المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌2 - فقه أوامر الله الكونية والشرعية - موسوعة فقه القلوب - جـ ١

[محمد بن إبراهيم التويجري]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأولفقه أسماء الله وصفاته

- ‌1 - فقه العلم بالله وأسمائه وصفاته

- ‌2 - فقه عظمة الرب

- ‌3 - فقه قدرة الرب

- ‌4 - فقه رحمة الرب

- ‌5 - فقه علم الرب

- ‌6 - فقه جمال الرب

- ‌7 - فقه أسماء الله الحسنى

- ‌الله…جل جلاله

- ‌الرحمن

- ‌الملك

- ‌القدوس

- ‌السلام

- ‌المؤمن

- ‌المهيمن

- ‌العزيز

- ‌الجبار

- ‌الكبير

- ‌الخالق

- ‌البارئ

- ‌المصور

- ‌الغفور

- ‌القاهر

- ‌الوهاب

- ‌الرزاق

- ‌الفتاح

- ‌العليم

- ‌السميع

- ‌البصير

- ‌الحكيم

- ‌اللطيف

- ‌الخبير

- ‌الحليم

- ‌العظيم

- ‌الشكور

- ‌العلي

- ‌الحفيظ

- ‌الرقيب

- ‌المقيت

- ‌الشهيد

- ‌الحاسب

- ‌الكريم

- ‌الواسع

- ‌المجيد

- ‌الرب

- ‌الودود

- ‌الحق

- ‌المبين

- ‌الوكيل

- ‌الكفيل

- ‌القوي

- ‌المتين

- ‌الولي

- ‌الحميد

- ‌الحي

- ‌القيوم

- ‌الواحد

- ‌الصّمد

- ‌القادر

- ‌الأول

- ‌الآخر

- ‌الظاهر

- ‌الباطن

- ‌البر

- ‌التواب

- ‌العفو

- ‌الرؤوف

- ‌الغني

- ‌الهادي

- ‌النور

- ‌البديع

- ‌الفاطر

- ‌المحيط

- ‌القريب

- ‌المستعان

- ‌المجيب

- ‌الناصر

- ‌الوارث

- ‌الغالب

- ‌الكافي

- ‌ذو الجلال والإكرام

- ‌ذو العرش

- ‌ذو المعارج

- ‌ذو الطول

- ‌ذو الفضل

- ‌الرفيق

- ‌الشافي

- ‌الطيب

- ‌السبوح

- ‌الجميل

- ‌الوِتر

- ‌المنان

- ‌الحيي

- ‌الستير

- ‌الديان

- ‌المحسن

- ‌السيد

- ‌المقدم والمؤخر

- ‌القابض والباسط

- ‌8 - فقه صفات الله وأفعاله

- ‌9 - فقه أحكام الأسماء والصفات

- ‌10 - فقه التعبد بأسماء الله وصفاته

- ‌الباب الثانيفقه الخلق والأمر

- ‌1 - فقه الخلق والأمر

- ‌2 - فقه أوامر الله الكونية والشرعية

- ‌3 - خلق الله للكون

- ‌4 - فقه الحكمة في كل ما خلقه الله وأمر به

- ‌5 - فقه خَلق المخلوقات

- ‌1 - خلق العرش والكرسي

- ‌2 - خلق السموات

- ‌3 - خَلق الأرض

- ‌4 - خلق الشمس والقمر

- ‌5 - خلق النجوم

- ‌6 - خلق الليل والنهار

- ‌7 - خلق الملائكة

- ‌8 - خلق المياه والبحار

- ‌9 - خلق النبات

- ‌10 - خلق الحيوانات

- ‌11 - خلق الجبال

- ‌12 - خلق الرياح

- ‌13 - خلق النار

- ‌14 - خلق الجن

- ‌15 - خلق آدم

- ‌16 - خلق الإنسان

- ‌17 - خلق الروح

- ‌18 - خلق الدنيا والآخرة

- ‌البَابُ الثّالثفقه الفكر والاعتبار

- ‌1 - فقه الفكر والاعتبار

- ‌2 - فقه الفكر في أسماء الله وصفاته

- ‌1 - الفكر والاعتبار في عظمة الله

- ‌2 - الفكر والاعتبار في قدرة الله

- ‌3 - الفكر والاعتبار في علم الله

- ‌3 - فقه الفكر والاعتبار في الآيات الكونية

- ‌4 - فقه الفكر في نعم الله

- ‌5 - فقه الفكر والاعتبار في الآيات القرآنية

- ‌1 - فقه التأمل والتفكر

- ‌2 - فقه التصريف والتدبير

- ‌3 - فقه الترغيب والترهيب

- ‌4 - فقه التوجيه والإرشاد

- ‌5 - فقه الوعد والوعيد

- ‌6 - فقه الفكر والاعتبار في الخلق والأمر

- ‌البَابُ الرَّابعكتاب الإيمان

- ‌1 - فقه الإيمان بالله

- ‌1 - فقه الإحسان

- ‌2 - فقه اليقين

- ‌3 - فقه الإيمان بالغيب

- ‌4 - فقه الاستفادة من الإيمان

- ‌2 - فقه الإيمان بالملائكة

- ‌3 - فقه الإيمان بالكتب

