء
وأذاهم، وقدموا أموالهم وأنفسهم وأوقاتهم كلها للدين.
وبذلك نزلت عليهم السكينة .. وفازوا بنصرة الله حينما ضحوا من أجل لا إله إلا الله بأموالهم وأنفسهم .. وأوقاتهم وشهواتهم .. وجاههم وديارهم .. وهاجروا ونصروا .. وقاتلوا وقتلوا.
ولذلك كلهم رضي الله عنهم ورضوا عنه كما قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100].
وقد كانت الأخلاق العالية منثورة في الأنبياء والرسل، ثم جمعها الله في خاتم رسله سيد الأنبياء محمدٌ صلى الله عليه وسلم، ثم فرقها في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأصاب منها القرن الأول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحسنها وأعظمها، وأشرفها وأكملها.
فقد كانت في الصحابة رضي الله عنهم صفات عجيبة من الإيمان والعلم .. والحياء والحلم .. والإحسان والإيثار .. والطاعة لله ورسوله .. وأحسن الأخلاق والآداب .. والحب في الله .. وحسن العبادة .. والدعوة إلى الله .. والجهاد في سبيله ..
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أقْوَامٌ: تَسْبِقُ شَهَادَةُ أحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ» متفق عليه (1).
وكانت تلك الصفات منثورة فيهم .. وهم متفاوتون فيها .. فمستقل ومستكثر، لكنهم مشتركون في الإيمان، والعلم، والعبادة، والدعوة، والجهاد في سبيل الله.
وقد جمع الله فيهم صفات الأنبياء، وهم خير القرون:
فكلهم كانوا مؤمنين حقاً بالله ورسوله، وبما جاء عن الله ورسوله.
(1) متقق عليه، أخرجه البخاري برقم (2652) واللفظ له، ومسلم برقم (2533).
وكانت فيهم الطاعة لله ورسوله في شئون الحياة كلها خاصة أركان الإسلام.
وكانت طاعتهم لربهم ونبيهم على علم في ضوء علم النبوة لا على هواهم.
ثم مع علمهم كان عندهم الاستحضار لله عز وجل ولزوم ذكره، وكانوا يعبدون الله كأنهم يرونه قريباً مجيباً سميعاً بصيراً.
وكانت عندهم الأخلاق العالية، بإكرام بعضهم بعضاً، فهم أشداء على الكفار، رحماء بينهم:{تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29].
ثم كلهم كانوا مخلصين في أعمالهم لله تعالى، عرضت عليهم المناصب والأموال فتركوها لله مخلصين له الدين:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5].
ثم الشيء المشترك بينهم جميعاً هو الدعوة إلى الله، فكما أن كلهم يعبدون الله فكذلك كلهم كانوا يدعون إلى الله كما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الشاهد منهم الغائب، فرضي الله عنهم وأرضاهم ورضوا عنه.
فالإيمان هو الدافع والمحرك لامتثال أوامر الله كلها.
فهو قوة دافعة لفعل الطاعات وكسب الحسنات.
وهو قوة ممسكة عن المعاصي والذنوب والسيئات.
ولكي يزيد الإيمان واليقين، وتقوى الأعمال، لا بد أن نعرف وعد الخالق لمن أطاعه حتى يصغر ما يعطيه المخلوق لمن أطاعه.
وأن نعرف وعيد الخالق لمن عصاه حتى يصغر وعيد المخلوق لمن عصاه.
وأن نعرف قدرة الخالق ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة حتى تصغر أمامنا قدرة المخلوق.
وأن نعرف نعم الخالق وإحسانه وآلاءه حتى تصغر نعمة المخلوق وأفضاله.
وبذلك يزيد الإيمان واليقين، ثم تزيد الأعمال، ثم يظهر حسن الأخلاق، ثم تصلح الأحوال، ثم يأتي رضا الله، ثم دخول الجنة.
والإيمان الضعيف يمكن أن تؤدى به الصلاة، والذكر، والتسبيح، وتلاوة القرآن ونحوها من الأعمال الانفرادية.
أما حسن المعاشرات والمعاملات، وحسن الأخلاق، فلا تكمل إلا بالإيمان الكامل، والإيمان الكامل لا يأتي إلا بالمجاهدة والدعوة إلى الله.
وحتى تكون معاشراتنا وأخلاقنا طيبة ندعو الناس لهذه الصفات ونتمرن عليها، وندعو الله أن يرزقنا حقيقتها، حتى تكون أخلاقنا ومعاملاتنا واحدة كما كانت صلاتنا واحدة.
ولسهولة الحصول على ذلك لا بد أن يكون أمامنا دائماً إيمان الأنبياء والصحابة .. وأعمال الأنبياء والصحابة .. وأخلاق الأنبياء والصحابة.
وبذلك نترقى في الإيمان والأعمال والأخلاق، ونحذر ألا تكون أمامنا أعمال وأخلاق وحياة اليهود والنصارى.
والناس في الحياة ثلاثة أقسام:
أحدها: من يعتقدون أن الأحوال كالفقر والمرض ليست من الله، ولحلها لا يتوجهون إلى الله، بل إلى المخلوق، وهؤلاء هم الكفار.
الثاني: من يعتقدون بأن الأحوال من الله، ولكن لحلها لا يتوجهون إلى الله، وإنما يتوجهون إلى المخلوق.
الثالث: من يعتقدون بأن كل شيء بيد الله، والخير والشر إنما يحصل بإرادة الله، ويتوجهون في حلها إلى الله، وهؤلاء هم المؤمنون، فيقولون إذا نقص الكسب هذا بأمر الله، فيتوجهون إلى الله، ويفعلون ما فعل رسول الله في تلك الحال.
وإذا مرض أحدهم قال هذا بأمر الله ولا يرفعه إلا الله، ويفعل ما فعل رسول الله أو أمر به عند المرض.
وإذا امتنع المطر قالوا هذا بأمر الله، فماذا فعل رسول الله حين حبس الله المطر وهكذا، فلا تحل المشاكل إلا بأمر الله حسب سنة رسول الله.
والإنسان إذا دخل نور الإيمان في قلبه، رأى كل خير في الأعمال الصالحة،
وجاء عنده فكر القيام بالأعمال وتكثيرها وتنويعها وتحسينها، لا فكر جمع الأموال والأشياء، ثم ظهرت شعب الإيمان في حياته.
وبسبب نور الإيمان يتعلق القلب بالخالق ولا يلتفت إلى المخلوق .. ويستأنس بالخالق ويستوحش من المخلوق .. ويرى الشيء على حقيقته .. النافع نافعاً .. والضار ضاراً .. والحسن حسناً .. والقبيح قبيحاً .. والكبير كبيراً .. والصغير صغيراً .. ويميز بين الباقي والفاني .. والرخيص والغالي.
وإذا عدم الإيمان أو ضعف رأى العكس، فرأى النافع ضاراً، ورأى الضار نافعاً وهكذا.
ومن لم يكن في قلبه نور الإيمان يرى العزة بالأموال والأشياء لا بالإيمان والأعمال الصالحة، وبذلك يحرم من الأعمال الصالحة، ويتعلق قلبه بالفانية، وتظهر شعب الكفر في حياته من الكبر والكذب والنفاق والظلم.
وجهد الدين يشتمل على أمرين:
جهد لمعرفة الإيمان والأعمال .. وجهد لنشر الإيمان والأعمال.
فالأول لمعرفة الإيمان والأحكام والمسائل والعمل بذلك كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} [التوبة: 122].
والثاني لنشر وإبلاغ هذا الدين لعموم الإنسانية كما قال سبحانه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52].
وحقيقة الإيمان التوجه إلى الله في جميع الأحوال، وعدم الالتفات إلى غيره، فنرى هذا المخلوق لا يفعل ونحن نراه .. والرب يفعل كل شيء ونحن لا نراه.
فالابتلاء للإنسان هنا التفات القلب إلى أين؟، والفاعل من؟، والذي بيده الأمر كله من؟، والذي لا يقع في ملكه شيء إلا بإذنه من؟.
ولا إله إلا الله خطاب للقلوب لا للعقول، فعقول قريش موجودة، وفصاحتهم
معروفة، وعقل فرعون ليس فيه خلل، كان يملك مصر سنين طويلة، واليهود والمنافقون لهم عقول يعرفون بها الحق من الباطل، ولكن الخبث والحسد في القلب، منع قبول الحق والهدى.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه (1).
فالنفي يجب أن يكون تاماً شاملاً لكل شيء، والإثبات يجب أن يكون تاماً شاملاً لكل شيء .. وهذه هي حقيقة التوحيد.
فليس بيد أحد من الخلق شيء، الله بيده كل شيء .. هو الغني وكل ما سواه فقير .. هو القوي وكل ما سواه ضعيف .. هو الكبير وكل ما سواه صغير .. هو المالك وكل ما سواه مملوك .. وهو الخالق وكل ما سواه مخلوق .. وهكذا.
فله سبحانه الكمال المطلق في أسمائه وصفاته وأفعاله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر: 62].
ومحمد رسول الله خطاب للأبدان، بأن تفعل كل شيء فعله محمد صلى الله عليه وسلم، وتترك كل شيء تركه محمد صلى الله عليه وسلم، ونفي جميع طرق الأعمال، وإثبات طريقة محمد صلى الله عليه وسلم في كل عمل، في العبادات والمعاملات والمعاشرات والأخلاق كما قال الله سبحانه:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21].
والله سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، فطر عباده على أنه سبحانه فوق مخلوقاته، كما فطرهم على الإقرار به، وفطرهم على الحق، وبعث الرسل بتكميل الفطرة وتقريرها لا بتحويل الفطرة وتغييرها.
والله سبحانه غني عن العرش وعن كل ما سواه، لا يفتقر إلى شيء من
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52) ومسلم برقم (1599) واللفظ له.
مخلوقاته أبداً، وكل مخلوقاته محتاجة إليه أبداً.
وهو سبحانه مع استوائه على العرش، يحمل العرش وحملة العرش بقدرته، فهو سبحانه القوي العزيز الغني لذاته، وكل ما سواه ضعيف ذليل فقير لذاته، فلله الكمال المطلق في كل شيء، وليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11].
والقلوب مفطورة على الإقرار بالله، وحب الحق وبغض الباطل، لكن قد يعرض لها ما يفسدها، إما من الشبهات التي تصدها عن التصديق بالحق، وإما من الشهوات التي تصدها عن اتباعه.
والإيمان في القلب لا يكون إيماناً بمجرد تصديق ليس معه عمل القلب، من محبة الله ورسوله، وخوف الله وخشيته، والتوكل عليه.
والإيمان إنما يكون إذا كان المخبر به من الأمور الغائبة، فيقال لملخبر آمنا له، ويقال للمخبر به آمنا به، أما المشاهدات والمحسوسات فتحصل معرفتها بالرؤية القاطعة للشك.
والمؤمن لا بدَّ له من التصديق بالحق والمحبة له، وإذا قام ذلك بالقلب لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال والأعمال.
وكل ما يظهر على البدن سببه ما في القلب، وكل من القلب والبدن يؤثر في الآخر، لكن القلب هو الأصل، والبدن فرع له، والفرع يستمد من أصله، والأصل يثبت ويقوى بفرعه:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)} [إبراهيم: 24، 25].
وحصول العلم والإيمان في القلب، كحصول الطعام والشراب في المعدة، فالجسم يحس ويتلذذ بالطعام والشراب، وكذلك القلب يحس بما يتنزل إليه من العلم والإيمان، الذي هو غذاؤه ودواؤه وشفاؤه.
والفطرة الإنسانية التي فطر الله عليها العباد تكملها الفطرة الشرعية التي جاء بها الأنبياء، فإن الفطرة تعلم الأمر مجملاً، والشرعية تفصله وتبينه، وتشهد بما لا تستقل الفطرة به.
والإسلام والإيمان متلازمان كالروح والبدن، فكما لا يوجد روح إلا مع البدن، ولا يوجد بدن حي إلا مع الروح، فكذلك لا يوجد إيمان بلا إسلام.
فالإيمان كالروح، فإنه قائم بالروح ومتصل بالبدن، والإسلام كالبدن، ولا يكون البدن حياً إلا مع الروح، وإسلام المنافقين كبدن الميت جسد بلا روح.
وما من بدن حي إلا وفيه روح، ولكن الأرواح مختلفة متنوعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الأرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» متفق عليه (1).
وهكذا الإسلام الظاهر بمنزلة الصلاة الظاهرة، والإيمان بمنزلة ما يكون في القلب حين الصلاة من المعرفة بالله والخشوع والانكسار.
ومن فعل ما أمره الله به، وانتهى عما نهاه عنه ظاهراً وباطناً فقد استكمل الإسلام والإيمان الواجب عليه.
ومن ترك شيئاً من ذلك نقص من إسلامه وإيمانه بقدر ذلك، فمن نقص من الصلاة أو الزكاة أو الصوم أو الحج، فقد نقص من إسلامه بحسب ذلك.
والنقصان في الإيمان يكون في الإيمان الذي في القلوب من المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ووعده ووعيده، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
والأنبياء في ذلك درجات .. والمؤمنون درجات.
فالإيمان له مبدأ وكمال .. وظاهر وباطن .. وقوة وضعف .. وطعم وحلاوة .. وصورة وحقيقة، والإسلام كذلك.
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3336)، ومسلم برقم (2638).
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإِسْلامُ أنْ تَشْهَدَ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ، إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا» متفق عليه (1).
وسئل صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: «أنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الاخِرِ. وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» متفق عليه (2).
وسئل صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال: «أنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» متفق عليه (3).
والإسلام والإيمان المذكوران في هذا الحديث لم يكونا واجبين أول الإسلام، ثم إنه زاد الإسلام والإيمان، وكملت أركانهما، ونزل في حجة الوداع البيان التام بكمال الدين في قوله سبحانه:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
ومن أسلم وآمن قبل كمالهما فهو في الجنة.
فالإسلام هو الاستسلام لله وحده، والخضوع والانقياد له، وفعل الطاعات الظاهرة.
والإيمان هو التصديق بالغيب والطمأنينة، وفعل الطاعات الباطنة مع الظاهرة، وهذا قدر زائد على الإسلام.
والإسلام يتناول من أتى بالإسلام الواجب، وما يلزم من الإيمان، ولم يأت بتمام الإيمان الواجب.
ويتناول من أظهر الإسلام مع التصديق المجمل في الباطن، لكن لم يفعل الواجب كله، لا من هذا ولا من هذا، وهم الفساق يكون في أحدهم شعبة نفاق أو أكثر.
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (50)، ومسلم برقم (8) واللفظ له.
(2)
متقق عليه، أخرجه البخاري برقم (50)، ومسلم برقم (8) واللفظ له.
(3)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (50)، ومسلم برقم (8) واللفظ له.
ويتناول من أظهر الإسلام وليس معه شيء من الإيمان وهو المنافق المحض، فهذا تثبت له أحكام الإسلام في الدنيا، لعدم معرفة ما في قلبه، لكنه في الآخرة في الدرك الأسفل من النار.
والإسلام هو الدين الحق الذي لا تنفك فيه العقيدة الإيمانية .. عن الشعائر التعبدية .. عن الشرائع التنظيمية .. عن القيم الأخلاقية، وهذا هو الدين الكامل الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران:: 85].
أما النصرانية فقد حرفت، فقد انفصل فيها الجانب التشريعي التنظيمي عن الجانب الروحي التعبدي الأخلاقي، حيث قامت العداوة بين اليهود والنصارى، فأنشأ هذا انفصالاً بين التوراة المتضمنة للشريعة، والإنجيل المتضمن للإحياء الروحي، والتهذيب الأخلاقي، وبقيت النصرانية نحلة بغير شريعة، فعجزت عن القيادة، فأرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالدين الكامل إلى يوم القيامة.
