المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأولفقه أسماء الله وصفاته

- ‌1 - فقه العلم بالله وأسمائه وصفاته

- ‌2 - فقه عظمة الرب

- ‌3 - فقه قدرة الرب

- ‌4 - فقه رحمة الرب

- ‌5 - فقه علم الرب

- ‌6 - فقه جمال الرب

- ‌7 - فقه أسماء الله الحسنى

- ‌الله…جل جلاله

- ‌الرحمن

- ‌الملك

- ‌القدوس

- ‌السلام

- ‌المؤمن

- ‌المهيمن

- ‌العزيز

- ‌الجبار

- ‌الكبير

- ‌الخالق

- ‌البارئ

- ‌المصور

- ‌الغفور

- ‌القاهر

- ‌الوهاب

- ‌الرزاق

- ‌الفتاح

- ‌العليم

- ‌السميع

- ‌البصير

- ‌الحكيم

- ‌اللطيف

- ‌الخبير

- ‌الحليم

- ‌العظيم

- ‌الشكور

- ‌العلي

- ‌الحفيظ

- ‌الرقيب

- ‌المقيت

- ‌الشهيد

- ‌الحاسب

- ‌الكريم

- ‌الواسع

- ‌المجيد

- ‌الرب

- ‌الودود

- ‌الحق

- ‌المبين

- ‌الوكيل

- ‌الكفيل

- ‌القوي

- ‌المتين

- ‌الولي

- ‌الحميد

- ‌الحي

- ‌القيوم

- ‌الواحد

- ‌الصّمد

- ‌القادر

- ‌الأول

- ‌الآخر

- ‌الظاهر

- ‌الباطن

- ‌البر

- ‌التواب

- ‌العفو

- ‌الرؤوف

- ‌الغني

- ‌الهادي

- ‌النور

- ‌البديع

- ‌الفاطر

- ‌المحيط

- ‌القريب

- ‌المستعان

- ‌المجيب

- ‌الناصر

- ‌الوارث

- ‌الغالب

- ‌الكافي

- ‌ذو الجلال والإكرام

- ‌ذو العرش

- ‌ذو المعارج

- ‌ذو الطول

- ‌ذو الفضل

- ‌الرفيق

- ‌الشافي

- ‌الطيب

- ‌السبوح

- ‌الجميل

- ‌الوِتر

- ‌المنان

- ‌الحيي

- ‌الستير

- ‌الديان

- ‌المحسن

- ‌السيد

- ‌المقدم والمؤخر

- ‌القابض والباسط

- ‌8 - فقه صفات الله وأفعاله

- ‌9 - فقه أحكام الأسماء والصفات

- ‌10 - فقه التعبد بأسماء الله وصفاته

- ‌الباب الثانيفقه الخلق والأمر

- ‌1 - فقه الخلق والأمر

- ‌2 - فقه أوامر الله الكونية والشرعية

- ‌3 - خلق الله للكون

- ‌4 - فقه الحكمة في كل ما خلقه الله وأمر به

- ‌5 - فقه خَلق المخلوقات

- ‌1 - خلق العرش والكرسي

- ‌2 - خلق السموات

- ‌3 - خَلق الأرض

- ‌4 - خلق الشمس والقمر

- ‌5 - خلق النجوم

- ‌6 - خلق الليل والنهار

- ‌7 - خلق الملائكة

- ‌8 - خلق المياه والبحار

- ‌9 - خلق النبات

- ‌10 - خلق الحيوانات

- ‌11 - خلق الجبال

- ‌12 - خلق الرياح

- ‌13 - خلق النار

- ‌14 - خلق الجن

- ‌15 - خلق آدم

- ‌16 - خلق الإنسان

- ‌17 - خلق الروح

- ‌18 - خلق الدنيا والآخرة

- ‌البَابُ الثّالثفقه الفكر والاعتبار

- ‌1 - فقه الفكر والاعتبار

- ‌2 - فقه الفكر في أسماء الله وصفاته

- ‌1 - الفكر والاعتبار في عظمة الله

- ‌2 - الفكر والاعتبار في قدرة الله

- ‌3 - الفكر والاعتبار في علم الله

- ‌3 - فقه الفكر والاعتبار في الآيات الكونية

- ‌4 - فقه الفكر في نعم الله

- ‌5 - فقه الفكر والاعتبار في الآيات القرآنية

- ‌1 - فقه التأمل والتفكر

- ‌2 - فقه التصريف والتدبير

- ‌3 - فقه الترغيب والترهيب

- ‌4 - فقه التوجيه والإرشاد

- ‌5 - فقه الوعد والوعيد

- ‌6 - فقه الفكر والاعتبار في الخلق والأمر

- ‌البَابُ الرَّابعكتاب الإيمان

- ‌1 - فقه الإيمان بالله

- ‌1 - فقه الإحسان

- ‌2 - فقه اليقين

- ‌3 - فقه الإيمان بالغيب

- ‌4 - فقه الاستفادة من الإيمان

- ‌2 - فقه الإيمان بالملائكة

- ‌3 - فقه الإيمان بالكتب

- ‌4 - فقه الإيمان بالرسل

- ‌5 - فقه الإيمان باليوم الآخر

- ‌6 - الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌1 - فقه الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌2 - فقه المشيئة والإرادة

- ‌3 - فقه خلق الأسباب

- ‌4 - فقه خلق الخير والشر

- ‌5 - فقه النعم والمصائب

- ‌6 - فقه الشهوات واللذات

- ‌7 - فقه السعادة والشقاوة

- ‌8 - فقه كون الحمد كله لله

- ‌9 - فقه الولاء والبراء

الفصل: ‌5 - فقه النعم والمصائب

‌5 - فقه النعم والمصائب

قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)} [النحل: 53، 54].

وقال الله تعالى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34].

الله تبارك وتعالى أنعم على خلقه بنعم لا تعد ولا تحصى، فهو المنعم بجميع النعم المادية والروحية:

نعم على البدن .. ونعم على الروح .. ونعم ظاهرة .. ونعم باطنة .. نعم داخل الإنسان .. ونعم خارج الإنسان .. ونعم في حصول محبوب .. ونعم في دفع مكروه .. ونعم في الدنيا .. ونعم في الآخرة: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} [لنحل: 18].

ولله سبحانه في كل ذرة في الكون نعمة .. وله فيها حكمة .. وله فيها أمر بالإيجاد .. وأمر بالبقاء .. وأمر بالنفع والضر.

وأجل النعم وأعلاها وأشرفها وأكملها نعمة الإسلام، وهي فضل من الله، فهو المانُّ بها ابتداء بلا سبب من العبد ولا استحقاق منه.

وكل ما وصل إلى العبد من خير فهو لله، وبالله، ومن الله.

والعاقل كلما رأى هذه النعم أحدث له ذلك ذلاً وانكساراً، وكلما جدد له نعمة ازداد له ذلاً وانكساراً، وخشوعاً وخضوعاً، وخوفاً ورجاءً، ومحبة.

وإنما يحصل هذا للعبد بأمرين:

الأول: علمه بربه وكماله، وبره وغناه، وجوده وإحسانه، وفضله ورحمته، وأن الخير كله في يديه، وهو ملكه يؤتي منه من يشاء، ويمنع منه من يشاء، وله الحمد على هذا وهذا أكمل حمد وأتمه.

الثاني: علمه بنفسه، ووقوفه على حدها وقدرها، ونقصها وضعفها، وظلمها

ص: 977

وجهلها، وتقصيرها وتفريطها، وأنها ليست بشيء، ولا بيدها شيء، ولا تقدر على شيء.

فإذا صار هذان العلمان صبغة لها علمت حينئذ أن الأمر كله لله، وأن الحمد كله لله، والخير كله بيد الله، وأنه سبحانه المستحق للحمد والثناء والمدح دونها، وأنها هي أولى بالذم والعيب، والفقر والذل واللوم.

ومن أعجب الأشياء:

أن تعرف ربك ثم لا تحبه .. وأن تسمع داعيه ثم لا تجيبه .. وأن تعرف قدر نعمه ثم لا تشكره .. وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره .. وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له بمعصيته .. وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته.

وأعجب من هذا:

علمك بأنك راجع إليه، حامل أوزارك بين يديك، ومعروضة أعمالك عليه .. فسبحان الله كم لعب الشيطان بعقول الناس وأفسد حياتهم؟.

ونعم الله على العباد ثلاث:

نعم حاصلة يعلم بها العبد .. ونعم حاصلة هو فيها لا يشعر بها .. ونعم منتظرة يرجوها.

فإذا أراد الله عز وجل إتمام نعمته على عبده عرفه نعمته الحاضرة، وأعانه على شكرها حتى لا تشرد، فإنها تقيد بالشكر، وتشرد بالمعصية.

ووفقه لعمل يستجلب به النعمة المنتظرة، وبصره لاجتناب الطرق التي تسدها وتمنع وصولها.

وعرفه النعم التي هو فيها ولا يشعر بها ليشكر ربه عليها.

والله عز وجل أعطى من شاء من خلقه من النعم، كالملك أو المال أو الجاه، أو الأشياء، أو القوة، لينظر من يستخدمها كما أمر الله، ومن يضحي بها من أجل الدين، ومن يستعملها في طاعة الله، وفي إعلاء كلمة الله، ومن يشكره ويحمده

ص: 978

عليها، ويستعين بها على طاعة الله.

وليعلم من يستعملها في معصية الله، ومن يترك الدين من أجلها، ومن يشتغل بها عن المنعم بها.

وهكذا الأولاد والزوجات، والصحة والأمن، وسائر النعم كما قال سبحانه:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)} [التغابن: 15].

فإن تعارضت هذه النعم مع ما يحب الله، تركها من أجل الدين، ولا يترك الدين وأعمال الدين من أجلها.

ونعم الله لا تعد ولا تحصى، لأن الإحصاء إنما يكون لشيء محدود، ونعم الله لا حد لها، وخزائنه مملوءة بكل شيء كما قال سبحانه:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34].

وظلم الإنسان له صورتان:

إما بأخذ حق الغير .. أو الحكم للغير بحق ليس له.

وكفر الإنسان للنعم له صورتان:

إما بسترها وعدم البحث عنها في خبايا الأرض، وذلك هو الكسل.

أو نسبتها لغير المنعم بها، أو الاستهانة بها وعدم شكرها، أو صرفها فيما لا يجوز في محرمات أو إسراف أو تبذير.

وإما أن يستنبطها ويتملكها ويحجزها عن الغير، فذلك هو الظلم.

والنعم على ثلاثة أقسام:

الأولى: نعم تفرد الله بإيجادها نحو أن خلق ورزق.

الثانية: نعم وصلت إلينا من غيره، وهي في الحقيقة منه، لأنه تعالى هو الخالق لتلك النعمة، والخالق لذلك المنعم، والخالق لداعية الإنعام بالنعمة في قلب ذلك المنعم.

الثالثة: نعم وصلت إلينا من الله بسبب طاعاتنا وهي من الله، لأنه هو الذي وفقنا للطاعات، وأعاننا عليها، وهدانا إليها، وأزاح العلل عنا، فله الحمد والشكر،

ص: 979

وهو للحمد أهل.

قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)} [النحل: 53].

وكل إنسان سوف يحاسب على النعم التي أنعم الله بها عليه، ويسأل عن شكرها .. وعن استعمالها فيما خلقت له .. وعن صرفها فيما يرضي الله .. وعن أداء حق الله فيها كما قال سبحانه:{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} [التكاثر: 8].

وقد أنعم الله على عباده بنوعين من الرزق:

أحدهما: رزق الأبدان من الطعام والشراب وسائر الأموال.

الثاني: رزق القلوب من الإيمان والتوحيد والأعمال الصالحة.

وفاوت سبحانه بين عباده في قسمة هذين الرزقين بحسب علمه وحكمته، ومعرفته بأحوال عباده، ومن يصلح لهذا، ومن يصلح لهذا، ومن يصلح لهم معاً.

فمنهم من وفر حظه من الرزقين، ووسع عليه فيهما.

ومنهم من قتر عليه في الرزقين.

ومنهم من وسع عليه رزق القلب، وقتر عليه رزق البدن.

ومنهم من وسع عليه رزق البدن، وقتر عليه رزق القلب.

وهذا الرزق بنوعيه إنما يتم ويبقى ويزيد بالشكر، وترك الشكر سبب زواله وانقطاعه عن العبد.

والنعم كلها من الله وحده:

نعم الطاعات .. ونعم اللذات .. فعلى العبد أن يرغب إلى الله أن يلهمه ذكرها، ويوزعه شكرها كما قال سبحانه:{قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)} [الأحقاف: 15].

ص: 980

وكما أن النعم منه سبحانه ومن مجرد فضله، فذكرها وشكرها لا ينال إلا بتوفيقه وعونه، والذنوب من خذلانه وتخليه عن عبده.