- ‌4 - فقه الإيمان بالرسل

- ‌5 - فقه الإيمان باليوم الآخر

- ‌6 - الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌1 - فقه الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌2 - فقه المشيئة والإرادة

- ‌3 - فقه خلق الأسباب

- ‌4 - فقه خلق الخير والشر

- ‌5 - فقه النعم والمصائب

- ‌6 - فقه الشهوات واللذات

- ‌7 - فقه السعادة والشقاوة

- ‌8 - فقه كون الحمد كله لله

- ‌9 - فقه الولاء والبراء

الفصل: ‌2 - فقه أوامر الله الكونية والشرعية

‌2 - فقه أوامر الله الكونية والشرعية

قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].

وقال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5].

وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90].

الله تبارك وتعالى هو الخلاق العليم، الذي خلق جميع المخلوقات في العالم العلوي، وفي العالم السفلي، وجميع مخلوقاته أثر من آثار خلقه وقدرته، وهو القادر على كل شيء، فلا يستعصي عليه شيء أراد خلقه، أعطى جميع المخلوقات الوجود والشكل، والوظائف والأوامر.

وهو سبحانه الملك، المالك لكل شيء، الذي جميع ما سكن في العالم العلوي والسفلي ملك له، وعبيد مسخرون مدبرون بأمره.

يتصرف فيهم سبحانه بأوامره القدرية .. وأوامره الشرعية .. وأوامره الجزائية: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} [يس: 83].

والله عز وجل هو الذي خلق المخلوقات كلها، وهذه المخلوقات كلها تحتاج إلى أوامر.

والذي ينزل من الله عز وجل من الأوامر نوعان:

أوامر كونية .. وأوامر شرعية.

وأوامر الله الكونية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: أمر الإيجاد، وهو متوجه من الله إلى جميع المخلوقات بالإيجاد والخلق والتكوين.

وبسببه أوجد الله الكون وما فيه من المخلوقات كالعرش والكرسي، والسماء والأرض، والملائكة والروح، والشمس والقمر، والنجوم والكواكب، والجماد

ص: 417

والنبات، والإنسان والحيوان، وغير ذلك من المخلوقات التي لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله وحده لا شريك له:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102].

الثاني: أمر البقاء، وهو متوجه من الله إلى جميع المخلوقات بالبقاء.

وبسببه تبقى الكائنات كلها بأمر الله، ولولا أمر الله بالبقاء لزالت جميع الكائنات كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} [فاطر: 41].

وقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)} [الروم: 25].

الثالث: أمر الحركة والسكون، والحياة والموت، والنفع والضر

إلخ، وهو متوجه من الله إلى جميع المخلوقات، فجميع المخلوقات لا تتحرك ولا تسكن إلا بأمره كما قال سبحانه:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22].

وقال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} [آل عمران: 26 - 27].

وجميع المخلوقات لا تنفع ولا تضر إلا بأمره كما قال سبحانه: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188].

والإحياء والإماتة بيد الله، فلا يحصل منها شيء إلا بأمره:{هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)} [غافر: 68].

وهذه الأوامر الإلهية لا بد من وقوعها كما أراد الله، فالله لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، سبحانه هو الواحد القهار:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس:82].

