الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 - الإيمان بالقضاء والقدر
1 - فقه الإيمان بالقضاء والقدر
قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} [القمر: 49، 50].
وقال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} [الحديد: 22، 23].
القدر: هو علم الله تبارك وتعالى بكل شيء، وبكل ما أراد إيجاده أو وقوعه من الخلائق، والعوالم، والأحداث، والأشياء، وتقدير ذلك وكتابته في اللوح المحفوظ.
والقدر سر الله في خلقه لم يطلع عليه ملك مقرب، ولا نبي مرسل.
والإيمان بالقدر:
هو التصديق الجازم بأن كل ما يقع في هذا الكون، وكل ما يقع من الخير والشر فهو بقضاء الله وقدره.
لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، وهو الحكيم العليم.
وأحكام الله على عباده ثلاثة أقسام:
أحدها: الحكم الكوني القدري الذي يجري على العبد بغير اختياره، ولا طاقة له بدفعه، ولا حيلة له في منازعته، كطوله ولونه، وكونه ذكراً أو أنثى، والأحداث والمصائب التي تجري بغير اختياره كالزلازل والبراكين والعواصف ونحوها.
فهذا حقه أن يتلقى بالاستسلام والمسالمة، وترك المخاصمة، وأن يكون فيه العبد كالميت بين يدي الغاسل.
وعليه فيه عبوديات أخرى:
وهي أن يشهد عزة الحاكم في حكمه .. وعدله في قضائه .. وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه .. وما أخطأه لم يكن ليصيبه .. وأن الكتاب الأول سبق بذلك قبل بدء الخليقة .. فقد جف القلم بما سيلقاه كل عبد .. فمن رضي فله الرضى .. ومن سخط فله السخط.
ويشهد أن القدر ما أصابه .. إلا لحكمة اقتضاها اسم الحكيم جل جلاله .. وأن القدر قد أصاب مواقعه .. وحل في المحل الذي ينبغي له أن ينزل به .. وأن ذلك موجب أسمائه وصفاته، وحكمه وعدله .. فله عليه أكمل حمد وأتمه كما له الحمد على جميع أفعاله وأوامره.
الثاني: الحكم الكوني القدري الذي للعبد فيه كسب واختيار وإرادة كقدر المرض والجوع والعطش.
فهذا حقه أن يدافع وينازع بكل ممكن، ولا يسالم البتة، بل ينازع بالحك الكوني أيضاً، فينازع حكم الحق بالحق للحق، فيكون منازعاً للقدر، لا واقفاً مع القدر، ويفر من قدر الله إلى قدر الله كما أمر الله، ويدفع قدر الله بقدر الله.
فإذا جاء قدر الله من الجوع أو العطش، أو البرد أو الحر، أو الألم أو المرض، دفعه بقدر آخر من الأكل والشرب واللباس والدواء.
وهكذا لو وقع حريق في داره، فهو بقدر الله فلا يستسلم له، بل ينازعه ويدافعه ويطفئه بالماء أو غيره، حتى يطفئ قدر الله بقدر الله، وما خرج في ذلك عن قدر الله.
وهكذا لو أصابه مرض بقدر الله دافع هذا القدر ونازعه بقدر آخر، يستعمل فيه الأدوية الدافعة للمرض كما أمر الله.
فحق هذا الحكم الكوني القدري أن يحرص العبد على مدافعته ومنازعته بكل ما يمكنه من الأسباب التي نصبها الله وأمر بها.
فيكون قد دفع القدر بالقدر، ونازع الحكم بالحكم، وبهذا أمر، بل هذا حقيقة
الشرع والقدر.
فلو أن عدواً للإسلام قصده لكان هذا بقدر الله، ويجب على المسلم دفع هذا القدر بقدر يحبه الله ويأمر به وهو الجهاد في سبيل الله بيده وماله وقلبه، دفعاً لقدر الله بقدر الله.
الثالث: الحكم الديني الشرعي، وهو الدين الذي شرعه الله لعباده.
فهذا حقه أن يتلقى بالتسليم والقبول، بل بالانقياد المحض وترك المنازعة.
وهذا تسليم العبودية المحضة، فلا يعارض ولا يرى إلى خلافه سبيلاً البتة، وإنما هو الانقياد التام، والتسليم والإذعان، والقبول لما جاء به الله ورسوله.
وهذه حقيقة القلب السليم الذي سلم من كل شبهة تعارض إيمانه وإقراره، وسلم من كل شهوة تنازع مراد الله من تنفيذ حكمه.
فهذا حق الحكم الديني: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36].
والطاعات والمعاصي كلها واقعة بقضاء الله وقدره، وكلها عدل، والدل وضع الشيء في موضعه، والظلم وضع الشيء في غير موضعه، كتعذيب المطيع، ومن لا ذنب له، فهذا قد نزّه الله نفسه عنه بقوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء: 40].
والله سبحانه وإن أضل من شاء، وقضى بالمعصية والغي على من شاء، فذلك محض العدل فيه، لأنه وضع الإضلال والخذلان في موضعه اللائق به، كما وضع الهداية والنصر في موضعه اللائق به.
فأفعاله سبحانه كلها حق وعدل، وسداد وصواب.
والله سبحانه قد أوضح السبل .. وأرسل الرسل .. وأنزل الكتب .. وأزاح العلل .. ومكن من أسباب الهداية والطاعة بالأسماع والأبصار والعقول .. وهذا عدله.
ووفق جل وعلا من شاء بمزيد عناية، وأراد من نفسه أن يعينه ويوفقه، فهذا
فضله وإحسانه.
وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفضله، وخلى بينه وبين نفسه، ولم يرد سبحانه من نفسه أن يوفقه، فقطع عنه فضله، ولم يحرمه عدله:
إما جزاءً منه للعبد على إعراضه عنه، وإيثاره عدوه عليه في الطاعة، وتناسى ذكره وشكره، فهو أهل أن يخذله ويتخلى عنه كما قال سبحانه:{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53].
وإما أن لا يشاء الله له الهداية ابتداء، لعلمه منه سبحانه أنه لا يعرف قدر نعمة الهداية، ولا يشكره عليها، ولا يثني عليه بها ولا يحبه، فلا يشاؤها له لعدم صلاحية محله لها ما قال سبحانه:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 23].
فإذا قضى الله عز وجل على هذه النفوس بالضلال والمعصية، كان ذلك محض العدل، كما قضى على الحية والعقرب بأن تقتل، وذلك محض الإحسان والعدل، وإن كان مخلوقاً على هذه الصفة لحكمة يعلمها الله.
وبسبب الجهل، وقلة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله .. كثير من الخلق غير راض عن الله عز وجل .. معترض على أسمائه وصفاته .. وعلى دينه وشرعه .. وعلى قضائه وقدره.
حتى قال بعضهم: أرأيت إن منعني الله الهدى، وقضى علي بالردى، أحسن إلي أم أساء؟.
فهذا وأمثاله يقال له: إن منعك الله ما هو لك فقد ظلم وأساء، وإن منعك ما هو له فهو يختص برحمته من يشاء، وأعلم بمن يصلح لكرامته.
ويهون الرضا بما يقضيه الله من المصائب علم العبد بأن تدبير الله خير من تدبيره، والرضا بالألم لما يتوقع من جزيل الثواب المدخر .. والرضا به لا لحظ وراءه، بل لكونه مراد المحبوب.
فيكون ألذ الأشياء عنده ما يه رضا محبوبه.
وعلى العبد أن يعمل عمل رجل يعلم أنه لا ينجيه إلا عمله، ويتوكل على ربه توكل رجل يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له.
فليس لأحد أن يصعد على السطح ثم يلقي نفسه ثم يقول مقدر علي، ولكن نتقي ونحذر، فإن أصابنا شيء علمنا أنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا كما قال سبحانه:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)} [التوبة: 51].
ولا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
والقدر الإلهي كله عدل ورحمة.
ففي كل حادثة سببان:
الأول: سبب ظاهري يحكم الناس على وفقه، وكثيراً ما يظلمون.
الثاني: سبب حقيقي يجري القدر الإلهي على وفقه.
فإذا ألقي مثلاً أحد الأشخاص في السجن بتهمة السرقة التي لم يرتكبها، ولكن قضى القدر الإلهي عليه بسجنه لجناية له خفية، أو تربية له، فيعدل من خلال ظلم البشر له نفسه ويستقيم.
وفي امتحان العلماء والدعاة والصالحين انطواء على سببين:
أحدها: خدمة الدين خدمة عالية فائقة، حتى أثار حفيظة أهل الدنيا والأعداء، وقد نظر البشر إلى هذا السبب فحصل الظلم.
الثاني: لما لم يبين كل منا إخلاصاً تاماً، ولا أظهر تسانداً في نصرة الحق، نظر القدر الإلهي إلى هذا السبب، وعدل في حقنا رحمة بنا.