والإيمان له شعب .. وله درجات:
فأما شعب الإيمان فكثيرة متنوعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، أوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأفْضَلُهَا قَوْلُ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم (1).
وأما درجات الإيمان فهي خمس:
الأولى: لفظ الإيمان كقولنا: (لا إله إلا الله).
الثانية: صورة الإيمان، وهي الشعائر التعبدية كالصلاة والصيام ونحوهما كما قال سبحانه:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].
الثالثة: طعم الإيمان، وهو ما يتلذذ به القلب كما يتلذذ البدن بالطعام كما قال
(1) أخرجه مسلم برقم (35).
النبي صلى الله عليه وسلم: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ، مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبّاً وَبِالإِسْلامِ دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولا» أخرجه مسلم (1).
الرابعة: حلاوة الإيمان، وهو التلذذ بحلاوة الإيمان، وهي درجة بعد الطعم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإيمَانِ: أنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأنْ يُّحِبَّ الْمَرْءَ لا يُّحِبُّهُ إلا لِلَّهِ، وَأنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» متفق عليه (2).
الخامسة: حقيقة الإيمان، وهي أعلى درجات الإيمان واليقين، وهي ما وقر في القلب، وصدقه العمل من التعلق بالله والإعراض عما سواه، والتلذذ بطاعة الله في جميع الأحوال.
وتحصل لمن عرف حقيقة الدين، وقام بجهد الدين:
إيماناً وعبادة .. وتعليماً ودعوة .. وهجرة ونصرة .. وجهاداً وإنفاقاً .. وبذلاً وتركاً .. مخلصاً لله.
وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)} [الأنفال: 74].
وثمرة الإيمان:
كثرة الطاعات والأعمال الصالحة .. ومحبتها .. والتلذذ بها .. ودخول الجنة .. والفوز برضى الله عز وجل.
فالإيمان حقيقة إيجابية متحركة، ما أن تستقر في القلب حتى تسعى بذاتها إلى
(1) أخرجه مسلم برقم (34).
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (16) واللفظ له، ومسلم برقم (43).
تحقيق ذاتها في الخارج في صورة عمل صالح، وخلق حسن.
ولا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وأرض الفطرة رحبة قابلة لما يغرس فيها:
فإن غرست فيها شجرة الإيمان والتقوى أورقت حلاوة الأبد.
وإن غرست شجرة الجهل والهوى فكل الثمر فاسد مر، يورث شقاوة الأبد كما قال سبحانه:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 7 - 10].
واليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته، والمحبة لله ورسوله ودينه هما ركنا الإيمان، الذي لا يتم إلا بهما، ولا يقبل إلا بهما.
والمسلمون يتفاضلون في الإيمان .. ويتفاضلون في شعبه .. ويتفاضلون في درجاته.
وكل إنسان يطلب ما يمكنه طلبه .. ويقوم بما يقدر على تقديمه من الفاضل.
ولا بد من الإيمان الواجب .. والعبادة الواجبة .. والزهد الواجب .. والعمل الواجب .. والدعوة الواجبة .. ثم الناس يتفاضلون في ذلك حسب إيمانهم.
فمنهم من يكون العلم أيسر عليه من الزهد.
ومنهم من يكون الزهد أيسر عليه من العلم.
ومنهم من تكون العبادة أيسر عليه منهما.
ومنهم من تتكون الدعوة أيسر عليه منهما.
والمشروع لكل إنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير .. وإذا ازدحمت شعب الإيمان قدم ما كان أرضى لله وهو عليه أقدر .. فقد يكون على المفضول أقدر منه على الفاضل .. ويحصل له به منفعة أكثر .. فهذا الأفضل له أن يطلب ما هو أنفع له .. وهو قي حقه أفضل.
ولا يطلب ما هو الأفضل مطلقاً إذا كان متعذراً في حقه، أو متعسراً يفوته ما هو
أفضل له وأنفع، كمن ينتفع بالذكر أعظم مما ينتفع بالقراءة.
فأي عمل صالح كان له أنفع ولله أطوع، أفضل في حقه من تكلف عمل لا يأتي به على وجهه، بل على وجه ناقص، ويفوته به ما هو أنفع له.
وفي كل خير: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 71].
والله سبحانه أنزل الدين الكامل، وطلب منا القيام بالدين الكامل، ووعدنا على ذلك النعيم الكامل، والخلود الدائم.
وهذا الملك ملكه، والخلق خلقه، والأمر أمره، والعبيد عبيده.
والله سبحانه يغار، ومن غيرته أنه لم يجعل إليه طريقاً سواه كما قال سبحانه:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: 153].
ومن غيرته سبحانه أنه إذا رآك تساكن غيره، وتتوجه إليه سقطت من عينه كما قال سبحانه:{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)} [الإسراء: 22].
ومعية الله وحفظه للمؤمنين تكون مع الصفات التي يحبها الله كالإيمان والتقوى، والصبر والإحسان.
والله ينجينا بتلك الصفات ولو لم يكن معنا شيء من المال أو الملك أو القوة إذا بذلنا ما نستطيع.
كما نجى الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم من النار، وليس معه شيء إلا إيمانه بربه .. وكما نجى الله موسى صلى الله عليه وسلم من فرعون .. وأنجاه من الغرق في البحر .. ونصره بإيمانه على السحرة .. وكما نجى الله محمداً صلى الله عليه وسلم من كفار مكة حين أرادوا قتله .. وحفظه في طريق الهجرة. ونصره على أعدائه .. ومكن له في الأرض .. مع أنه لم يكن معه ملك ولا مال.
وكما ينجي الله الرسل وينصرهم كذلك ينجي المؤمنين: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)} [يونس: 103].
وقارون لما أعرض عن الإيمان خسف الله به الأرض مع ماله.
وفرعون لما طغى أهلكه الله مع أن معه الملك.
ونمرود قتله الله لما كفر وأعرض عن الله مع أن معه الملك.
وهكذا القرى الظالمة أهلكهم القوي العزيز بذنوبهم مع كثرتهم وشدتهم وقوتهم، وعظمة ملكهم، وكثرة أموالهم:{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)} [الكهف: 59].
فالله مع المؤمنين ولايةً وحفظاً .. ونصراً وتأييداً .. وتثبيتاً وتمكيناً: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)} [النور: 55].
والمؤمنون متفاضلون في الإيمان بالله بحسب المعرفة به والمحبة له تنوعاً لا ينحصر.
بل الخلق متفاضلون متفاوتون في إيمانهم بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، وغير ذلك من أمور الغيب.
كما أنهم متفاوتون فيما يشاهدون ويسمعون ويعملون.
وكذلك هم يتفاضلون في العلم والإرادة، فإذا كان أحدهم أكثر محبة لله وذكراً وعبادة كان الإيمان عنده أقوى وأرسخ من حيث المحبة والعبادة لله، وإن كان لغيره من العلم بالأسماء والصفات ما ليس له، فصاحب المحبة والتأله يحصل له من حضور الرب في قلبه، وأنسه به ولذة مناجاته، ما لا يحصل لمن ليس مثله.
وكذلك منازل المؤمنين في الجنة متفاضلة بحسب إيمانهم ومعرفتهم وأعمالهم.
والدعوة إلى الله وإن كانت واجبة على كل مسلم إلا أنها لا تكفي في حصول الإيمان، حتى يأذن الله لمن دعوته أن يؤمن.
فهدى كل إنسان بيد خالقه الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهو أعلم
بمن يصلح للهدى والإيمان ومن لا يصلح كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)} [يونس: 100].
ولا بدَّ لكل عبد من الإيمان والتوحيد كما قال سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36].
ولا ينفع الإيمان مع الشرك كما قال سبحانه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف: 106].
فأثبت لهم إيماناً مع الشرك، فهم وإن أقروا أن الله هو الخالق الرازق المدبر للأمور إلا أنهم يشركون معه غيره في العبادة.
وهذا الإيمان وإن لم يؤثر في إخراجهم من النار، كما أثر إيمان أهل التوحيد، بل كانوا معه خالدين في النار بشركهم وكفرهم، فإن النار إنما سعرها عليهم الشرك والظلم.
فلا يمتنع في الرحمة والحكمة والعدل أن يطفئها ويذهبها بعد أخذ الحق منهم.
ومقامات الإيمان التي عليها بناؤه ثلاثة وهي:
محبة الله .. والخوف منه .. والرجاء له.
وهذه الأمور الثلاثة هي الأصل والمادة في كل خير، فمن تمت له تمت له أموره، وإذا خلا القلب منها ترحلت عنه الخيرات، وأحاطت به الشرور، وقد ذكر الله هذه الثلاثة بقوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} [الإسراء: 57].
وجمال الإنسان وكماله بالإيمان والأعمال والصفات.
وجمال الشجرة وكمالها بالأوراق والأزهار والثمار.
وأول ما تأثر من شجرة الإيمان جذورها، وجذور شجرة الإيمان هي أركان الإيمان الستة:
الإيمان بالله .. وملائكته .. وكتبه .. ورسله .. واليوم الآخر .. والقدر خيره وشره.
وبقدر قوة هذه الجذور تستطيع حمل الساق والأغصان، وهي أركان الإسلام
الخمسة:
الشهادتان .. وإقام الصلاة .. وإيتاء الكاة .. وصوم رمضان .. والحج.
وكان الصحابة في أول الإسلام في مكة لم يكلفوا بالصلاة والزكاة، ولا الصيام والحج.
فلما قويت الجذور واستعدت لحمل الأغصان جاءت الفروع وهي الأوامر والنواهي، ثم جاءت الأوراق والأزهار وهي الأخلاق الحسنة.
فأصبحت الأغصان والفروع مزينة ومعمورة بأوامر الله من الآداب والأخلاق والمعاشرات، وسائر الأحكام الشرعية.
وصارت البيوت والأسواق، والرجال والنساء، والمعاملات والمعاشرات، مزينة بأوامر الله في جميع الأحوال والأوقات والأماكن.
فكل من رأى هذه الشجرة شجرة الإيمان أحبها واقترب منها، لما تحمله من جمال الأخلاق كالعفو والإحسان .. والصدق والكرم .. والرحمة والشفقة .. والبذل والإيثار .. : ونحو ذلك من الأخلاق المفضية إلى هداية الناس: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)} [إبراهيم: 24، 25].
والإنسان لا بدَّ له من بيئة الإيمان التي تحفظ الموجود، وترقي الإنسان لطلب المفقود، وكل مخلوق يتأثر بالبيئة التي يكون فيها.
فالإنسان إذا دخل في جو حار أو بارد تأثر بهما، فكذلك إذا دخل بيئة الإيمان والأعمال الصالحة تأثر بذلك، فزاد إيمانه، وقويت أعماله، وحسنت أخلاقه.
والإنسان لا يتأثر بالبيئة إلا إذا دخلها، فالذي يجلس في مكان الدباغة يألف الرائحة ويعتادها، فإذا نقل إلى بيئة الزهور والعطور ومكث فيها مدة تأثر بها، فإذا رجع إلى بيئته الماضية استنكرها واستقبحها.
فإذا قيل له كنت فيها أولاً، قال أعوذ بالله ومن يطيقها، ثم نفر منها وولاها ظهره،
مع أنه كان يعيش فيها عدة سنين.
وهكذا بيئة المعاصي والنساء كلها شر وروائحها كريهة، ولا يشعر الإنسان بذلك إلا إذا نقل إلى بيئة طيبة، فيها الإيمان والطاعات، والعبادة والدعوة، والذكر وتلاوة القرآن، وتعظيم الله وحمده.
فهنا يجد القلب حاجته وغذاؤه فيلزم هذه البيئة وينفر من ضدها.
وهذه البيئة هي التي تحفظ الإيمان الموجود، وترقى الإنسان لطلب الإيمان المفقود، والأعمال المفقودة.
والإيمان هو كمال وجمال العبد، وبه ترتفع درجته في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)} [المجادلة: 11].
وقد جعل الله لكل مطلوب سبباً وطريقاً يوصل إليه، والإيمان أعظم مطالب الإنسان على الإطلاق، وقد جعل الله له مواد كثيرة تجلبه وتقويه، وتزيده وتحفظه ومنها:
تدبر القرآن الكريم، وما فيه من عظمة الله، وعظمة أسمائه وصفاته، واليوم الآخر، وما به من وصف الحشر والحساب، والجنة والنار.
والنظر والتفكر في الكون وما فيه من المخلوقات الدالة على عظمة الله، ورؤية الآلاء والنعم التي سخرها الله لعباده، ومشاهدة مظاهر رحمة الله بنزول المياه، ونبات النبات، ووفرة الهواء، واستقرار الأرض، والإكثار من ذكر الله في كل وقت، والإكثار من الدعاء الذي هو مخ العبادة.
والدعوة إلى الله، وإلى دينه، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فالداعي يسعى إلى تكميل العباد ونصحهم ليرضى الله عنهم، فيجازيه الله بتأييده ونصره، وتقوية إيمانه وهدايته كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69].
وكذلك معرفة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفة ما هو عليه من الإيمان والأخلاق العالية، والأوصاف الكاملة، فهو أكبر داع إلى الإيمان في أقواله وأفعاله، وصفاته وأخلاقه:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21].
والإيمان بالنسبة لمعرفته له ثلاث مراتب:
الأولى: الإيمان المجمل كما قال سبحانه: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].
الثانية: الإيمان الواجب من فعل الواجبات، وترك المحرمات.
الثالثة: الإيمان المطلق، وبه تتحقق العبودية الحقة، وإحياء جهد الرسول صلى الله عليه وسلم في العبادة والدعوة إلى الله كما قال سبحانه:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15].
وهذه المرتبة أعلى المراتب وأفضلها وأعظمها.
والإيمان بالنسبة لتحصيله كالمال له بداية وليس له نهاية، وكلما زاد الجهد والطلب زاد الإيمان، وزادت الأعمال، وحسنت الأخلاق.
فالإيمان قسمان:
إيمان موجود .. وإيمان مطلوب.
فإذا كان الإيمان الموجود لا يكفي للقيام بالأعمال، فلا بد من تقوية الإيمان بالإيمان المطلوب حتى نتمكن من القيام بالعمل، ونتحصل على موعودات الله بالإيمان الكامل، كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)} [النساء: 136].
فالإيمان الموجود ينجي من النار ويدخل الجنة، ولكن هذا الإيمان لا يفي بمواعيد الله للمؤمنين في الدنيا، كما قال سبحانه: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [آل عمران: 139].
فالعلو والرفعة مشروطة بالإيمان، والمقصود: الإيمان الكامل.
وكذلك قوله سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [الروم: 47].
فالنصر مشروط بالإيمان، والمقصود: الإيمان الكامل.
وهكذا بقية الموعودات في القرآن مشروطة بالإيمان الكامل.
فإذا جاء الإيمان المطلوب فلا بد أن يظهر الموعود من النصر، وحصول البركات، والخلافة في الأرض.
وعدم ظهور الموعود دليل على أن الإيمان الموجود لا يكفي لظهور الموعود، فلا بدَّ من الجهد والتضحية حتى يأتي الإيمان المطلوب ليحصل الموعود.
والإيمان يزيد باستعمال الأعضاء الأربعة للدين:
السمع .. والبصر .. واللسان .. والدماغ.
وهذه الأعضاء الأربعة تصب في القلب، كما يصب المطر على الأرض.
فإذا سمع المسلم كلام الإيمان بأذنه، فهذه الأذن تصب في القلب ما سمعت، وتملؤه إيماناً.
وإذا منَّ الله على العبد وأعطاه نظرات الإيمان، فكلما رأى مخلوقاً تذكر به الخالق، وكلما رأى صورة تذكر بها المصور سبحانه.
وكلما رأى آيات الله في القرآن تذكر به من تكلم به وهو الله، فهذه العين تصب في القلب ما رأت وتملؤه إيماناً.