وأما الأوامر الشرعية فهي الدين: وهو موجه من الله إلى الثقلين: الإنس والجن،

ص: 418

ويتم ذلك بواسطة الأنبياء والرسل.

والأوامر الشرعية خمسة أقسام هي:

الإيمان .. العبادات .. المعاملات .. المعاشرات .. الأخلاق.

ومن الناس من يقبله فيسعد في الدنيا والآخرة، ومنهم من لا يقبله فيشقى في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه:{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)} [البقرة: 38، 39].

وهذا الدين محفوظ إلى يوم القيامة بحفظ الله، وللحصول على أعلى مراتبه لا بد من المجاهدة كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)}

[العنكبوت: 69].

وأوامر الله الشرعية نوعان:

الأول: أوامر محبوبة للنفس، كالأمر بالأكل من الطيبات، ونكاح ما طاب من النساء إلى أربع، وصيد البر والبحر ونحو ذلك.

الثاني: أوامر مكروهة للنفس الأمارة بالسوء، وهي نوعان:

أوامر خفيفة، كالأدعية والأذكار، والصلوات وتلاوة القرآن، والسنن والآداب ونحوها.

أوامر ثقيلة، كالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله.

والإيمان يزيد بامتثال الأوامر الخفيفة والثقيلة معاً، والقيام بالأعمال الانفرادية والاجتماعية معاً، فإذا زاد الإيمان صار المبغوض محبوباً، وصار الثقيل خفيفاً، وتحقق مراد الله من العبد بالدعوة والعبادةلربه، واطمأن بذلك قلبه، وتحركت بذلك جوارحه.

ومقصود الإيمان عبادة الله وحده لا شريك له، واجتناب عبادة ما سواه.

ويتم ذلك بتغيير اليقين من المخلوق إلى الخالق الذي بيده كل شيء .. وتغيير

ص: 419

العواطف من المخلوق إلى الخالق .. وتغيير الفكر من الدنيا إلى الآخرة .. ومن الأموال والأشياء إلى الإيمان والأعمال الصالحة .. وتغيير العمل من الدنيا إلى الدين، ومن المعاصي إلى الطاعات .. ومن محبوبات النفس إلى محبوبات الرب.

فالأوامر الشرعية أنزلها الله إلى الثقلين: الإنس والجن، وهي الدين، وهذه الأوامر تنزل من ذات الله إلى العباد، والأعمال تصدر من ذات النفس.

فإذا تطابقت الأعمال البشرية مع الأوامر الإلهية سعد الإنسان في الدنيا والآخرة.

وإذا خالفت أعمال العباد أوامر الله الشرعية شقي الإنسان في الدنيا والآخرة.

وفي كل يوم، بل في كل ثانية، بل في كل لحظة يصدر من ذات الله ما لا يحصيه إلا الله، ولا يعلمه إلا الله من مليارات الأوامر الإلهية:

أوامر الخلق والإيجاد .. وأوامر البقاء .. وأوامر النفع والضر .. وأوامر التصريف والتدبير .. وأوامر التغيير والتبديل .. وأوامر الحياة والموت .. وأوامر العافية والمرض .. وأوامر العطاء والمنع .. إلخ.

وفي كل يوم، بل وفي كل ثانية، بل في كل لحظة يصدر من العباد ما لا يحصيه إلا الله من الأقوال والأعمال .. والطاعات والمعاصي .. والحسنات والسيئات .. وكل ذلك بإذن الله عز وجل .. والكل معلوم لعلاّم الغيوب.

وأوامر الله الشرعية تامة كاملة، وهي متعلقة بجميع أحوال العباد، والله يحب أن يطاع وتمتثل أوامره في جميع الأحوال من جميع العباد.

فالملك ملكه .. والخلق خلقه .. والأمر أمره.

والعبد ليس له عمل إلا طاعة سيده ومولاه، الذي أفاض عليه من نعمه بما لا يحصى، ووعده إن أطاعه بالدار الحسنى، وإن عصاه بنار تلظى.

وأوامر الله الكونية والشرعية متعلقة بجميع أحوال الإنس والجن، وأوامر الله الكونية متعلقة بجميع المخلوقات.