إن كل شيء في هذا الكون إنما يحصل بقضاء الله وقدره خيراً أو شراً.
فهل يرضى المسلم بما قدره الله من المعاصي التي نهى الله عنها؟.
وجوابه:
أننا لسنا مأمورين بأن نرضى بكل ما قضى الله وقدر .. ولكننا مأمورون بأن نرضى بكل ما أمرنا الله أن نرضى به كطاعة الله ورسوله .. وأن نرضى بدينه وشرعه .. وأن نرضى بالقضاء الذي هو صفة الله أو فعله .. لا بالمقضي الذي هو مفعوله.
فالمعاصي لها وجهان:
وجه إلى العبد من حيث هي فعله وصنعه وكسبه.
ووجه إلى الرب من حيث أنه هو قضاها وخلقها وقدرها لحكمة يعلمها.
فنرضى من الوجه الذي يضاف به إلى الله، ولا نرضى من الوجه الذي يضاف به إلى العبد.
واختيار الرب تعالى لعبده نوعان:
أحدهما: اختيار ديني شرعي، فالواجب على العبد، ألا يختار في هذا النوع غير ما اختاره الله له:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36].
الثاني: اختيار كوني قدري لا يسخطه الرب كالمصائب التي يبتلى الله بها الناس، فهذا لا يضره فراره منها إلى القدر الذي يدفعها عنه، ويدفعها ويكشفها كدفع قدر المرض بقدر الدواء، بل هو مأمور بذلك.
وأما القدر الذي يسخطه الله، ولا يحبه ولا يرضاه، مثل قدر المعائب والمعاصي، فالعبد مأمور بسخطها، ومنهي عن الرضا بها.
ومشيئة الله ومحبته بينهما فرق:
فقد يشاء ما لا يحبه .. ويحب ما لا يشاء كونه.
فالأول: كمشيئة الله لخلق إبليس وجنوده، ومشيئته العامة لجميع ما في الكون مع بغضه لبعضه.
والثاني: كمحبته إيمان الكفار، وطاعات الفجار، وعدل الظالمين، وتوبة
الفاسقين.
ولو شاء لوجد ذلك كله، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
فإذا علم العبد أن القضاء غير المقضي، وأنه سبحانه لم يأمر عباده بالرضى بكل ما خلقه وشاءه، زالت الشبهات، ولم يبق بين شرع الرب وقدره تناقض.
فالرضا بالقضاء الديني الشرعي واجب، وهو أساس الإسلام، وقاعدة الإيمان كما قال سبحانه:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65].
والرضا بالقضاء الكوني القدري الموافق لمحبة العبد وإرادته ورضاه من الصحة والعافية، والغنى واللذة أمر لازم بمقتضى الطبيعة، لأنه ملائم للعبد، موافق له، محبوب له.
فليس في الرضى به عبودية، بل العبودية في مقابلته بالشكر، والاعتراف بالمنّة، ووضع النعمة مواضعها التي يحب الله أن توضع فيها، وأن لا يعصى المنعم بها، وأن يرى التقصير في جميع ذلك.
والرضا بالقضاء الكوني القدري الجاري على خلاف مراد العبد ومحبته مما لا يلائمه، ولا يدخل تحت اختياره، مستحب.
وهذا كالمرض والفقر، والحر والبرد، وأذى الخلق له، ونحون ذلك من المصائب.
والرضا بالقدر الجاري عليه باختياره مما يكرهه الله ويسخطه، وينهى عنه كأنواع الظلم والفسوق والعصيان محرم يعاقب عليه، وهو مخالفة لله عز وجل، فإن الله لا يرضى بذلك ولا يحبه.
فإن قيل: كيف يريد الله أمراً لا يحبه ولا يرضاه؟.
قيل الله عز وجل يكره الشيء ويبغضه في ذاته، ولا ينافي ذلك إرادته لغيره، وكونه سبباً إلى ما هو أحب إليه من غيره.
فقد خلق الله جل جلاله إبليس، الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال،
والاعتقادات والإرادات.
وهو سبب شقاوة العبيد، ووقوع ما يغضب الرب تبارك وتعالى، فهو مبغوض للرب مسخوط له، لعنه الله وغضب عليه ومقته.
ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، وجودها أحب إليه من عدمها.
منها: أن تظهر للعباد قدرة الرب في خلق المتضادات، فخلق سبحانه إبليس هذه الذات التي هي أخبث الذوات وشرها، في مقابلة جبريل صلى الله عليه وسلم التي هي أشرف الذوات، وسبب كل خير.
وكما خلق سبحانه الليل والنهار، والحر والبرد، والحياة والموت، والذكر والأنثى، والماء والنار، والخير والشر ونحو ذلك.
وخلق ذلك يدل على كما ل قدرته وتدبيره، وعزته وسلطانه.
فتبارك الله خالق هذا وهذا، ومدبر هذا وهذا .. ومخرج المنافع والمضار من هذا وهذا.
ومنها: ظهور أسمائه وأفعاله القهرية كالقهار والمنتقم، والعدل والضار، وشديد العقاب، وسريع الحساب، والخافض والمذل، فإن هذه الأسماء والأفعال من كمال ذاته فلا بد من وجود متعلقها، ولو كان الخلق كلهم على طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء والأفعال.
ومنها: ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه، ومغفرته وستره، وتجاوزه عن حقه، فلولا خلق ما يكره من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد.
ومنها: ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فهو سبحانه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه:
فلا يضع الثواب موضع العقاب، ولا العقاب موضع الثواب، ولا العز مكان
الذل، ولا الذل مكان العز، ولا يضع العطاء موضع الحرمان، ولا الحرمان موضع العطاء، ولا الإنعام مكان الانتقام، ولا الانتقام مكان الإنعام.
ولا يأمر بما ينبغي النهي عنه، ولا ينهى عما ينبغي الأمر به، فهو أعلم حيث يجعل رسالته، وأعلم بمن يصلح لقبولها، ويشكره على وصولها، وأعلم بمن لا يصلح لذلك:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53].
وهو أحكم من أن يمنعها أهلها، أو أن يضعها عند غير أهلها.
فلو قدر عدم الأسباب المكروهة البغيضة له لتعطلت هذه الآثار، ولم تظهر لخلقه.
ولتعطلت تلك الحكم والمصالح المترتبة عليها، وفواتها شر من حصول تلك الأسباب.
وهذا كالشمس والمطر والرياح، فهذه فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر والضرر.
ومنها: حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت، فإن الله يحب عبودية الجهاد، ولو كان الناس كلهم مؤمنين، لتعطلت هذه العبودية وتوابعها، من الموالاة في الله والمعاداة فيه، وعبودية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى.
ومنها: عبودية التوبة والاستغفار، فهو سبحانه يحب التوابين، ولو عطلت الأسباب التي يتاب منها لتعطلت عبودية التوبة والاستغفار منها.
ومنها: أن يتعبد لله بالاستعاذة من عدوه، وسؤاله أن يجيره منه، ويعصمه من كيده.
ومنها: عبودية مخالفة عدوه الشيطان، ومراغمته في الله، وإغاظته فيه، وهي من أحب العبودية إليه، فإنه سبحانه يحب من وليه أن يغيظ عدوه ويراغمه.
ومنها: أن عبيده سبحانه يشتد خوفهم وحذرهم إذا رأوا ما حل بعدوه، لما خالف أمر ربه بطرده ولعنه، فيلزمون طاعة ربهم ولا يعصونه.
ومنها: أن نفس اتخاذه عدواً من أكبر أنواع العبودية وأجلها، وهو محبوب للرب، وهم ينالون ثواب مخالفته ومعاداته من ربهم.
ومنها: أن الطبيعة البشرية مشتملة على الخير والشر، والطيب والخبيث وذلك كامن فيها كمون النار في الزناد.
فخلق الشيطان مستخرجاً لما في طبائع أهل الشر من القوة إلى الفعل.
وخلقت الرسل وأرسلت لتستخرج ما في طبيعة أهل الخير من القوة إلى الفعل.
فاستخرج أحكم الحاكمين ما في قوى هؤلاء من الخير الكامن فيها، ليرتب عليه آثاره، وما في قو ى أولئك من الشر، ليرتب عليه آثاره، وتظهر حكمته في الفريقين.
فالملائكة ظنت أن وجود من يسبح بحمده ويقدسه ويعبده أولى من وجود من يعصيه ويخالفه.
فأجابهم سبحانه بأنه يعلم من الحكم والمصالح في خلق هذا الإنسان ما لا تعلمه الملائكة كما قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: 30].
ومنها: أن ظهور كثير من آيات الله وعجائب صنعه حصل بسبب وقوع الكفر والشرك من النفوس الكافرة الظالمة.
