الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرحمن
ومن أسمائه الحسنى عز وجل: الرحمن .. والرحيم.
قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5].
وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} [الحج: 65].
وقال الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [البقرة: 163].
الله تبارك وتعالى هو الرحمن الرحيم، ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء، وعمت كل حي، ذو الرحمة الشاملة الواسعة لجميع الخلائق.
وهو سبحانه الرحمن الرحيم، المستحق أن يؤله ويعبد بجميع أنواع العبادة، ولا يشرك به أحد من خلقه، لأنه الرحمن الرحيم، المتصف بالرحمة العظيمة التي وسعت كل شيء، ولا يماثلها رحمة أحد.
والعالم العلوي والعالم السفلي كله قد امتلأ برحمة الله التي وسعت كل شيء، ووصلت ما وصل إليه خلقه كما قال سبحانه:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7].
فبرحمته سبحانه خلق المخلوقات .. وبرحمته حصلت لها أنواع الكمالات .. وبرحمته حصل لها كل نعمة .. وبرحمته اندفع عنها كل نقمة .. وبرحمته عرَّف نفسه بأسمائه وصفاته وآلائه .. وبرحمته بين لعباده ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم ودنياهم بإرسال الرسل .. وإنزال الكتب .. وشرع الشرائع.
فمن آثار رحمته وجود جميع النعم، واندفاع جميع النقم:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} [النحل: 18].
والرحمن: اسم دال على الصفة القائمة به سبحانه.
والرحيم: اسم دال على تعلقها بالمرحوم.
فهو الرحمن الرحيم الذي يرحم خلقه برحمته كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)}
…
[الحج: 65].
والرحمن من أسماء الله التي لا يسمى بها غيره كما قال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110].
فعادل به الاسم الذي لا يشركه فيه غيره، وهو الله.
وأما الرحيم فإن الله تعالى وصف به نبيه صلى الله عليه وسلم حيث قال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].
فمن أسماء الله الحسنى ما يسمى به غيره كالعلي والرحيم ونحوهما، ومنها ما لا يسمى به غيره كاسم الله والرحمن والخالق والرازق ونحو ذلك.
والرحمة صفة كمال وجمال للرب سبحانه، فوصف نفسه بالرحمة، وتسمى بالرحمن الرحيم.
وظهور رحمته سبحانه في الوجود كظهور أثر صفة الربوبية والملك والقدرة، فإن ما لله على خلقه من الإحسان والإنعام شاهد برحمة ربانية تامة وسعت كل شيء.
فالمخلوقات كلها شاهدة لله سبحانه بالربوبية التامة، وما في العالم العلوي والسفلي من آثار التدبير والتصريف الإلهي شاهد بملكه سبحانه، وما في الوجود من آثار رحمته العامة، والخاصة بالمؤمنين، مما لا يمكن عدٌّه ولا إحصاؤه، ولا جحده ولا إنكاره، كله شاهد برحمته العامة الشاملة التي وسعت كل شيء.
بل آثار رحمته في الكون أظهر من نور الشمس:
فبرحمته سبحانه أرسل إلى عباده الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وعلمهم من الجهالة، وهداهم من الضلالة.
وبرحمته عز وجل عرفنا من أسمائه وصفاته وأفعاله ما علمنا به أنه ربنا ومولانا، وأنه العزيز الكريم الرحيم العفو الغفور.
وبرحمته سبحانه علَّمنا ما لم نكن نعلم، وأرشدنا إلى مصالح ديننا ودنيانا.
وبرحمته جل جلاله خلق السموات والأرض، والشمس والقمر، وجعل الليل والنهار، وبسط الأرض وجعلها مهاداً وفراشاً، وقراراً وكفاتاً للأحياء والأموات.
وبرحمته عز وجل أنشأ السحاب، وسيره في البلاد، وسقى به العباد، وأنزل الغيث، فأنبت به الزروع والأشجار، وأخرج الفواكه والأقوات والمراعي:{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)} [الأعراف: 57].
وبرحمته عز وجل وضع الرحمة بين عباده ليتراحموا بها، وكذلك بين سائر أنواع الحيوان، فهذا التراحم الذي بينهم بعض آثار الرحمة التي هي صفته ونعمته، واشتق لنفسه منها اسم الرحمن الرحيم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ، أنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» متفق عليه (1).
وبرحمته سبحانه سخَّر لنا ما في السموات وما في الأرض.
فسخَّر لنا الشمس والقمر، والرياح والمياه، والخيل والإبل والأنعام، وذلَّلها منقادة للركوب والحمل، والدر والنسل والأكل، وسخر الأرض للإنبات من كل زوج بهيج:{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20].
وبرحمته تبارك وتعالى خلق الجنة، وخلق سكانها، وخلق أعمالهم.
فبرحمته سبحانه خُلقت، وبرحمته عُمرت بأهلها، وبرحمته وصلوا إليها،
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6469)، ومسلم برقم (2752)، واللفظ له.
وبرحمته طاب عيشهم فيها.
ومن رحمة الرحمن الرحيم أنه يعيذ برضاه من سخطه، وبعفوه من عقوبته، ومن نفسه بنفسه.