وقد أنعم الله عز وجل على كل عبد بنعم لا تعد ولا تحصى، وهي نوعان:

نعم خاصة .. ونعم عامة.

فالخاصة: ما أنعم الله به على المسلم من الإيمان في القلب، والطاعة في الجوارح، وحسن الخلق.

أما العامة: فهي قسمان:

متصلة: كالسمع والبصر، والعقل واللسان، وسائر الجوارح والمنافع.

ومنفصلة: وهي الأموال والأشياء.

فالأولى: خاصة بالمسلمين .. والثانية عامة للمسلمين وغيرهم.

وأرزاق الدنيا تكفل الله بها لجميع خلقه كما قال سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6].

وأرزاق الآخرة لا بد لها من العمل كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)} [الطلاق: 11].

والرزق يطلب الإنسان في الدنيا عمل أو لم يعمل كما يطلبه أجله مهما هرب، وسيأخذ رزقه المقدر له، فإن كان يقينه على الله أخذه بعزة، وإن كان يقينه على المخلوق أخذه بذلة.

فسبحان من قدر الأرزاق والآجال، والأحوال والأنفاس.

والله تبارك وتعالى هو الرزاق وحده، ينعم على المؤمن والكافر، وعلى المطيع والعاصي، وعلى كل ما في الكون، لأنه وحده خالق الأرزاق ورازقها.

فالنعمة للمؤمنين تكون برضى الله تعالى، والنعمة للعصاة والكفار تكون من غضب الله تعالى.

ص: 981

وكذلك المصائب تكون على المؤمنين والمطيعين برضا الله تعالى ابتلاءً وامتحاناً، وتكفيراً للسيئات، ورفعة في الدرجات.

والمصائب على الكفار تكون من غضب الله تعالى وبعدها الهلاك، وهي لازمة لهم، لا تنفك عنهم حتى يأتي وعد الله كما قال سبحانه:{وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)} [الرعد: 31].

والنعمة لأهل الإيمان والطاعات كالطعام الذي يوضع في قفص البلابل.

والنعمة لأهل الكفر والمعاصي كالطعام في قفص الفئران، ليست بسبب الرضا، بل للبطش والهلاك كما قال سبحانه:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44].

فالنعمة الأولى تقدم بالفرح والسرور، ثواباً وإكراماً لأهل الإيمان والطاعة كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)} [الكهف: 107].

والنعمة الثانية تقدم بالغضب والبطش كما قال سبحانه: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55].

والمصيبة على الكفار والعصاة كالسكين بيد الغضبان، والمصيبة على أهل الإيمان والطاعات كالسكين للعملية الجراحية.

فالسكين بالغضب يكون بها الموت، والسكين بالرضا يكون بعدها الشفاء.

ومثال سكين الغضب: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44].

ومثال سكين الرضا: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ

ص: 982

رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157].

ونعم الله على عباده على ثلاث درجات:

الأولى: نعمة الإيجاد: فالله وحده هو الذي أوجد المخلوقات كلها.

الثانية: نعمة الإمداد: فبعد إيجادهم أمدهم الله بأرزاقهم فرداً فرداً، وجيلاً بعد جيل.

الثالثة: نعمة الهداية للإسلام، وهذه خاصة بالإنس والجن.

فأرسل الله إليهم الرسل يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ليسعدوا في الدنيا والآخرة.

فمن قبل النعمة نجا وسعد في الدنيا والآخرة.

ومن ردها هلك وشقي في الدنيا والآخرة:

{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)} [البقرة: 38، 39].

والمنَّة تكدر النعمة، وهذه منّة المخلوق على المخلوق، وإنما قبحت منّة المخلوق، لأنها منّة بما ليس منه، وهي منّة يتأذى بها الممنون عليه، وهي مذمومة مبطلة للثواب كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264].

أما منَّة الخالق على المخلوق فبها تمام النعمة ولذتها وطيبها كما قال سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164].

وهل المنَّة كل المنَّة إلا لله المانّ بفضله، والذي جميع الخلائق من مننه وفي مننه، وما طاب العيش إلا بمنَّته سبحانه.

ص: 983

وكل نعمة في الدنيا والآخرة فهي منَّة يمنّ بها الله على من أنعم عليه، ودخول الجنة برحمة الله وفضله، وذلك محض منَّته على أهل طاعته.

فهو سبحانه المانّ بإرسال رسله .. وإنزال كتبه .. والتوفيق لطاعته .. والإعانة عليها .. والمانّ بالجزاء عليها .. فلا يدخل أحد الجنة بعمله .. وإنما برحمة الله وفضله .. ولكن الأعمال سبب .. وهو المانّ سبحانه برفعة الدرجات .. ومضاعفة الحسنات .. وتكفير السيئات .. وهو المانّ بكل نعمة .. وبكل رحمة .. وبكل إحسان .. وبكل هداية .. ولا منَّة لأحد على الله .. بل لله المنَّة على خلقه بنعمه التي لا تعد ولا تحصى كما قال سبحانه: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} [الحجرات: 17].

وإنعام الله على عباده يتضمن:

إنعامه بكل ما يحتاجونه في حياتهم من طعام وشراب ومال ونحو ذلك.

وإنعامه بالهداية التي هي الإيمان، والعلم النافع، والعمل الصالح.

وإنعامه بحسن الثواب والجزاء يوم القيامة، فهذا تمام النعمة كما قال سبحانه:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

والنعمة نعمتان:

نعمة مطلقة .. ونعمة مقيدة.

فالنعمة المطلقة هي المتصلة بسعادة الأبد وهي الإسلام، وهي خاصة بالمؤمنين، وهي معروضة على سائر البشر، وحق لهم جميعاً.

فمنهم من قبلها وهم المؤمنون فأورثهم سعادة الأبد.

ومنهم من ردها وبدلها فأورثهم ذلك شقاوة الأبد، وهؤلاء بمنزلة من أعطي مالاً ليعيش به فرماه في البحر، فأعقبه فعله الندامة والخسران والهلاك.

فما أعجب حال هؤلاء، وما أشد عقوبتهم إذا قدموا على ربهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ

ص: 984

الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)} [إبراهيم: 28 - 30].

ونعمة الإسلام هي النعمة الكبرى التي يفرح بها المؤمنون كما قال سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58].

أما النعمة الثانية: فهي النعمة المقيدة، وهذه النعمة مشتركة بين المؤمن والكافر، والبر والفاجر، بأشكالها وأنواعها كنعمة الصحة والغنى، والأمن والرخاء، ونعمة الولد والزوجة الحسناء، ونحو ذلك.

وأفضل النعمتين نعمة الإيمان.

وما يصيب الإنسان إن كان يسره فهو نعمة بينة.

وإن كان يسوؤه فهو نعمة من جهة أنه يكفر خطاياه، ويثاب بالصبر عليه، ومن جهة أن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها.

وهاتان النعمتان تحتاجان مع الشكر إلى الصبر.

أما نعمة الضراء فاحتياجها إلى الصبر ظاهر.

وأما نعمة السراء فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها ومعها، فإن فتنة السراء أعظم من فتنة الضراء.

والعبد مأجور في كلتا الحالتين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ» أخرجه مسلم (1).

ومحبة النعم .. ومحبة المنعم .. بينهما كما بين المشرق والمغرب.

فالمؤمن عند النعم يذكر المنعم، ويتوجه إليه بالعبودية بالذكر والحمد والشكر.

والكافر يشتغل بالنعم عن المنعم، لأنه يعرف قدر النعم، ولا يعرف قدر المنعم.

ولو أن ملكاً عظيماً أهدى لأحد جوهرة نفيسة مثلاً، فإنه سيكون لها نوعان من

(1) أخرجه مسلم برقم (2999).

ص: 985

المحبة، وسيتلذذ بها بشكلين من اللذة:

الأولى: المحبة التي تعود إلى أصل الجوهرة من حيث جمالها وحجمها وقيمتها، والتلذذ بحسنها، وهي لذة جزئية إلى زوال.

الثانية: محبة للتكرمة السلطانية التي ظهرت بالجوهرة، فهي ثناء مجسم من السلطان.

وهكذا الإنسان إذا وجه محبته إلى النعم والأموال بالذات، فتلك محبة نفسانية زائلة مؤلمة، أما إذا كانت المحبة متوجهة إلى جهة التكرمة الربانية له، فهي شكر معنوي، ولذة تورث أكمل سعادة.

وإذا أنعم الله على إنسان بنعمة حفظها عليه، ولا يغيرها الله عليه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه فـ:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].

وكل من زالت عنهم النعم من الأمم الماضية إنما هو بسبب مخالفة أمر الله ومعصية رسله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)} [الأنفال: 53].

فما حفظت نعمة الله بشيء مثل طاعته .. ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره .. ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه .. فالمعاصي نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس.

والله عز وجل هو الرزاق الذي يرزق المخلوقات جميعاً، وما من مؤمن ولا فاجر إلا وقد كتب الله تعالى له رزقه من الحلال، فإن صبر حتى يأتيه، وطلبه بوجوه الحلال آتاه إياه حلالاً.

وإن جزع فتناول شيئاً من الحرام، نقصه الله من رزقه الحلال.

والله على كل شيء قدير وهو العليم الحكيم .. قسم جميع أرزاق الخلائق .. وجميع الدواب .. وجميع ما في البر والبحر من الحيوانات والدواب .. والحشرات والطيور .. والإنس والجن .. وغيرهم مما لا يعلمه إلا الله.

ص: 986

قسم سبحانه رزق كل مخلوق:

من حيث الكمية والنوعية .. ومن حيث الزمان والمكان.

فقدر سبحانه رزق كل مخلوق فلا يزيد .. وقدر نوع الأرزاق فلا تتغير .. وقدر وقت الأرزاق فلا تتقدم ولا تتأخر .. وقدر مكان الأرزاق فلا تتغير، فمن قطع له رزقه في بلد لم يأخذه إلا من ذلك البلد.

والرزق يطلب الإنسان كما يطلبه أجله، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، وأثرها وعملها.

ولا بد لكل مخلوق من الرزق، وقد تكفل الله بأرزاق الخلق كلهم، وكل ما يتناول الإنسان من الحلال والحرام دال في هذا الرزق.

فالكفار قد يرزقون بأسباب محرمة، ويرزقون رزقاً حسناً، وقد لا يرزقون إلا بتكلف.

والمؤمنون يرزقهم الله بالأسباب المشروعة، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون، كما قال سبحانه:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3].

ولا يكون رزقهم بالأسباب المحرمة، ولا يكون خبيثاً، والله يرزق المؤمن ما يحتاج إليه، ويحميه من فضول الدنيا، رحمة به وإحساناً إليه، وصيانة له.

والغنى والفقر ليس دليلاً على إكرام الله للعبيد .. فقد يوسع الله الرزق على العبد إملاًْ واستدراجاً .. وقد يقدر عليه رزقه حماية له وصيانة .. وقد يضيق الله على بعض المؤمنين لما لهم من الذنوب .. فيحرم الرزق بالذنب الذي يصيبه .. فالطاعات سبب للرزق والراحة .. والمعاصي سبب للحرمان والمصائب.

والإنسان ماكينة الأعمال، كالشجرة ماكينة الثمار، خلقه الله متفكراً عاملاً.

فإن اجتهد على الأموال والأشياء والمشاهدات تخدر قلبه عن الغيبيات، وثقلت عليه الطاعات، فارتكب المحرمات، وترك الطاعات، واشتغل بما قسم الله له، عن ما وعده الله به، وهو الجنة فلم يعمل لها.

ص: 987

وإن اجتهد على الإيمان والأعمال الصالحة تخدر قلبه عن المشاهدات، وأقبل على ربه، فاشتغل بالطاعات، واجتنب المحرمات، واشتغل بما وعده الله به، عن ما قسم له، من الرزق.

وفي هذه الحياة الدنيا متاع جذاب براق، وهناك أولاد وأرزاق، وشهوات ولذائذ، وجاه وسلطان.

وهناك نعم آتاها الله لعباده في الأرض تلطفاً منه، وهبة خالصة لم يعلقها بطاعة ولا معصية، ولا إيمان ولا كفر، وإن كان يبارك للطائع ولو في القليل، ويمحق البركة من العاصي ولو كان في يده الكثير.

ولكن هذا كله ليس له قيمة ثابتة باقية، إنما هو متاع زائل، محدود الأجل.

ولا يعد بذاته دليل كرامة عند الله أو مهانة، ولا يعتبر بذاته علامة رضى من الله أو غضب:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: 56].

إنما هو متاع، وما عند الله خير وأبقى، خير في ذاته، وأبقى في مدته، ومتاع الحياة الدنيا زهيد معدود الأيام، وهو بالنسبة لنعيم يوم القيامة ومضة عين أو تكاد:{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)} [الشورى: 36].