كآية الطوفان .. وآية الريح .. وآية إهلاك ثمود بالصيحة .. وآية انقلاب النار برداً وسلاماً على إبراهيم .. وآية قلع قرى قوم لوط وقلبها عليهم .. وآيات موسى مع فرعون وبني إسرائيل كفلق البحر .. وانفجار عيون الماء من الحجر .. وانقلاب العصا حية، ونحو ذلك.
فلولا كفر الكافرين، وعناد الجاحدين، لما ظهرت هذه الآيات الباهرة.
ومع ظهورها فما أقل من يؤمن بها: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)} [الشعراء: 139، 140].
ومنها: أن خلق الأسباب المتقابلة، التي يقهر بعضها بعضاً، ويكسر بعضها بعضاً، هو من شأن كمال الربوبية، والقدرة النافذة، والملك الكامل، وإن كان شأن الربوبية كاملاً في نفسه ولو لم تخلق هذه الأسباب.
لكن ظهور آثارها وأاحكامها في عالم الشهادة تحقيق لذلك الكمال الإلهي.
فالعبودية والآيات والعجائب والفوائد التي ترتبت على خلق ما لا يحبه الله ولا يرضاه وتقديره ومشيئته أحب إليه سبحانه من فواتها وتعطيلها بتعطيل أسبابها فإن قيل: فإن كانت هذه الأسباب مرادة للرب، فهل تكون مرضية محبوبة له؟.
قيل: هو سبحانه يحبها من جهة إفضائها إلى محبوبه، وإن كان يبغضها لذاتها.
فإن قيل: هل يمكن حصول تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟.
قيل: هذا سؤال باطل، إذ هو فرض وجود الملزوم بدون لازمه، كفرض وجود الابن بدون الأب، والحركة بدون المتحرك، والتوبة بدون التائب.
وسر المسألة:
أن الرضا بالله يستلزم الرضا بأسمائه وصفاته .. وأفعاله وأحكامه .. ولا يستلزم الرضا بمفعولاته كلها.
بل حقيقة العبودية أن يوافق العبد ربه في رضاه وسخطه، فيرضى منها بما يرضى به، ويسخط منها ما سخطه.
فإن قيل: كيف يجتمع الرضا بالقضاء الذي يكرهه العبد من المرض والفقر والألم مع كراهته له؟.
قيل: لا تنافي في ذلك، فإنه يرضى به من جهة إفضائه إلى ما يحب، ويكرهه من جهة ت ألمه به، كالدواء الكريه الذي يعلم أن فيه شفاءه، فإنه يجتمع فيه رضاه به، وكراهته له.
فإن قيل: كيف يحب الله لعبده شيئاً ولا يعينه عليه؟.
قيل: لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له.
وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه، يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة كما قال سبحانه:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)} [التوبة: 46، 47].
والطاعة: هي موافقة الأمر الشرعي، لا موافقة القدر والمشيئة.
ولو كانت موافقة القدر طاعة لله لكان إبليس من أعظم المطيعين لله، ولكان قوم نوح وعاد وثمود، وقوم لوط وقوم فرعون، كلهم مطيعين لله.
فيكون سبحانه قد عذبهم أشد العذاب على طاعته، وانتقم منهم لأجلها، وهذا غاية الجهل بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه.
والله عز وجل خالق كل شيء وربه ومليكه.
والعبد مأمور بطاعة الله ورسوله، ومنهي عن معصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن أطاع كان ذلك نعمة من الله يثاب عليها.
إن عصى ربه كان مستحقاً للذم والعقاب، وكان لله عليه الحجة البالغة، وكل ذلك كائن بقضاء الله وقدره.
لكن الله عز وجل يحب الطاعة ويأمر بها، ويثيب أهلها على فعلها ويكرمهم.
ويبغض المعصية وينهى عنها، ويعاقب أهلها ويهينهم.
وما يصيب العبد من النعم فالله أنعم بها عليه، وما يصيبه من الشر فبذنوبه، وكل ذلك كائن بمشيئة الله وقدره.
فلا بد للعبد أن يؤمن بقضاء الله وقدره، وأن يوقن بشرع الله وأمره.
فإذا أحسن حمد الله، وإذا أساء استغفر الله.
وآدم صلى الله عليه وسلم لما أذنب تاب فاجتباه ربه وهداه.
وإبليس لما أذنب أصر واستكبر، واحتج بالقدر وكفر، فلعنه الله وأقصاه.
فمن أذنب وتاب كان آدمياً .. ومن أذنب واحتج بالقدر كان إبليسياً.
والقدر نظام التوحيد:
فمن وحد الله .. وآمن بالقدر .. تم توحيده، ومن وحد الله .. وكذب بالقدر .. نقض تكذيبه توحيده.
والمخاصمون في القدر فريقان:
أحدهما: من يبطل أمر الله ونهيه بقضائه وقدره كما قال سبحانه: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148].
الثاني: من ينكر قضاء الله وقدره السابق.
والطائفتان كلاهما خصماء لله، ومن كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام، فإن الله تبارك وتعالى قدر أقداراً، وخلق الخلق بقدر، وقسم الآجال بقدر، وقسم الأرزاق بقدر، وقسم العافية بقدر، وقسم البلاء بقدر، وأمر ونهى، وأحل وحرم، كما قال سبحانه:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49].
وقال سبحانه: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)} [القمر: 52، 53].
والقدر هو تقدير الله للكائنات، وهو سر مكتوم لا يعلمه إلا الله ومن شاء من خلقه، ولا نعلمه إلا بعد وقوعه سواء أكان خيراً أم شراً.
ومراتب الإيمان بالقدر أربع:
الأولى: العلم، بأن يؤمن العبد أن الله تعالى علم كل شيء جملةً وتفصيلاً، يعلم سبحانه ما كان وما يكون وما سيكون كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)} [العنكبوت: 62].
الثانية: الكتابة، بأن يؤمن العبد أن الله تعالى كتب كل شيء جملةً وتفصيلاً كما قال سبحانه:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} [الحج: 70].
الثالثة: المشيئة، بأن يؤمن العبد أن كل شيء في العالم العلوي والسفلي كائن بمشيئة الله وإرادته، إذ لا يكون في ملكه سبحانه ما لا يريده، فما شاء الله كان،
وما لم يشأ لم يكن كما قال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام: 112].
الرابعة: الخلق، بأن يؤمن العبد أن الله خالق كل شيء، ومدبره ومالكه، حتى فعل المخلوق، لأن فعل المخلوق من صفاته، وهو وصفاته مخلوقان كما قال سبحانه:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر: 62].
وينبغي أن يعلم الإنسان أن القدر له كالطبيب مع المريض.
فإن قدم إليه الطعام فرح وقال: لولا أنه علم أن الغذاء ينفعني ما قدمه.
وإن منعه الطعام فرح وقال: لولا أنه علم أن الغذاء يؤذيني لما منعني.
وهذا غاية اللطف من الله تعالى، ومن لم يعتقد هذا لم يصح توكله على الله عز وجل.
والدعاء لا يناقض الرضا بالقدر، فقد تعبدنا الله به، وأمرنا به.
وأمرنا به، وإنكار المعاصي وعدم الرضا بها قد تعبدنا الله به، وذم الراضي به.
فإن قيل: وردت الأخبار بالرضا بقضاء الله تعالى، والمعاصي بقضائه فكراهتها كراهة لقضائه؟.
وجواب هذا أن يقال: المعاصي لها وجهان:
الأول: وجه إلى الله تعالى من حيث أنها اختياره وإرادته، فنرضى بها من هذا الوجه، تسليماً للملك إلى مالك الملك سبحانه.
الثاني: وجه إلى العبد، من حيث أنها كسبه ووصفه، وعلامة لكونه ممقوتاً عند الله، بغيضاً عنده، حيث سلط عليه أسباب البعد والمقت، فهو من هذا الوجه منكر ومذموم.
والإيمان بالقدر على درجتين:
الأولى: الإيمان بأن الله سبق في علمه ما يعمله العباد من خير وشر، وطاعة ومعصية، قبل خلقهم وإيجادهم، وأهل الجنة منهم، وأهل النار منهم، وأعد لهم الثواب والعقاب قبل خلقهم، وكتب ذلك عنده، وأن أعمال العباد تجري على
ما سبق في علمه وكتابته كما قال سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49].
الثانية: الإيمان بأن الله خلق أفعال العباد كلها من الإيمان والكفر، والطاعات والمعاصي، وشاءها منهم كما قال سبحانه:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: 7، 8].
والمؤمن يصبر على المصائب، ويستغفر من الذنوب والمعائب.
والجاهل الظالم يحتج بالقدر على ذنوبه وسيئاته، ولا يعذر بالقدر من أساء إليه، ولا يذكر القدر عندما تحصل له نعمة.
والواجب على العبد إذا عمل حسنة أن يعلم أنها نعمة من الله هو يسرها وتفضل بها، فلا يعجب بها، وإذا عمل سيئة، استغفر الله، وتاب منها.