ص: 420

فكل ذرة في هذا الكون العظيم لها أوامر من ربها .. أمر بالإيجاد .. وأمر بالبقاء .. وأمر بالنفع والضر .. ولله حكمة في خلقها .. وكلها مملوكة في قبضة الله.

والإنسان مأمور أن ينظر إلى المخلوقات التي خلقها الله في هذا الكون ولا يتعلق بها، بل يتجاوزها إلى خالقها.

فينظر إلى الصور ويتجاوزها إلى المصور سبحانه، وينظر إلى المخلوقات العجيبة ويتجاوزها إلى الخالق سبحانه، وذلك حتى لا تأتي عظمتها في القلوب مكان عظمة الله، الذي يستحق التعظيم الكامل وحده لا شريك له، ولا تأتي محبتها مكان محبة الله، الذي يستحق المحبة الكاملة وحده لا شرك له.

وينظر في ملكوت السموات والأرض نظر تفكر واعتبار لا نظر تفرج ولهو. فكل ينظر إلى الشجرة الكبيرة، الغافل ينظر إلى جمالها، ولا يذكر الجميل الذي زينها، والنجار ينظر إلى خشبها، والطبيب ينظر إلى الدواء الذي فيها، والمزارع ينظر إلى ثمرتها، والمؤمن ينظر إلى عظمة خالقها، فهذا أعظم الناس نظراً وفكراً واعتباراً:{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101].

وقد أنزل الله الدين الكامل، الشامل لجميع أحوال العباد كما قال سبحانه:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3].

فلله عز وجل أوامر يحب أن تمتثل عند الوضوء والصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها من العبادات.

ولله أوامر يجب أن تمتثل لا تظهر إلا بوجود الأهل والزوجة والأولا د.

ولله أوامر يجب أن تمتثل لا تظهر إلا في التجارة والبيع والشراء وسائر المعاملات.

ولله أوامر يجب أن تمتثل لا تظهر إلا في الزراعة والصناعة ونحوها.

ص: 421

ولله أوامر يجب أن تمتثل لا تظهر إلا في ساحات الجهاد، وحلق الذكر، ومجالس العلم.

ولله أوامر يجب أن تمتثل لا تظهر إلا في حال الغنى والفقر، أو الصحة والمرض، أو الحياة والموت، أو السلم والحرب.

ولله أوامر يجب أن تمتثل في حال الرضا والغضب، وفي حال الفرح والحزن، وفي حال الرخاء والشدة.

ولله أوامر يجب أن تمتثل في حال الإقامة، وحال السفر، وعند الأكل والشرب، وفي حال اليقظة، وفي حال النوم.

ولله أوامر يجب أن تمتثل في البيوت، وفي الأسواق، وفي المساجد، وفي المجالس.

ولله أوامر يجب أن تمتثل عند الزواج، وعند المعاشرة، وعند الولادة، وحال الأمن، وحال الخوف.

ولله أوامر على السمع والبصر، والقلب والبدن، وسائر الجوارح.

فهذه الأوامر وغيرها مما أمر الله ورسوله به هي الدين الذي يحبه الله ويرضاه، ويحب من قام به، وهو الدين الذي يجب على الإنسان قبوله والعمل به، والدعوة إليه، ليسعد في الدنيا والآخرة:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 71].

والناس في الدنيا نوعان:

مسلم له أوامر .. وكافر له أوامر .. وغني له أوامر .. وفقير له أوامر .. وقوي له أوامر .. وضعيف له أوامر .. وصحيح له أوامر .. ومريض له أوامر .. وكبير له أوامر .. وصغير له أوامر .. وبصير له أوامر .. وأعمى له أوامر .. ورجل له أوامر .. وامرأة لها أوامر .. وحي له أوامر .. وميت له أوامر .. ومقيم له أوامر .. ومسافر له أوامر .. ومتزوج له أوامر .. وأعزب له أوامر .. وخليفة له أوامر .. ورعية لها أوامر .. وهكذا، والنتائج يوم القيامة.

ص: 422

والله عز وجل أمر بكل خير، ونهى عن كل شر، وأحل ما ينفع، وحرم ما يضر، وأمر بالحق، ونهى عن الباطل:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90].