والرزق نوعان:

أحدهما: ما علم الله وقدر أنه يرزقه لعبده، فهذا لا يتغير ولا يزيد ولا ينقص.

الثاني: ما كتبه الله وأعلم به الملائكة، فهذا يزيد وينقص بحسب الأسباب التي قدرها الله.

فإذا كان الله قد قدر أنه يرزق العبد بسعيه واكتسابه ألهمه السعي والاكتساب.

وما قدره له من الرزق بغير اكتساب ولا سعي كالميراث والهبات والصدقات والوصايا يأتيه بغير اكتساب ولا سعي.

والرزق يراد به شيئان:

ص: 988

أحدهما: ما ينتفع به العبد.

الثاني: ما يملكه العبد من الحلال.

فالأول: هو المذكور بقوله سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6].

والثاني: هو المذكور في قوله سبحانه: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)} [المنافقون: 10].

والعبد قد يأكل الحلال والحرام، فهو رزق بهذا الاعتبار، لا بالاعتبار الثاني، وما اكتسبه ولم ينتفع به، هو رزق بالاعتبار الثاني دون الأول.

ومن سرق أو أكل الحرام، فليس هذا من الرزق الذي أباحه الله له، ولكن هذا الرزق الذي سبق به علم الله وقدره.

فكما أن الله كتب ما يعمله العبد من خير وشر، وهو يثيبه على الخير، ويعاقبه على الشر.

فكذلك كتب ما يرزقه من حلال وحرام، مع أنه يعاقبه على الرزق الحرام، فكل شيء واقع بمشيئة الله وقدره.

والرزق الذي ضمنه الله لعباده هو لمن يتقيه، بأن يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب كما قال سبحانه:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].

ومن ليس من المتقين ضمن له ما يناسبه، بأن يمنحه ما يعيش به في الدنيا على تفاوت بين هؤلاء، ثم يعاقبه في الآخرة.

والله عز وجل أباح الرزق لمن يستعين به على طاعته، لم يبحه لمن يستعين به على معصيته، ولذلك كانت أموال الكفار غير مغصوبة، بل مباحة للمؤمنين، وتسمى فيئاً إذا عادت إلى المؤمنين، لأن الأموال إنما يستحقها من يطيع الله بها لا من يعصيه كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم لربه: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ

ص: 989

وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)} [البقرة: 126].

ولما كان مقصود ذوي الألباب لقاء الله تعالى في دار الثواب، ولا طريق للوصول إلى ذلك إلا بالعلم والعمل، ولا تمكن المواظبة عليهما إلا بسلامة البدن، ولا تصفو سلامة البدن إلا بالأطعمة والأقوات، والتناول منها بقدر الحاجة، ومن هنا كان الأكل من الدين كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)} [المؤمنون: 51].

فيأكل المرء مقتصداً بسنة، ولا يسترسل في الأكل استرسال البهائم في المراعي.

لقد أكرم الله الإنسان من بين سائر المخلوقات، وشرف المسلم وأكرمه بالدين على سائر البشر، وسخر له ما في السموات وما في الأرض، وأنعم عليه بنعم لا تعد ولا تحصى، وأباح له جميع الطيبات، وحرم عليه الخبائث، وخلقه، وهداه، واشتراه، وأكرمه بمنهج يسير عليه، وهداه الطريق الموصل إليه، وله بعد موته الجنة والرضا من ربه، فله الحمد والمنَّة على نعمه الظاهرة والباطنة، وعلى إحسانه في الدنيا والآخرة:{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20].

وكل ما عند أهل السماء من النعم .. وكل ما عند أهل الأرض من النعم .. وكل ما في الجنات من النعم .. كل ذلك بالنسبة لما في خزائن الله من النعم كقطرة من بحر .. أو ذرة من جبل.

قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21].

وقال سبحانه في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ

ص: 990

ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ» أخرجه مسلم (1).

فسبحانك ما أعظمك، وسبحانك ما أكرمك، وسبحانك ما أرحمك، تفعل ما تشاء، وأنت على كل شيء قدير.

وتبارك اسمك الذي بثثت فيه أرزاق العباد فوجدت .. ووضعته على الأرض فاستقرت .. وعلى السموات فاستقلت .. وعلى الجبال فرست .. وعلى الرياح فتحركت .. وعلى النهار فاستنار .. وعلى الليل فأظلم .. وعلى الشمس فأشرقت .. وعلى الأرض فأنبتت .. وعلى اللسان فتكلم .. وعلى العين فأبصرت .. وعلى الأذن فسمعت .. وعلى المريض فشفي .. وعلى الجاهل فعلم: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)} [الرحمن: 78].

سبحانك أنت الكريم الرحمن .. وأنت القوي العزيز .. وأنت الخلاق العليم.

كم وحياً أوحيته إلى أنبيائك ورسلك رحمة بعبادك؟، وكم قضاء قضيته؟، وكم رزقاً أنزلته؟ .. وكم ضالاً هديته؟ .. وكم فقيراً أغنيته؟ .. وكم مريضاً شفيته؟ .. وكم سائلاً أعطيته؟ .. وكم ذنباً غفرته؟ .. وكم هماً فرجته؟ .. وكم كرباً نفسته؟ .. وكم عسيراً يسرته؟ .. وكم داعياً أجبته؟.

فلك الحمد والشكر كثيراً، كما تنعم وترحم كثيراً.

ولك الحمد والشكر حتى ترضى، ولك الحمد بعد الرضا، ولك الحمد في الآخرة والأولى.

خلقتنا .. ورزقتنا .. وهديتنا .. وعافيتنا .. ورحمتنا .. وأكرمتنا: «رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءُ السموات وَالأَرْضِ، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أحَقُّ مَا قال الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ: اللَّهُمَّ! لا مَانِعَ لِمَا أعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدّ» أخرجه مسلم (2).

ألا ما أعظم نعم الله على عباده، وما أرأفه بهم، وما أشد عنايته بأمورهم، وما

(1) أخرجه مسلم برقم (2577).

(2)

أخرجه مسلم برقم (477).

ص: 991

ألطف تدبيره لما يصلحهم: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} [الحج: 65].

لقد خلقك الله ورزقك وعافاك وهداك .. وعصم عرضك بإيجاب الحد بقذفك .. وعصم مالك بقطع يد من سرقه .. وأباح لك الميتة عند الضرورة سداً لرمقك .. وزجرك عما يضرك بحد عاجل ووعيد آجل .. وأسقط شطر الصلاة في السفر عنك رحمة بك.

وأنزل عليك الكتب .. وأرسل إليك الرسل .. وأطعمك وسقاك .. وألبسك وكساك .. وأسكنك الديار .. وأركبك المراكب .. ورزقك الأموال والأولاد .. وزودك بالسمع والبصر والعقل .. وأمرك بالعمل الصالح .. ووعدك على ذلك الجنة.

أما يليق بهذا المنعم العظيم الذي هذه بعض نعمه أن توقره؟ .. وتعظم شعائره؟ .. وتطيع أوامره؟ .. وتجتنب زواجره؟ .. وتحذر من عدوه؟.

أيحسن بك مع هذا الإكرام أن يراك على ما نهاك عنه مقبلاً؟، ولما أمرك تاركاً؟.

وعن داعيه معرضاً، ولداعي عدوه مطيعاً؟.

ما أفحش تلاعب الشيطان بالإنسان، بينما هو بحضرة الحق، والملائكة سجود له، تترامى به الأحوال والجهالات، إلى أن يوجد مع البهائم عاكفاً على الشهوات .. أو يوجد ساجداً لصورة في حجر .. أو لشجرة من الشجر .. أو لشمس أو قمر .. أو لحيوان أو بشر.

لا يليق بهذ الحي الكريم الفاضل على جميع الحيوانات أن يُرى إلا عابداً لله في دار التكليف، ومجاوراً له في دار الجزاء والتشريف، وما بين ذلك فهو واضع نفسه في غير موضعها:{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)} [المائدة: 76].

إن الله تبارك وتعالى يبتلي عباده بالسراء والضراء .. والخير والشر .. والرخاء والشدة .. فالرخاء ابتلاء من الله وفتنة .. والشدة كذلك ابتلاء من الله وفتنة.

والصبر على الرخاء، أشق من الصبر على الشدة.

ص: 992

فكثير من الناس يصبرون على الشدة ويتماسكون لها.

وأما الرخاء فينسي ويلهي، ويهيء الفرصة للغرور بالنعمة، والاستنامة للشيطان، والإعراض عن الرحمن.

فنعمة المال كثيراً ما تقود إلى فتنة البطر، وقلة الشكر، مع السرف أو البخل، وكلاهما آفة للنفس والحياة.

ونعمة القوة كثيراً ما تقود إلى البطر، وقلة الشكر، مع الطغيان والجور، والتطاول بالقوة على الحق وعلى الناس، والتهجم على حرمات الله.

ونعمة الجمال كثيراً ما تقود إلى فتنة الخيلاء والتيه والغرور، والتردي في مدارك الإثم والغواية.

ونعمة الذكاء كثيراً ما تقود إلى فتنة الغرور والاستخفاف بالآخرين، وما تكاد تخلو نعمة من الفتنة إلا من ذكر الله فعصمه الله.

وكل ما رزقه الله لعباده فهو مقيد محدود محسوب، لما يعلمه الله من أن هؤلاء البشر لا يطيقون في الأرض أن يفتح عليهم فيض الله غير المحدود، ولما يحدثه من البغي في الأرض كما قال سبحانه:{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)} [الشورى: 27].

أما فضل الله في الآخرة فهو مطلق بلا حساب ولا حدود، ولا قيود ولا جهود، يكرم الله به أهل طاعته كما قال سبحانه:{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)} [غافر: 40].

وكل ذرة .. وكل حشرة .. وكل طائر .. وكل حيوان .. وكل إنسان .. وكل أمة في البر أو في البحر .. كل مخلوق من هؤلاء سيصل إليه رزقه .. فما دام الأجل باقياً كان الرزق آتياً لا محالة.

فإن سد الله عليك بحكمته طريقاً، فتح لك برحمته طريقاً أنفع لك منه.

وتأمل حال الجنين في بطن أمه يأتيه غذاؤه وهو الدم من طريق واحدة وهو

ص: 993

السرة.

فلما خرج من بطن الأم، وانقطعت تلك الطريق، فتح الله له طريقين اثنين لبناً خالصاً.

فإذا تمت مدة الرضاع، وانقطع الطريقان بالفطام، فتح له مولاه طرقاً أربعة أكمل منها، طعامان من النبات والحيوان، وشرابان من المياه والألبان.

فإذا مات الإنسان، انقطعت عنه هذه الطرق الأربعة، وفتحت له إن كان سعيداً طرقاً ثمانية، وهي أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء.

وهكذا الله عز وجل الكريم المنان لا يمنع عبده المؤمن شيئاً من الدنيا إلا ويؤتيه أفضل منه وأنفع له، وليس ذلك إلا للمؤمن.

والله حكيم عليم قسم الأرزاق بين عباده بالسوية، ونعم الله ظاهرة وباطنة، ومن الناس من لا يرى إلا النعم الظاهرة، ويغفل عن النعم الباطنة.

وبعض الناس يرى أنه ينبغي أن يعطى فوق ما هو فيه، ويرى أنه مظلوم مع الرب، لا ينصفه ولا يعطيه مرتبته، وأن ينبغي أن ينال الثريا، ولكنه مظلوم مبخوس الحظ.

وهذا الضرب من الخلق من أبغض الخلق إلى الله، وأشدهم مقتاً عنده، لا يذكرون إلا ما ينبغي لهم، ولا يذكرون ما يجب عليهم لله وخلقه.

وحكمة الله عز وجل تقتضي أن هؤلاء لا يزالون في سفال، فهم بين عتب على الخالق، وشكوى له، وذل لخلقه، وحاجة إليهم، وخدمة لهم.

أشغل الناس قلوباً بأرباب الولايات والمناصب، ينتظرون ما يقذفون به إليهم من عظامهم وغسالة أيديهم.

وأفرغ الناس قلوباً عن معاملة الله، والانقطاع إليه، والتلذذ بمناجاته والطمأنينة بذكره، والافتقار إليه، وبث الشكوى له.

وليس لأحد حجة على الله، بل لله الحجة على الناس جميعاً فقد خلقنا وأعطانا المكان .. وأعطانا الزمان .. وأعطانا العقل .. وأعطانا السمع والبصر .. وأرسل

ص: 994

إلينا رسله .. وأنزل علينا كتبه .. ورزقنا من الطيبات .. وهدانا للإسلام .. وما جعل علينا في الدين من حرج .. ووعدنا بعد الموت الجنة في الآخرة.

فهل فوق هذا من عطاء؟ .. وهل بعد هذا من إكرام؟ ..