فالعين المؤمنة هي التي ترى الأشياء وتنفيها، وتتعداها إلى خالقها فهو الذي بيده الأمر كله:{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101].
فإذا لم تر العين هذه الرؤية رأت الأشياء ثم تأثرت بها، ثم أثرت على القلبل، فضعف الإيمان، وتبدل اليقين، ثم ضعفت الأعمال، ثم نزلت العقوبة حسب الترك أو التقصير أو التأخير.
وإذا تكلم المسلم كلام الإيمان مبيناً عظمة ربه، وعظمة أسمائه وصفاته وأفعاله، وعظمه دينه وشرعه، وعظمه خلقه وأمره، فهذا اللسان يصب في القلب ويملؤه إيماناً وعلماً.
وإذا تفكر الإنسان في عظمة الله وكبريائه، وفي جلاله وجبروته، وفي قوته وقدرته، وفي حلمه وعفوه.
وتفكر في نعم الله وآلائه، وتفكر في عظمة مخلوقاته، وتفكر في سعة ملكه وكثرة مخلوقاته، فهذا الدماغ يصب في القلب ويملؤه إيماناً.
فالقلب محل الإيمان بالله، والتعظيم له، والخوف منه، والرجاء له، والمحبة له، والخشية منه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، وتقواه.
فإذا قامت هذه الأعضاء الأربعة بوظيفتها التي أرادها الله وصلت كلمة (لا إله إلا الله) إلى القلب، فرسخ الإيمان في القلب، ثم ظهرت آثاره على الجوارح، فكملت للإنسان الزينة الداخلية والخارجية.
وهذه الزينة التي يحبها الله، ودعا إليها رسول الله، وهي محل نظر الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وَأمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ وَأعْمَالِكُم» أخرجه مسلم (1).
وإذا جاء الإيمان أحب المؤمن الإيمان والطاعات والحسنات كما يحب الطيبات والطاهرات، وأبغض وكره الكفر والفسوق والعصيان، كما يكره القاذورات والنجاسات.
وإذا حل الإيمان في القلب مال إلى الطاعات، واجتنب المحرمات، ونفر من السيئات، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ
(1) أخرجه مسلم برقم (2564).
حَكِيمٌ (8)} [الحجرات: 7، 8].
فالإيمان محله القلب، وإذا دخل فيه جاء بكل خير، وإذا لم يدخل الإيمان في القلب فلا فائدة من العمل معه، فالمنافقون كان إيمانهم بألسنتهم فلم ينفعهم، وكانوا يصلون مع المسلمين فلم ينفعهم ذلك، بل هم في الدرك الأسفل من النار:{يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11].
ولفظ الإيمان شيء .. وصورة الإيمان شيء .. وعلم الإيمان شيء .. لكن حقيقة الإيمان شيء أعظم من هذا كله.
وكل شيء يصنع في مكان، ومكان تجريبه في مكان آخر كالسيارة والقلم ونحوهما، وكذلك علم الإيمان له مكان، ومكان معرفته وتجريبه له ميدان آخر.
وذلك لا يتم ولا يحصل إلا بالمجاهدة والتضحية بكل شيء من أجل الحصول عليه، فهو أغلى شيء في الدنيا والآخرة.
وطريق الإيمان تعب فيه آدم .. وناح لأجله نوح .. ورمي في النار الخليل .. واضطجع للذبح إسماعيل .. وبيع وسجن يوسف .. ونشر بالمنشار زكريا .. وذبح بالسكين يحيى .. وقاسى الضر أيوب .. وزاد في البكاء داود .. وسار مع الوحش عيسى .. وعالج الفقر والأذى محمد صلى الله عليه وسلم.
وهؤلاء هم شموس التوحيد والإيمان .. ونجوم الهدى .. وجبال الصبر واليقين.
فالإيمان أصل الدين وقاعدته التي يبنى عليها البناء، وهو بمنزلة تسوية الأرض وسقيها، أما الأمور الباقية في الدين فهي بمنزلة الأشجار والحبوب التي يمكن زرعها وغرسها في هذه الأرض.
فهي تنمو بقدر خصوبة الأرض واستعدادها كما أنها تثمر بقدر الجهود المبذولة في تمهيد الأرض وسقيها.
فالإيمان هو أرض الدين .. والدعوة نبتها وطلعها .. والعبادة ثمرتها وزينتها .. والعلم يرويها ويسقيها .. والجنة ورضى الرب غايتها.
ولا يمكن أن نحصل على حقيقة الإيمان، إلا إذا تيقنا أن جميع المخلوقات في
السموات والأرض، قويها وضعيفها كالحية الميتة، لا تنفع ولا تضر إلا بإذن الله، ولا تعطي ولا تمنع إلا بأمر الله، وأن كل شيء بيد الله، وأن ما سوى الله ليس بيده شيء كما قال سبحانه:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].
وقوة الإيمان تظهر إذا كانت في القلب، كالرصاص لا تظهر قوته إلا إذا كانت في البندقية، وهذا هو الإيمان الحقيقي.
فإذا توقف على كلام اللسان، وسماع الآذان، وفكر الدماغ، فذاك إيمان اللسان والأذن والدماغ، ولا تظهر قوته وآثاره إلا إذا كان في القلب كالرصاص ما دام في الجيب أو البيت لا تظهر قوته ولا آثاره، حتى يكون في محله الأصلي في البندقية.
وإذا احصل العبد على حقيقة الإيمان هانت عليه نفسه وأمواله، وبلاده وأهله في سبيل مرضاة مولاه.
والدنيا محل الكسب، والقلوب محل الإيمان، فيجب أن نجتهد على قلوبنا حتى لا يبقى فيها تأثر من غير الله من الأشخاص والأموال والأشياء.
ولما كثر الجهد على الأموال والأشياء، تأثرت القلوب بهذه الأشياء.
فقال الناس:
حاجات الدنيا تقضى بالأموال والأسباب .. وحاجات الآخرة تقضى بالإيمان والأعمال الصالحة.
وهذا خطأ، فحاجات الدنيا والآخرة لا يقضيها إلا الله وحده لا شريك له وهو على كل شيء قدير.
أحياناً يقضيها بالأسباب كما يحصل النبات من نزول الماء على الأرض، وكما يحصل الولد بالوطء، والشبع بالأكل، والري بالشرب وهكذا.
وأحياناً يقضيها بدون الأسباب: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].
وأحياناً يقضيها بضد الأسباب كما جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وكما نصر موسى صلى الله عليه وسلم على فرعون مع أن معه الملك والدولة، وكما ربى موسى صلى الله عليه وسلم في قصر عدوه فرعون:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)} [البقرة: 106].
والإيمان قسمان:
نظري .. وعملي.
فالنظري يحصل للإنسان بطريق الكلام الصادر عن ثقة كما قال الله لموسى صلى الله عليه وسلم: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه: 14].
ثم أراد الله أن يبين لموسى حقيقة الإيمان عملياً، وأنه سبحانه هو الفعال القادر على كل شيء، وأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يعجزه شيء، وأن جميع المخلوقات ليس بيدها شيء، وأن الخلق والأمر لله وحده لا شريك له فقال سبحانه:{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)} [طه: 17 - 21].
فجاء أمر الله إلى العصا فانقلبت فوراً إلى حية تسعى، ثم أمره الله بأخذها فعادت بأمر الله فوراً عصا، وأمره سبحانه بإلقائها وهي نافعة فأطاع، وأمره بأخذها وهي ضارة فأطاع، ليعلم موسى أن جميع المخلوقات بيد الله وحده، وأنها لا تضر ولا تنفع إلا بإذن الله.
ثم أمره الله بإدخال يده في جيبه فأدخلها فخرجت بيضاء ساطعة من غير عيب ولا برص كما قال سبحانه: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22)} [طه: 22].
فرأى موسى صلى الله عليه وسلم قدرة الله عملياً في قلب العصا حية وإعادتها مرة أخرى، وفي خروج يده بيضاء من غير سوء، وزاد إيمانه بربه، وقوي يقينه، واطمأن قلبه، وعلم نظرياً وعملياً أن الله على كل شيء قدير.
فلما حصل له كمال اليقين، أرسله الله إلى فرعون فأبى واستكبر، فأنجى الله نبيه، وأهلك فرعون وجنوده، بأمر واحد، ووقت واحد.
والدنيا محل تكميل الإيمان والأعمال والأخلاق.
فمن اجتهد لتكميل تلك الصفات في نفسه صار في مرتبة الأبرار والصالحين.
ومن اجتهد لتكميلها في نفسه وفي غيره من الناس صار في مرتبة المقربين كما قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} [الواقعة: 10، 11].
وعلامة الإيمان الكامل:
أن نتوجه إلى الله وحده في جميع أمورنا .. فهو قاضي حاجات البشر وحده لا شريك له .. ونفعل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال .. فأوامر الله كالحبل الذي يتمسك به الغريق .. فمن تمسك بحبل الله نجا وأفلح .. ومن توجه إلى المخلوق خذله الله به وأذله.
وكل الناس غرقى إلا من تمسك بحبل الله واعتصم به.
فبالجهد للدين يقوى الإيمان .. وبقوة الإيمان تقوى الأعمال .. وبقوة الإيمان والأعمال يقوى الدعاء .. وبالدعاء تقضى الحوائج .. كما قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186].
وكلما قوي الإيمان جاءت متطلبات الإيمان سهلة كالطاعات، وإذا ضعف الإيمان ثقلت الطاعات، وجاءت الرغبة في المعاصي.
وإذا اقترنت الأعمال بالإيمان جاءت الطمأنينة والسعادة في الدنيا والآخرة.
وإذا اقترنت المعاصي بالإيمان جاءت المصائب نقداً في الدنيا قبل الآخرة كما حصل للصحابة في غزوة أحد، وفي غزوة حنين.
فأولاً تسلب الطمأنينة من القلوب، وتأتي الهموم ليستغفروا ويتوبوا، فإذا لم يرجعوا إلى الحق، واستمروا في المعاصي، تحولت المصائب والهموم إلى الأسباب كالأموال والأولاد، ليتوبوا إلى الله.
فالأولى فضائل .. والثانية ابتلاء بالفضائح لعلهم يتوبون.
وفرعون لما فسد فكره، جاء عنده الهم أن هذا الملك سوف يسلب مني، ولأنه لا يعرف الحق، بدأ يعالج البلاء بالبلاء فقرر أن يقتل كل مولود من بني إسرائيل، فعالج المعصية بالمعصية، وإلا علاج الهم الاستغفار والتوبة.
فعالج فرعون الخطأ بالخطأ، فما زال الهم بل زاد، وجاء بشكل آخر أقوى وأشد من الأول، فقد قتل فرعون أولاد بني إسرائيل بالآلاف، لأنه فكر في ملكه فما حصل العلاج.
فربى الله من يزيل ملكه في بيته، وتحت رعاية زوجته، وهو موسى صلى الله عليه وسلم.
ولما كبر قام بدعوة فرعون إلى الله، وتلطف معه حتى قامت الحجة عليه، ولما لم يرجع ولم يؤمن ألقى الله المصائب في ملكه كما قال سبحانه:{وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)} [الأعراف: 132، 133].
فانتقل الهم من قلبه على نفسه إلى الهم في ملكه، وابتلاه الله بهذه المصائب لعله يتوب إلى الله، فالحياة في عهده فاسدة، والأحوال فاسدة، بسبب فقدان الدين، ولكنه مع رؤية هذه الآيات أبى كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)} [طه: 56].
فتأثر الملك بسبب ذلك الاستكبار كما قال سبحانه: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)} [القصص: 39].
فهاتان مرحلتان: إلى القلوب .. ثم إلى الأسباب، فإذا لم يرجع فهناك مرحلة ثالثة، وهي البطش والإهلاك كما قال سبحانه:{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)} [الزخرف: 55].
فهذه ثلاث مراحل للخسران:
فأولاً تتأثر القلوب .. ثم تتأثر الأسباب .. ثم التدمير والهلاك، وذلك ليعود
الإنسان إلى ربه.
فيربي الله العاصي بالفضائل والمصائب .. فإذا لم يقبل ابتلاه بالفضائح .. فإذا لم يتب أهلكه الله .. وبعد الموت تكون الحال أشد وأبقى: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} [الرعد: 34].
وقد أقسم الله عز وجل بالعصر الذي هو زمن الأعمال الرابحة والخاسرة، على أن كل واحد في خسر إلا من كمل قوته العلمية والعملية فقال سبحانه:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3].
وهذا نهاية الكمال الإنساني، فإن الكمال أن يكون الشخص كاملاً في نفسه مكملاً لغيره.
وكمال الإنسان بإصلاح قوتيه: العلمية والعملية.
فصلاح قوة الإنسان العلمية بالإيمان، وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات، وتكميله غيره بتعليمه إياه، وصبره عليه، وتوصيته بالصبر على العلم والعمل.
فالحق هو الإيمان والعمل، ولا يتمان إلا بالصبر عليهما، والتواصي بهما.
والإيمان لا يكون حتى ينبثق منه عمل صالح.
وهذا الإيمان إما أن يجد طعمه وحلاوته وحقيقته في القلب، أو لا يجد كما قال سبحانه:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)} [الحجرات: 14].
فهؤلاء مسلمون وليسوا بمؤمنين، لأنهم ليسوا من باشر الإيمان قلبه، ذاق حلاوته وطعمه، وهذا حال أكثر المسلمين، فأثبت لهم الإسلام، ونفى عنهم الإيمان، لأنهم لم يذوقوا طعمه، ونفى عنهم الإيمان المطلق، لا مطلق الإيمان وهو الإٍسلام.
ووعدهم مع ذلك على طاعاتهم أن لا ينقصهم من أجور أعمالهم شيئاً.
ثم ذكر سبحانه أهل الإيمان الحقيقي، الذين ذاقوا طعمه وحلاوته، وهم الذين آمنوا بالله ورسوله، ثم لم يرتابوا في إيمانهم، لأن الإيمان قد باشر قلوبهم، وخالطتها بشاشته، فلم يبق للريب فيه موضع.
وصدقوا ذلك ببذل أحب شيء إليهم في رضى ربهم وهو أموالهم وأنفسهم، ولا يمكن حصول هذا البذل من غير ذوق طعم الإيمان وحلاوته كما قال سبحانه:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15].
فالإيمان لا يكون حتى ينبثق منه العمل الصالح.
أما الذين يقولون أنهم مسلمون ويشركون مع الله غيره .. أو يفسدون في الأرض .. ويحاربون الله ورسوله .. أو يؤذون المؤمنين والمؤمنات .. وأئمة الدين والمصلحين .. أو يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، فهؤلاء ليس لهم من الإيمان شيء، وليس لهم من ثواب الله شيء، وليس لهم من عذابه من واق كما قال سبحانه:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85].
فلا بد من الجمع بين الإيمان القلبي، والإحسان العملي كما قال سبحانه:{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)} [البقرة: 112].
وأعظم شيء وهبه الله للعبد هو الإيمان الذي يسعد به في الدنيا والآخرة وهو فضل الله وإحسانه إلى البشرية كما قال سبحانه: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} [الحجرات: 17].
والإيمان بالله أغلى شيء في الحياة، بل هو أغلى شيء في خزائن الله، وسعادة الإنسان في الآخرة مبنية عليه، وهو أهم شيء يوصى به العبد أهله عند مفارقته
للحياة كما قال سبحانه: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)} [البقرة: 132].
والإيمان نور يشرق به قلب المؤمن وروحه وكيانه، فيرى قلب المؤمن الخالق والمخلوق، ويرى عظمة ربه وإحسانه، ويشاهد مظاهر قدرته ورحمته.
ويرى المخلوق بيد خالقه، ليس بيده شيء، وليس بيده نفع ولا ضر، إن لم يهده ربه إلى نور الإيمان، تاه في أودية الظلمات، وخسر الدنيا والآخرة.