وما أمر الله به العباد نوعان:

أحدهما: باطن في القلب كالتوحيد والإيمان، والإخلاص واليقين، وحب الله ورسوله ودينه وأوليائه، والتوكل على الله، والخوف منه، وخشيته ورجائه.

الثاني: ظاهر على الجوارح، وهي الأقوال والأعمال المأمور بها، وهي لا تقبل إلا بعمل القلب، وإرادة وجه الله بها، وأدائها كما جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم كالوضوء والغسل، والصلاة وسائر العبادات، فهذه وإن كانت أقوالاً وأفعالاً إلا أن القلب أخص بها.

والله تبارك وتعالى شرف هذه الأمة وأكرمها بالدين، وبالدعوة إلى الدين.

فالاستقامة على الدين أولاً .. ثم دعوة الناس إليه ثانياً.

والكفار يعرض عليهم الإسلام فإما أن يسلموا .. أو يصغروا .. أو يدمروا.

وإذا ترك العبد أوامر الله الانفرادية، جاءت عليه مصيبة انفرادية.

وإذا تركت الأمة أوامر الله الاجتماعية، جاءتها عقوبة اجتماعية.

وإذا أقام العبد أوامر الله الانفرادية، جاءت النصرة الانفرادية.

وإذا أقيمت أوامر الله الاجتماعية، جاءت النصرة الاجتماعية.

ففرعون ترك أمر الله واستكبر وعلا، فادعى الألوهية والربوبية، وأضل قومه فجاءت عقوبة الله عليه، وعلى قومه وجيشه، وكل من اتبعه، فأهلكوا بالغرق، ولهم أشد العذاب يوم القيامة.

وقارون ترك أمر الله الانفرادي، فجاءت المصيبة انفرادية عليه وعلى ماله كما قال سبحانه:{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)} [القصص: 81].

ص: 423

فأوامر الله الانفرادية علينا جميعاً كالإيمان، والصلاة، والصيام، والزكاة لمن له مال، والحج على المستطيع، فإذا ترك الإنسان شيئاً من ذلك، جاءت المصيبة انفرادية على العبد وحده كما قال سبحانه:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30].

والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، أوامر اجتماعية من الله على هذه الأمة، فإذا تركتها الأمة جاءت المصيبة على الأمة جميعاً كما قال سبحانه:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: 78، 79].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَاباً مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ» أخرجه أحمد والترمذي (1).

والله جل جلاله خلق الأسباب، وأنزل الأوامر، وأمر بامتثال الأوامر، وفعل الأسباب، وجعل سعادة الإنسان فقط بالإيمان والتقوى.

والتقوى: هي ألا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك، وهي الأمر المتوجه من الله إليَّ بالفعل أو الترك، أفعله على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم.

فمثلاً، إذا أصابني صداع في الرأس، أنظر أمر الله أو أمر رسوله فيه، وأفعل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسمي ثلاثاً ثم أقول سبع مرات:«أعوذ بِاللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أجِدُ وَأحَاذِرُ» أخرجه مسلم (2).

ثم أفعل الأسباب من دواء مباح، فإن ذهب الصداع فأنت في الفوز والفلاح،

(1) حسن: أخرجه أحمد برقم (23301).

وأخرجه الترمذي برقم (2169)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1762).

(2)

أخرجه مسلم برقم (2202).

ص: 424

لأنك فعلت السبب، وامتثلت الأمر، وإن لم يذهب الصداع فكذلك أنت في الفوز والفلاح، لأنك امتثلت أمر الله ورسوله.

فلا نتوجه عند المرض للدواء مباشرة، بل نتوجه إلى الله الشافي أولاً، والأسباب آخر شيء، أمر الله ثم أمر الرسول وفعله، ثم فعل السبب المباح، هذا هو الترتيب الصحيح لطلب الشفاء.

وإن تناولت الدواء مباشرة ثم ذهب الصداع فهذا ابتلاء من الله لإيمان العبد، وإن لم يذهب الصداع فيتوجه إلى الله، وكلما توجه العبد إلى الله في حاجة، فإما أن يقضي حاجته فوراً، وإما أن يؤخرها ليكثر من الدعاء، وإما أن يدفع عنه من الشر ما هو أعظم منها، وإما أن يؤخرها له إلى يوم القيامة.