فماذا عملنا؟ .. وماذا قدمنا؟ .. وماذا أخرنا؟:

{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34].

ونعم الله سبحانه على عباده لا يحصيها أحد، والاستعانة بها على طاعته هو ما يقتضيه الشرع والعقل، فإن من أحسن إليك بشيء لا يجوز لك أن تقابله بالإساءة إليه، ومن فعل ذلك من الناس فهو في نظرهم وقح ناكر للجميل وجاحد له، فكيف إذا استعان بإحسانه على الإساءة إليه، فهو أشد وقاحةً وجحوداً للجميل.

والنعم إنما خلقها الله عز وجل ليستعين بها أهل الإيمان على طاعة الرحمن، وأما أهل الكفر والفجور فإنها محرمة عليهم، لأنهم يستعينون بها على معصية الله، وهم محاسبون عليها يوم القيامة:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)} [الأعراف: 32].

وفي كل جارحة من جوارح الإنسان نعمة .. وعلى كل جارحة شكر يخصها .. وعلى اللسان من ذلك ما على سائر الجوارح .. وشكر كل جارحة إنما هو باستعمالها بتقوى الله، بامتثال ما يخصها من الطاعات، واجتناب ما يخصها من العصيان.

فشكر البدن ألا تستعمل جوارحه في غير طاعة الله.

وشكر القلب ألا تشغله بغير ذكر الله ومعرفته.

وشكر اللسان ألا تستعمله في غير الثناء على الله ومدحه، وذكره وسؤاله، وتلاوة كتابه، والدعوة إلى دينه، وتعليم أحكام شرعه، والإصلاح بين عباده.

ص: 995

وشكر المال ألا تنفقه في غير رضاه ومحبته وطاعته.

وكلما كملت للعبد معرفة الله، ومعرفة آلائه ونعمه، ازداد شكر العبد وثناؤه على ربه، فقد قام النبي صلى الله عليه وسلم الليل حتى تورمت قدماه، فقيل له: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال:«أفَلا أكُونُ عَبْداً شَكُوراً» متفق عليه (1).

وكل ما خلقه الله عز وجل فيه إحسان إلى عباده يشكر عليه، وله فيه حكمة تعود إليه، يستحق أن يحمد عليها لذاته، وجميع المخلوقات فيها إحسان وإنعام على عباده، تحصل بها هدايتهم، وتدل على وحدانيته، وصدق أنبيائه.

ونعمة السراء والضراء تحتاج مع الشكر إلى الصبر، أما الضراء فظاهر، وأما نعمة السراء فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها، لكن لما كان في السراء اللذة وفي الضراء الألم اشتهر ذكر الشكر في السراء، والصبر في الضراء، والله منعم بهذا كله، وإن كان لا يظهر ابتداء لأكثر الناس، فالله يعلم وأنتم لا تعلمون.

وذنوب الإنسان من نفسه، ومع هذا فهي مع حسن العاقبة نعمة، وهي نعمة على غيره لما يحصل بها من الاعتبار:{وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216].

والله تبارك وتعالى ذو فضل على العالمين:

بين سبحانه بكلامه وكلام رسوله جميع ما أمر الله به .. وجميع ما نهى الله عنه .. وجميع ما أحله .. وجميع ما حرمه .. وجميع ما عفا عنه .. وجميع ما يحب .. وجميع ما يكره .. وجميع ما يرضيه .. وجميع ما يسخطه.

وبهذا كان دينه كاملاً، ونعمته تامة كما قال سبحانه:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

وسعادة الإنسان في الدنيا مبنية على ثلاثة أركان:

الإيمان بالله .. والاتباع لرسول الله .. والعافية.

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4836) واللفظ له، ومسلم برقم (2819).

ص: 996

وأوامر الله عز وجل كلها رحمة وإحسان، وشفاء ودواء، وغذاء للقلوب، وزينة للظاهر والباطن، وحياة للقلب والبدن.

وكم في ضمنها من مسرة وفرحة، ولذة وبهجة.

فما يسميه بعض الناس تكاليف إنما هو قرة للعيون .. وبهجة للنفوس .. وحياة للقلوب .. وإحسان تام إلى النوع الإنساني .. أعظم من إحسانه إليه بالصحة والعافية، والطعام والشراب.

فنعمته سبحانه على عباده بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم، وتعريفهم بأمره ونهيه، وما يحبه وما يبغضه، أعظم النعم وأجلها وأعلاها وأفضلها.

بل لا نسية لرحمتهم بالشمس والقمر، والغيث والنبات، والطعام والشراب، إلى رحمتهم بالعلم والإيمان، والشرائع، ومعرفة الحلال والحرام.

ولولا ذلك لكان الناس بمنزلة البهائم يتهارجون في الطرقات، ويتسافدون تسافد الحيوانات بين الملأ، لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، ولا يمتنعون من قبيح، ولا يهتدون إلى رشد.

فاللهم لك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً، ملء السماء، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد.

والأمكنة والأزمنة التي خفيت فيها آثار النبوة أو ضعفت ساد فيها الجهل والظلم، والكفر والشرك، وعمت فيها المنكرات والقبائح والفواحش.

فالإسلام غذاء للأصحاء، وشفاء للمرضى، وعافية للقلوب، وزينة للجوارح:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85].

والفرق بين النعمة والفتنة، أن على الإنسان أن يفرق بين النعمة التي يرى بها الإحسان واللطف، ويعان بها على تحصيل سعادته الأبدية، وبين النعمة التي يرى به الاستدراج إلى العقوبة والعذاب.

ص: 997

فكم من مستدرج بالنعم وهو لا يشعر، مفتون بثناء الجهال عليه، مغرور بقضاء الله حوائجه، وستره عليه مع معاصيه.

فإذا كملت هذه الثلاثة فيه (النعمة، والثناء عليه، وقضاء حوائجه) عرف حينئذ أن ما كان من نعم الله عليه يجمعه على الله فهو نعمة حقيقة.

وما فرقه عنه، وأخذه منه فهو البلاء في صورة النعمة، والمحنة في صورة المنحة، فليحذر فإنما هو مستدرج كما قال سبحانه:{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)} [الأعراف: 182].

ويميز كذلك بين المنّة والحجة، فإن العبد بين منّة من الله عليه، وحجة منّه عليه، ولا ينفك عنهما.

والحكم الديني متضمن لمنّته وحجته كما قال سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164].

وكل علم صحبه عمل يرضي الله ورسوله فهو منّة، وإلا فهو حجة.

وكل قوة ظاهرة أو باطنة صحبها تنفيذ لأوامره فهي منّة، وإلا فهي حجة سيسأل عنها.

وكل مال، وكل حال، وكل طاقة صحبها تأثير في نصرة دين الله، والدعوة إليه فهو منّة عليه، وإلا فهو حجة سيسأل عنها.

وكل فراغ اقترن به اشتغال بما يريد الرب من عبده فهو منّة عليه، وإلا فهو حجة سيسأل عنه.

وكل قبول في الناس وتعظيم ومحبة له اتصل به خضوع للرب، وذل له وانكسار، ومعرفة بعيب النفس والعمل، وبذل النصيحة للخلق، فهو منّة، وإلا فهو حجة من الله عليه، سيسأل عنه.

وكل موعظة وتذكير بالرب، اتصل به عبرة ومزيد في العقل، ومعرفة الإيمان فهي منّة، وإلا فهي حجة من الله عليه، سيسأل عنها.

ص: 998

ونعم الله على عباده تفوت الحصر، وأعظمها نعمة الإسلام، وما بدلت البشرية هذه النعمة إلا أصابها العقاب الشديد في الدنيا قبل عقاب الآخرة، كما حصل لبني إسرائيل حين بدلوا نعمة الله، وأبوا الطاعة والاستسلام لله، وكانوا دائماً في موقف الشاك المتردد .. ونقضوا العهد والميثاق.

فماذا حصل لهم؟ .. وماذا حل بهم؟.

لقد: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)} [آل عمران: 112].

وأمم من المسلمين اليوم بدلوا نعمة الله، فحل بهم ما حل ببني إسرائيل، فهي تعاني العقاب الشديد، وتتمرغ في الشقوة والنكد، وتعاني القلق والحيرة، ويأكل بعضها بعضاً، ويأكل الفرد منها نفسه وأعصابه، والكل يعيش في حيرة قاتلة لا طمأنينة فيها ولا سلام.

وإن هو إلا عقاب الله لمن حاد عن منهجه ورد دعوته: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)} [البقرة: 211].

ومن سافر بفكره أو ببصره في أحوال العالم الخاصة والعامة استغنى عن تعريف غيره له، وساءه انبطاح الأمة للشياطين والفجار.

وجميع المجتمعات البشرية المحرومة من نعمة الإسلام، مجتمعات بائسة، ولو غرقت في الرغد المادي، خاوية ولو تراكم فيها الإنتاج، قلقة ولو توفرت لها الحريات والأمن والسلام.

وهذه الأمم الكافرة تمضي في الأرض كالبهائم تأكل وتستمتع كما تأكل الأنعام وتستمتع، وقد تنطح وترفس كالبهيمة، أو تفترس وتنهش كالوحش، وتزاول الطغيان والجبروت، والبغي والبطش، وتنشر الفساد، ثم تمضي ملعونة من الله، ملعونة من الناس:{أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)} [آل عمران: 87].

ص: 999

وما أعظم نعم الله علينا، حيث اختار لنا أفضل الأديان، وأفضل الشرائع، وأفضل الكتب، وأفضل الرسل، وجعلنا خير الأمم، وأكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً.

فهل فوق هذا من نعمة؟.

وهل يستطيع أحد أن يكافئ هذه النعم؟.

ومن يستطيع أن يعرف كل نعم الله؟ .. ثم من يستطيع أن يحصيها؟ .. ثم من يستطيع أن يقوم بشكرها؟.

ولكن رحمة الله واسعة، طلب منا القليل وأعطى الكثير، وإنما هو جهد الطاقة في شكر النعمة، ومعرفة المنعم، وإدراك الواجب، ثم القيام بما يستطاع منه، ومعرفة الحرام ثم الحذر منه، وطلب المغفرة عن التجاوز أو التقصير:

{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)} [التغابن: 16].

فما أنكد وما أحمق، وما أضل من يرفض ما رضيه الله له، ويختار لنفسه غير ما اختاره الله له.

وإنها لجريمة كبرى لا تذهب بغير جزاء، ولا يترك صاحبها ناجياً أبداً، وقد رفض ما ارتضاه الله له.

وقد يترك الله الذين لم يعرفوا الإسلام، أو لم يتخذوه ديناً لهم، يرتكبون ما يرتكبون، ويمهلهم إلى حين.

فأما الذين عرفوا هذا الدين، ثم أهملوه أو تركوه أو رفضوه، واتخذوا لأنفسهم مناهج في الحياة غير المنهج الذي ارتضاه الله لهم.

فهؤلاء لن يتركهم الله أبداً، ولن يمهلهم أبداً، حتى يذوقوا وبال أمرهم، وهم مستحقون:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)} [النساء: 137].

والناس في الأرزاق التي قسمها الله لهم متفاوتون، وهم في وقت حصولهم على

ص: 1000

أرزاقهم مختلفون:

فمنهم من يجمع الله له رزقه في أول عمره، ومنهم في وسطه، ومنهم في آخره.

وهم في الحصول عليه متباينون:

فمنهم من يساق إليه عفواً بلا تعب .. ومنهم من يصل إليه بعد جهد وعناء.

وهم في طريقة الحصول عليه مختلفون:

فمنهم من يأخذه عن طريق الحلال حسب أمر ربه وهدى رسوله .. ومنهم من يأخذه عن طريق الحرام كالسرقة والربا والرشوة ونحوها.

ومكان أرزاق العباد مختلف:

فمنهم من يأخذه من تحت قدميه .. ومنهم من فرق الله رزقه في البلاد .. فهو يجمعه من الأمصار والبلدان، في البر والبحر.

وهم كذلك مختلفون في صرف هذه الأرزاق:

فمنهم من يصرفها فيما رضيه الله وأحبه وأمر به .. ومنهم من يبذرها فيما يغضب الله .. ومنهم من يستعين بها على طاعة الله .. ومنهم من يستعين بها على معصية الله.

إن الإسلام أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده، والأموال والأعراض في الإسلام خادمة للعبد لا مخدومة، والإنسان فوقها ينتفع بها، ولا يكون عبداً خاضعاً لها.

والإسلام لا يحقر أعراض الحياة الدنيا ليهجرها الناس ويزهدوا فيها، إنما هو يزنها بوزنها، ليستمتع بها الناس وهم أحرار الإرادة، طلقاء اليد.