ومن رحمته سبحانه أن خلق للذكر من الحيوان أنثى من جنسه، وألقى بينهما المحبة والرحمة، ليقع بينهما التواصل الذي به دوام النسل، مع حصول المتعة.
ومن رحمته سبحانه أنْ أحوج الخلق بعضهم إلى بعض لتتم مصالحهم، ولو أغنى بعضهم عن بعض لتعطلت مصالحهم، وفسدت معيشتهم.
ومن تمام رحمته عز وجل أن جعل في عباده الغني والفقير، والعزيز والذليل، والقادر والعاجز، والراعي والمرعي، ثم أفقر الجميع إليه، ثم عمَّ الجميع برحمته:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر:15].
وأوسع المخلوقات عرشه سبحانه، وأوسع الصفات رحمته، فاستوى على عرشه الذي هو أوسع المخلوقات، بصفة الرحمة التي وسعت كل شيء، وعمت كل حي كما قال سبحانه:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5].
ولما استوى على عرشه بهذا الاسم، كتب مقتضاه على نفسه كتاباً فهوعنده وضعه على عرشه، أن رحمته سبقت غضبه، فكان هذا الكتاب كالعهد منه سبحانه للخليقة كلها بالرحمة لهم، والعفو عنهم، والمغفرة لهم، والتجاوز والإمهال، والحلم والأناة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا قَضَى الله الْخَلْقَ، كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» متفق عليه (1).
فكان قيام العالم العلوي والسفلي بمضمون هذا الكتاب، الذي لولاه لكان للخلق شأن آخر.
وقد جعل الله عز وجل الخلق والتعليم ناشئاً عن صفة الرحمة، متعلقاً باسم
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7453) واللفظ له، ومسلم برقم (2751).
الرحمن فقال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن: 1 - 4].
وجعل سبحانه معاني السورة كلها مرتبطة بهذا الاسم، وختمها بقوله:{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)} [الرحمن: 78].
فالاسم الذي تبارك هو الاسم الذي افتتح به السورة .. إذ مجيء البركة كلها منه .. وبه وضعت البركة في كل مبارك .. فكل ما ذكر عليه بورك فيه .. وكل ما أخلي عنه نزعت منه البركة.
ورحمة الله عز وجل وسعت كل شيء في العالم العلوي وفي العالم السفلي، ووسعت البر والفاجر، والمسلم والكافر، فما من أحد إلا وهو يتقلب في رحمة الله تعالى آناء الليل وآناء النهار، ولكن للمؤمنين الرحمة الخاصة بهم، فلهم الرحمة المطلقة في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه:{قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)} [الأعراف: 156].
والكافر لا رحمة له في الآخرة، أما في الدنيا فرحمةالله عامة لجميع الخلائق.
والله رؤوف رحيم، أرحم بعباده من الأم بولدها.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأةٌ مِنَ السَّبْيِ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيّاً فِي السَّبْيِ أخَذَتْهُ، فَألْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟» . قُلْنَا: لا، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أنْ لا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ:«لَلَّهُ أرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا» متفق عليه (1).
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن رحمة الله تنال عباده الرحماء فقال: «إنَّمَا يَرْحَمُ الله مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» متفق عليه (2).
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5999) واللفظ له، ومسلم برقم (2754).
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1284)، واللفظ له، ومسلم برقم (923).
وكلما كان الإنسان أقرب إلى ربه تعالى كانت رحمة الله تعالى أولى به.
وكلما كان العبد طائعاً لله ورسوله، منتهياً عما نهى الله ورسوله عنه، كان استحقاقه للرحمة أعظم كما قال سبحانه:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)} [آل عمران: 132].
وسمى الله عز وجل كتابه بالرحمة فقال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89].
وسمى الله سبحانه الجنة بالرحمة، وهي أعظم رحمة خلقها الله لعباده الصالحين فقال:{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)} عمران: 107].
وأرسل الله عز وجل رسوله بالرحمة فقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)}
…
[الأنبياء: 107].
وإذا وصل العبد ما بينه وبين الرحمن بالعبادة والطاعة .. ووصل ما بينه وبين الخلق بالرحمة والإحسان .. تم له أمر دينه ودنياه وأخراه .. ونال مراده من مولاه.
وإن قطع ما بينه وبين الرحمن، وما بينه وبين الأرحام، فسد عليه أمر دينه ودنياه وأخراه .. وحرم رضا مولاه.
وإذا أراد الله بأهل الأرض خيراً نشر عليهم أثراً من آثار اسمه الرحمن فعمر به البلاد، وأحيا به العباد، وإذا أُراد بهم سوءاً أمسك عنهم ذلك الأثر، فحل بهم من البلاء بحسب ما أمسك عنهم من آثار اسمه الرحمن.
ومن تأمل هذا الكون العظيم بعين البصيرة، رآه ممتلئاً بهذه الرحمة الواحدة، التي ملأت طباق ما بين السماء والأرض كامتلاء البحر بمائه، والجو بهوائه، وما في خلاله من ضد ذلك فهو مقتضى قوة سبقت رحمتي غضبي، فالمسبوق لا بدَّ لاحق وإن أبطأ، وفيه حكمة لا تناقضها الرحمة.
فهو سبحانه أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، يضع كل شئ في موضعه.