وإذا أصابته مصيبة سماوية أو بفعل العباد علم أنها مقدرة مقضية عليه لا بد من وقوعها، وللعبد منفعة في حصولها.
وكل ما خلق الله حق، وله سبحانه في كل مخلوق حكمة يحبها ويرضاها.
وهو سبحانه الذي أحسن كل شيء خلقه، فكل خلق وأمر من الله حسن جميل، وهو سبحانه محمود عليه، وله الحمد على كل حال، وإن كان في بعضها شر بالنسبة إلى بعض الناس.
والمؤمن مأمور أن يصبر على المصائب .. ويطيع الأوامر .. ويستغفر من الذنوب والمعائب.
وليس في القدر حجة لابن آدم ولا عذر في فعل ما يشاء، بل القدر نؤمن به ولا نحتج به، ولو كان القدر حجة وعذراً لم يكن إبليس ملوماً ولا معاقباً:{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)} [التغابن: 11].
وكل شيء سوى الله تعالى فهو مخلوق، وأفعال العباد كغيرها من المحدثات مخلوقة مفعولة لله، ونفس العبد، وسائر صفاته مخلوقة مفعولة لله عز وجل.
والعبد مأمور منهي، مثاب معاقب، والله جعله حياً مريداً، قادراً فاعلاً، يصوم ويصلي، ويزكي ويحج، ويؤمن ويكفر، ويقتل ويسرق، ويطيع ويعصي،
باختياره ومشيئته.
والله خالق ذات العبد وصفاته وأفعاله.
فله مشيئة والله خالق مشيئته، وله قدره والله خالق قدرته، وهو مصل صائم والله خالقه وخالق أفعاله.
والعبد الحي يؤمر وينهى، ويحمد ويذم على أفعاله الاختيارية، وهو الفاعل لهذه الأفعال والمتصف بها، وله عليها قدرة، وهو فاعلها باختياره ومشيئته، وذلك كله مخلوق لله، فهي فعل العبد كسباً وهي مفعولة للرب كغيرها.
فالله وحده هو الذي له الخلق والأمر، وما سواه مخلوق مربوب.
فهو سبحانه الذي جعل الأبيض أبيضَ، والأسود أسودَ، والساكن ساكناً، والمتحرك متحركاً، والذكر ذكراً، والأنثى أنثى، والحلو حلواً، والمرَّ مراً.
وهو سبحانه الذي جعل المسلم مسلماً، والمطيع طائعاً، والمصلي مصلياً، كما قال سبحانه:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24].
وهو سبحانه الذي جعل الكافر كافراً والعاصي عاصياً كما قال سبحانه عن آل فرعون: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)} [القصص: 41].
فالله سبحانه خالق الذوات .. وخالق صفاتها .. وخالق أفعالها.
وكون الله خالقاً للعبد وفعله لا يمنع أن يكون العبد هو المأمور المنهي كما قال سبحانه: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)} [البقرة: 128].
والله تبارك وتعالى حكيم عليم، له الخلق والأمر، وهو على كل شيء قدير، يفعل ما يشاء بحكمته، يعطي ويمنع .. ويهدي ويضل .. ويعز ويذل .. ويسعد ويشقي .. ويعفو وينتقم.
وهو الذي جعل المسلم مسلماً، والكافر كافراً، وهذا يدعو إلى الخير، وهذا
يدعو إلى الشر.
وهو سبحانه رب كل شيء ومليكه، وله فيما خلقه حكمة بالغة، ونعمة سابغة، ورحمة عامة وخاصة.
لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، يفعل ما يشاء لا لمجرد قدرته وقهره، بل لكمال علمه وقدرته، وحكمته ورحمته.
ومن حكمته ما أطلع بعض خلقه عليه، ومنه ما استأثر سبحانه بعلمه.
والله عز وجل له الحجة البالغة على جميع خلقه، حيث أنزل عليهم الكتب، وأرسل إليهم الرسل، وأعطاهم الأسماع والأبصار والعقول، التي يعرفون بها ربهم، وما شرعه لهم.
ومع هذا فلو شاء سبحانه لهدى الخلق أجمعين إلى اتباع شريعته، كما خلقهم أجمعين، وكما فطر جميع الكائنات على معرفته وعبادته.
لكنه سبحانه يمن على من يشاء، فيهديه فضلاً منه وإحساناً.
ويحرم من يشاء، لأن المتفضل له أن يتفضل، وله ألا يتفضل، فترك تفضله على من حرمه عدل منه وقسط، وله في ذلك حكمة بالغة كما قال سبحانه:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} [الأنعام: 149].
والقدر قدران:
أحدها: قدر مطلق مثبت، وهو ما في أم الكتاب، اللوح المحفوظ، الإمام المبين، فهذا لا يتبدل ولا يتغير، ولا يعلمه إلا الله وحده.
الثاني: قدر معلق أو مقيد، وهو ما في صحف الملائكة، فهذا الذي يقع فيه المحو والإثبات كما قال سبحانه:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)} [الرعد: 39].
والقدر الذي هو علم الله ومشيئته وكلامه غير مخلوق.
أما المقدرات من الآجال والأرزاق والأعمال والأحوال فكلها مخلوقة.
وكذلك الشرع الذي هو أمر الله ونهيه غير مخلوق، لأنه كلامه.
وأما الأفعال المأمور بها والمنهي عنها فهي مخلوقة.
فالعباد كلهم مخلوقون، وجميع صفاتهم وأفعالهم مخلوقة.
والعبد له في المقدور حالان:
حال قبل القدر .. وحال بعد القدر.
فعليه قبل المقدور أن يستعين بالله، ويتوكل عليه، ويدعوه.
فإذا وقع المقدور بغير فعله:
فإن كان نعمة شكر الله عليها، وإن كان مصيبة صبر عليها، وإن رضي بها وشكر الله عليها فهو الأفضل.
وإن وقع المقدور بفعله:
فإن كان نعمة حمد الله عليها، وإن كان ذنباً استغفر ربه منه.
وعلى العبد أن يفعل ما أمره الله به، فإذا انكشف ستر الغيب عن تدبير لله غير تدبيره فليتقبل قضاء الله بالرضا والطمأنينة والاستسلام، لأنه الأصل الذي كان مجهولاً له، فكشف عنه الستار:{ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)} [البقرة: 232].
وعلى العبد كذلك أن يستعين بالله في فعل ما أمره الله به، ويتوكل عليه ويدعوه، ويرغب إليه مفتقراً إليه في طلب الخير، وترك الشر، ينظر إلى القدر في المصائب لا في المعائب، فيصبر على المصائب، ويستغفر من المعائب.
وهذان الأصلان يحصل بهما راحة القلب وطمأنينته لكل ما قدر الله عز وجل.
وقد أمر الله عز وجل بالاستفادة بكلمات الله التامات كل من نزل منزلاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا نَزَلَ أحَدُكُمْ مَنْزِلا فَلْيَقُلْ: أعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، فَإِنَّهُ لا يَضُرُّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ» أخرجه مسلم (1).
(1) أخرجه مسلم برقم (2708).
وكلمات الله التي يستعان بها نوعان:
كلمات كونية .. وكلمات شرعية.
والكلمات الكونية: هي التي كون الله بها الكائنات، لا يخرج عنها بر ولا فاجر، ولا أي مخلوق في الكون.
فما من ملك ولا سلطان، ولا مال ولا جمال، ولا علم ولا حال، ولا تحريك ولا تسكين، ولا تدبير ولا تصريف إلا هو واقع بمشيئة الله وقدرته، وكلماته التامات.
ولكن من ذلك ما هو محبوب لله مأمور به، ومنه ما هو مكروه لله منهي عنه:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].
والطاعات والمعاصي كلها واقعة بقضاء الله وقدره، ومشيئته وإرادته.
لكنه سبحانه لم يأمر بالمعاصي والذنوب، ولا يرضاها ولا يحبها، بل يبغضها ويعاقب من فعلها وإن كان ذلك بإرادته وقدره.
فإن القدر كما جرى بالمعصية جرى كذلك بعقابها، كما يقدر على العبد أمراضاً تعقبه آلام.
فالمرض بقدره، والألم بقدره، فإذا قال العبد قد تقدمت الإرادة بالذنب فلا أعاقب، كان بمنزلة قول المريض، قد تقدمت الإرادة بالمرض، فلا أتألم ولا أعالج.
وهذا مع أنه جهل فإنه لا ينفع صاحبه، بل اعتلاله بالقدر، ذنب ثان يعاقب عليه؛ لأنه أذنب، وكذب على الله.
وإنما اعتل بالقدر إبليس، وأما أدم فتاب فتاب الله عليه.
فمن أراد الله سعادته ألهمه أن يقول كما قال آدم صلى الله عليه وسلم: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23].
ومن أراد الله شقاوته اعتل بعلة إبليس أو نحوها فأبى واستكبر وكفر كما قال سبحانه: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ
الْكَافِرِينَ (34)} [البقرة: 34].