مطمحهم أعلى من هذه الأرض، وآفاقهم أسمى من دنيا الأرض، الإيمان عندهم هو النعمة، وتأدية مقتضيات الإيمان هي الهدف، والدنيا بعد ذلك مملوكة لهم، لا سلطان لها عليهم.

فالنعمة الكبرى، والرحمة الواسعة، هي ما جاء من عند الله من موعظة وهدى.

فأما المال، وأما الثراء، وأما النصر ذاته، فذلك كله تابع.

ص: 1001

وإذا حصل للأمة استخدمته في إعلاء كلمة الله ونشر دينه.

فالأرزاق ليست هي التي تحدد مكانة الناس في هذه الأرض، فضلاً عن مكانتهم في الآخرة، بل إنها يمكن أن تصبح من أسباب شقوة البشرية، لا في الآخرة المؤجلة بل في الدنيا المعجلة كما هو مشاهد اليوم.

{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55].

والذين يركزون على جمع الأموال، ويغفلون قيمة الدين، هم حقاً أعداء البشرية، الذين لا يريدون لها أن ترتفع عن مستوى الحيوان، ولا على مطالب الحيوان.

ويهدفون من وراء ذلك إلى القضاء على القيم الإيمانية، وعلى العقيدة التي تعلق قلوب الناس بما هو أرفع من مطالب الحيوان، دون أن تغفل ضروراتهم الأساسية من الطعام والشراب، واللباس والنكاح ونحوها.

وهذا الصياح والصراخ المستمر بكل وسيلة وبكل مكان، وفي كل وقت بتضخيم الأموال والإنتاج المادي، بحيث يطغى الانشغال به على حياة الناس وتفكيرهم ودينهم، ومتطلبات إيمانهم من العمل الصالح، والدعوة والجهاد.

وبحيث يتحول الناس إلى آلات تلهث وراء الدرهم والدينار، وتعدها قيمة الحياة الكبرى، وتنسى في عاصفة الصياح المستمر: الإنتاج .. الإنتاج .. الإنتاج.

تنسى كل القيم الروحية والأخلاقية، وتهمل الشعائر التعبدية، وتدوس هذه القيم كلها في سبيل الإنتاج المادي.

هذا الصياح الذي عمّ وطمّ ليس بريئاً مراداً لذاته، إنما هو خطوة مدبرة محكمة لإقامة أصنام تعبد في الأرض، بدل أصنام الجاهلية الأولى، وتكون لها السيادة العليا على القيم جميعاً.

وعندما يصبح الإنتاج المادي صنماً يكدح الناس من أجله، ويطوفون به صباحاً ومساء، فإن الدين والأخلاق والقيم تداس في سبيله.

ص: 1002

وتنتهك الأعراض والأخلاق والأسر والحريات، وتداس كلها إذا تعارضت مع توفير الإنتاج .. وهذا ما حصل .. ولا يزال يحصل.

فماذا تكون الأرباب والأصنام إن لم تكن هذه البلوى، التي جعلت المال مكان الإيمان، والأشياء مكان الأعمال الصالحة؟.

وخدعت الناس بعمارة الدنيا، وتخريب الآخرة؟.

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)} [لقمان: 33].

إن الأموال نعمة من الله كسائر النعم، ولكنها بدون الدين تجعل الإنسان عبداً لها، وتصبح لعنة يشقى بها الناس، لأنها يومئذ تستخدم في إعلاء القيم الحيوانية والآلية على حساب القيم الإيمانية العليا.

إن اعتراف الإنسان بأن الله هو الخالق الرازق يتبعه قطعاً أن يكون الله هو الرب المعبود، وأن يكون هو الذي يحكم في أمر الناس كله، ومنه أمر هذه الأرزاق التي أعطاها الله البشر، وهي تشمل كل ما يرزقهم من السماء والأرض.

فليس لأحد أن يحلل أو يحرم فذلك حق الله وحده.

وهؤلاء الذين يحللون ويحرمون بما لم يأذن به الله، إنما يعتدون على حق الله وهو أمر التشريع، وهؤلاء ظالمون كافرون، كاذبون، ومن أطاعهم فهو مشرك مثلهم:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)} [يونس: 59].

فالمشروعون اعتدوا على حق الله في الربوبية، وأتباعهم اعتدوا على حق الله في العبودية، وهو تناقض قبيح .. يدمغ الطرفين بالكفر والشرك، وكلاهما مركب إلى النار:{وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)} [يونس: 60].

والله رؤوف بالعباد، وذو فضل على الناس برزقه المادي الذي أودعه في هذه

ص: 1003

الأرض وفي هذا الكون من أجلهم، وأودع فيهم القدرة على معرفة مصادره، وأقدرهم على الاستكثار منه، ومكنهم من الانتفاع به.

والله كذلك ذو فضل على الناس بدينه الذي أنزله هدى ورحمة للناس، ليهدي الناس إلى منهج الحياة السليم القويم:{إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)} [يونس: 60].

فإذا لم يشكروا الله على هذا الرزق، وذلك الرزق، فإنهم يشقون في الدنيا بالهم والتعب، ويشقون في الآخرة بنار الجحيم والسعير.

إن شكر النعمة دليل على استقامة النفس البشرية، فالخير يُشكر، لأن الشكر هو جزاؤه الطبيعي في الفطرة المستقيمة.

والنفس التي تشكر الله على نعمته تراقبه في التصرف بهذه النعمة بلا بطر وبلا استعلاء على الخلق، وبلا استخدام للنعمة في الأذى والشر والفساد.

وهذا كله مما يزكي النفس ويدفعها للعمل الصالح والتصرف الصالح في النعمة بما ينميها، ويبارك فيها كما قال سبحانه:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)} [إبراهيم: 7].

والكفر بنعم الله له صور:

فقد يكون بعدم شكرها .. أو بإنكار أن الله واهبها .. أو نسبتها إلى العلم والخبرة .. أو الكد الشخصي والسعي .. كأن هذ الطاقات ليست نعمة من نعم الله .. وقد يكون بسوء استخدامها بالبطر والكبر على الناس .. وقد يكون باستغلالها للشهوات والفساد .. وكل ذلك كفر بنعمة الله.

والعذاب الشديد الذي يصيب من كفر بالنعمة له صور:

فقد يتضمن حق النعمة عيناً بذهابها .. أو سحق آثارها في الشعور .. فكم من نعمة شقي بها صاحبها وحسد الخالين .. وقد يكون عذاباً مؤجلاً إلى أجله في الدنيا .. أو مؤجلاً في الآخرة .. فهو وإن تأخر فهو واقع .. لأن الكفر بنعمة الله لا يمضي بلا جزاء.

ص: 1004

والله غني عن العباد وعن طاعاتهم، وهم الفقراء إليه.

وصلاح الحياة يتحقق بشكر الناس لربهم، ونفوس الناس تزكو بالاتجاه إلى الله، وتستقيم بشكر الخير، وتطمئن إلى الاتصال بالمنعم، فلا تخشى نفاد النعمة وذهابها، ولا تذهب حسرات وراء ما ينفق أو يضيع منها، فالمنعم موجود، والنعمة بشكره تزكو وتزيد.

وأعظم النعم نعمة الإيمان بالله وتوحيده وعبادته، ولكن النفوس المريضة لا تقبل هذه النعمة ولا تحس بالحاجة إليها، بل قد تشعر أنها تضرها كم قال كفار مكة للرسول صلى الله عليه وسلم:{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)} [القصص: 57].

ألا ما أعجب حال هؤلاء الذين وهبهم الله نعمة الإيمان، الذي هو النور الذي يهتدي به الإنسان إلى السعادة في الدنيا، ويصل به إلى الجنة في الآخرة.

ثم هم يتركون هذا كله .. ويأخذون بدله كفراً .. أولئك هم السادة والقادة من الكبراء .. وبهذا الاستبدال العجيب قادوا قومهم إلى جهنم وأنزلوهم بها، وبئس ما أحلوهم من مستقر:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)} [إبراهيم: 28، 29].

إن عقيدة الإيمان والتوحيد هي النعمة الكبرى على البشرية كلها، وبها يصل إلى كل ذي حق حقه، وهي خطر على سلطان الطواغيت في كل زمان ومكان، يحذرونها ويحاربونها ويتقونها بكل وسيلة، لأنهم لا يسمحون بإعطاء كل ذي حق حقه.

إن الله تبارك وتعالى غني كريم، فتح باب الكون على مصراعيه، تنطق سطوره الهائلة بآيات الله الكبرى، وبنعم الله التي لا تحصى، وتتوإلى صفحاته بألوان هذه النعم على مد البصر، معروضة ومبذولة كل آن:

السموات والأرض .. والشمس والقمر .. والليل والنهار .. الماء النازل من

ص: 1005

السماء .. الثمار النابتة من الأرض .. البحر الذي تجري فيه الفلك .. وتسبح فيه المخلوقات .. والأنهار تجري بالأرزاق .. والجبال خزائن المعادن والذهب والفضة .. والماء الذي ينبع من الأرض .. والبترول الذي يخرج من الأرض.

أرأيت أعظم من هذه الصفحات الكونية المعروضة على الأنظار، والتي تدل على عظمة خالقها وقدرته، وعلمه وحكمته، وكرمه ورحمته؟.

ولكن البشر المنحرفين عن منهج الله لا ينظرون ولا يتدبرون ولا يشكرون.

إن الإنسان لظلوم كفار يبدل نعمة الله كفراً، ويجعل لله أنداداً، وهو سبحانه الخالق الرازق المسخر هذا الكون كله للإنسان:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة: 22].

أفكل هذا مسخر للإنسان؟ .. أفكل هذا الكون الهائل مسخر لذلك المخلوق الصغير؟ .. أفكل هذه النعم موضوعة بين يديه وتحت تصرفه؟.

ثم هو لا يشكر ربه ولا يذكره .. وبعد ذلك يجعل لله أنداداً ليضل عن سبيل الله؟ .. ويحارب ربه ودينه بنعمه؟.

ألا ما أجهل الإنسان .. وما أظلمه .. وما أكفره.

إن المطر والإنبات كلاهما يتبع السنة التي فطر الله الكون عليها، وإنبات حبة واحدة يحتاج إلى القوة المهيمنة على هذا الكون كله، لتسخر أجرامه وظواهره في إنبات هذه الحبة، وإمداها بعوامل الحياة من تربة وماء، وأشعة وهواء.

إن أقل رزق يرزقه الله الكائن الإنساني في هذا الكون يقتضي تحريك أجرام لا يعلمه إلا الله حتى يصل إليه هذا الرزق.

فمتى يدرك الإنسان كيف هو محمول مكفول من ربه؟.

وكيف ربه الغني عن العالمين يحتفي به ويتودد إليه؟.

وكيف يعطيه من كل ما سأل من مال وذرية، وصحة وغنى، وزينة ومتاع؟.

قال الله سبحانه: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا

ص: 1006

تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34].

أفيليق بالإنسان بعد رؤية هذه الآيات العظمى ألا يؤمن بالله؟.

وبعد رؤية هذه النعم الكبرى ألا يشكر ربه؟.

وبعد رؤية هذه، وهذه أن يبدل نعمة الله كفراً؟.

وبعد ذلك كله أيليق به أن يجعل لله نداً يعبده من دون الله؟.

حقاً إن الإنسان ظلوم جهول كفار، خاصة إذا لم يهتدِ بوحي السماء، ولم يؤمن بما جاء به الأنبياء.

إن المؤمن حين ينظر في ملكوت السموات والأرض، ويتأمل ويتدبر ما فيهما من آيات وعجائب، يرتجف فؤاده، ويخشع قلبه، وتخضع جوارحه، ويقف بين يديه ساجداً شاكراً.

إن النموذج الكامل للإنسان الذاكر الشاكر هم المؤمنون:

وأفضل المؤمنين الأنبياء والرسل .. وأفضل الأنبياء والرسل أولو العزم (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد) صلوات الله وسلامه عليهم .. وأفضل هؤلاء الخليلان: إبراهيم أبو الأنبياء، ومحمد سيد الأنبياء، وأفضل الخليلين محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان أحسن الناس خَلقاً وخُلُقاً، وكان خلقه القرآن، وقد مدحه ربه بقوله:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4].

فهل لنا بهم من أسوة؟ .. وهل لنا بهم من قدوة؟:

{أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)} [الأنعام: 89، 90].

وقال الله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21].

إن الكفر بنعم الله وجحدها، واستعمالها في معصيته، جريمة تستحق العقوبة كما قال سبحانه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا

ص: 1007

رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)} [النحل: 112].

فالغنى يولد الطغيان والاستكبار، والطغيان يولد الإسراف والظلم، والإسراف يسوق الإنسان إلى التبذير، والتبذير دليل على الترف .. والترف يولد الجريمة .. وبعد الجريمة تنزل العقوبة.