وكلما توجه الإنسان إلى الله قضى حاجته، وكلما نفى المخلوق أياً كان يومياً سخره الله له .. وحفظه منه .. وأخرج اليقين عليه .. وحفظه، لا يعبده ولا يتوجه إليه.

والله تبارك وتعالى له الخلق والأمر في جميع مخلوقاته:

خلق الشمس وأمدها بالحركة والإنارة والحرارة .. وخلق البحر وأمده بالسيولة والملوحة .. وخلق النبات وأمده بالنمو والتكاثر والثمرات

وخلق الحيوان وأمده بالنمو والتكاثر والحركة .. وخلق الإنسان وأمده بالنمو والتكاثر، والعقل والحركة .. وخلق الدماغ وأمده بالعقل .. وخلق العين وأمدها بالبصر .. وخلق اللسان وأمده بالكلام .. وخلق الأذن وأمدها بالسمع .. وخلق الأنف وأمده بالشم.

وخلق الليل والنهار وجعل لهما أوامر .. وخلق الشمس والقمر وجعل لهما أوامر .. وخلق الحرارة والبرودة وجعل لهما أوامر .. وخلق الصحة والمرض وجعل لهما أوامر .. وهكذا.

فالله خالق كل شيء، وبيده أمر كل شيء:{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)} [هود: 123].

والله تبارك وتعالى خلق المخلوقات، وكلماته التامات هي التي كون بها الأشياء

ص: 425

كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس:82].

فهذه الكلمات لا يجاوزها بر ولا فاجر .. ولا يخرج أحد عن القدر المقدور .. ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور.

فالكلمات نوعان:

إحداهما: كلمات يكون الله بها الكون، وهي المتضمنة لخلقه وتدبيره لهذا الكون، وما فيه من المخلوقات.

والأخرى: كلمات دينية، المتضمنة لأمره ونهيه كالكتب الإلهية التي أنزلها الله على رسله كالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن.

فكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر ليست هي أمره ونهيه الشرعيين، فإن الفجار عصوا أمره ونهيه.

بل هي التي كون بها الكائنات، ودبر بها المخلوقات، وقهر بها أهل العقوبات.

فسبحانه الواحد القهار: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)} [البقرة: 117].

فأوامر الله نوعان:

الأول: أمر كوني لا بد من وقوعه ولا يمكن لأحد رده كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].

والثاني: أمر ديني شرعي، يأمر الله به عباده عن طريق رسله، فمنهم من يؤمن به، ومنهم من يخالفه كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)}

[النحل: 90].

والأمر الكوني القدري، والأمر الديني الشرعي، كله لله، فلا خالق ولا مدبر لهذا الكون إلا الله وحده لا شريك له، ولا مشرع للعباد إلا ربهم وحده لا شريك له كما قال سبحانه:{قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154].

ص: 426

والله تبارك وتعالى عالم الغيب والشهادة، خلق المخلوقات كلها، وأحسن تصويرها، وأحاط بكل شيء علماً، وهو أحكم الحاكمين، وضع كل شيء في موضعه الذي لا يليق به سواه، وجعل له من الأوامر ما يناسبه، ويحقق الانتفاع به.

فوضع قوة النور في الشمس .. وقوة الإنبات في الأرض .. وقوة البصر في العين .. وقوة السمع في الأذن .. وقوة الشم في الأنف .. وقوة البطش في اليد .. وقوة النطق في اللسان .. وقوة المشي في الرجل .. وخص كل حيوان وغيره بما يليق به .. ويحسن أن يعطاه .. وشمل إتقانه وإحكامه لكل ما شمله خلقه كما قال سبحانه: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)} [النمل: 88].

ودين الأنبياء والرسل وأتباعهم دين الأمر، فهم يدينون بأمر الله الشرعي، ويؤمنون بقدره الكوني.

وأعداء الله واقفون مع القدر الكوني، فحيث ما مال القدر مالوا معه، فدينهم دين القدر، فهم يعصون أمره، ويحتجون بقدره، ويقولون نحن واقفون مع مراد الله وقدره.

فهل فوق هذا من جهل؟، وهل بعد هذا من ضلالة؟:{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)} [النحل: 35].