فالقدر نؤمن به ولا نحتج به .. ومن احتج بالقدر فحجته داحضة .. ومن اعتذر بالقدر فعذره غير مقبول.
ولو كان الاحتجاج بالقدر مقبولاً، لقبل من إبليس وغيره من العصاة.
ولو كان القدر حجة للعباد على أفعالهم، لم يعذب أحد من الخلق لا في الدنيا ولا في الآخرة.
ولو كان القدر حجة لم تقطع يد سارق، ولا قتل قاتل، ولا حد شارب، ولا أقيم حد، ولا جاهد أحد في سبيل الله، ولا أمر بالمعروف أحد، ولا نهى عن المنكر أحد.
والله سبحانه علم الأمور وكتبها على ما هي عليه.
فهو جلَّ وعلا قد كتب أن فلاناً يؤمن ويعمل صالحاً فيدخل الجنة.
وفلاناً يكفر ويعصي ويفسق فيدخل النار.
كما علم سبحانه أن فلاناً يتزوج فيأتيه ولد، ويأكل فيشبع، ويشرب فيروى.
فمن ظن أنه يدخل الجنة بلا إيمان وعمل صالح كان ظنه باطلاً، كمن اعتقد أنه يأتيه ولد بلا وطء، فالله قدر الأسباب والمسببات، وقد جعل الله لكل شيء سبباً.
فللدنيا أسباب .. وللجنة أسباب .. وللنار أسباب.
والله سبحانه كتب أفعال العباد خيرها وشرها، وكتب ما يصيرون إليه من الشقاوة والسعادة، لكمال علمه بالشيء قبل وقوعه.
لكنه جعل الأعمال سبباً للثواب والعقاب وكتب ذلك وعلمه، كما كتب الأمراض وجعلها سبباً للآلام، وكما كتب أكل السم وجعله سبباً للموت.
فالله قدر وكتب هذا .. وهذا، لأنه الذي أحاط وحده بكل شيء علماً.
وكذلك بأن من فعل ما نهى الله عنه من الكفر والمعاصي فإنه يعمل ما كتب عليه وهو مستحق لما كتبه الله من الجزاء لمن عمل ذلك.
فكل ما يجري في هذا الكون كائن بقضاء الله وقدره.
وقد أمرنا الله عز وجل أن نزيل الشر بالخير بحسب الإمكان.
وأن نزيل الكفر بالإيمان، ونزيل البدعة بالسنة، والمعصية بالطاعة، والسيئة بالحسنة، فيدفع المسلم ما قدره الله من الشر، بما قدره الله من الخير مستعيناً بالله، كما يدفع شر الكفار والفجار بالقوة ورباط الخيل، وكالدعاء والصدقة اللذين يدفعان البلاء، وكالدواء الذي جعله الله سبباً للشفاء وهكذا.
وما يكون من الشر جعله الله محنةً لنا وابتلاءً، والله لم يأمرنا أن نرضى بما يقع من الكفر والفسوق والعصيان، بل أمرنا أن نكره ذلك وندفعه بحسب الإمكان.
فندفع قدر الله بقدر الله وبما أمر الله مع الصبر والتوكل عليه والاستعانة به في كل أمر، وهذا هو الابتلاء:{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)} [الفرقان: 20].
والله تبارك وتعالى له الخلق والأمر، فهو الخالق لكل شيء، ولكل ما يقع في هذا الكون، ولكل ما يقع للناس من أحوال، ولكل ما يقع من الناس من أعمال.
فالناس يملكون بما أقدرهم الله عليه أن يتجهوا وأن يحاولوا، ولكن تحقق الفعل ووقوعه لا يكون إلا بإرادة من الله وقدر.
فالإنسان قد يتجه ويحاول فعل الخير بالوسائل التي أرشد الله أنها تحقق الخير، ولكن تحقق الخير فعلاً يتم بإرادة الله وقدره، لأنه ليست هناك قدرة غير قدرة الله تنشئ الأشياء والأحداث، وتتحقق ما يقع في هذا الكون من وقائع:{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)} [الأنفال: 17].
وإذن يكون تحقق الخير بوسائله التي اتخذها الإنسان، وباتجاه الإنسان وجهده، عملاً من أعمال القدرة الإلهية، فالله أقدره على الفعل، والله سدد رميته فأصاب.
وكذلك الإنسان قد يتجه إلى تحقيق السوء، أو يفعل ما من شأنه إيقاع السوء،
ولكن وقوع السوء فعلاً لا يتم إلا بقدرة الله، وقدر الله، لأنه ليس هناك قدرة منشئة للأشياء والأحداث في هذا الكون غير قوة الله.
وفي الحالين يكون وجود الحدث وتحققه من عند الله كما قال سبحانه: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)} [النساء: 78].
وكذلك الإنسان يسمع ويرى، ويعقل ويفهم، ويريد ويعمل، ويحاسب على إرادته وعمله كما قال سبحانه:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت: 46].
والهدى هدى الله، فمن هداه الله فهو المهتدي حقاً، ومن أضله الله فهو الخاسر حقاً كما قال سبحانه:{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)} [الأعراف: 178].
والله سبحانه يهدي من يجاهد لطلب الهداية كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69].
وكذلك يضل من يبغي الضلال لنفسه، ويعرض عن دلائل الهدى، وموجبات الإيمان، ويغلق قلبه وسمعه وبصره دونها كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} [الأعراف: 179].
إن مشيئة الله تبارك وتعالى التي يجري بها قدره في الكائن الإنساني:
أنه خلق هذا الإنسان باستعداد مزدوج للهدى والضلال، مع إيداع فطرته إدراك حقيقة الربوبية والاتجاه إليها، ومع إعطائه العقل المميز للضلال والهدى، ومع إرسال الرسل بالبينات، لإيقاظ الفطرة إذا تعطلت، وهداية العقل إذا ضل.
وكذلك اقتضت مشيئة الله أن يجري قدر الله بهداية من يجاهد للهدى، وأن يجري قدر الله كذلك بإضلال من لا يستخدم ما أودعه الله من عقل، وما أعطاه الله من أجهزة الرؤية والسمع في رؤية وإدراك الآيات التي بثها الله في صفحات
الكون، والآيات الشرعية التي جاء بها الرسل.
وفي كل الأحوال تتحقق مشيئة الله وحده، ولا يتحقق سواها، ويقع ما يقع بقدر الله لا بقوة سواه، وما كان شيء ليقع إلا أن يوقعه قدر الله.
وفي حدود هذا التقدير يتحرك الإنسان بنفسه، ويقع له ما يقع من الهدى والضلال:{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)} [الأعراف: 178].
وكثير من الجن والإنس مخلوقون لجهنم، وهم مهيؤون لها، فما بالهم كذلك؟.
هنالك اعتباران:
الأول: أن الله بعلمه الأزلي يعلم أن هؤلاء الخلق صائرون إلى جهنم.
الثاني: أن هذا العلم الأزلي بأحوال العباد ومصائرهم، ليس هو الذي يدفع هذه الخلائق إلى الضلال الذي تستحق به جهنم، إنما هم:{لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} [الأعراف: 179].
فهم لم يفتحوا القلوب التي أعطوها ليفقهوا، وهم لم يفتحوا أعينهم ليبصروا آيات الله الكونية، ولم يفتحوا آذانهم ليسمعوا آيات الله المتلوة.
لقد عطلوا هذه الأجهزة وعاشوا غافلين، فهم أضل من الأنعام، لأن الأنعام لها استعدادات فطرية تهديها، تقبل إذا دعيت، وتنزجر إذا زجرت.
أما الجن والإنس، فقد زودوا بالقلب الواعي، والعين المبصرة، والأذن السامعة، فإذا لم يفتحوا قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم ليدركوا، فإنهم يكونون أضل من الأنعام الموكلة إلى استعداداتها الفطرية الهادية.
فكفار الجن والإنس، كل حيوان بهيم أهدى منهم، وهم أضل منه سبيلاً. فما أضل هؤلاء في الدنيا، وما أخسرهم في الآخرة:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44].
إن كل صغيرة وكبيرة في هذا الكون مخلوقة بقدر، مدبرة بحكمه، فلا شيء
جزاف، ولا شيء عبث، ولا شيء مصادفة، ولا شيء ارتجال:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49].
قدر يحدد وجوده .. وقدر يحدد حقيقته .. وقدر يحدد صفته .. وقدر يحدد وظيفته .. وقدر يحدد مقداره .. وقدر يحدد عمره .. وقدر يحدد مكانه .. وقدر يحدد زمانه .. وقدر يحدد ارتباطه بما حوله من أشياء .. وقدر يحدد تأثيره في كيان هذا الوجود.
قدر في كل شيء .. قدر يحدد الأبعاد بين النجوم والكواكب .. وأحجام المخلوقات وكتلها .. وألوانها وصورها .. ونموها وتكاثرها .. وسيرها وحركتها: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49].