والترف يفسد الفطرة، ويغلظ المشاعر، ويسد المنافذ، ويفقد القلوب الحساسية المرهفة التي تتلقى وتتأثر وتستجيب.

ومن هنا يحارب الإسلام الترف، ويقيم نظامه على أساس لا يسمح للمترفين بالوجود في الجماعة المسلمة.

لأن الترف كالعفن يفسد ما حوله، حتى لنيخر فيه السوس، ويسبح فيه الدود.

فأين مصير المترفين الذين اشتغلوا به عن الإيمان بالله وطاعته وعبادته؟.

وأين هي دارهم؟: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45)} [الواقعة: 41 - 45].

والمترفون أشد الناس استغراقاً في المتاع والانحراف والذهول عن المصير، فهاهم يستيقظون على الكارثة الباغتة المفاجئة:{حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)} [المؤمنون: 64 - 67].

والله عز وجل يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.

ومسألة بسط الرزق وقبضه ليست دليلاً على غضب الله ورضاه، فهذه مسألة، وهذه مسألة أخرى، ولا علاقة بينهما:{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)} [سبأ: 35، 36].

فقد يغدق الله على أهل الشر استدراجاً لهم ليزدادوا إثماً وبطراً وسوءاً، ويتضاعف رصيدهم من الإثم والجريمة عقوبة على معاصيهم:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: 55، 56].

وقد يحرمهم فيزدادوا شراً وفسوقاً، وجريمةً وجزعاً، وضيقاً ويأساً من رحمة الله، فيتضاعف رصيدهم من الشر والضلال.

فالله سبحانه حكيم خبير بصير بعباده.

قد يغدق الله على أهل الشر استدراجاَ لهم، ليزدادوا إثماً وبطراً وسوءاً، ويتضاعف رصيدهم من الإثم والجريمة، عقوبة على معاصيهم كما قال سبحانه: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا

ص: 1008

نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: 56. 55].

وقد يحرمهم فيزدادوا شراً وفسوقاً، وجريمة وجزعاً، وضيقاً ويأساً من رحمة الله، فيتضاعف رصيدهم من الشر والضلال.

فالله سبحانه حكيم رحيم، خبير بصير بعباده.

وقد يغدق الله على أهل الخير ليمكنهم من أعمال صالحة كثيرة، وما كانوا بالغيها لو لم يبسط لهم في الرزق، وليشكروا نعمة الله عليهم بالقلب واللسان والفعل الجميل، ويدخرون بهذا كله رصيداً من الحسنات.

وقد يحرمهم فيبلون صبرهم على الحرمان، وثقتهم بربهم، ورجائهم فيه، واطمئنانهم إلى قدره، ورضاهم بربهم وحده، وهو خير وأبقى، وينتهون بهذا إلى مضاعفة رصيدهم من الخير والرضوان.

وبهذا نعلم أن الله قد يغدق الرزق على من هو عليه غاضب .. كما يغدقه على من هو عليه راضٍ .. وقد يضيق الله على أهل الشر .. كما يضيق على أهل الخير.

فمن وهبه الله مالاً وولداً فأحسن فيهما التصرف ضاعف الله له الثواب جزاء ما أحسن في نعمة الله، وليست الأموال والأولاد بذاتها هي التي تقربهم من الله، ولكن تصرفهم في الأموال والأولاد وفق أمر الله هو الذي يضاعف لهم الجزاء:{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)} [سبأ: 37].

ص: 1009

إن الناس في حاجة إلى تذكيرهم في معرض دعوتهم إلى الهدى بأنهم هم الفقراء المحاويج إلى الله، وأن الله غني عنهم كل الغنى، وأنهم حين يدعون إلى الإيمان بالله وعبادته وحمده على آلائه فإن الله غني عن عبادتهم وحمدهم:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15].

فهو سبحانه الغني الحميد، المحمود لذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.

ولا بد من تذكيرهم بعظمة ربهم وقدرته، وأنهم لا يعجزون الله ولا يعزون عليه، فهو إن شاء أن يذهب بهم ويأتي بخلق جديد من جنسهم أو من جنس آخر يخلفهم في الأرض، فإن ذلك عليه يسير:{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)} [النساء: 133].

والناس جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها، الأغنياء والفقراء، العامة والخاصة، السادة والعبيد، كلهم بحاجة أن يذكروا بهذه الحقيقة، لئلا يركبهم الغرور وهم يرون أن الله عز وجل يعني بهم، ويرسل إليهم الرسل، ويجاهد الرسل أن يردوهم عن الضلالة إلى الهدى، ويخرجوهم من الظلمات إلى النور، فيركبهم الغرور، فيظنون أنهم شيء عظيم عند الله، وأن هداهم وعبادتهم تزيد شيئاً في ملك الله تعالى وهو الغني الحميد.

إن الله جل جلاله إنما يعامل عباده هكذا رحمة منه وفضلاً، وكرماً ومناً، لأن هذه صفاته المتعلقة بذاته، لا لأن هؤلاء العباد يزيدون في ملكه شيئاً بهداهم، أو ينقصون من ملكه شيئاً بعماهم، ولا لأن هؤلاء العباد مخلوقات نادرة، عزيزة صعبة الإعادة أو الاستبدال، فيغتفر لهم ما يقع منهم، لأنهم صنف لا يعاد ولا يستبدل.

وإن الله بالناس لرؤوف رحيم، يمنح العباد من رعايته، ويفيض عليهم من رحمته، ويغمرهم بسابغ فضله، بتسخير ما في السموات والأرض لهم، وإرسال رسله إليهم، وإنزال كتبه عليهم، واحتمال رسله ما يحتملون من إيذائهم وإعراضهم والسخرية منهم، وهم يعفون عنهم، ويصبرون على أذاهم.

ص: 1010

إن الإنسان ليحار ويدهش في فضل الله ومنّه وكرمه حين يرى هذا الإنسان الصغير الضئيل، الجاهل القاصر .. الضعيف العاجز، ينال من كرامة الله وعنايته ورعايته كل هذا القدر الهائل.

وإلإنسان ساكن صغير من سكان هذه الأرض السابحة في الفضاء، والسماء والأرض مملوءة بمخلوقات لا يحصيها إلا الله، ثم ينال الإنسان من الله كل هذه الرعاية والعناية كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء: 70].

فكم فضل الله وإحسانه إلى العباد، خلق الله الإنسان، واستخلفه في الأرض ووهبه كل أدوات الخلافة، سواء كان في تكوينه وتركيبه، أو تسخير القوى والطاقات الكونية الملازمة له في خلافته، ويظل هذا المخلوق يتبجح حتى ليشرك بربه أو ينكره.

فيرسل الله إليه الرسل رسولاً بعد رسول، وينزل على الرسل الكتب والآيات والمعجزات، ويخبرهم عن ذوات أنفسهم، وعمن سبقهم، ويسوقهم إلى ما ينفعهم، ويحذرهم مما يضرهم، كل ذلك من أجل هذا الإنسان.

والناس خلقاء أن يدركوا هذه الحقيقة، ليدركوا مدى فضل الله ورعايته ورحمته، وليستحيوا أن يقابلوا فضل الله الخالص، ورعايته المجردة، ورحمته الفائضة بالإعراض والجحود والإنكار.

وكتاب الله سبحانه يلمس بمثل هذه الحقائق الكبرى قلوب البشر، لأن الحقيقة حين تجلى أفعل في النفس، ولأنه هو الحق، وبالحق نزل، فلا يتحدث إلا بالحق، ولا يقنع إلا بالحق، ولا يعرض إلا الحق، ولا يشير ويوصي بغير الحق.

فما أحوجنا إلى تدبر القرآن بنور الإيمان: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29].

والله عز وجل لطيف بعباده يرزق من يشاء، يرزق الصالح والطالح، والمؤمن

ص: 1011

والكافر، وهوالغني المالك لذلك، القادر عليه:{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)} [الشورى: 19].

والبشر أعجز من أن يرزقوا أنفسهم شيئاً، وقد وهبهم الله الحياة، وكفل لهم أسبابها الأولية، ولو منع الله رزقه عن الكافر والفاسق ما استطاعوا أن يرزقوا أنفسهم، ولماتوا جوعاً وعطشاً وعرياً، وعجزاً عن أسباب الحياة الأولى، ولما تحققت الحكمة من إحيائهم وإعطائهم الفرصة ليعملوا في الحياة الدنيا ما يحسب لهم في الآخرة أو عليهم.

ومن ثم أخرج سبحانه الرزق من دائرة الصلاح والطلاح، والإيمان والكفر، وعلقه بأسبابه الموصولة بأوضاع الحياة العامة، واستعداد الأفراد، وجعله فتنةً وابتلاءً يجزي عليهما الناس يوم الجزاء.

ثم جعل سبحانه الدنيا حرثاً والآخرة حرثاً يختار المرء منهما ما يشاء: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)} [الشورى: 20].

فمن كان يريد حرث الآخرة عمل فيه، وزاد الله له في حرثه، وبارك له في عمله، وكان له مع حرث الآخرة رزقه المكتوب له في هذه الأرض لا يحرم منه شيئاً ولا مثقال ذرة.

ومن كان يريد حرث الدنيا أعطاه الله من عرض الدنيا رزقه المكتوب له، لا يحرم منه شيئاً، لكن ليس له في الآخرة نصيب، فهو لم يعمل في حرث الآخرة شيئاً ينتظر عليه ذلك النصيب.

وما أحمق الذين يريدون حرث الدنيا فقط، فالله بفضله يمد هؤلاء وهؤلاء، ولكل إنسان نصيبه من حرث الدنيا وفق المقدور له في علم الله، ثم يبقى حرث الآخرة خالصاً لمن أراده وعمل فيه.

وأرزاق العباد كلها في السماء، ومكان الاستلام في الأرض كما قال سبحانه:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} [الذاريات: 22].

ص: 1012

إن أسباب الرزق الظاهرة قائمة في الأرض حيث يكد فيها الإنسان ويكدح، وينتظر من ورائها الرزق والنصيب.

ولكن القرآن يرد بصر الإنسان، ونفسه إلى السماء، إلى الغيب، إلى الله، ليتطلع هناك إلى الرزق المقسوم، والخط المرسوم.

أما الأرض وما فيها من أسباب الرزق الظاهرة فهي آيات للموقنين، آيات ترد القلب إلى الله، ليتطلع إلى الرزق من فضله، ويتخلص من أثقال الأرض، وأوهاق الحرص، والأسباب الظاهرة للرزق، فلا يدعها تحول بينه وبين التطلع إلى المصدر الأول الذي أنشأ هذه الأسباب.

والقلب المؤمن بربه يدرك هذه اللفتة، ويعرف أن المقصود بها ليس هو إهمال الأرض وأسبابها، فهو مكلف بالخلافة فيها وتعميرها، إنما المقصود هو ألا يعلق نفسها بها، وألا يغفل عن الله في عمارتها.

ليعمل في الأرض وهو يتطلع إلى السماء، وليأخذ بالأسباب وهو يستيقن أنها ليست هي التي ترزقه، فرزقه مقدر في السماء، وما وعد الله لا بد أن يكون في مكانه وزمانه ومقداره.

وبذلك ينطلق قلبه من أسار الأسباب الظاهرة في الأرض، ويراها آيات تدله على خالق الأسباب، ويعيش قلبه موصولاً بالسماء، وقدماه على الأرض، والإيمان هو الوسيلة التي تجعل الإنسان مفضلاً على العالمين.

وإذا استقام الناس على الدين، أفاض الله عليهم الرزق والرخاء، وابتلاهم به، لينظر أيشركون أم يكفرون.

فإذا آمنوا واتقوا فتحت عليهم بركات السماء والأرض، وتدفقت عليهم الأرزاق.

وإذا حادوا عن الطريق استلبت منهم الخيرات، وما يزالون في نكد، وفي شظف حتى يعودوا إلى الله:{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)} [الجن، 16، 17].

ص: 1013

وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].

وإذا كانت هناك أمم لا تستقيم على دين الله ثم تنال الوفر والغنى، فإنها تعذب بآفات أخرى في إنسانيتها أو أمنها، أو قيمة الإنسان وكرامته فيها، تسلب عن ذلك الغنى والوفر معنى الرخاء والطمأنينة، وتحيل الحياة إلى تعاسة وتردٍ في الأخلاق.

والرخاء كالشدة ابتلاء من الله للعباد وفتنة كما قال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35].

والصبر على الرخاء، والقيام بواجب الشكر عليه، والإحسان فيه، أشق على النفس من الصبر على الشدة.

فكثيرون يصبرون على الشدة ويتماسكون لها، بحكم ما تثيره في النفس من تجمع ويقظة، ومن ذكر لله والتجاء إليه، واستعانة به، حين تسقط الأسناد في الشدة، فلا يبقى إلا ستره وعونه.