وإذا أمر الله عز وجل عبده بأمر وجب عليه فيه ثماني مراتب:

الأولى: العلم به.

الخامسة: أداؤه خالصاً صواباً.

الثانية: محبته.

السادسة: عدم فعل ما يحبطه.

الثالثة: العزم على فعله.

السابعة: الثبات عليه.

الرابعة: عدم العمل به.

الثامنة: نشره والدعوة إليه.

ص: 427

ولا بد في جميع أوامر الله من أصلين:

فعل ما أمر الله ورسوله به .. واجتناب ما نهى الله ورسوله عنه.

ثم على كل عبد أن يتوب ويستغفر من تفريطه في المأمور، واقترافه للمحظور، ويختم جميع أعماله بالاستغفار.

والله تبارك وتعالى خلقنا لأربعة أمور:

الأول: العبادة كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}

[الذاريات: 56].

الثاني: الدعوة كما قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108].

الثالث: التعلم والتعليم كما قال سبحانه: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)} [آل عمران: 79].

الرابع: الخلافة كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)}

[النور: 55].

وإذا كان الله عز وجل قد أتقن خلقه غاية الإتقان .. وأحكمه غاية الإحكام .. وأحسن كل شيء خلقه .. فلأن يكون أمره في غاية الإتقان والإحكام أولى وأحرى .. فشريعة الله لعباده في غاية الإتقان والإحكام، لا تفرق بين متماثلين، ولا تسوي بين مختلفين .. ولا تحرم شيئاً إلا لما فيه من المفسدة .. ولا تبيح شيئاً إلا لما فيه من المصلحة:{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50].

وأوامر الله عز وجل تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يكون الفعل المأمور به مشتملاً على مصلحة أو مفسدة، كما يُعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم مشتمل على فساد العالم.

الثاني: أن الله إذا أمر بشيء صار حسناً، وإذا نهى عن شيء صار قبيحاً.

ص: 428

الثالث: أن يأمر الله العبد بشيء ليمتحن العبد هل يطيعه أم يعصيه؟.

ولا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم بذبح ابنه إسماعيل، فلما أسلما وتله للجبين، حصل المقصود من قوة الامتثال والطاعة، فداه الله بذبح عظيم كما قال سبحانه:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} [الصافات: 103 - 107].

والله تبارك وتعالى منَّ على عباده بهذا الدين العظيم، والقرآن المجيد، والرسول الكريم، والهدي المستقيم.

فإن قيل فأي حكمة في تكليف الثقلين، وتعريضهم بذلك للعقوبة، وأنواع المشاق والمكاره .. ؟.

قيل: إن الله خلق المخلوقات، وجعل لها سنناً تسير عليها، فالشمس لها سنة، والقمر له سنة، والليل له سنة، والنهار له سنة، والنبات له سنة، والحيوان له سنة، والرياح لها سنة، والبحار لها سنة.

وكذلك الإنسان مخلوق من مخلوقات الله، محتاج إلى سنة يسير عليها في جميع أحواله، ليسعد في الدنيا والآخرة، وهذه السنة هي الدين الذي أكرمه الله به ورضيه له، وسعادته أو شقاوته مبنية على مدى تمسكه به، أو إعراضه عنه، وهو مختار في قبوله أو رده كما قال سبحانه:{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].

وكذلك لولا التكليف لكان خلق الإنسان عبثاً وسدى، والله يتعالى عن ذلك، وقد نزه نفسه عنه، كما نزه نفسه عن العيوب والنقائص كما قال سبحانه:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} [المؤمنون: 115].

ومعلوم أن ترك الإنسان كالبهائم مهملاً معطلاً لا يؤمر ولا ينهى مضاد للحكمة، فإنه خلق لغاية كماله، وكماله أن يكون عابداً لربه، محباً له، مطيعاً له كما قال سبحانه:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}

[الذاريات: 56].

ص: 429

وهذه المعرفة .. وهذه العبودية .. هما غاية الخلق والأمر .. وهما أعظم كمال الإنسان.

والله عز وجل من عنايته بالإنسان ورحمته له عرضه لهذا الكمال، وهيأ له أسبابه الظاهرة والباطنة، ومكنه منها.