فالإيمان نور واحد يهدي إلى طريق واحد، يهدي إلى الحق، وإلى طريق مستقيم.
وأما الكفر فظلمات شتى متنوعة:
ظلمة الكبر والطغيان .. وظلمة الرياء والنفاق .. وظلمة الهوى والشهوة .. وظلمة الجهل والقسوة .. وظلمة الحرص والطمع .. وظلمة البخل والشح .. وظلمة الشك والقلق .. وظلمة الكذب والافتراء.
وظلمات شتى يجمعها كلها الشرود عن صراط الله المستقيم، والتلقي من غير الله، والاحتكام إلى غير منهج الله.
والله يؤتي فضله من يشاء، وهو العليم بمن يصلح له، ومن لا يصلح له، وما يترك الإنسان نور الله الواحد الذي لا يتعدد، حتى يدخل في الظلمات من شتى الأنواع والأصناف، وكلها ظلمات.
والعاقبة اللائقة بأصحاب الظلمات إذا لم يهتدوا بالنور في الدنيا، أن يخلدوا في ظلمات النار في الآخرة:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)} [البقرة: 257].
إن من ذاق طعم الإيمان وحلاوته، وعرف حقيقته لا يمكن أن يتركه أو يجد اللذة في غيره.
فإبراهيم صلى الله عليه وسلم لما طلب من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، لم يطلب برهاناً، أو
تقوية للإيمان، إنما هو أمر آخر له مذاق آخر، إنه أمر الشوق الروحي إلى ملابسة ورؤية السر الإلهي في أثناء وقوعه العملي كما قال سبحانه:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)} [البقرة: 260].
ورؤية الآيات الكونية لها مذاق .. وتدبر الآيات القرآنية لها مذاق .. والإيمان بالغيب له مذاق .. ومذاق رؤية هذه العملية أمام العين له مذاق آخر غير مذاق الإيمان بالغيب.
فأراد إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن يرى يد القدرة وهي تعمل، ليحصل على مذاق وحلاوة هذه الملابسة.
ليستروح بها، ويتنفس في جوها، ويعيش معها.
وإبراهيم صلى الله عليه وسلم كان ينشد اطمئنان الإنس إلى رؤية يد الله تعمل، واطمئنان التذوق للسر المحجوب وهو يتجلى وينكشف.
وقد استجاب الله لهذا الشوق والتطلع في قلب إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأراه التجربة الذاتية المباشرة، والقدرة الإلهية.
فرأى إبرهيم صلى الله عليه وسلم السر الإلهي يقع بين يديه، وهو السر الذي يقع كل لحظة، ولا يرى الناس إلا آثاره بعد تمامه، إنه سر هبة الحياة.
رأى إبراهيم صلى الله عليه وسلم هذا السر يقع بين يديه، طيور معروفة أمسكها، ثم ذبحها وقطعها، وخلط أجزاءها ببعض، ثم فرقها في أماكن متباعدة ثم دعاها، فتجمع اللحم مع اللحم، والدم مع الدم والريش مع الريش، والعظام مع العظام، ثم جاءت إليه مسرعة حية كما كانت من قبل.
فاجتمع له دليل العيان بالبصر، مع دليل الإيمان بالخبر، فحصل على مرتبة عين اليقين، فتوارد الأدلة اليقينية يزيد الإيمان، ويكمل به الإيقان، ويسعى في نيله أولو العرفان، ولذلك استجاب الله له حين قال له: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ
لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260].
والإيمان أعظم شيء .. وأغلى شيء .. وبه يسعد الإنسان في الدنيا والآخرة.
والمؤمنون يتوجهون إلى ربهم بالطاعة والتسليم، لأنهم يعرفون أنهم صائرون إليه، فيقبلون على طاعته، ويطلبون مغفرته كما قال سبحانه:{كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} [البقرة: 285].
فالإيمان يولد السمع والطاعة لله ورسوله.
السمع لكل ما جاء من عند الله، والطاعة لكل ما أمر به الله.
وهم مع السمع والطاعة يشعرون بالتقصير، والعجز عن توفية نعم الله حق شكرها، وفرائض الله حق أدائها، فيطلبون مغفرته من التقصير، وتداركهم برحمته، لأنهم يعرفون عظيم حقه، ومقدار تقصيرهم في حقه.
وطلب الغفران إنما يكون بعد الاستسلام لله، وإعلان السمع والطاعة له، واليقين بأن المصير إليه سبحانه في الدنيا والآخرة.
المصير إليه في الدنيا في كل أمر وفي كل عمل، فلا منجى من الله إلا إليه، ولا عاصم من قدره ولا نجاة من عقابه، إلا برحمته وغفرانه.
والمصير إليه في الآخرة فالخلق لله، وهم إليه راجعون، فمن قدم بالإيمان أدخله الجنة، ومن جاء بالكفر والمعاصي أدخله النار.
وإذا جاء الإيمان في حياة الإنسان جاءت التقوى.
والتقوى: هي الاستقامة والخوف من الله وحده، ومراقبته وحده في جميع الأحوال.
وتقوى الله هي التي تربط القلوب بالله، وحين يتصل القلب بالله فإنه سيعظم ربه، ويتمثل أمره، ويحقر كل قوة غير قوته.
والإيمان يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي.
وما أسرع زوال الإيمان أو ضعفه عند لذعة المصائب، ومواهة الأخطار، ولسعة
الحوادث المؤلمة إلا من ثبته الله وأعانه.
فمن الناس من هو ضعيف الإيمان، إن أصابه خير اطمأن بذلك الخير، لا بإيمانه، وإن أصابته فتنة من حصول مكروه، أو زوال محبوب ارتد عن دينه، فما أخسر هذا في الدنيا والآخرة:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)} [الحج: 11].
وللإيمان وزنه وقيمته على كل حال، مع تفاضل أهله في الدرجات، وفق تفاضلهم في النهوض بتكاليف الإيمان كالعبادات، والجهاد بالأنفس والأموال كما قال سبحانه:{فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)} [النساء: 95، 96].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْض، فَإِذَا سَألْتُمُ اللهَ فَاسْألُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ -اُرَاهُ- فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري (1).
وشهادة أن (لا إله إلا الله) ليس لها مدلول إلا أن تكون العبودية في هذا الكون لله وحده، وأن يكون الحكم في حياة البشر لله وحده، كما أن له الحكم وحده في نظام الكون سواء.
فهو سبحانه المتحكم في الكون والعباد بقضائه وقدره.
وهو سبحانه المتحكم في حياة العباد بمنهجه وشرعه.
فلا يحق لأحد أن يعبد إلا الله وحده، ولا يتلقى الشرائع والأحكام إلا من الله وحده.
(1) أخرجه البخاري برقم (2790).
والإيمان بالله وإخلاص الدين له، وتحقيق عبودية البشر لله سبحانه إن هي إلا فرع من إسلام الوجود كله لله، وعبودية الوجود كله لربه.
إن الإنسان إذا نظر في هذا الكون العظيم الهائل .. لا بدَّ أن يهتز من أعماقه بالشعور القاهر بوجود الخالق البارئ المصور .. العزيز القادر الذي خلق هذا الكون .. ويدبر أمره .. ويصرف أحواله ومخلوقاته .. وله الخلق والأمر في ملكه.
فمتى يقبل هذا القلب على ربه ويؤمن به؟.
ومتى يتحرك إلى الاستجابة لداعيه؟.
ومتى يستسلم لربه، كما استسلم هذا الوجود كله بالطاعة لخالقه؟.
{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} [آل عمران: 83].
وبذلك يستشعر القلب حقيقة العبودية، ويذوق طعمها، ويتلذذ بها، في استسلام الواثق المطمئن، الذي يستشعر أن كل ما حوله من الكائنات والبشر يشاركه ويتجاوب معه في طاعة الرب وعبادته.
إن الذي يحرك العبد لعبادة ربه وتوحيده ليس فقط البرهان العقلي الذي يدل على استسلام الكائنات لربها في طواعية ويسر، بل هناك مذاق آخر.
مذاق المشاركة مع كافة المخلوقات في السماء والأرض في الطاعة.
ومذاق الطمأنينة للقلب هذا الرب العظيم الكريم.
ومذاق الانسياق مع موكب الإيمان الشامل بالمحبة والشوق.
إنه مذاق العبودية الراضية .. التي لا يسوقها القسر .. ولا يحركها القهر.
إنما تحركها قبل الأمر والتكليف عاطفة الود والطمأنينة، والانسجام مع الكون كله في طاعة الرب، فلا تفكر في التهرب من الأمر، لأنها إنما تلبي حاجتها الفطرية في الاستسلام للرب الكريم، الذي بيده كل شيء، وتقف بين يديه، ولا تتجه لأحد سواه.
هذا الاستسلام الشامل لرب العالمين هو الذي يمثل معنى الإيمان، ويعطيه طعمه وحلاوته.
وهذه العبودية هي التي تحقق معنى الإسلام.
وهذا ما يجب أن يستقر في القلب قبل التكليف والأمر .. وقبل الشعائر والشرائع .. إنه معرفة المعبود بأسمائه وصفاته وأفعاله .. والانسجام مع الكائنات في التلذذ بعبادته وطاعته .. فكلها ساجدة لربها .. خاضعة لعظمته .. مستكينة لعزته .. مطيعة لأمره .. لأنه الرب المعبود .. والملك المحمود.
فمن عدل عن عبادته إلى عبادة ما سواه، فقد أهان نفسه، وضل ضلالاً بعيداً، وخسر خسراناً مبيناً:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} [الحج: 18].
إن خالق هذا الكون العظيم المشهود في ضخامته وفخامته، والذي استعلى على هذا الكون يدبره بأمره، ويصرفه بقدره، يقلب الليل والنهار، والذي جعل الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، هو ربكم الذي أنزل لكم منهجه، وشرع لكم بإذنه، ويقضي بينكم بحكمه، وأنزل إليكم أحسن كتبه، وأرسل إليكم أفضل رسله، وله الخلق والأمر:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].
والله تبارك وتعالى كما أنه لا خالق معه فكذلك لا آمر معه.
إن المخلوقات والكائنات كلها في العالم العلوي والعالم السفلي: من سماء وأرض .. وملائكة وأرواح .. وشمس وقمر .. وليل ونهار .. وجماد ونبات .. وطير وحيوان .. وماء وتراب .. وجبال وبحار .. ورياح وذرات.
كل هذه المخلوقات تعاطف البشر وتشاركهم حركة الحياة.
إنها تتلقى أمر الله، وتنفذه وتخضع له وتسير وفقه.
إنها مسخرة تتلقى وتستجيب، وتمضي حيث أمرت كما يمضي الأحياء في طاعة الله.
ومن هنا يهتز القلب البشري وينساق للاستجابة والطاعة في موكب الأحياء المستجيبة المطيعة، فلها أوامر، وله أوامر.
فإذا رأى الناس هذه المخلوقات العظيمة، والمشاهد الحية في الكون، وتجلى لهم خضوع هذه الخلائق الهائلة، وعبوديتها لخالقها، وطاعتها لأمره، توجهوا إلى ربهم الذي لا رب غيره، ودعوه في إنابة وخضوع:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)} [النور: 41، 42].
فمن رزقه الله هذا النظر وهذا الفكر وهذا التأمل زاد إيمانه، وصلح يقينه، وحسنت أعماله، وأقبل على الطاعات، ونفر من المعاصي، وخلصت حياته لربه، واشتغل بعبادة مولاه، وحقق مراد الله منه بالطاعة والعبادة كما قال سبحانه:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162، 163].
والإيمان بالله وتقواه متصل بواقع الحياة، وما بعد الحياة، مؤهل لفيض بركات السماء والأرض كما قال سبحانه:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)} [الأعراف: 96،97].
والإيمان بالله دليل على حيوية في الفطرة، وسلامة في أجهزة الاستقبال، وصدق في الإدراك الإنساني.
والإيمان بالله قوة دافعة دافقة، تجمع جوانب الكائن البشري كله، وتتجه به إلى وجهة واحدة، تستمد من قوة الله، وتعمل لتحقيق مشيئة الله في خلافة الأرض وعمارتها، ودفع الفساد والفتنة عنها.
والإيمان بالله تحرر من العبودية للهوى .. ومن العبودية للعبيد .. ومن تحرر من ذلك فهو أقدر على الخلافة في الأرض خلافة راشدة، من العبيد للهوى، ولبعضهم بعضاً.
وتقوى الله يقظة واعية، تصون من الاندفاع والتهور والغرور، وتوجه الجهد البشري وتضبطه، فلا يعتدي ولا يتهور، ولا يتجاوز الحدود.
والله عز وجل يريد من البشر أن تسير حياتهم هكذا، إيان وتقوى، متحررة من الهوى والطغيان البشري، خاشعة لله، تسير سيرة صالحة منتجة، تستحق مدد الله بعد رضاه، فلا جرم تحفها البركة، ويعمها الخير، وتنعم يالأمن.
والبركات التي يعد الله بها الذين يؤمنون ويتقون ألوان شتى:
فهي بركات بكل أنواعها وألوانها وأشكالها .. مما يخطر ببال الخلق .. وما لا يخطر ببالهم .. بركات في الدنيا، وبركات في الآخرة .. بركات في الأقوال والأعمال .. وبركات في الأنفس والأموال .. وبركات في الأوقات والأخلاق.
والذين يتصورون الإيمان بالله وتقواه مسألة تعبدية بحتة، لا صلة لها بواقع الناس في الأرض، هؤلاء لا يعرفون الإيمان، ولا يعرفون الحياة، ولا يستفيدون من الإيمان.
وما أجدرهم أن ينظروا هذه الصلة قائمة يشهد بها الله سبحانه، وكفى بالله شهيداً:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)} [المائدة: 65، 66].
والنفس البشرية حين تستقر فيها حقيقة الإيمان، تستعلى على قوة الأرض، وتستهين بيأس الطغاة، وتنتصر فيها العقيدة على حب الحياة.
والإيمان الذي لا يفزع ولا يتزعزع هو الإيمان الذي باشر القلب، الذي يطمئن إلى النهاية فيرضاها، ويستيقن من الرجعة إلى ربه، فيطمئن إلى جواره كما قال
السحرة لفرعون: {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)} [الأعراف: 125، 126].
إن المؤمن الذي يعرف إلى من يتجه؟ .. وإلى أين هو صائر؟ .. لا يطلب من خصمه السلامة والعافية .. إنما يطلب من ربه الصبر على الفتنة .. والوفاة على الإسلام: {رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)} [الأعراف: 126].
ويقف الكفر والطغيان عاجزاً أمام قوة الإيمان .. وثقف عاجزاً أمام القلوب التي خيل اليه أنه يملك الولاية عليها كما يملك الولاية على الرقاب .. ويملك التصرف فيها كما يملك التصرف في الأجسام .. فإذا هي مستعصية عليه، لأنها من أمر الله، لا يملك أمرها إلا الله.
وماذا يملك الطغاة إذا رغبت القلوب المؤمنة في جوار الله؟.
وماذا يملك الجبروت إذا اعتصمت القلوب بالله؟.
وماذا يملك السلطان إذا رغبت القلوب عن السلطان؟.
إنه لا يمكن أن يمضي المؤمنون في طريق الدعوة، ولا يمن أن يصبروا على ما ينتظرهم من التعذيب والتنكيل إلا بوجود اليقين بشقيه: أنهم المؤمنون .. وأن أعداءهم الكافرون.
وبهذا اليقين وبهذا التميز تأتي البركات والعواقب الحميدة للمؤمنين.
والإيمان هو نفي كل شيء عن غير الله .. وإثبات كل شيء لله .. فهو الذي بيده كل شيء .. وغيره ليس بيده شيء.
ولا يمكن أن يجتمع في قلب واحد، الإيمان بالله وتوحيده، والتوكل على غيره.