فأما الرخاء فيلهي وينسي ويطغي، ويرخي الأعضاء، ويقيم عناصر المقاومة في النفس، ويهيئ الفرصة للغرور بالنعمة، والاستنامة للشيطان، والكبر والطغيان:{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6، 7].

والله سبحانه الذي أعطى النعم للإنسان قادر على أخذها.

ولذلك فأول الأشياء في بقاء النعم:

نسبة الفضل إلى الله في حصولها للعبد .. وشكر الله عليها .. واستعمالها في طاعته .. وأداء حق الله فيها من الزكاة .. وإخراج حق من أوصى الله بهم من الفقراء والمساكين .. وذلك الذي يحفظها ويزيدها بركةً ونماءً.

فإن أنكر الإنسان قدرة الله في حصول النعمة ونسبها إلى نفسه، عاقبه الله بتلفها وزوالها كما حصل لقارون، حيث خسف الله به وبداره الأرض.

وإن منع حق الفقراء والمساكين منه، عاقبه الله كذلك بزوالها، وانتقم لحق

ص: 1014

الفقراء منه.

وقد تكفل بأرزاق الخلائق كلها كما قال سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6].

وليس المقصود هنا أن هناك رزقاً فردياً مقدراً لا يأتي بالسعي ولا يتأخر بالقعود، ولا يضيع بالسلبية والكسل.

وإلا فأين الأخذ بالأسباب التي أمر الله بالأخذ بها؟.

إن لكل مخلوق رزقاً علم الله كميته ونوعيته، وحدد زمانه ومكانه، وهذا الرزق مذخور في هذا الكون، مقدر من الله في سننه التي ترتب الإنتاج على الجهد، فلا يقعدن أحد عن السعي وابتغاء فضل الله، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة.

ولكن السماء والأرض تزخران بالأرزاق الكافية لجميع المخلوقات، حين تطلبها هذه المخلوقات حسب سنة الله التي لا تحابي أحداً، ولا تتخلف أو تحيد.

إنما هو كسب طيب .. وكسب خبث .. وكلاهما يحصل من عمل وجهد.

فالأول له ثواب .. والثاني عليه عقاب.

إن الإسلام نعمة الله الكبرى على البشرية فهل من يأخذها، ويشكر المنعم بها، ويتقرب إلى الله بها، ويمشي بها في الناس؟.

والإنسان مغمور بنعم الله السابغة الوافرة التي لا يدرك مداها، ولا يحيط بقدرها ولا يحصي أنماطها، فهل ذكرته بربه؟، وهل جعلها عوناً له على طاعته؟، وهل دفعته إلى إخلاص العبادة للمنعم الشاكر؟.

{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء: 147].

واستمرار النعم تترى على العباد مع معاصيهم دليل على أن المنعم غفور رحيم، ومن رحمته أنه لا يعطي النعمة للشاكرين وحدهم، أو للمؤمنين

ص: 1015

وحدهم، بل غمر بها المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، والبر والفاجر.

ومن رحمته أنه لا يحرم من يعصيه من نعمه، ولو لم يكن الله رحماناً رحيماً لمنع نعمه عمن عصاه، ولو لم يكن الله عفواً غفوراً لمنع نعمه عمن كفر به، ونعم الله لا تعد ولا تحصى، وخزائنه مملوءة بكل نعمة، وهي لا تنقص ولا تفنى.

والله سبحانه تارةً يعرض نعمه الواسعة على الخلق، ثم يعرض بعد ذلك ما فعل الإنسان بهذه النعم كما قال سبحانه:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34].

وتارةً يذكر نعمه على الخلق، ثم يذكر عموم مغفرته ورحمته لمن أطاعه وعصاه كما قال سبحانه:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} [النحل: 18].

ولولا رحمة الله، ولولا عفو الله، ولولا مغفرة الله ما بقيت لنا نعمة.

والله حكيم عليم غني كريم، فقبل أن ينزل الإنسان إلى الأرض خلق الله له النعم، وهيأ له ظروف الحياة، وقسم لكل إنسان رزقه، سواء كان مؤمناً أو كافراً، فالنعمة سبقت المنعم عليه.

فالله خلق الإنسان فوجد الكون مهيأ له من ربه.

الشمس تدفئه وتعطيه الحياة .. والأرض تطعمه وتعطيه الثمر .. والمطر ينزل عليه فيسقيه .. والهواء موجود أينما كان لتنفسه بسهولة .. والنهار مسخر له ليعمل وينتج .. والليل لينام ويستريح.

فكل هذه الأشياء خلقها الله ليجدها الإنسان في الكون في خدمته قد سبقته: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20].

وقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا

ص: 1016

يَشْكُرُونَ (73)} [يس: 71 - 73].

والنعم التي أنعم الله بها على الخلق، والمصائب التي تصيب الخلق، كلها قد كتبت في اللوح المحفوظ صغيرها وكبيرها، وهذا أمر عظيم لا تحيط به العقول، بل تذهل منه أفئدة أولي الألباب، ولكنه على الله يسير:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)} [الحديد: 22].

وقد أخبر الله عباده بذلك لأجل ألا يأسوا على ما فاتهم، مما طمحت له أنفسهم وتشوفوا إليه، لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، فلا بد من وقوعه، فلا سبيل إلى دفعه.

ولا يفرحوا بما آتاهم الله فرح بطر وأشر، لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم وقوتهم، وإنما أدركوه بفضل الله ومنه، فيشتغلوا بذكر وشكر من أولى النعم، ودفع النقم:{لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} [الحديد: 23].

وجميع المصائب في النفس والمال، والأهل والأولاد، والأحباب ونحوهم، كل ذلك كائن بقضاء الله وقدره، وقد سبق بذلك علم الله تعالى، وجرى به قلمه، ونفذت به مشيئته، واقتضته حكمته.

والشأن كل الشأن هل يقوم العبد بالوظيفة التي عليه في هذا المقام، أم لا يقوم بها؟.

فإن قام بها فله الثواب الجزيل والأجر الجميل في الدنيا والآخرة، فإذا آمن أنها من عند الله فرضى بذلك وسلم لأمر الله، هدى الله قلبه فاطمأن ولم ينزعج عند المصائب، وصبر على قضاء الله، حصل له بذلك ثواب عاجل مع ما يدخر الله له يوم الجزاء من الثواب كما قال سبحانه:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)} [التغابن: 11].

ومن لم يؤمن بالله عند ورود المصائب، فلم يلحظ قضاء الله وقدره، بل وقف مع

ص: 1017

مجرد الأسباب، فإن الله يخذله ويكله إلى نفسه، والنفس ليس عندها إلا الجزع والهلع الذي هو عقوبة عاجلة على العبد قبل عقوبة الآخرة.

والله تبارك وتعالى لا بد أن يبتلي عباده بالمصائب والمحن ليتبين الصادق من الكاذب، والجازع من الصابر، والمؤمن من المنافق.

وهذه سنة الله في عباده، لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان لحصل الاختلاط الذي هو فساد، وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر، وهذه فائدة المحن، لا إزالة ما مع المؤمنين من الإيمان، ولا ردهم عن دينهم، فما كان الله ليضيع إيمان المؤمنين.

والله سبحانه يبتلى عباده حسب إيمانهم بأنواع المصائب، ويبتليهم بشيء يسير من الخوف والجوع، ونقص الأموال والأنفس والثمرات، لأنه سبحانه لو ابتلاهم بالخوف كله أو ذهاب الأموال كلها، أو الثمرات كلها ونحو ذلك لهلكوا، والمحن تمحص لا تهلك.

وهذه الأمور لا بد أن تقع، لأن الله أخبر بها، وقد وقعت وما زالت تقع كما أخبر الله.

فإذا وقعت تلك المصائب انقسم الناس قسمين:

قسم صابرون .. وقسم جازعون.

فالجازع حصلت له المصيبتان، فوات المحبوب وهو وجود هذه المصيبة، وفوات ما هو أعظم منها وهو الأجر الذي يناله بالصبر عليها، ففاز بالخسارة والحرمان، ونقص ما معه من الإيمان، وفاته الصبر والرضا والشكر، وحصل له السخط الدال على نقص الإيمان.

وأما من وفقه الله للصبر عند وجود هذه المصائب فحبس نفسه عن التسخط قولاً وفعلاً، واحتسب أجرها عند الله، وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظ من المصيبة التي حصلت له، فإن المصيبة تكون نعمة في حقه، لأنها صارت طريقاً لحصول ما هو خير له وأنفع منها، فقد امتثل أمر الله فيها، وفاز بالثواب

ص: 1018

الجزيل، والأجر بغير حساب كما قال سبحانه:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر: 10].

وهؤلاء الصابرون إذا أصابتهم مصيبة مما يؤلم القلب أو البدن أو كليهما يعلمون أنهم مملوكون لله، مدبرون تحت أمره، وليس لهم من أنفسهم شيء. فإذا تصرف فيهم أرحم الراحمين بشيء، فإنما يتصرف بمماليكه ومخلوقاته، فلا اعتراض عليه، والله أرحم بالعبد من نفسه، فينبغي للعبد الرضا عنه، والشكر له فيما قدر وفعل.

وكل عبد راجع إلى ربه، فإن صبر واحتسب وجد أجره موفراً عنده، وإن جزع وسخط لم يكن حظه إلا السخط وفوات الأجر.

فكون العبد يعلم أنه لله، وكونه راجعاً إليه، من أقوى أسباب الصبر.

وجزاء هؤلاء الصابرين صلوات من ربهم ورحمة وهداية كما قال سبحانه في جميع ما سبق: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157].

فعلى العباد توطين نفوسهم على المصائب قبل وقوعها .. لتخف وتسهل إذا وقعت .. وعليهم معرفة ما تقابل به إذا وقعت وهو الصبر .. ومعرفة ما يعين على الصبر من إدراك العبد أنه لله، وإليه راجع .. ومعرفة ما للصابر من الأجر .. وهو أنه يعطى من الأجر بغير حساب .. ويصلي الله عليه ويرحمه ويرزقه الهداية .. سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً.

وما يصيب العباد من الخير والشر، ومن الحسنات والسيئات، كله بقضاء الله وقدره، فكل حصب وكثرة مال، فهو من عند الله، وكل جدب وقحط وهلاك أموال، فهو من عند الله كما قال سبحانه:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)} [النساء: 78].

ص: 1019

وما أصاب الإنسان من الحسنات كالرخاء والخصب، والصحة والسلامة، فمن الله وبفضله ورحمته.

وما أصاب الإنسان من الجهد والبلاء والشدة فهو من الله أيضاً، ولكنه بسبب من نفس الإنسان، بذنب أتاه فعوقب عليه كما قال سبحانه:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)} [النساء: 79].

وما أصاب العباد من مصيبة في أبدانهم وأموالهم وأولادهم، وفيما يحبون ويكون عزيزاً عليهم إلا بسبب ما قدمته أيديهم من السيئات، وما يعفو الله عنه أكثر، فإن الله لا يظلم العباد، ولكن العباد أنفسهم يظلمون:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)} [الشورى: 30، 31].

وما أصاب المسلمين من المصائب فقد قدره الله وأجراه في اللوح المحفوظ، فعليهم الرضا بقضائه وقدره، والتوكل عليه وحده في جلب ما ينفعهم، ودفع ما يضرهم كما قال الله سبحانه:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)} [التوبة: 51].

وللذنوب عقوبات عاجلة وآجلة:

ومن أعظم العقوبات أن يبتلى العبد، ويزين له ترك اتباع الرسول وذلك لفسقه، فمن تولى عن اتباع الحق فتلك عقوبة له على فسقه كما قال سبحانه:{وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)} [المائدة: 49].

والناس حال المصيبة على أربع مراتب:

الأولى: التسخط، وهو إما أن يكون بالقلب، كأن يسخط على ربه، ويضجر مما قدر الله عليه، أو يكون باللسان كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك، أو يكون بالجوارح كلطم الخدود، وشق الجيوب ونحوها.

الثانية: الصبر، فيرى أن المصيبة ثقيلة عليه ويكرهها، لكنه يتحمل ذلك ويصبر،

ص: 1020

ويحميه إيمانه بالله من التسخط.

الثالثة: الرضا، وهو أعلى من ذلك، وهو أن يكون الأمران عنده سواء، إن أصيب بنعمة أو أصيب بضدها.

فالكل عنده سواء، لتمام رضاه بربه سبحانه وتعالى.

الرابعة: الشكر، وهو أعلى المراتب، وذلك أن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة، فيكون من عباد الله الشاكرين، فإنه إذا عرف أن هذه المصيبة سبب لتكفير سيئاته، أو رفعة درجاته، أو زيادة حسناته، شكر الله على ذلك.

فللإنسان عند المصائب أربعة مقامات وأربعة أحكام:

الأول: الجزع .. وهو محرم.