قدر يحدد وضع الأرض التي نعيش عليها، لتكون صالحة لنوع الحياة التي قدر الله أن تكون فيها.
فحجم هذه الأرض .. وبعدها عن الشمس .. وكتلة الشمس .. ودرجة حرارتها .. وميل الأرض على محورها بهذا القدر .. ودورة الفلك .. وبعد الشمس والقمر عن الأرض .. وتوزيع الماء واليابس في هذه الأرض .. ومهاب الرياح .. واختلاف الفصول .. إلى آلاف من هذه النسب المقدرة تقديراً دقيقاً .. لو وقع الاختلال في أي منها لتبدل كل شيء.
فسبحان العليم القدير، الذي قدر هذه المقادير والأقدار.
والنسبة بين عوامل الحياة والبقاء .. وعوامل الموت والفناء .. في البيئة، وفي طبيعة الأحياء .. من نبات وحيوان وإنسان .. محفوظة دائماً بالقدر الذي يسمح بنشأة الحياة وبقائها .. وامتدادها وانضباطها.
فمثلاً الجوارح التي تتغذى بصغار الطيور قليلة العدد، قليلة التفريخ، ولا تعيش إلا في مناطق محدودة.
وهي في مقابل هذا طويلة الأعمار، ولو كانت مع عمرها الطويل كثيرة الفراخ، تستطيع الحياة في كل موطن، لقضت على صغار الطيور، وأفنتها على كثرتها
وكثرة تفريخها، أو قللت من أعدادها الكبيرة اللازمة لطعام هذه الجوارح وسواها من بني الإنسان، وللقيام بأدوارها الأخرى في هذه الأرض.
فسبحان من خلق كل شيء وقدره تقديراً.
وهكذا الماء موزون بأمر الله، لو طغى لأفسد الأرض، ولو نقص لاختلت الحياة ومات الأحياء من نبات وحيوان وإنسان.
وكذلك الهواء موزون بأمر الله، لو زاد وصار عواصف قوية، لدمر كل شيء، وما استطاع أن يعيش حي، ولو نقص لاختل وضع الحياة والأحياء.
فقدر الله عام شامل لجميع المخلوقات، وكل ما خلقه الله في هذا الكون من المخلوقات، وما يجري فيه من الأحوال من الحركات والسكنات، والحياة والموت، والتغيير والتبديل، كل ذلك كائن بقدر الله القوي العزيز.
تقدير في الزمان .. وتقدير في المكان .. وتقدير في المقدار .. وتقدير في الأشكال .. وتناسق مطلق بين جميع الكائنات والأحوال.
فسبحان الذي خلق السموات والأرض: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)} [الفرقان: 2].
إن كل شيء بقدر، وله حكمة معلومة أو مطوية:
فزواج يعقوب صلى الله عليه وسلم من امرأة أخرى، هي أم يوسف وبنيامين لم يكن حادثاً عارضاً، إنما كان قدراً مقدوراً، ليحقد إخوة يوسف من غير أمه عليه، ويأخذوه ويلقوه في الجب، ليلتقطه بعض السيارة، ثم يباع في مصر، لينشأ في قصر العزيز، لتراوده امرأة العزيز عن نفسه، ليستعلي على الإغراء، ليلقى في السجن، لماذا؟.
ليلتقي في السجن مع خادمي الملك، ليفسر لهما الرؤيا.
لماذا يتعذب يوسف؟.
ولماذا يتعذب يعقوب بفقد ابنه حتى عمي بصره؟.
ولماذا يُسام يوسف الطيب الزكي كل هذه الآلام؟.
لماذا يمضي في هذا العذاب أكثر من ربع قرن؟.
لأن الله يعده ليتولى أمر مصر وشعبها، والشعوب المجاورة في سني القحط السبع، ثم ماذا؟.
ليستقدم أبويه وإخوته، ليكون من نسلهم شعب بني إسرائيل، ليضطهدهم فرعون، لينشأ من بينهم موسى صلى الله عليه وسلم، وما صاحب حياته من تقدير وتدبير، وظهور آيات الله، التي غيرت مجرى العالم كله.
وزواج إبراهيم جد يعقوب من هاجر المصرية، لم يكن ذلك حادثاً شخصياً.
إنما كان وما سبقه في حياة إبراهيم صلى الله عليه وسلم من أحداث أدت إلى مغادرته موطنه في العراق، ومروره بمصر ليأخذ منها هاجر، لتلد له إسماعيل، ليسكن إسماعيل وأمه عند البيت المحرم.
ليبلغ إسماعيل ثم يتزوج، ليكون من نسله محمد صلى الله عليه وسلم، ليكون من ذلك كله ذلك الحدث الأكبر ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى البشرية كافة.
إن قدر الله وراء طرف الخيط البعيد لكل حادث، ولكل نشأة، ولكل مصير، ووراء كل نقطة، وكل خطوة، وكل تبديل أو تغيير، إنه قدر الله النافذ الشامل الدقيق العميق.
ولكن البشر أحياناً يرون طرف الخيط القريب ولا يرون طرفه البعيد، وأحياناً يتطاول الزمن بين البدء والمصير في عمرهم القصير، فتخفى عليهم حكمة التدبير والتصريف.
فيستعجلون ويقترحون، وقد يسخطون أو يتطاولون.
والله تبارك وتعالى يعلمهم في القرآن أن كل شيء بقدر كما قال سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49].
يعلمهم ليسلموا الأمر إلى صاحب الأمر، وتطمئن قلوبهم وتستريح، ويسيروا مع قدر الله في توافق وتناسق، وفي أنس بصحبة القدر الذي قدره المولى الكريم الرحيم.
ومع التقدير والتدبير القدرة الإلهية التي تفعل أعظم الأحداث بأيسر الإشارات: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} [القمر: 50].
وبأيسر الكلمات: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].
إنها إشارة واحدة .. أو كلمة واحدة .. يتم بها كل أمر .. الجليل والصغير سواء .. وليس هنالك كبير ولا صغير أمام قدرة الله .. فهو الكبير وحده .. وما سواه صغير .. إنما ذلك تقدير البشر للأشياء.
وليس هناك زمن ولا ما يعادل لمح البصر، إنما هو تشبيه لتقريب الأمر إلى حس البشر، فالزمن إن هو إلا تصور بشري، ولا وجود له في حساب الله المطلق من هذه التصورات المحدودة.
فسبحان الملك الجبار، الواحد القهار، الخالق البارئ، الذي يخلق ما يشاء، ويحكم ما يريد، ويفعل ما يشاء بكلمة واحدة:
واحدة تنشئ هذا الوجود العظيم الهائل .. وواحدة تبدل فيه وتغير .. وواحدة تذهب به كما يشاء الله .. وواحدة تحيي كل حي .. وواحدة تذهب به هنا وهناك .. وواحدة ترده إلى الموت .. وواحدة تبعثه في صورة من الصور .. وواحدة تصعق الخلائق جميعاً .. وواحدة تبعثهم جميعاً .. وواحدة تجمعهم ليوم الحشر والحساب.
واحدة لا تحتاج إلى جهد .. ولا تحتاج إلى زمن .. واحدة من الرب تفعل كل شيء .. ومعها التقدير .. وكل أمر معها مقدر ميسور: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} [القمر: 49، 50].
وبواحدة كان هلاك المكذبين على مدار القرون، قوم نوح وعاد وثمود، وقوم لوط، وقوم فرعون، وقوم شعيب، فهل من يتذكر ويعتبر؟.
وكل حدث .. وكل عمل .. وكل تدمير .. مكتوب مرقوم: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ
وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)} [القمر: 51 - 53].
فما أعظم الله، وما أعظم قدرته، وما أوسع ملكه، وما أشمل تدبيره، وما أعظم بطشه بمن عصاه.
إن هذا الفضاء الشاسع الرهيب مملوء بالكواكب والنجوم، لا يختل مدار نجم فيه بمقدار شعرة، ولا يختل حساب السير والتوازن والتناسق في حجم ولا حركة:{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} [يس: 40].
فسبحان: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 2، 3].
وسبحان الذي خلق الخلق، ويدبر الأمر في السموات والأرض، ولا يشغله شأن عن شأن، ينفذ أقداره وتدابيره في خلقه، في أوقاتها التي اقتضتها حكمته، وهي أحكامه الدينية التي هي الأمر والنهي، وأحكامه القدرية التي يجريها على عباده مدة مقامهم في هذه الدار:{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29].
إن هذا الوجود الكبير الذي لا تعرف له حدود، ما نبصره وما لا نبصره، العالم العلوي، والعالم السفلي، كل منوط بقدر الله سبحانه، متعلق بمشيئته، وهو قائم بتدبيره سبحانه الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم.