والتوكل على الله وحده لا يمنع من اتخاذ الأسباب، فالمؤمن يتخذ الأٍباب من باب الإيمان باله وطاعته فيما يأمر به من اتخاذها، ولكنه لا يجعل الأسباب هي التي تنشئ النتائج، فيتكل عليها.
فالذي خلق الأسباب، وأنشأ النتائج هو الله وحده، ولا علاقة بين السبب والنتيجة ي شعور المؤمن، فالكل بيد الله.
والله عز وجل فعّال لما يشاء.
يفعل بالأسباب .. وبضد الأسباب .. وبدون الأسباب .. كما جعل الوطء سبباً للإنجاب، وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وكما يقول للشيء كن فيكون، فالله لا يعجزه شيء.
وبذلك يتخلص شعور المؤمن من التعبد للأسباب، والتعلق بها.
وفي الوقت ذاته هو يستوفيها بقدر طاقته، لينال ثواب طاعة الله في استيفائها.
ومتى تخلص القلب من ضغط الأسباب الظاهرة، لم يعد فيه حمل للتوكل على غير الله ابتداء، وقدر الله هو الذي يحدث ما يحدث، والأسباب مخلوقة مأمورة، فالتوكل ينبغي أن يكون على من بيده أزمة الأمور:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)} [التغابن: 13].
والإيمان له أثران:
فله صورة حركية ظاهرة على البدن .. كما أن له مشاعر قلبية باطنة.
فحين يذكر قلب المؤمن بالله وأسمائه وصفاته، وأفعاله وأوامره، ويعرف وعده ووعيده، وعظمته وخزائنه، يغشاه جلاله، وتنتفض فيه مخافته، ويشعر بعظمة ربه ومهابته، ويرى نعمه وآلاءه، ويرى تقصيره في طاعته.
فينبعث إلى العمل والطاعة بانشراح وسرور، ومخافة وخشوع، وحياء وانكسار.
أما الصورة الحركية الظاهرة فتتمثل فيما بينه وبين ربه بالعبادات من صلاة وزكاة، وصيام وحج، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وجهاد ودعوة إلى الله.
وقلب المؤمن يجد في آيات القرآن ما يزيده إيماناً، ولا يحول بين الإنسان والقرآن شيء إلا الكفر.
فإذا رفع هذا الحجاب بالإيمان وجد القلب حلاوة هذا القرآن حين يعيشه واقعاً، لا مجرد تذوق وإدراك كما قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ
اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} [الأنفال: 2].
فهذا أثر الإيمان على القلوب، فبتدبر القرآن يزيد الإيمان، لأن التدبر من أعمال القلوب، وبه يعلم الإنسان ما جهل، ويذكر ما نسي، ويحدث في القلب رغبة في الخير، وشوقاً إلى كرامة الرب، ووجلاً من العقوبات، وزجراً عن المعاصي، وكل هذا مما يزداد به الإيمان، ويحصل به التوكل على الله وحده في جميع الأمور.
ثم يتزين البدن بالأعمال الظاهرة وأعلاها أداء حقوق الله بالعبادة وأعظمها الصلاة، وأداء حقوق العباد وأعلاها الزكاة كما قال سبحانه:{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [الأنفال: 3].
فهذا أثر الإيمان على البدن عبودية تامة، وطاعة تامة.
فهؤلاء هم المؤمنون حقاً .. لأنهم جمعوا بين الإسلام والإيمان .. وبين الأعمال الباطنة والظاهرة .. وبين العلم والعمل .. وبين أداء حقوق الله وحقوق عباده: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} [الأنفال: 4].
فهذا ثواب المؤمنين حقاً:
درجات عالية عند ربهم .. بحسب علو أعمالهم .. ومغفرة لذنوبهم .. ورزق كريم .. وهو ما أعد الله لهم في دار كرامته .. مما لا عين رأت .. ولا أذن سمعت .. ولا خطر على قلب بشر.
والمسلم وإن لم يصل إلى درجة هؤلاء في الإيمان يدخل الجنة، ولكن لا ينال ما نالوا من كرامة الله التامة:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين: 26].
إن الإيمان ليس كلمة يقولها اللسان .. ومن ورائها واقع يشهد شهادة عملية ظاهرة بعكس ما يقوله اللسان، فليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي .. ولكنه ما وقر في القلب .. وصدقه العمل.
فمتى يترفع المسلم عن هذا الخلط والتناقض والعبث: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2، 3].
إن العبودية لله هي حقيقة الإيمان، وهي في الوقت ذاته أعلى مقام يبلغه الإنسان بتوفيق الله له، وإنه لمقام كريم يرتفع إليه الإنسان في هذه الحياة وبعد الممات.
إن العبودية لله وحده هي العاصم من العبودية للهوى، والعاصم من العبودية للعباد.
وما يرتفع الإنسان إلى أعلى مقام مقدر له إلا حين يعتصم من العبودية لهواه كما يعتصم من العبودية لسواه.
إن الذين يستنكفون أن يكونوا عبيداً لله وحده يقعون من فورهم ضحايا لأحط العبوديات الأخرى.
يقعون فوراً عبيداً لهواهم وشهواتهم، فيفقدون من فورهم إرادتهم الضابطة التي خص الله بها نوع الإنسان من بين سائر الأنواع.
وينحدرون في سلم الدواب، وإذا هم كالأنعام بل هم أضل، وإذا هم أسفل سافلين، بعد أن كانوا بشراً مكرمين.
وكذلك يقعون في شر العبوديات الأخرى وأحطها، يقعون في عبودية العبيد من أمثالهم، يصرفون حياتهم وفق هواهم.
ومن أضل ممن عرض عليه الهدى الموصل إلى الله وإلى دار كرامته فلم يلتفت إليه، ودعاه هداه إلى الطرق الموصلة للهلاك والشقاء فاتبعه وترك الهدى؟.
ومن أظلم ممن جاءهم الهدى فرفضوه، وعرض لهم الهوى فاتبعوه، وسدوا على أنفسهم أبواب الهداية، وفتحوا عليهم أبواب الغواية؟.
إن الإيمان الحقيقي المتمثل في العمل الصالح هو الذي يعصم النفس البشرية
من اليأس الكافر في الشدة كما يعصمها من البطر الفاجر في الرخاء.
وهو الذي يقيم القلب البشري على سواء في البأساء والنعماء، ويربطه بالله في حاليه.
فلا يتعالى ويتنفج عندما تغمره النعماء .. ولا يتهاوى ويتهافت تحت مطارق البأساء .. بل يشكر عند السراء .. ويصبر عند الضراء .. وفي كل خير.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ» أخرجه مسلم (1).
إن الإيمان الحقيقي يجعل الفرد أمة يقف لأعتى أمة.
فهذا هود صلى الله عليه وسلم بعد أن نصح لقوم عاد، ودعاهم إلى الله فلم يؤمنوا، وقف في وجوههم في حسم كامل، وفي تحدّ بين، وفي استعلاء بالحق الذي معه، وثقة بربه الذي آمن به، فقال بعد إصرار قومه على الكفر:{قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 54 - 56].
فنواصي جميع الخلق بيده، فلا تتحرك دابة ولا تسكن إلا بإذنه، فلو اجتمعتم كلكم على الإيقاع بي، والله لم يسلطكم علي لم تقدروا، فإن سلطكم فلحكمة أرادها.
إن أصحاب الدعوة إلى الله، وأهل الإيمان في كل زمان ومكان، في حاجة أن يقفوا طويلاً أمام هذا المشهد الباهر العزيز، رجل واحد لم يؤمن معه إلا القليل، يواجه أعتى أهل الأرض، وأغنى أهل الأرض، وأكثر أهل الأرض حضارة، وأشدهم قوة: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ
(1) أخرجه مسلم برقم (2999).
يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)} [فصلت: 15].
فهؤلاء العتاة الجبارون تودد إليهم هود صلى الله عليه وسلم وقال لهم: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127)} [الشعراء: 125 - 127].
فلما تبين له عنادهم وإصرارهم على الكفر، ومحادة الله ورسوله، والاستهتار بالوعيد، والجرأة على الله، وقف لهم هذه الوقفة الباهرة، لأنه مؤمن يعلم أن ربه معه، وهو الذي أرسله.
ويعلم أن أولئك الجبارين إنما هم من الدواب التي ما من دابة إلا وربه آخذ بناصيتها، فأنى تضره؟.
وماذا تملك هذه الدواب أمام قوة العزيز الجبار؟.
إن الله أهلكهم بما يحتاجون إليه، ولا يستغنون عنه لحظة، إنه الهواء الذي أرسله عليهم، فعاقبهم الله بريح شديدة، عقوبة تناسب قوتهم التي اغتروا بها. {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)} [فصلت: 16].
فدمرتهم وأهلكتهم فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم.
إن المؤمنين حقاً هم الذين يجدون حقيقة ربهم في نفوسهم، ويشعرون أنه معه، وأنهم يرونه وهو يراهم.
وبهذا الإحساس والشعور يملكون أن يقفوا بإيمانهم في استعلاء أمام قوى الجاهلية الطاغية من حولهم، أمام القوى المادية كلها: قوة المال .. وقوة الصناعة .. وقوة العلم البشري .. وقوة الأنظمة والأجهزة .. وقوة الخبرات والمخابرات.
يقفون أمام هذه القوى، ويرونها حقيرة ضعيفة هزيلة، وهم مستيقنون أن ربهم آخذ بناصية كل دابة، وأن الناس كل الناس وما صنعوا إن هم إلا دابة من الدواب المملوكة لله، بل كل ما في السموات والأرض عبيد لله لا يملكون
لأنفسهم ولا لغيرهم نفعاً ولا ضراً، وهم جميعاً في قبضته:{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56].
إن العهد الأكبر الذي تقوم عليه العهود كلها هو عهد الإيمان.
والميثاق الأكبر الذي تجتمع عليه المواثيق كلها هو ميثاق الوفاء بمقتضيات هذا الإيمان كما قال سبحانه: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)} [الرعد: 19 - 22].
أما جزاء الوفاء بالعهد والميثاق فهو: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرعد: 23 - 24].
وعهد الإيمان قسمان:
قديم .. وجديد.
قديم مع الفطرة البشرية، فكل مولود يولد على الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهو الميثاق المأخوذ على الذرية في ظهور بني آدم كما قال سبحانه:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)} [الأعراف: 172].
ثم هو جديد مع الرسل الذين بعثهم الله لا لينشئوا عهد الإيمان، ولكن ليجددوه ويذكروا به، ويفصلوه ويبينوا مقتضياته، من الدنيوية لله وحده، والإعراض عما سواه، مع العمل الصالح، والسلوك الحسن، والتوجه بكل ذلك إلى الله وحده كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
والإيمان هو النور الذي تخرج به البشرية من الظلمات إلى النور بإذن ربهم على
أيدي الأنبياء والرسل كما قال سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)} [إبراهيم: 1].
إن الجاهلية كلها ظلمات .. ظلمات الوهم والخرافة .. ظلمات الإوضاع والعادات .. ظلمات الحيرة في تيه الأرباب المتفرقة .. ظلمات الأخلاق السيئة .. ظلمات القهر والظلم .. ظلمات الرعب والخوف.
ولا بدَّ من إخراج البشرية من هذه الظلمات، إلى نور الإيمان الذي يكشف هذه الظلمات.
يكشفها في عالم النفس .. وفي عالم القلب .. وفي عالم الفكر .. ثم يكشفها في واقع الحياة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو فضل على العالمين:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 15، 16].
إن الإيمان بالله نور يشرق في القلب، وتشرق به أعضاء الإنسان كلها، وتشرق به النفس، ثترى الطريق واضحة إلى الله، لا يشوبها غبش الشهوات والأوهام، ولا ضباب الخرافات والأطماع.
ومتى رأت الطريق واضحاً سارت على هدى لا تتعثر ولا تضطرب، ولا تتردد ولا تحتار.
والإيمان بالله نور تشرق به الحياة، فإذا الناس كلهم إخوة متساوون، تربط بينهم آصرة واحدة، يدينون كلهم لله دون سواه، وهم مع الكون ومن فيه في أمن وسلام، وعدل وإحسان، وراحة واطمئنان، فالله الذي خلق الكون، وهو الذي يدبره بأمره، ودينه الذي يحكم الوجود، وشريعته التي تحكم الحياة، فالنور المشرق في ذات النفس هو النور المشرق في ذات الكون.
والنفس التي تعيش في هذا النور لا تخطئ الإدراك ولا تخطئ التصور ولا تخطئ السلوك، فهي على صراط مستقيم فأنى تضل؟.
{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} [آل عمران: 101].
أما الذين نقضوا عند الله من بعد ما أكده على أيدي رسله، فلم يقابلوه بالانقياد والتسليم، بل قابلوه بالإعراض والنقض، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل.
فلم يصلوا ما بينهم وبين ربهم بالإيمان والعمل الصالح، ولا وصلوا الأرحام، ولا أدوا الحقوق، بل أفسدوا في الأرض بالكفر والمعاصي والصد عن سبيل الله.
فأي جرم فوق هذا؟، وأي ضلال بعد هذا؟.
وماذا ينتظر هؤلاء من اللعنة والعقوبة؟.
إن استحباب الحياة الدنيا على الآخرة يصطدم بتكاليف الإيمان، ويتعارض مع الاستقامة على الصراط، وليس الأمر كذلك حين تستحب الآخرة.
لأنه عندئذ تصلح الدنيا، ويصبح المتاع بها معتدلاً، ويراعى فيه وجه الله.
والإيمان بالله يقتضي حسن الخلافة في الأرض، باستعمارها والاستفادة من خيراتها، فلا تعطيل للحياة في الإسلام انتظاراً للآخرة.
ولكن تعمير الحياة بالحق والعدل والاستقامة ابتغاء رضوان الله والاستعانة بها على أداء أعمال الآخرة هذا هو الإسلام.
أما الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة فلا يصلون إلى غاياتهم في ظل نور الإيمان بالله، ومن ثم يستأثرون بثروات الأرض، ويكسبون الحرام والخبيث، ويستغلون الناس ويغشونهم ويستعبدونهم.
ولا يمكنهم الحصول على هذا في ظل نور الإيمان، وفي ظل الاستقامة على هداه، ومن ثم يصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجاً، لا استقامة فيها ولا عدالة.
وحين يفلح هؤلاء في صد أنفسهم وصد غيرهم عن سبيل الله فعندئذ فقط
يملكون أن يظلموا وأن يطغوا وأن يغشوا وأن يخدعوا، وأن يغروا الناس بالفساد، فيتم لهم بذلك الحصول على ما يبغونه من النهب والفساد والكسب الحرام، والمتاع المرذول، والكبرياء في الأرض، وتعبيد الناس لغير الله.
وكم لله من حكمة في ابتلاء هؤلاء بهؤلاء؟ .. وتسليط هؤلاء على هؤلاء؟.
وقد توعد الله هؤلاء الكفار بقوله سبحانه: {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)} [إبراهيم: 2، 3].
وقد وعد الله المؤمنين بالفلاح في الدنيا والآخرة، وعد الله لا يخلف الله وعده.
فمن هم المؤمنون الذين كتب الله لهم هذه الوثيقة، ووعدهم هذا الوعد؟.
ومن هم المؤمنون الذين كتب الله لهم الخير والنصر، والسعادة والتوفيق، والمتاع الطيب في الأرض؟.
ومن هم المؤمنون المكتوب لهم الفوز والنجاة، والثواب والرضوان في الآخرة؟.
ومن هم المؤمنون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون؟.
ما وصفهم؟، وما هي صفاتهم؟، وبماذا وعدهم الله؟.