ومدار التكليف على الإسلام والإيمان والإحسان، وما يتضمنه ذلك من اتصاف العبد بكل خلق جميل، وإتيانه بكل فعل جميل، وقول سديد، واجتنابه لكل خلق سيئ، وترك كل فعل قبيح.

وذلك كله متضمن لمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، والإحسان إلى الخلق مع تعريضه بذلك التكليف للثواب الجزيل الدائم، ومجاورة ربه في دار البقاء.

فأي الأمرين أليق بالحكمة .. ؟.

هذا التكليف والتشريف .. أو إرساله هملاً كالخيل والبغال والحمير .. يأكل ويشرب وينكح .. ويفعل ما شاء كالبهائم.

وكيف يليق بذلك الكمال طي بساط الأمر والنهي، والثواب والعقاب عنه؟.

وكيف تكون حاله لو لم يرسل الله الرسل إليه، وينزل الكتب عليه، ويشرع الشرائع له .. ؟.

وهل عرف الله حقاً من جوز عليه خلاف ذلك .. ؟.

بل ذلك من سوء الظن بالله، نعوذ بالله من ذلك:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)} [الأنعام: 91].

آهٍ لمشتت القلب والعقل .. أيليق بالعزيز الكريم أن يترك الإنسان سدى يتردى في أودية الهلاك تائهاً سكراناً من بين الخلائق .. ؟ ويموت لا ذاكراً ولا شاكراً .. ؟.

أيصح هذا .. ؟، أيعقل هذا .. ؟، أيليق به هذا .. ؟.

ص: 430

إن الله أكرم الإنسان، وفضله على غيره، وزوده بالعقل، وأنعم عليه بالدين، حتى يعيش سعيداً، ويصل إلى ربه في أحسن الأحوال، وأجمل الصفات، ويستقبل هناك بالإكرام، حتى يستقر في جنة الخلد حيث النعيم المقيم:{يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)} [الزخرف: 68 - 72].

إن الله تبارك وتعالى بفضله ورحمته وكمال حكمته أجرى على العباد ثلاثة أوامر، وبها يتم كمالهم، وتتحقق سعادتهم:

الأول: الأمر الكوني القدري بإيجادهم.

الثاني: الأمر الديني الشرعي في دنياهم.

الثالث: الأمر الجزائي في أخراهم.

ونقلهم سبحانه من دار إلى دار .. ومن حال إلى حال .. حتى يرجعوا إلى ربهم فيحاسبهم بما عملوا .. ثم يستقروا في دار القرار .. في الجنة أو النار.

فيا له من دين ما أحسنه .. ويا لها من شريعة ما أكملها .. ويا لها من أحكام ما أعدلها .. وأين يذهب الناس عن هذا؟: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} [آل عمران: 83].

إن حسن التكليف في العقول، كحسن الإنعام والإحسان إلى العباد، بل هو أبلغ أنواع الإحسان والإنعام، ولهذا سماه الله نعمة ومنّة، وفضلاً ورحمة، وأخبر أن الفرح به خير من الفرح بالنعم المشتركة بين الأبرار والفجار، وبين الناس والأنعام كما قال سبحانه:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58].

والله تبارك وتعالى هو الخلاق العليم، وهو الحكيم الخبير، له الخلق والأمر، والملك ملكه، والعباد عباده، وهو أعلم بما ينفعهم ويصلحهم.

ص: 431

يرسل الملائكة بأمره .. ويرسل الأنبياء والرسل بدينه وشرعه إلى خلقه .. ويرسل الرياح بأمره .. ويرسل السحاب فيسوقه حيث شاء .. ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء .. ويصرفها عمن يشاء.

وإرسال الله نوعان:

الأول: إرسال دين يحبه الله ويرضاه، كإرسال أنبيائه ورسله بدينه وأوامره إلى خلقه كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

الثاني: إرسال كون وهو نوعان:

إرسال يحبه الله ويرضاه، كإرسال ملائكته في تدبير أمر خلقه.

وإرسال لا يحبه الله، بل يسخطه ويبغضه، كإرسال الشياطين على الكفار المعاندين كما قال سبحانه:{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} [مريم: 83].

ص: 432