وهذا التدبير يتناول الوجود كله جملة، ويتناول كل فرد فيه على حدة، ويتناول كل عضو، ويتناول كل خلية، ويتناول كل ذرة، ويعطي كل شيء خلقه كما يعطيه وظيفته .. ثم يراقبه وهو يؤدي وظيفته:{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)} [الأحزاب: 52].
هذا التدبير والتصريف، وهذه المراقبة والمتابعة، التي تتبع كل ما ينبت وما يسقط من ورقة، وما يكمن من حبة في ظلمات الأرض، وكل رطب ويابس، وكل حيوان وطائر.
تدبير يتبع الطيور في جوها .. ويتبع الأسماك في بحارها .. ويتبع الحيوانات في
أرضها .. والديدان في مساربها .. والحشرات في مخابئها .. والوحوش في أوكارها .. ويتبع كل بيضة .. وكل فرخ .. وكل جناح .. وكل ريشة .. وكل خلية في جسم حي.
وصاحب الخلق والتدبير والتصريف لا يشغله شأن عن شأن، ولا يند عن علمه ظاهر ولا خاف:{يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} [لقمان: 16].
ومن هذا شأن العباد وأعمالهم، من ملائكة في السماء، ومن إنس وجن في الأرض.
يسمع سبحانه كلامهم .. ويبصر أفعالهم .. ويعلم أحوالهم، ولا يخفى عليه شيء من أمرهم.
فسبحان من خلق هذه الخلائق، وتولى أمرها بالتصريف والتدبير، وأحاط بها كلها فلا يخفى عليه شيء منها.
إن هذا الكون العظيم من الدقة والتقدير بحيث لا يقع فيه حادث إلا وهو مقرر قبل خلقه، محسوب زمان وقوعه، ومكان حدوثه، وحجم ذلك الحدث.
لا مكان فيه للمصادفة، ولا شيء فيه جزاف.
وقبل خلق الأرض، وقبل خلق الأنفس، كان في علم الله الشامل الكامل الدقيق كل حدث سيظهر للخلائق في وقته المقدور:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} [الحديد: 22، 23].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلائِقِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السموات وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» أخرجه مسلم (1).
(1) أخرجه مسلم برقم (2653).
والله بكل شيء عليم، وفي علم الله لا شيء ماض، ولا شيء حاضر، ولا شيء قادم، فتلك الفواصل الزمنية إنما هي معالم لنا نحن أبناء الفناء، نرى بها حدود الأشياء، فنحن لا ندرك الأشياء بغير حدود تميزها، حدود من الزمان، وحدود من المكان، وحدود من الأحجام.
أما الله سبحانه فهو كامل الذات والصفات، وهو الحق الذي يطلع جملةً على هذا الوجود بلا حدود ولا قيود، ولا يند عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14].
وهذا الكون وما يقع فيه من أحداث وأطوار منذ نشأته إلى نهايته، كائن في علم الله جملة، لا حدود فيه ولا فواصل من زمان أو مكان.
ومعرفة القلب بهذه المقادير التي قدرها الله يسكب فيه الطمأنينة والسكون عند استقبال الأحداث خيرها وشرها:
فلا تجزع الجزع الذي تطير به شعاعاً، وتذهب معه حسرات عند الضراء، ولا تفرح الفرح الذي تستطار به، وتفقد الاتزان عند السراء، فكل شيء لا يكون إلا بأمر الله ومشيئته:{لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} [الحديد: 23].
إن الإنسان ضعيف، يجزع وتستخفه الأحداث حين ينفصل بذاته عن هذا الوجود، ويتعامل مع الأحداث كأنها شيء عارض يصادم وجوده الصغير.
فأما حين يستقر في تصوره وشعوره أنه هو والأحداث التي تمر به وتمر بغيره والأرض كلها ذرات في جسم كبير، هو هذا الوجود، وأن هذه الذرات كائنة في موضعها، في الصنع الكامل الدقيق، لازم بعضها البعض، وأن ذلك كله مقدر مرسوم معلوم في علم الله المكنون.
حين يستقر هذا في تصور الإنسان وشعوره فإنه يحس بالراحة والطمأنينة لمواقع القدر كلها على السواء.
فلا يأسى على فائت أسىً يؤلمه ويزلزله، ولا يفرح بحاصل فرحاً يستخفه
ويذهله.
ولكن يمضي مع قدر الله في طواعية ورضى، رضا العارف المدرك أن ما هو كائن هو الذي ينبغي أن يكون.
وهذه درجة عالية قد لا يستطيعها ولا يصل إليها إلا القليلون من البشر.
فأما سائر المؤمنين فالمطلوب منهم ألا يخرجهم الألم للضراء ولا الفرح بالسراء عن دائرة التوجه إلى الله، وذكره بهذه وبتلك.
ولن يجد أحد طعم الأيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، أن ما كان لا بد أن يكون.
ومن يتوكل على الله في أمر دينه ودنياه ويفعل ما أمره الله به فهو حسبه وكافيه، لأنه الغني القوي العزيز، ولكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخير طلبه إلى الوقت المناسب له، فأمر الله لا بد من نفوذه، ولكنْ له وقت مقدر لا يتعداه ولا يقصر عنه:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 2، 3].
وكل ما يفعله الله ويقضيه ويقدره على خلقه فيه مصالح وحكم:
فما يفعله سبحانه من المعروف والإحسان دال على رحمته.
وما يفعله من البطش والانتقام دال على غضبه.
وما يفعله من اللطف وا لإكرام دال على محبته.
وما يفعله من الإهانة والخذلان دال على بغضه ومقته.
وما يفعله بمخلوقاته من النقص ثم الكمال، والحياة بعد الموت، دال على وقوع المعاد.
وخلق الله لا يبدله أحد، فما جبل الله الناس عليه من الفطرة لا يبدل كما قال سبحانه:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم: 30].
وما سبق به القدر من الكفر والإيمان لا يقع خلافه، ولكن ذلك لا يقتضي أن
تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس ممتنع، ولا أنه غير مقدور، بل العبد قادر على ما أمره الله به من الإيمان، وعلى ترك ما نهاه عنه من الكفر، وعلى أن يبدل سيئاته بالحسنات، وحسناته بالسيئات كما قال سبحانه:{إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)} [النمل: 10، 11].
وقال الله سبحانه: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)} [البقرة: 108].
وهذا التبديل كله بقضاء الله وقدره، وهذا بخلاف ما فطروا عليه حين الولادة، فإن ذلك خلق الله الذي لا يقدر على تبديله غيره، وهو سبحانه لا يبدله.
بخلاف تبديل الكفر بالإيمان، والإيمان بالكفر، فإنه يبدله كثيراً، والعبد قادر على تبديله بإقدار الرب له على ذلك كما قال سبحانه:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)} [الفرقان: 70].
وقال سبحانه في تبديل العباد: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)} [إبراهيم: 28، 29].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أو يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟» . ثُمَّ يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30]، متفق عليه (1).
وهو سبحانه الذي له الخلق والأمر وحده، فالخلق قضاؤه وقدره وفعله، والأمر شرعه ودينه، فهو الذي خلق وشرع وأمر، وأحكامه جارية على خلقه قدراً وشرعاً.
ولا خروج لأحد عن حكمه الكوني القدري، وأما حكمه الديني الشرعي
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1359)، واللفظ له، ومسلم برقم (2658).
فيطيعه الأبرار، ويعصيه الفجار.
والأمران غير متلازمين، فقد يقضي ويقدر ما لا يأمر به ولا شرعه، وقد يشرع سبحانه ويأمر بما لا يقضيه ولا يقدره، ويجتمع الأمران فيما وقع من طاعات عباده وإيمانهم، وينتفى الأمران عما لم يقع من المعاصي والفسق والكفر.
وينفرد القضاء الديني والحكم الشرعي فيما أمر به وشرعه ولم يفعله المأمور، وينفرد الحكم الكوني فيما وقع من المعاصي.
والقضاء في كتاب الله نوعان:
أحدها: كوني قدري كقوله سبحانه: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)} [سبأ: 14].
الثاني: ديني شرعي كقوله سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].
والله تبارك وتعالى خلق الإنسان وخلق صفاته وأفعاله، ويسر هذا لليسرى ويسر هذا للعسرى، وذلك بحسب ما يعمله العبد من الطاعات والمعاصي كما قال سبحانه:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: 5 - 10].
فالتيسير لليسرى يكون بثلاثة أمور:
أحدها: إعطاء العبد ما أمر به، وسمحت به طبيعته بإعطائه من نفسه الإيمان والطاعة، والإخلاص والتوبة، والحمد والشكر، وإعطاؤه الإحسان والنفع بماله وبدنه.
فالنفس المطيعة هي النافعة المحسنة التي طبعها الإحسان لنفسها ولغيرها.
فهي بمنزلة العين التي يشرب الناس منها، ويسقون زروعهم ودوابهم منها، فهي ميسرة لذلك.
وهكذا الإنسان المبارك ميسر للنفع حيث حل، فجزاء هذا أن ييسره الله لليسرى
كما كانت نفسه ميسرة للعطاء.