أول صفة لهؤلاء المؤمنين أنهم في صلاتهم خاشعون، تستشعر قلوبهم رهبة الموقف بين يدي الله في الصلاة فتسكن وتخشع، ويسري الخشوع منها إلى
الجوارح، ويغشى أرواحهم جلال الله، فتختفي من أذهانهم جميع الشواغل، ولا تشتغل بسواه، فهم مشغولون بنجواه.
ويتوارى عن حسهم عند مناجاة ربهم كل ما حولهم وكل ما بهم، فلا يشهدون إلا الله، ولا يحسون إلا إياه.
ويتطهر وجدانهم من كل دنس، وينفضون عنهم كل شائبة.
فتتصل هذه الروح بخالقها، وتجد الروح الحائرة طريقها، ويعرف القلب الموحش مثواه فيسكن إلى ربه ويطمئن إليه، ويتلذذ بمناجاته.
والصفة الثانية: الإعراض عن اللغو كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)} [المؤمنون: 3].
فهم معرضون عن كل لغو، لغو القول، ولغو الفعل، ولغو الاهتمام والشعور.
إن قلب المؤمن له ما يشغله عن اللغو واللهو والهذر واللعب.
وله ما يشغله من ذكر الله وتصور جلاله، وتدبر آياته في الأنفس والآفاق.
وله ما يشغله في تكاليف العقيدة من تطهير القلب وتزكية النفس، وتكاليفها في السلوك والثبات على الإيمان، وتكاليفها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله.
وتكاليفها في الجهاد لحمايتها ونصرتها، وحمايتها من كيد الأعداء.
وهي تكاليف لا تنتهي، ولا يغفل عنها المؤمن، ولا يعفي نفسه منها، وهي مفروضة عليه، وأمانة في عنقه.
والصفة الثالثة: أداء الزكاة كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)} [المؤمنون: 4].
والزكاة فيها طهارة القلب والمال، طهارة القلب من الشح، والاستعلاء على حب الذات، والانتصار على وسوسة الشيطان بالفقر، وثقة بما عند الله من العوض والجزاء.
وهي طهارة للمال تطهره من الأوساخ، وتجعل ما بقي منه بعدها طيباً حلالاً.
وهي صيانة للأمة من الخلل الذي ينشئه العوز في جانب .. والترف في جانب آخر.
والصفة الرابعة: حفظ الفروج كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)} [المؤمنون: 5، 6].
وفي هذه طهارة الروح والبيت والجماعة، ووقاية النفس والأسرة والمجتمع بحفظ الفروج من دنس المباشرة المحرمة، وحفظ القلوب من التطلع إلى غير الحلال، وحفظ الجماعة من انطلاق الشهوات فيها بغير حساب.
والجماعة التي تنطلق فيها الشهوات بغير حساب جماعة معرضة للخلل والفساد، وهي جماعة قذرة هابطة في سلم البشرية.
والله عز وجل ينظم الدوافع الفطرية عند الإنسان في صورة مثمرة نظيفة، لا يخجل معها الأطفال من الطريقة التي جاءوا بها إلى هذا العالم، لأنها معروفة، يعرف فيها كل طفل أباه، لا كالحيوان الذي تلقى الأنثى فيه الذكر للقاح، وبدافع اللقاح، ثم لا يعرف الفصيل كيف جاء ولا من أين جاء؟.
والقرآن هنا يحدد المواضع النظيفة التي يحل للرجل أن يودعها بذور الحياة، وهي الزوجات، وملك اليمين.
فمن تجاوزها إلى غيرها فقد عدا الدائرة المباحة ووقع في المحرمات، واعتدى على الأعراض التي لم يستحلها بنكاح ولا بجهاد.
وهنا تفسد النفس البشرية لشعورها بأنها ترعى في كلأ غير مباح.
ويفسد البيت لأنه لا ضمان له ولا اطمئنان.
وتفسد الجماعة لأن ذئابها تنطلق فتنهش من هنا وهناك.
فأي فساد وخراب للبلاد والعباد فوق هذا؟.
الصفة الخامسة: حفظ الأمانات والعهود كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)} [المؤمنون: 8].
فهم يرعون الأمانة الكبرى، فلا يدعون فطرتهم تنحرف عن استقامتها.
فتظل قائمة بأماناتها شاهدة بوجود الخالق ووحدانيته، ثم تأتي سائر الأمانات في عنق الفرد، في عنق الجماعة، في عنق الأمة.
والعهد الأول هو عهد الفطرة الذي قطعه الله على فطرة البشر بالإيمان به وتوحيده، وعلى هذا العهد الأول تقوم جميع العهود والمواثيق.
فكل عهد يقطعه المؤمن يجعل الله شهيداً عليه فيه، ويرجع في الوفاء به إلى تقوى الله وخشيته.
والأمة المسلمة مسئولة عن أماناتها العامة، ومسئولة عن عهدها مع الله تعالى، وما يترتب على هذا العهد من تبعات.
وما تستقيم حياة الأمة إلا أن تُؤدَى فيها الأمانات، وتُرعى فيها العهود.
الصفة السادسة: المحافظة على الصلاة كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)} [المؤمنون: 9].
فهم على صلاتهم يحافظون، فلا يفوتونها كسلاً ولا يضيعونها إهمالاً، ولا يقصرون في إقامتها، إنما يؤدونها في أوقاتها كاملة الفرائض والسنن، مستوفية الأركان والآداب، حية يستغرق فيها القلب، وتستقيم الجوارح.
وقد بدأت صفات المؤمنين بالصلاة وختمت بها، للدلالة على عظيم مكانتها في بناء الإيمان، بوضعها أكمل صورة من صور العبادة والتوجه إلى الله.
فهذه صفات المؤمنين المكتوب لهم الفلاح، وهذا نوع الحياة التي يعيشونها .. تلك الحياة الفاضلة اللائقة بالإنسان الذي كرمه الله .. وأراد له التدرج في مدارج الكمال.
ولما كانت الحياة في هذه الأرض لا تحقق الكمال المقدر للبشر، فقد شاء الله أن يصل المؤمنون الذين ساروا في الطريق إلى الغاية المقدرة لهم في الآخرة، هنالك في الفردوس، دار الخلود بلا فناء، والأمن بلا خوف، والاستقرار بلا زوال، والنعيم بلا شقاء: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ (11)} [المؤمنون: 10، 11].
والإيمان يزيد وينقص، وكلما زاد الإيمان في القلب، ازدادت الطاعات، وزاد الخوف والخشية في قلوب المؤمنين كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون: 57 - 61].
فهؤلاء المؤمنون مشفقون من ربهم، وهم يؤمنون بآياته، ولا يشركون به، وهم ينهضون بتكاليف الدين وواجباته، وهم يأتون من الطاعات ما استطاعوا، ولكنهم بعد هذا كله قلوبهم وجلة لإحساسهم بالتقصير في حق الله بعد أن بذلوا ما في طوقهم وهو في نظرهم قليل؛ لأن ما يجب لله أعظم.
إن قلب المؤمن يشعر بفضل الله عليه ومنته في كل آن .. ويحس آلاءه في كل نفس .. وفي كل حركة .. ومن ثم يستصغر كل عباداته .. ويستقل كل طاعاته .. إلى جانب آلاء الله ونعمائه.
كذلك هو يستشعر بكل ذرة فيه جلال الله وعظمته، ويرقب بكل مشاعره يد الله في كل شيء من حوله.
ومن ثم يشعر بالهيبة، ويشعر بالوجل، ويشعر بالحياء، ويشفق أن يلقى الله وهو مقصر في حقه.
لم يوف ربه حقه عبادةً وطاعةً، ولم يقارب أياديه عليه معرفةً وشكراً.
وهؤلاء هم الذين يسارعون في الخيرات، وهم الذين يسبقون لها لما عرفوا قدرها وثمنها، ومن ثم ينالونها في الطليعة بهذه اليقظة، وبهذا التطلع، وبهذا العمل، وبهذه الطاعة.
وكلما كان القلب ندياً بالإيمان زاد تذوقه لحلاوة الإيمان، وأدرك من معاني القرآن وتوجيهاته ما لا يدركه منه القلب الصلد الجاف.
واهتدى بنوره إلى ما لا يهتدي إليه الجاحد الصادف.
وجميع النظم والشرائع، والآداب والسنن التي يتضمنها هذا القرآن إنما تقدم قبل كل شيء على الإيمان.
فالذي لا يؤمن بالله، ولا يتلقى القرآن على أنه وحي من الله لا يهتدي بالقرآن كما ينبغي، ولا يسر بما فيه من بشارات.
إن في القرآن كنوزاً ضخمة من الهدى والمعرفة، والحركة والتوجيه، والآداب والسنن، والإيمان هو مفتاح هذه الكنوز، ولا يمكن أن تفتح كنوز القرآن إلا بمفتاح الإيمان:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)} [الإسراء: 9].
والذين آمنوا حق الإيمان حققوا المعجزات بهذا القرآن.
أما حين يكون القرآن كتاباً يترنم المترنمون بآياته، تستلذ بها الآذان، ولا تتعداها إلى القلوب، فحينئذ لا ينتفع به أحد، ويظل كنزاً بلا مفتاح كما قال سبحانه:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24].
إن الإيمان أعظم نعمة أنعم الله بها على البشرية فمنهم من قبلها، ومنهم من ردها، والإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال.
فلا يكفي أن يقول الناس آمنّا، بل لا بد أن يتعرضوا للفتنة، ليخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم، كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به.
وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب، وهذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت وسنة جارية لا تتبدل في ميزان الله:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 2، 3].
والله تبارك وتعالى يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء، ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله، مستور عن علم البشر.
فيحاسب الله الناس على ما يقع من عملهم، لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم.
وهذا فضل من الله في جانب، وعدل من جانب، وتربية للناس من جانب، فلا يأخذون أحداً إلا بما استعلن من أمره، وبما حققه فعله، فليسوا بأعلم من الله بحقيقة ما في قلبه.
إن الإيمان بالله أمانة الله في الأرض لا يحملها إلا من هم أهل لها، وفيهم على حملها قدرة، الذين يؤثرونها على كل شيء.
وإنها لأمانة الخلافة في الأرض، وقيادة الناس إلى طريق الله، وتحقيق كلمته في عالم الحياة، فهي أمانة كريمة وهي أمانة ثقيلة، وهي من أمر الله، يضطلع بها الناس، ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص يصبر على البلاء.
وما يستوي عند الله الإيمان والكفر، ولا المؤمنون والكفار، ولا الأبرار والفجار، فلكل فكر، ولكل عمل، ولكل علامة، ولكل جزاء.
إن بين طبيعة الإيمان وطبيعة كل من النور والبصر والظل والحياة صلة، كما أن بين طبيعة الكفر وطبيعة كل من العمى والظلمة والحرور والموت صلة كما قال سبحانه:{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)} [فاطر: 19 - 22].
إن الإيمان نور في القلب، ونور في الجوارح، ونور في الحواس، نور يكشف حقائق الأشياء والقيم، وينسبها إلى خالقها ومدبرها ومالكها وهو الله، فالمؤمن ينظر بهذا النور.
أما الكفر فهو عمى في القلب، يعمي عن رؤية دلائل الحق، وعمى عن رؤية
حقائق الوجود، وحقائق الأشياء والقيم.
والإيمان بصر يرى رؤية حقيقية صادقة، ويمضي بصاحبه في الطريق على نور مبين، والكفر ظلمات، وكلما أبعد الناس عن نور الإيمان يقعون في ظلمات من شتى الأنواع، تعز فيها الرؤية لشيء من الحق.
والإيمان ظل ظليل، تستروحه النفس، ويرتاح له القلب، ظل من هاجرة الشك والقلق والحيرة في التيه المظلم بلا دليل.
والكفر هاجرة حرور تلفح القلب فيه لوافح الحيرة والقلق، وعدم الاستقرار على هدف، وعدم الاطمئنان إلى نشأة أو مصير، ثم تنتهي إلى حر جهنم ولفحة العذاب هناك.
والإيمان فيه حياة القلوب والمشاعر، وهو حياة في القصد والاتجاه، وهو حركة بانية مثمرة قاصدة لا خمود فيها ولا همود.
والكفر موت في الضمير، وانقطاع عن مصدر الحياة الأصيل، وانفصال عن الطريق الواصل، وعجز عن الانفعال والاستجابة.
ولكل طبيعته .. ولكل عمله .. ولكل جزاؤه .. ولن يستوي عند الله هذا وهذا: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)} [الحشر: 20].
والإيمان يذكر الإنسان دائماً بالنعم الكبرى التي سخرها الله له في هذا الكون، ويذكره بالمنعم الوهاب، ومن ثم يوجهه إلى الأدب الواجب في شكر هذه النعم، وشكر المنعم، وتذكره بالله كلما عرضت النعمة، لتبقى القلوب موصولة بالله عند كل حركة في الحياة.
فسبحان المنعم الذي خلق كل شيء، وتفضل على عباده بكل شيء:{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20].
والمؤمن هو الذي ينسب النعم كلها للمنعم سبحانه، ويعلم أنه ليس بقادر على
مقابلة نعم الله بمثلها، وأنه لا يملك إلا الشكر مقابل النعم.
والأدب الواجب في حق المنعم أن المؤمن كلما استمتع بنعمة من نعم الله التي تغمره والتي يتقلب في أعطافها كل حين أن يذكر ربه حامداً له مثنياً عليه، ليبقى القلب موصولاً بربه، ذاكراً عابداً خاشعاً شاكراً في جميع أحواله.
وهذا الشعور كفيل باستبقاء القلب البشري في حالة يقظة تامة حساسة لا تغفل عن مراقبة الله، ولا تخمد ولا تتبلد بالركود والغفلة والنسيان، فمع كل نعمة ذكر للمنعم وثناء عليه:{وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)} [الزخرف: 12 - 14].
وهذا الكون مملوء بالنعم التي لا يحصيه أحد إلا الله، وكلها مسخرة للعباد، فينبغي لهم أن يملأوا جميع أوقاتهم بذكر المنعم، وحمده وشكره على نعمه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)} [الأحزاب: 41 - 43].
والله غفور رحيم، فمن لم تستقر حقيقة الإيمان في قلبه، ولم تشربها روحه، فإن كرم الله اقتضى أن يجزيهم على كل عمل صالح صدر منهم لا يُنقِص منه شيئاً.
فهذا الإسلام الظاهر الذي لم يخالط القلب فيستحيل إيماناً حقيقياً.
هذا الإيمان يكفي لتحسب لهم أعمالهم الصالحة، فلا تضيع كما تضيع أعمال الكفار التي لم تُبنْ على أساس، ولا ينقص من أجرها شيء ما بقوا على الطاعة والاستسلام كما قال سبحانه:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)} [الحجرات: 14].
ذلك أن الله جواد كريم .. غفور رحيم .. يقبل من العبد أول خطوة .. ويرضى منه
الطاعة والتسليم .. إلى أن يستشعر قلبه الإيمان والطمأنينة .. إن الله غفور رحيم.
إن حقيقة الإيمان هي تصديق القلب بالله ورسوله، التصديق الذي لا يرد عليه شك ولا ارتياب، التصديق المطمئن الثابت المستيقن، الذي لا يتزعزع، والذي ينبثق منه الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله كما قال سبحانه:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15].
إن القلب متى تذوق حلاوة هذا الإيمان واطمأن إليه وثبت عليه لا بد أن يندفع لتحقيق حقيقته في خارج القلب، في واقع الحياة، في دنيا الناس.
يريد أن يوحد بين ما يستشعره في باطنه من حقيقة الإيمان، وما يحيط به في ظاهره من مجريات الأمور وواقع الحياة.
ولا يطيق الصبر على التفريق بين الصورة الإيمانية التي في حسه، والصورة الواقعية من حوله، لأن هذه المفارقة تؤذيه وتصدمه في كل لحظة.