الثاني: الصبر .. وهو واجب.

الثالث: الرضا .. وهو مستحب.

الرابع: الشكر .. وهو أحسن وأفضل وأكمل، فإن المصيبة يترتب عليها أجر عظيم وتلك نعمة، وكل نعمة لا بد لها من الشكر، والإنسان إذا لم يأت بخطيئة، وأصابته مصيبة فنقول له: إن هذا من باب امتحان الإنسان على الصبر، ورفع درجاته باحتساب الأجر، وهذه المصيبة لا تلاقي ذنباً تكفره، لكنها تلاقي قلباً تمحصه، ليصل المرء بصبره إلى أعلى درجات الصابرين.

وفي كل مصيبة وفي كل بلاء خمس فوائد، ينبغي للعبد أن يشكر الله عليها:

الأولى: أن كل مصيبة مهما كانت فالله قادر أن يجعلها أعظم، فليشكر الله إذ لم تكن أعظم، فمن ذهب بعض ماله فليحمد الله أنه لم يذهب كل ماله.

الثانية: أن المصيبة كانت في الدنيا أو النفس، ولم تكن في الدين.

الثالثة: أنها عجلت في الدنيا، ومصائب الدنيا يتسلى عنها فتخف، ومصيبة الآخرة دائمة لاذعة وقاسية.

الرابعة: أن هذه المصيبة مكتوبة عليه في أم الكتاب، ولم يكن بد من وصولها إليه، فقد وصلت واسترا ح منها، فهي نعمة، فليرض بذلك ويشكر الله عليها،

ص: 1021

لينال أجر ذلك.

الخامسة: أن ثواب المصيبة أكثر منها كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر: 10].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ، وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أذًى وَلا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلا كَفَّرَ الله بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» متفق عليه (1).

وللعبد فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه مشاهد:

الأول: مشهد القدر، وأن ما جرى عليه بمشيئة الله وقدره، لا يمكن دفعه، فيراه كالتأذي بالحر والبرد، والمرض والألم، وانقطاع الأمطار.

فإن الكل أوجبته مشيئة الله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

الثاني: مشهد الصبر، فيشهده ويشهد وجوبه، وحسن عاقبته، وجزاء أهله، وما يترتب عليه من الغبطة والسرور، ويخلصه من ندامة المقابلة والانتقام، فما انتقم أحد لنفسه قط إلا أعقبه الله ذلك ندامة.

الثالث: مشهد العفو والصفح والحلم، فإن ذلك يورث من الحلاوة والطمأنينة والسكينة ما ليس في الانتقام، ومن عفا وصفح عمن أساء إليه غفر الله له.

الرابع: مشهد الرضا، وهو فوق مشهد العفو والصفح، وهذا لا يكون إلا للنفوس المطمئنة، خاصة إن كان ما أصيب به سببه القيام لله.

وهذا شأن كل محب صادق، يرضى بما يناله في رضى محبوبه من المكاره، ومتى تسخط وتشكى منه، كان ذلك دليلاً على كذبه في محبته.

الخامس: مشهد الإحسان، وهو أرفع مما قبله، وهو أن يقابل إساءة المسيء إليه بالإحسان، فيحسن إليه كما أساء هو إليه.

ويهون هذا عليه علمه بأنه قد ربح عليه، وأنه قد أهدى إليه حسناته، فينبغي لك أن تشكره وتحسن إليه بما لا نسبة له إلى ما أحسن به إليك، فهذا المسكين قد

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5641) واللفظ له، ومسلم برقم (2573).

ص: 1022

وهبك حسناته، فإن كنت من أهل الكرم فأثبه عليها.

ويهونه عليك أيضاً علمك بأن الجزاء من جنس العمل، فإذا عفوت عمن أساء إليك فهكذا يفعل معك المحسن العزيز القادر بك في إساءتك، يقابلها بما قابلت به إساءة عبده إليك.

السادس: مشهد السلامة وبرد القلب، وهذا مشهد شريف لمن عرفه، وذاق حلاوته، وهو أن لا يشغل قلبه وسره بما ناله من الأذى، وطلب الثأر، وشفاء نفسه.

بل يفرغ نفسه من ذلك، ويرى أن سلامته من ذلك أنفع له، وأطيب وألذ، فإن القلب إذا اشتغل بشيء، فاته ما هو أهم عنده منه فيكون مغبوناً.

السابع: مشهد الأمن، فإذا ترك الإنسان المقابلة والانتقام، أمن ما هو شر من ذلك، وإذا انتقم واقعه الخوف ولا بد، فإن ذلك يزرع العداوة، فإذا غفر ولم ينتقم أمن من تولد العداوة وزيادتها، وعفوه وحلمه، يكسر عنه شوكة عدوه، ويكف من جزعه.

الثامن: مشهد الجهاد، وهو أن يشهد تولد أذى الناس له، من جهاده في سبيل الله، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وصاحب هذا المقام قد اشترى الله منه نفسه وماله وعرضه بأعظم الثمن وهو الجنة.

فإذا أراد أن يسلم إليه الثمن فليسلم هو السلعة، ليستحق ثمنها، فلا حق له على من آذاها، فإنه قد وجب أجره على الله، والله يتولى الدفاع عنها.

فمن قام لله، حتى أوذي في الله حرم عليه الانتقام كما قال لقمان لابنه:{يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)} [لقمان: 17].

التاسع: مشهد النعمة، وهو أن يشهد نعمة الله عليه في أن جعله مظلوماً يترقب النصر، ولم يجعله ظالماً يترقب المقت والأخذ.

ويشهد نعمة الله عليه في التكفير بذلك من خطاياه، فإنه ما أصاب المؤمن من

ص: 1023

هم ولا غم ولا أذى إلا كفر الله به من خطاياه.

وأذى الخلق كلهم لك كالدواء الكريه من الطبيب المشفق عليك، فلا تنظر إلى مرارة الدواء وكراهته، ومن كان على يديه.

وانظر إلى شفقة الطبيب الذي ركبه لك، وبعثه إليك على يدي من نفعك بمضرته، فلله در هذه الأنفس الزكية التي وصلت إلى هذا الشعور.

ويشهد كون تلك البلية أهون وأسهل من غيرها، فإنه ما من محنة إلا وفوقها ما هو أقوى منها وأمر، وسلامة الإسلام والتوحيد أهم من سلامة البدن والمال.

ويشهد كذلك توفية أجر المصائب وثوابها يوم الفقر والفاقة.

والعاقل يعد هذا ذخراً ليوم الفقر والفاقة، ولا يبطله بالانتقام الذي لا يجدي عليه شيئاً.

العاشر: مشهد الأسوة الحسنة، وهو مشهد شريف جداً، فإن العاقل اللبيب يرضى أن يكون له أسوة حسنة برسل الله وأنبيائه وأوليائه، وخاصته من خلقه، فإنهم أشد الخلق بلاء، وأشد الخلق ابتلاء بالناس.

وأذى الناس لهم سريع ومتنوع، وكثير ومستمر، خاصة سيد البشر صلى الله عليه وسلم الذي عودي وأوذي، وأخرج وكذب، فما انتقم لنفسه، وإنما أمره الله بالصبر الجميل، والصفح الجميل كما قال سبحانه:{وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)} [الحجر: 85].

الحادي عشر: مشهد التوحيد.

وهو أجل المشاهد وأرفعها، فإذا امتلأ قلبه بمحبة الله والإخلاص له، وحسن معاملته، وإيثار مرضاته، والتقرب إليه، وقرة العين به، واطمأن إليه، وسكن إليه، وفوض إليه أموره كلها، ورضي به، وتوكل عليه، وخافه ورجاه، فإنه لا يبقى في قلبه متسع لشهود أذى الناس له البتة، فضلاً عن أن يشتغل قلبه وفكره بطلب الانتقام والمقابلة.

ومن امتلأ قلبه بأعلى الأغذية وأشرفها، فإنه لا يلتفت إلى ما دونها: {ذَلِكَ

ص: 1024

فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4].

إن نعم الله على عباده لا يمكن ان يحصيها أحد، وهي نعم لا يمكن لأحد أن يحيط بها كما قال سبحانه:{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34].

إن الشمس التي تشرق كل صباح هي نعمة من نعم الله التي سخرها لعباده، وهي تشرق كل يوم بإذن ربها وأمره، لتذكر الإنسان بنعمة الله عليه، وتسخيرها له، وكذلك القمر، وكذلك النجوم، وكذلك الأرض، وكل ما تعطي من عطاء للبشر من ماء ونبات، وحجر ومعدن وغاز.

وكذلك الأنعام التي تدر الألبان.

والإبل والخيل التي يركبها الإنسان، كلها مذللة ومسخرة للإنسان ومنقادة له.

وهذه الطاعة ليست للبشر، ولكن لأمر الله في التسخير للبشر، فالجمل أو الحصان لا يخضع للطفل الصغير خوفاً منه، ولا عن عدم قدرة، ولكنه يخضع له، لأن الله أمره أن يخضع له.

وحتى يذكرنا الله بهذه النعمة، خلق الله بعض الحيوانات ولم يجعلها مذللة له، بل تركها غير مسخرة له، كالسباع والأسود والثعابين، ونحوها مما يخاف الناس منه.

وهذه الحيوانات ظلت وستظل لا تخضع لبشر، فهو سبحانه وحده الذي سخر ما شاء من خلقه لبعض خلقه، فهي مطيعة في كل زمان ومكان لأمر ربها في هذا التسخير:{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20].

والله عز وجل غفور كريم رحيم، يفرح بتوبة العبد إذا تاب إليه أعظم فرح وأكمله، ويكفر عنه ذنوبه، ويوجب له محبته بالتوبة، وهو الذي ألهمه إياها، ووفقه لها، وأعانه عليها.

ص: 1025

وملأ سبحانه سماواته من ملائكته، واستعملهم في تسبيحه وتقديسه، والاستغفار للمؤمنين في الأرض، واستعمل حملة العرش منهم في الدعاء لعباده المؤمنين، والاستغفار لذنوبهم، وطلب وقايتهم من عذاب الجحيم، والشفاعة إليه بإذنه أن يدخلهم جناته:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)} [غافر: 7 - 9].

فما أعظم هذه العناية من الرب جل جلاله .. وما أجمل هذا الإحسان .. وما أعظم نعمه على عباده .. وما أعظم هذه الرحمة .. وهذا التحنن والعطف والتحبب إلى العباد .. واللطف التام بهم.

ومع هذا كله بعد أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وتعرف إليهم بأسمائه وصفاته، وآلائه ونعمه، ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا يسأل عنهم، ويستعرض حوائجهم بنفسه، ويدعوهم إلى سؤاله.

فيدعو مسيئهم إلى التوبة، ومريضهم إلى أن يسأله الشفاء، وفقيرهم إلى أن يسأله الغنى، ومحتاجهم إلى أن يسأله قضاء حاجته، وذلك كل ليلة.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْألُنِي فَأعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي، فَأغْفِرَ لَهُ» متفق عليه (1).

فباب النعم والإحسان باب عظيم، يدخل منه كل أحد إلى محبته سبحانه، فإن نعمه على عباده مشهودة لهم، يتقلبون فيها على عدد الأنفاس واللحظات، وهي

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1145) واللفظ له، ومسلم برقم (758).

ص: 1026

لا تحصى ولا تستقصى.

فهذه محبة للرب الرحيم الكريم، تنشأ من مطالعة المنن والإحسان، ورؤية النعم والآلاء، وكلما سافر القلب فيها، ازدادت محبته لربه وتأكدت.

ولا نهاية لها فيقف القلب عندها، بل كلما ازداد فيها نظراً ازاد فيها اعتباراً وعجزاً عن ضبط القليل منها، فيستدل بما عرفه على ما لم يعرفه.

والله تبارك وتعالى دعا عباده إليه من هذا الباب .. حتى إذا دخلوا فيه دعوا من الباب الآخر وهو باب الأسماء والصفات .. الذي إنما يدخل فيه خواص خلقه .. وهو باب المحبين حقاً .. الذي لا يدخل منه غيرهم .. ولا يشبع من معرفته أحد منهم.

فإذا انضم داعي الإحسان والإنعام، إلى داعي الكمال والجمال لم يتخلف عن محبة وطاعة من هذا شأنه إلا أردأ القلوب وأخبثها، وأشدها نقصاً، وأبعدها من كل خير.

فالله قد فطر القلوب على محبة المحسن الكامل في أسمائه وصفاته من خلقه، ومعلوم أنه لا أحد أعظم إحساناً من الله سبحانه، ولا شيء أكمل منه ولا أجمل، فكل كمال وجمال في المخلوق من آثار صنعه، وهو الذي لا يحد كماله، ولا يحاط بوصف جلاله وجماله، ولا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه، سبحانك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8].

ص: 1027