الثاني: التقوى: وهي اجتناب ما نهى الله عنه، وهذا من أعظم أسباب التيسير، فالمتقي ميسرة عليه أمور دينه ودنياه وآخرته.
وتارك التقوى وإن تيسرت عليه بعض أمور دنياه، تعسر عليه من أمور آخرته بحسب ما تركه من التقوى.
وأما تيسير ما تيسر عليه من أمور الدنيا فلو اتقى الله لكان تيسيرها عليه أتم، ولو قدر أنها لم تتيسر له فقد يسر الله له من الدنيا ما هو أنفع له مما ناله بغير التقوى.
فإن طيب العيش، ونعيم القلب، ولذة الروح، وفرحها وابتهاجها من أعظم نعيم الدنيا، وهو أجل من نعيم أرباب الدنيا بالشهوات واللذات:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)} [الطلاق: 4].
الثالث: التصديق بالحسنى: وهي (لا إله إلا الله) وما لأهلها من الثواب العظيم في الجنة، فلا تحصل النجاة من العذاب إلا بها وبحقها.
والعقوبة في الدنيا والآخرة على تركها أو ترك حقها.
فالنفس فيها ثلاث قوى:
قوة البذل والإعطاء .. وقوة الكف والامتناع وهي التقوى .. وقوة الإدراك والفهم.
فهذه القوى الثلاث عليها مدار صلاحها وسعادتها، وبفسادها يكون فساده وشقاوتها.
وأكمل الناس من كملت له هذه القوى الثلاث، ودخول النقص بحسب نقصانها.
فمن كملت له هذه القوى يسر لكل يسرى، فيجري الخير على يديه، وييسر على قلبه ولسانه، ويديه وجوارحه، فتصير خصال الخير ميسرة عليه، منقادة لا تستعصي عليه، لأنه مهيأ لها، ميسر لفعلها:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)} [الليل: 5 - 7].
أما التيسير للعسرى فيكون بثلاثة أسباب إذا فعلها العبد كما قال سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: 8 - 10].
فمن عطل قوة الإدراك والإعطاء عن فعل ما أمر به، واستغنى بترك تقوى ربه فعطل قوة الانكفاف والترك عن فعل ما نهى عنه، وكذب بالحسنى فعطل قوة العلم والشعور عن التصديق بالإيمان وجزائه يسره الله للعسرى.
فحال بينه وبين الإيمان بالله ورسوله، فعسر عليه أن يعطى خيراً، وتيسر له فعل الشر الذي يؤدي به إلى العذاب، وهو الخلة العسرى، والخير يؤدي إلى اليسرى وهي الجنة.
والتيسير للعسرى يكون بأمرين:
أحدهما: ان يحول بينه وبين أسباب الخير، فيجري الشر على قلبه ونيته، ولسانه وجوارحه.
الثاني: أن يحول بينه وبين الجزاء الأيسر، كما حال بينه وبين أسبابه، فليس له بعد ذلك إلا العسرى وهي النار.
ولا يمكن للعبد أن يستغني عن ربه طرفة عين، فالمتقي لما استشعر فقره وفاقته وشدة حاجته إلى ربه اتقاه، ولم يتعرض لسخطه وغضبه بارتكاب ما نهاه عنه.
فمن احتاج إلى أحد اتقى غضبه، واجتنب ما يكرهه، وفعل ما يحبه ويؤثره.
أما من استغنى عن ربه، فاستكبر عن طاعة ربه، وفعل ما يغضبه، فإنه سيعذبه في الدنيا والآخرة، ويلقى العسر والشدة في الدنيا والآخرة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ، إِلا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، وَمَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أفَلا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ قَالَ:«اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ السَّعَادَةِ، فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ السَّعَادَةِ وَأمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ الشَّقَاوَةِ» . ثُمَّ قَرَأ: «{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى
وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}» متفق عليه (1).
والله عز وجل هو الذي يسر للعبد أسباب الخير والشر، وخلق خلقه قسمين:
أهل سعادة فيسرهم لليسرى .. وأهل شقاوة فيسرهم للعسرى.
واستعمل هؤلاء في الأسباب التي خلقوا لغاياتها، لا يصلحون لسواها، هؤلاء في الأسباب التي خلقوا لغاياتها، لا يصلحون لسواها.
وحكمته الباهرة تأبى أن يضع عقوبته في موضع لا تصلح له، كما يأبى أن يضع كرامته وثوابه في محل لا يصلح لهما ولا يليق بهما.
بل حكمة آحاد خلقه تأبى ذلك، ومن جعل محل المسك والرجيع واحداً فهو من أسفه السفهاء.
والقدر السابق من الله على عباده لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتكال عليه، فالعبد إنما ينال ما قدر له بالسبب الذي أقدر عليه، ومكن منه، وهيئ له.
فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب.
وكلما زاد اجتهاداً في تحصيل السبب كان حصول المقدور أدنى إليه.
ومن قدر الله أن يرزقه الولد لم ينل ذلك إلا بالنكاح.
ومن قدر الله له أن يكون أعلم أهل زمانه فإنه لا ينال ذلك إلا بالاجتهاد والحرص على التعلم وأسبابه.
ومن عطل العمل، اتكالاً على القدر السابق، فهو بمنزلة من عطل الأكل والشرب، اتكالاً على ما قدر له، وهل يفعل هذا من له مسكة من عقل؟.
وقد فطر الله تبارك وتعالى الإنسان والحيوان على الحرص على الأسباب التي بها مرام معاشهم ومصالحهم الدنيوية.
فهكذا الأسباب التي بها مصالحهم الأخروية، فهو سبحانه رب الدنيا والآخرة، وهو الحكيم بما نصبه من الأسباب في المعاش والمعاد.
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4949) واللفظ له، ومسلم برقم (2647).
وقد يسر كلاً من خلقه لما خلقه له في الدنيا والآخرة، فهو مهيء له ميسر له.
وإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها من الإيمان والأعمال الصالحة كان أشد اجتهاداً في فعلها من القيام بها في أسباب معاشه ومصالح دنياه.
وإذا علم العبد أن سلوك هذا الطريق يفضي به إلى رياض مونقة، وبساتين ومساكن طيبة، ولذة ونعيم لا يشوبه نكد ولا تعب، كان حرصه على سلوكها، واجتهاده في السير فيها بحسب علمه بما يفضي إليه.
ومن سبقت له من الله سابقة، وهيأه ويسره للوصول إليها كان فرحه بالسابقة التي سبقت له من الله أعظم من فرحه بالأسباب التي تأتي بها.
والقدر السابق إحاطة بعمل الإنسان قبل أن يعمله، فإذا وقع انكشف للعبد ما كان يجهله، والقدر السابق معين على الأعمال وما يحث عليها ومقتضي لها، لا أنه منافٍ لها وصاد عنها.
والنبي صلى الله عليه وسلم أرشد الأمة في القدر إلى أمرين هما سبب السعادة:
الإيمان بالأقدار فإنه نظام التوحيد .. والإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره .. وتحجز عن شره .. وذلك نظام الشرع.
فأرشدهم إلى نظام التوحيد والأمر.
فإن قيل:
لم جعل هذا لا يليق به إلا الكرامة؟، وهذا لا يليق به إلا الإهانة؟.
قيل: شأن الربوبية خلق الأشياء وأضدادها، والملزومات ولوازمها.
ولولا خلق المتضادات لما عرف الخلق كمال قدرة الله، وكمال حكمته، وكمال مشيئته، ولما ظهرت أحكام الأسماء والصفات.
وإذا أعطي الإنسان اسم (الملك) حقه ولن يستطيع، علم أن الخلق والأمر .. والثواب والعقاب .. والعطاء والحرمان .. أمر لازم لصفة الملك .. وأن صفة الملك تقتضي ذلك ولا بد .. والملك الحق يقتضي إرسال الرسل .. وإنزال
الكتب .. وأمر العباد ونهيهم .. وثوابهم وعقابهم .. وإكرام من يستحق الإكرام .. وإهانة من يستحق الإهانة.
كما تستلزم حياة الملك وعلمه، وقدرته وإرادته، وسائر صفات كماله.
إن شعور المؤمن وتذكره دائماً، بأنه يمضي مع قدر الله في طاعة الله، لتحقيق مراد الله، وما يحبه الله.
وعلمه بأن الله خلق هذا الكون، وقدر ما يجري فيه من الحركات والسكنات، والحسنات والسيئات.
وإيمانه بأن الأمور كلها بيد الله .. حلوها ومرها .. خيرها وشرها.
ذلك كله يسكب في روحه وقلبه الطمأنينة والسلام والأمن والاستقرار، والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق، ولا سخط على العقبات والمشاق، بلا قنوط من عون الله ومدده، وبلا خوف من ضلال القصد، أو ضياع الجزاء:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28].