ومن هنا هذا الانطلاق إلى الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس هو انطلاق ذاتي من نفس المؤمن، يريد أن يحقق به الصورة الوضيئة التي في قلبه ليراها ممثلة في واقع الحياة، لتكون كما يريده الله ورسوله.
إن الخصومة بين المؤمن .. وبين الحياة الجاهلية من حوله .. إنما هي خصومة ذاتية .. ناشئة من عدم استطاعته حياة مزدوجة بين تصوره الإيماني .. وواقعه العملي.
وعدم استطاعته كذلك التنازل عن تصوره الإيماني الكامل الجميل المستقيم .. في سبيل واقعه العملي الناقص الشائن.
إنه لا بد للقلوب المؤمنة أن تنتبه إلى مزالق الطريق وأخطار الرحلة، لتعزم أمرها وتستقيم، ولا ترتاب عندما يدلهم الأفق، ويظلم الجو، وتعصف بها العواصف والرياح.
وموحيات الإيمان وموجباته متفاوتة في خلقه حسب أحوالهم وما يرونه، وما
يعلمونه من الدلائل، ومنازلهم في الآخرة متفاوتة بحسب ذلك.
والله عز وجل ينادي المؤمنين ويأمرهم بالإيمان والتقوى الذي يدخل فيه جميع الدين ظاهره وباطنه، وأصوله وفروعه، ويعدهم على ذلك كفلين من رحمته لا يعلم قدرهما إلا الله تعالى، أجر على الإيمان، وأجر على التقوى، وأجر على امتثال الأوامر، وأجر على اجتناب النواهي كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)} [الحديد: 28].
إن الإنسان إنسان مهما وهب من النور، إنسان مهما عمل، إنسان يقصر حتى لو عرف الطريق، إنسان يحتاج إلى المغفرة .. فتدركه رحمة الله .. والله غفور رحيم.
وحقيقة الإيمان الذي أرسل الله به رسله إلى عباده هو الإيمان الذي يرد كل شيء إلى الله، ويعتقد به العبد أن كل ما يصيبه من خير وشر فهو بإذن الله، وهي حقيقة لا يكون إيمانٌ بغيرها.
فهي أساس جميع المشاعر الإيمانية عند مواجهة الحياة بما فيها من خير وشر.
وهذا ما ينشئه الإسلام في ضمير المؤمن، فيحس يد الله في كل حدث، ويرى أمر الله في كل حركة، ويطمئن قلبه لما يصيبه من السراء والضراء، فيشكر للأولى، ويصبر للثانية، وينال بذلك مراتب الصابرين الشاكرين.
وقد يتسامى حسب إيمانه إلى آفاق فوق هذا .. فيشكر الله في السراء والضراء .. إذ يرى في الضراء كما في السراء فضل الله ورحمته .. بالتنبيه والتذكير له .. أو تكفير سيئاته .. أو رفعة درجاته .. أو ترجيح ميزان حسناته .. فيرى الخير في هذا وهذا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ
خَيْراً لَهُ» أخرجه مسلم (1).
فالمؤمن يؤمن بقدر الله، ويسلم له عند المصيبة، ويتيقن أنه:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)} [التغابن: 11].
والذي يؤمن بالله يهدي قلبه هداية مطلقة، ويفتحه على الحقيقة اللدنية، ويصله بأصل الأشياء والأحداث، فيرى هناك منشأها وغايتها، ومن ثم يطمئن ويقر ويستريح، فهي هداية إلى شيء من علم الله يمنحه لمن يهديه حين يصح إيمانه، فيستحق هذا التكريم.
ومن لم يؤمن بالله عند ورود المصائب فإن الله يخذله ويكله إلى نفسه، والنفس ليس عندها إلا الجزع والهلع، الذي هو عقوبة عاجلة على العبد، قبل عقوبة الآخرة.
إن الإيمان بالله حقيقة شهد بها الوجود كله والخلائق كلها .. فكل خليقة من خلائق الله حية ذات روح من نوعها .. وكل خليقة تعرف ربها الذي فطرها وتسبح بحمده .. وتدهش حين ترى الإنسان يكفر بخالقه .. وتتغيظ لهذا الجحود المنكر .. الذي تنكره فطرتها .. وتنفر منه روحها .. فالله عز وجل: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الإسراء: 44].
وذلك يدل على حقيقة إيمان الوجود كله بخالقه، وتسبيح كل شيء بحمده، ودهشة الخلائق وارتياعها لشذوذ الإنسان حين يكفر، ويشذ عن هذا الموكب. وتحفز هذه الخلائق الساكنة الصامتة، للانقضاض على الإنسان الكافر في غيظ وحنق، كالذي يطعن في عزيز كريم عليه، فيغتاظ ويحنق، ويكاد من الغيظ يتمزق، كما هو حال جهنم وهي تستقبل الكفار والعصاة:{إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك: 7، 8].
(1) أخرجه مسلم برقم (2999).
ونار جهنم مخلوقة حية تكظم غيظها فترتفع أنفاسها في شهيق وهي تفور، ويملأ جوانحها الغيظ فتكاد تتمزق من الغيظ لما تنطوي عليه من بغض وكره الكفار والمنافقين والعصاة.
وقد حكى الله عز وجل دهشة الكائنات وغيظها للشرك بربها بقوله سبحانه: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 90 - 93].
ألا ما أقبح الكفر بالله، وما أنجس أهله وأقذرهم .. وما أركسهم في الغي والضلال.
إن النفس التي تكفر بالله تظل تنتكس وترتكس في كل يوم تعيشه حتى تنتهي إلى صورة بشعة مسيخة، صورة بشعة منكرة جهنمية، صورة قبيحة لا يماثلها شيء في الكون.
فكل شيء روحه مؤمنة، وكل شيء يسبح بحمد ربه، ما عدا هذه النفوس الشاذة عن موكب الإيمان، الآبدة الشريرة، الجاسية النفور.
فأي مكان في الوجود كله تنتهي إليه وهي مبتوتة الصلة بكل شيء في الوجود، إنها تتزود إلى جهنم المتغيظة المتلمظة الحارقة.
وقد كشف الله تبارك وتعالى عن صورة الإنسان عند خلو قلبه من الإيمان بقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)} [المعارج: 19 - 21].
فالإنسان حين يخلو قلبه من الإيمان يكون هلوعاً جزوعاً منوعاً، فهو جزوع عند مس الشر يتألم للذعته، ويجزع لوقعه، ويحسب أنه دائم لا كاشف له.
فلا يتصور أن هناك فرجاً، ولا يتوقع من الله تغييراً، ومن ثم يأكله الجزع، ويمزقه الهلع.
ذلك أنه لا يأوي إلى ركن يشد من عزمه، ويعلق به رجاءه وأمله.
منوعاً للخير إذا قدر عليه يحسب أنه من كده وكسبه، فيضن به على غيره، ويحتجزه لنفسه، ويصبح أسير ما ملك منه، مستعبداً للحرص عليه، لا يدرك حقيقة الرزق ولا يعرف الرازق، ولا يطلع إلى خير منه عند ربه، وهو منقطع عنه، خاوي القلب من الشعور به.
فهو هلوع في الحالتين:
هلوع من الشر .. هلوع على الخير.
وتلك صورة بائسة للإنسان حين يخلو قلبه من الإيمان، فهو دائماً في قلق وخوف.
سواء أصابه الشر فجزع، أو أصابه الخير فمنع.
فأما حين يعمر قلبه بالإيمان فهو منه في طمأنينة وعافية، لأنه متصل بخالق الكون ومدبر الأحوال مطمئن إلى قدره، شاعر برحمته، مقدر لابتلائه، متطلع إلى فرجه، منتظر لإحسانه، عالم أنه ينفق مما رزقه الله، وأنه سيجزيه على ما أنفق في سبيله، معوض عنه في الدنيا والآخرة.
فالمؤمنون لا يصيبهم الجزع ولا الهلع، وقد أعطاهم الله الصلاة، فالصلاة فوق أنها ركن من أركان الإسلام وعلامة الإيمان هي وسيلة الاتصال بالله، ومظهر العبودية الخالصة، وهي صلة بالله مستمرة غير منقطعة للتعظيم والحمد، والسؤال والاستغفار، وتقديم التحيات كل يوم للعزيز الجبار.
فكلٌّ هالك خاسر: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)} [المعارج: 22، 23].
وهؤلاء المؤمنون كما يؤدون الصلاة التي تصلهم بربهم، يؤدون الزكاة والصدقات المعلومة القدر، ويجعلون في أموالهم نصيباً معلوماً يشعرون أنه حق للسائل والمحروم كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)} [المعارج: 24، 25].
ومن صفاتهم أنهم يصدقون بيوم الدين شطر الإيمان، وهو ذو أثر حاكم في
منهج الحياة شعوراً وسلوكاً: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)} [المعارج: 26].
فالذي يصدق بيوم الدين يعمل وهو ناظر لميزان السماء لا لميزان الأرض، ولحساب الآخرة لا لحساب الدنيا، ويتقبل الأحداث خيرها وشرها، وفي حسابه أنها مقدمات نتائجها يوم القيامة.
ويقضي حياته مطيعاً لربه، منتظراً جزاءه يوم يلقاه.
أما المكذب بيوم الدين فلا يعرف إلا الدنيا، فهو يحسب كل شيء يقع له في هذه الحياة القصيرة المحدودة، فهو بائس مسكين، معذب قلق، لأن ما يقع له في هذه الحياة الدنيا قد لا يكون مطمئناً ولا مريحاً ولا عادلاً ولا معقولاً ما لم يضف إليه حساب الشطر الآخر، وهو أكبر وأطول وأهول، ومن ثم يشقى به من لا يحسب حساب الآخرة.
ومن صفاتهم أنهم يقضون أوقاتهم يراقبون ربهم، ويشعرون بالتقصير في جناب الله مع كثرة عبادتهم، والخوف من تلفت القلب، واستحقاقه للعذاب في كل لحظة، والتطلع إلى الله ليحميهم ويقيهم العذاب:{وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)} [المعارج: 27، 28].
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم دائم الحذر دائم الخوف، وكان على يقين أن عمله لا يعصمه ولا يدخله الجنة إلا بفضل الله ورحمته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لَنْ يُدْخِلَ أحَداً مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ» قَالُوا: وَلا أنْتَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: «وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ» متفق عليه (1).
إن القلب المؤمن الموصول بالله يحذر ويرجو، ويخاف ويطمع، وهو مطمئن لرحمة الله على كل حال، منتظر لكرامته في الدنيا والآخرة.
إن الإيمان بالله هو أصل الدين الذي ينبثق منه كل فرع من فروع الخير، وتتعلق به كل ثمرة من ثماره.
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5673)، ومسلم برقم (2816) واللفظ له.
وهو المحور الذي تشد إليه جميع خيوط الحياة الرفيعة.
وهو المنهج الذي يضم شتات الأعمال لتسير في طريق واحد، لها منبع واحد، ودافع معلوم، وهدف مرسوم:{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)} [آل عمران: 53].
والقرآن يهدر كل عمل لا يرجع إلى هذا الأصل، ولا يشد إلى هذا المحور، ولا ينبع من هذا المنهج.
فلا قيمة لعمل مهما كان ومهما كثر ومهما ظن الناس فيه خيراً ما لم يستند إلى الإيمان كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)} [النور: 39].
والعمل الصالح هو الثمرة الطبيعية للإيمان، وهو الحركة الذاتية التي تبدأ في ذات اللحظة التي تستقر فيها حقيقة الإيمان في القلب.
فلا يمكن أن يظل الإيمان خامداً لا يتحرك، كامناً لا يظهر في صورة حية خارج ذات المؤمن.
فإن لم يتحرك هذه الحركة الطبيعية فهو مزيف أو ميت أو معلول.
فالإيمان يولد العمل الصالح فوراً. ويخنق كل عمل فاسد .. ويطرد كل خلق سافل.
فمثلاً إذا عرفت الله، وآمنت به، بادرت إلى فعل ما يحب واجتناب ما يكره.
وإذا دخل عليك من يعطيك مالاً، ودخل عليك من يأخذ منك صدقة فبأيهما تفرح؟.
فصاحب الدنيا يفرح بمن يعطيه مالاً، والمؤمن يفرح بمن يأخذ منه الصدقة، فالذي يعطيني مالاً يعطيني الدنيا، والذي يأخذ مني صدقة يعطيني الآخرة، ويحمل زادي إلى الآخرة بغير أجر:{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20].
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً، فَقَالََ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَا بَقِيَ مِنْهَا؟» قَالَتْ مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلَاّ كَتِفُهَا. قَالَ: «بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا» أخرجه الترمذي (1).
والكلمة غير الطيبة تفسد الصدقة، فالذي يتبع الصدقة بالأذى ليست وجهته الآخرة، وليس إيمانه كاملاً.
إذ كيف يهين ويؤذي من جاء يحمل حسناته إلى الآخرة بغير أجر؟.
أيأتي إنسان يحمل زادي موفوراً إلى الآخرة فأهينه وأوذيه؟.
أيكون هذا إيماناً؟ .. هذا لا يكون أبداً.
الإيمان يدعوني لأكرمه والترحيب به، وأفرح به، لأنه سيؤدي لي خير ما في الدنيا من الحسنات بلا أجر، ولذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى الأيتام والفقراء ومواساتهم بحسن الكلام وأجمل المال كما قال سبحانه:{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} [الضحى: 9 - 11].
والله عز وجل لا يريد قوالب تخضع ولكنه يريد قلوباً تخشع، لأن إخضاع القالب يمكن أن يأتي بالرغم منه، فقد تكره على فعل شيء وأنت لا تحبه فتفعله.
والقلب هو المنطقة الحرة التي خلقها الله في الإنسان، ولا تستطيع قوة في الأرض مهما كانت أن تقهرها على فعل شيء من حب او بغض أو غيرهما من أعمال القلوب، فما في القلب ملك خاص بصاحبه فقط.
فقد يكرهك إنسان فتتظاهر له بالحب، ولكن قلبك يظل يكرهه ويرفضه، وقد تتظاهر لإنسان بالخضوع، ولكن قلبك يمقته، ولذلك أذن الله للجوارح بالمخالفة عند الإكراه ما دام القلب مطمئناً بالإيمان كما قال سبحانه:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} [النحل: 106].
(1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2470)، صحيح سنن الترمذي رقم (2009).
والإكراه في هذه الحالة إكراه للقالب وليس للقلب، فلا إثم فيه ما دام القلب مطمئناً بالإيمان، فالله راضٍ ولو أجبر القالب على غير ذلك، وقد أسقط الله الحساب عن كل من أكره قالبه على شيء وقلبه يرفضه.
وكل ما في الحياة هو اختبار إيماني في العبادة، قد جعله الله اختباراً للبشر ليفضلهم على سائر مخلوقاته، ويجزيهم عليه جزاءً كبيراً.
وإذا كان الله سبحانه قال عن الإنسان: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30].
فتلك الخلافة هي ذلك الاختبار الإيماني .. الذي يمر به كل إنسان .. هل يتبع منهج الله في حياته أم يخالفه؟.
فالله له أوامر .. والنفس لها أوامر .. والإيمان هو الذي يدفع الإنسان لتقديم أوامر الله على محبوبات النفس.
وفي كل لحظة ينزل من ذات الله ما لا يحصيه إلا الله من الأوامر، ومن ذات الإنسان تخرج الأفعال، فإذا طابقت أفعال الإنسان مراد الله، وهو ما جاء في شرعه، سميت تلك الأعمال صالحة، يرضى به الرب، ويثيب عليها الجنة.
وإذا خالفت أفعال الإنسان مراد الرب، فتلك الأعمال غير صالحة، وهي السيئات التي تغضب الرب، ويعاقب عليها بالنار.
فالإيمان والإحسان واليقين أعلى الدرجات التي يصل إليها الإنسان في هذه الحياة.
والكفر والشرك، والظلم والفسوق، أسفل الدركات التي ينحط إليها الإنسان في هذه الحياة.
والله تبارك وتعالى يغفر كل شيء من الذنوب إلا الشرك كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48].
ويغفر سبحانه ذنوب المؤمنين المسرفين على أنفسهم مهما كانت كما قال سبحانه: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53].
والشرك بالله ليس ذنباً فقط .. بل هو فوق الذنوب جميعاً .. فالذنب يقتضي أن تكون مؤمناً بمنهج وخالفته، ولكن الشرك هو عدم إيمان بالمنهج أصلاً.
فلفظ الذنب لا ينطبق على المشرك، لأن المشرك ليس مؤمناً بمنهج الله.
وشرط الذنب الذي يغفره الله أن يكون هناك إيمان ومخالفة، ثم ندم وتوبة، والكافر والمشرك لا يندم ولا يتوب، لأنه لا منهج له، فإذا مات على ذلك فليس له عند الله إلا النار:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} [المائدة: 72].
وأساس الدين وأصله وقاعدته التي بني عليها هو الإيمان بالله عز وجل، واليقين على ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وخزائنه، ووعده ووعيده.
وجميع الأعمال والعبادات مبناها وقبولها مبني على هذ الأصل العظيم.
فإذا حصل للعبد هذا الإيمان جاءت عنده قوة الطاعات، وقوة الرغبة في امتثال أوامر الله، وحلاوة مناجاة الله.
وبذلك يرضى الله عز وجل، وتصلح أحوال الأمة كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32].
وإذا ضعف هذا الإيمان ونقص، ضعفت الأعمال والعبادات، وساءت الأخلاق، فكثرت المعاصي، وقلت الطاعات، فساءت الأحوال، وجاءت المصائب نقداً:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30].
وحتى يأتي الإيمان في حياتنا ويزيد لا بد من العلم بأمور:
الأول: أن نعلم ونتيقن أن خالق كل شيء هو الله وحده لا شريك له: فخالق
العرش والكرسي هو الله .. وخالق السماء والأرض هو الله .. وخالق الشمس والقمر هو الله .. وخالق النجوم والكواكب هو الله .. وخالق البحار والجبال هو الله .. وخالق الإنسان والحيوان والجماد والنبات هو الله .. وخالق الجنة هو الله .. وخالق النار هو الله .. وخالق الدنيا والآخرة هو الله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر: 62].
نتكلم بذلك، ونسمعه، ونفكر به، ونذكر الخالق في كل وقت، وننظر في الآيات الكونية والآيات القرآنية نظر اعتبار وتفكر حتى يرسخ الإيمان في قلوبنا، وقد أمرنا الله بذلك كما قال سبحانه:{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101].
وقال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24].
فكما نستخدم الإنسان كله لتحصيل المال كذلك نستخدم طاقات الإنسان كلها لتحصيل الإيمان:
فكر ونظر .. وعلم وعمل .. وعبادة ودعوة.
الثاني: أن نعلم ونتيقن أن الله عز وجل خلق جميع المخلوقات، وخلق فيها الأثر، فخلق العين وخلق فيها الأثر وهو البصر، وخلق الأذن وخلق فيها السمع، وخلق الشمس وخلق فيها الأثر وهو النور، وخلق النار وخلق فيها الأثر وهو الإحراق، وخلق الشجر وخلق فيها الأثر وهو الثمر، وخلق الإنسان وخلق فيه الأثر وهو العمل وهكذا .. فالله خالق كل شيء:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96].
الثالث: أن نعلم ونتيقن أن الذي يملك جميع المخلوقات ويتصرف فيها ويدبرها هو الذي خلقها وهو الله وحده لا شريك له.
فكل ما في العالم العلوي ومافي العالم السفلي من الخلائق كلهم عبيد لله فقراء إلى الله، لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعاً ولا ضراً، ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
فالله مالكهم .. وهم محتاجون إليه .. وهو غني عنهم.
وهو سبحانه الذي يصرف الكون، ويدبر جميع أمور خلقه، فالذي يتصرف في السموات والأرض، وفي البحار والجبال، وفي النبات والحيوان، وفي الملائكة والإنس والجن، وفي الرؤساء والوزراء، وفي الأغنياء والفقراء، وفي الأقوياء والضعفاء وغيرهم هو الله وحده لا شريك له الذي له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وهو سبحانه الذي يتصرف بحكمته وعلمه وقدرته كيف يشاء.
فقد يخلق الشيء ويسلب أثره بقدرته، فقد توجد العين ولا تبصر، والأذن ولا تسمع، واللسان ولا يتكلم، والدماغ ولا يعقل.
والبحر يغرق بأمر الله، وقد يرفع الله عنه أمر الإغراق فلا يغرق.
كما أنجى الله موسى وقومه من الغرق، وأغرق فرعون وقومه في بحر واحد، وفي آن واحد، وبأمر واحد.
والنار تحرق بأمر الله، وقد يسلبها الله إذا شاء أمر الإحراق فتشتعل ولا تحرق كما حصل لإبراهيم صلى الله عليه وسلم لما ألقي في النار، فجاء أمر الله:{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء: 69].
فالله على كل شيء قدير ينجي بأسباب الهلاك كما أنجى إبراهيم وموسى، ويُهلك بأسباب النجاة كما حصل لفرعون وقارون، لأنه المالك الذي يتصرف في الخلق كيف يشاء لا إله إلا هو الواحد القهار.
والقلوب التي ضعف فيها الإيمان تتأثر بالشيء أكثر من خالق الشيء، فتتعلق بالشيء وتغفل عن خالق الشيء، وإذا قوي الإيمان تجاوزت المخلوق إلى الخالق، وتعدت الصور إلى المصور الذي خلقها وصورها.
فدانت له بالطاعة والعبادة وحده لا شريك له: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102].
الرابع: أن نعلم ونتيقن أن خزائن جميع الأشياء عند الله وحده لا عند غيره، فكل
شيء في الوجود خزائنه عند الله: خزائن الطعام والشراب .. وخزائن الحبوب والثمار .. وخزائن المياه والبحار .. وخزائن الجواهر والأموال .. وخزائن النبات والأشجار .. وغير ذلك مما لا يعلمه ولا يحصيه إلا الله.
فكل ما نحتاجه نطلبه من الله الذي يملك خزائنه، ونكثر من العبادات والطاعات لنحصل على رضاه، فهو سبحانه قاضي الحاجات، ومجيب الدعوات، وهو خير المسئولين وخير المعطين، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186].
وخزائن الله مملوءة بكل شيء، والله غني عن كل شيء، والعباد محتاجون من الله كل شيء:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21].
الخامس: أن نعلم أن مصير الخلائق كلها إلى الله يوم القيامة، وأنهم سوف يعرضون على ربهم مع أعمالهم، فكل ما قالوه وكل ما فعلوه محفوظ في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7، 8].
ومن ثم يصير أهل الإيمان والطاعات إلى الجنة .. ويصير أهل الكفر والمعاصي إلى النار، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
فتذكر ذلك اليوم العظيم وأهواله .. ونتذكر البعث والحشر، والحساب والميزان .. والحوض والصراط .. ونتذكر عفو الله ورحمته .. ونتذكر غضبه وشدة عقوبته .. ونتصور الجنة ونعيمها .. ونتذكر النار وجحيمها.
نتكلم ونسمع .. ونتأمل ونتفكر .. حتى يكون الغيب كالشهادة، ويكون اليوم الآخر ماثلاً أمامنا.
وبذلك يزيد الإيمان وتنبعث الجوارح للطاعة والعبادة، ثم تسعد بالنعيم والرضوان: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا
يُظْلَمُونَ (281)} [البقرة: 281].
هذا بالنسبة للمخلوقات، أما بالنسبة للأحوال:
فأولاً: نعلم ونتيقن أن الله له الخلق والأمر، وأنه وحده خالق جميع الأحوال من الغنى والفقر .. والصحة والمرض .. والفرح والحزن .. والأمن والخوف .. والحياة والموت .. والنور والظلام .. والحر والبرد .. والعزة والذلة .. والهداية والضلالة .. والسعادة والشقاوة .. فهذه وغيرها من الأحوال خلقها الله وحده.
وثانياً: نعلم ونتيقن أن الذي يدبر الأمر ويصرف هذه الأحوال هو الله وحده لا شريك له.
فلا يتبدل الفقر أبدً بالغنى إلا بأمر الله .. ولا يتبدل المرض بالصحة أبداً إلا بأمر الله .. ولا يتغير الحر بالبرد إلا بأمر الله .. ولا يأتي الليل ولا النهار إلا بأمر الله .. ولا تتبدل الذلة بالعزة إلا بأمر الله .. ولا يموت حي إلا بإذن الله .. ولا تهب ريح إلا بأمر الله .. ولا تنزل قطرة من السماء إلا بأمر الله .. ولا تتبدل الضلالة بالهداية إلا بأمر الله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].
فتأتي جميع الأحوال بأمره .. وتزيد بأمره .. وتنقص بأمره .. وتبقى بأمره، وتنتهي بأمره:{فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} [يس: 83].
فعلينا أن نطلب تغيير الأحوال ممن يملكها بالتقرب إليه وحده بما شرع: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)[آل عمران: 26، 27].
ثالثاً: أن نعلم ونتيقن أن خزائن جميع الأحوال السابقة وغيرها عند الله وحده لا شريك له.
فعلينا أن نطلب ما ينفعنا منها ممن يملك خزائنها وهو الله وحده لا شريك له.
وهو سبحانه الغني، فلو أعطى الصحة أو الغنى أو غيرهما كل الناس، لم ينقص
ما في خزائنه إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، لا إله إلا هو الغني الحميد.
عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً، فَلا تَظَالَمُوا.
يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ.
يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أطْعِمْكُمْ.
يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ.
يَا عِبَادِي! ِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، فَاسْتَغْفِرُونِي أغْفِرْ لَكُمْ.
يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي.
يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا، عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شيئاً.
يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شيئاً.
يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ.
يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم (1).
وقد مكن الله كل إنسان من الأخذ بأسباب الفوز والفلاح، والأسباب التي ليس فيها فوز ولا فلاح كالمال والجاه أعطى منها بعض الناس دون بعض.
فالإيمان والأعمال الصالحة هي السبب الوحيد للفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، وهي حق مبذول لكل أحد.
(1) أخرجه مسلم برقم (2577).
وكذلك مكان الإيمان وهي القلوب أعطاها الله لكل أحد، ومكان الأعمال وهي الجوارح مملوكة ومسخرة لكل أحد.
فمن في قلبه الإيمان وصدرت من جوارحه الأعمال الصالحة فاز في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97].
ومن كان في قلبه الكفر صدرت منه الأعمال السيئة فخسر في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)} [البقرة: 161، 162].
والقلوب مصادر الإيمان .. ولها مصرفان:
مصرف للطاعة .. ومصرف للمعصية.
والجوارح مصادر الأعمال .. ولها مصرفان:
مصرف للطاعة .. ومصرف للمعصية.
ومن لم يكن في قلبه نور الإيمان بالله يرى العزة بالأموال والأشياء لا بالإيمان والأعمال الصالحة، وبذلك يحرم من الأعمال الصالحة ويتعلق قلبه بالفانية، ويعبد غير الذي خلقه وأحياه ورزقه.
والمصيبة أن كثيراً من المسلمين بسبب ضعف الإيمان يقتدون بالكفار، والكافر أصم أبكم أعمى كما قال سبحانه عن الكفار:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)} [البقرة: 7].
وقال سبحانه: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)} [البقرة: 171]
وكل من سار خلف العمى ألقوه في الحفر والمزابل والمكاره. {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} [الإسراء: 72].
والواجب أن يقتدي المسلم بأهل الإيمان والتقوى من الأنبياء والمرسلين والصديقين والصالحين: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 69، 70].
وبسبب ضعف الإيمان جاء الشك في الدعاء، فمنا من يسأل الله فإذا لم تقض حاجته توجه إلى أبواب المخلوق، ومنا من يسأل المخلوق فإذا أيس منه توجه إلى الله ليقضي حاجته .. وكل ذلك خطأ سببه ضعف الإيمان واليقين، وكلما ضعف الإيمان .. نقص الدين .. فتوجه الناس إلى غير الله.
فقاضي الحاجات واحد لا شريك له، والذي تكفل بإجابة الدعوات والسؤالات واحد لا شريك له، وخزائنه مملوءة بكل شيء مما يسعد الإنسان وينفعه في الدنيا والآخرة، وهو حي قيوم لا تأخذه سِنة ولا نوم يسمع ويرى:
يجيب الداعين .. ويعطي السائلين .. ويغفر للمستغفرين.
قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186].
وقال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21].
وقال سبحانه في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شيئاً يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ» أخرجه مسلم (1).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى
(1) أخرجه مسلم برقم (2577).
ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ! وَمَنْ يَسْألُنِي فَأُعْطِيَهُ! وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ» متفق عليه (1).
فأين الداعون؟ .. وأين السائلون؟ .. وأين المستغفرون؟.
والله سبحانه أعلم بمن يستحق العطاء ومن يستحق المنع، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وإذا أراد سبحانه أن يعطي جزيلاً أعطاه مباشرة، وإذا أراد أن يرزق أقل جعل لذلك سبباً وهو المخلوق والأسباب.
فالعطاء الجزيل لأهل الإيمان والتقوى، والعطاء العام لكافة المخلوقات:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].
وليس الإيمان كلمة تقال .. ولا مشاعر تجيش .. ولا شعائر تقام .. بل هو مع ذلك طاعة الله ورسوله في كل أمر ونهي كما قال سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} [آل عمران: 32].
فالإسلام ليس مجرد المعرفة فقط .. ولا المعرفة والإقرار فقط .. بل المعرفة، والإقرار، والانقياد مع المحبة .. وطاعة الله ورسوله ظاهراً وباطناً.
والمؤمن همه العلم والإيمان، وعبادة الله ومحبته، والإنابة إليه، والطمأنينة به، والسكون إليه، وإيثار ما يحبه ويرضاه، ويأخذ من الدنيا بقدر ما يستعين به على الوصول إلى فاطره، لا لينقطع به عنه.
فمن آمن بالله واستقام على دينه .. وقام بحق الله وعبد الله في حال العسر واليسر .. وفي حال الشدة والرخاء .. كفاه الله كل ما يريد .. وحفظه من كل شيطان مريد: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36)} [الزمر: 36].
فالكفاية التامة مع الإيمان التام والعبودية التامة .. والناقصة مع الناقصة.
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1145)، ومسلم برقم (758) واللفظ له.
والعقود هي ضوابط الحياة التي أمر الله بها سبحانه، وفي مقدمتها عقد الإيمان بالله وتوحيده، ومعرفته بأسمائه وصفاته، والاعتراف بذلك لله عز وجل، ومقتضيات هذا الاعتراف من العبودية الكاملة، والطاعة المطلقة، والاستسلام لله.
هذا العقد أخذه الله على آدم صلى الله عليه وسلم ابتداء وهو يسلمه مقاليد الخلافة.
ثم تكرر هذا العقد مع ذرية آدم وهم بعد في ظهور آبائهم مع كل فرد كما قال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)} [الأعراف: 172 - 173].
وعلى عقد الإيمان بالله والعبودية لله تقوم سائر العقود في كل أمر، وفي كل نهي، وفي كل عبادة، وفي كل معاملة، فكلها عقود ينادي الله بها الذين آمنوا أن يوفوا بها كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)} [المائدة: 1].
فالتحليل والتحريم في الذبائح .. وفي الأنواع .. وفي الأماكن .. وفي الأوقات .. كلها من العقود القائمة على عقد الإيمان بالله وحده.
اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا .. وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان.
اللهم إنّا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وعملاً متقبلاً.
اللهم: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)} [آل عمران: 16].
اللهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر: 10].