المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ موقف عمر بن الخطاب من الفتوحات - السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي

[عبد الشافى محمد عبد اللطيف]

فهرس الكتاب

- ‌[بحوث في السيرة النبوية والتأريخ الإسلامي]

- ‌مقدّمة

- ‌[البحث الأول] أوائل المؤلفين في السيرة النبوية

- ‌ مقدمة

- ‌ دوافع المسلمين للاهتمام بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌ بداية التأليف في السيرة النبوية:

- ‌طبقات كتّاب السيرة

- ‌ رجال الطبقة الأولى من كتّاب المغازي والسير:

- ‌1- أبان بن عثمان:

- ‌2- عروة بن الزبير:

- ‌3- شرحبيل بن سعد:

- ‌4- وهب بن منبه:

- ‌ رجال الطبقة الثانية من كتّاب المغازي والسير:

- ‌1- محمد بن مسلم بن شهاب الزهري

- ‌2- عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري

- ‌3- عاصم بن عمر بن قتادة:

- ‌ رجال الطبقة الثالثة من كتّاب المغازي والسير:

- ‌1- موسى بن عقبة:

- ‌2- معمر بن راشد:

- ‌3- محمد بن إسحاق المطلبي

- ‌ رحلته إلى العراق:

- ‌ مكانة ابن إسحاق العلمية:

- ‌ متى ألف ابن إسحاق

- ‌أ- التاريخ الجاهلي:

- ‌ب- المبعث:

- ‌ج- المغازي:

- ‌ عمرو بن حزم الأنصاري:

- ‌ الواقدي

- ‌ محمد بن سعد:

- ‌[البحث الثاني] صدى الدعوة في مدن الحجاز غير مكة- كالطائف والمدينة

- ‌ الحالة الدينية في الحجاز قبيل ظهور الإسلام:

- ‌ الحالة الدينية في المدينة قبيل البعثة:

- ‌ صدى الدعوة في يثرب:

- ‌ صدى الدعوة لدى اليهود في يثرب:

- ‌ اثر اليهود في تطور موقف عرب يثرب من الدعوة:

- ‌ صدى الدعوة في يثرب بعد اتصالاتها المباشرة بالنبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌ التحول الكبير في موقف عرب يثرب:

- ‌ صدى رحلة مصعب بن عمير:

- ‌ اهل يثرب والتحدي الكبير:

- ‌ صدى الدعوة في خيبر:

- ‌[البحث الثالث] العلاقات بين المسلمين وقريش من الهجرة إلى بدر

- ‌العلاقات بين المسلمين وقريش من الهجرة إلى بدر

- ‌ قريش تستمر في إلحاق الأذى بالمهاجرين:

- ‌ قريش تصادر ديار المهاجرين واموالهم:

- ‌ المهاجرون في سجون مكّة:

- ‌ الدولة الإسلامية تقوم في المدينة لتحمي الدعوة:

- ‌ التحديات الكبرى أمام الدولة الوليدة:

- ‌ النشاط العسكري الإسلامي قبل بدر:

- ‌ أهداف السرايا والغزوات الأولى:

- ‌ سرية عبد الله بن جحش

- ‌[البحث الرابع] العلاقات بين المسلمين والروم في ضوء غزوة تبوك

- ‌ تمهيد:

- ‌ المسلمون قبل اتصالهم بالروم:

- ‌ اتصال المسلمين بالروم:

- ‌ المقدمات التي أدّت إلى غزوة مؤتة:

- ‌ تدخل الروم في مؤتة إعلان حرب على الإسلام:

- ‌ من مؤتة إلى تبوك:

- ‌ الأسباب المباشرة لغزوة تبوك:

- ‌ ماذا صنع النبي في تبوك

- ‌ نتائج غزوة تبوك:

- ‌[البحث الخامس] الإدارة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ المقصود بالإدارة هنا:

- ‌ طبيعة الدعوة الإسلامية:

- ‌ قيام الدولة الإسلامية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌ أول رئيس للدولة الإسلامية:

- ‌ هيئة الحكومة النبوية:

- ‌ صاحب السر:

- ‌ صاحب الشرطة:

- ‌ حراس الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌ حراس المدينة أو شرطة المدينة:

- ‌ المنفذون للحدود بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌ حجّاب الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌ حاملوا خاتم الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌ بيت الضيافة:

- ‌ مراقبة الأسواق:

- ‌ جهاز جمع المعلومات «المخابرات» :

- ‌ كتّاب الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌ جهاز الإعلام:

- ‌ خلفاء الرسول على المدينة أثناء غيابه عنها في غزو أو غيره:

- ‌ اتساع نفوذ الدولة الإسلامية:

- ‌ اليمن أول إقليم عربي يدخل تحت سيادة الدولة الإسلامية:

- ‌ ولاية مكة:

- ‌ ولاية الطائف:

- ‌ إسلام البحرين:

- ‌ إسلام اهل عمان:

- ‌[البحث لسادس] دولة الإسلام وعلاقاتها الدولية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ قيام دولة الإسلام: * في عهد النبي:

- ‌ الإسلام دين عالمي:

- ‌ السلام أساس العلاقات الدولية في الإسلام:

- ‌ الحرب المشروعة في الإسلام:

- ‌الحالة الأولى: الدفاع عن النفس

- ‌الحالة الثانية: الدفاع عن المظلومين

- ‌الحالة الثالثة: الدفاع عن حرية نشر العقيدة

- ‌ آداب الحرب في الإسلام

- ‌ مبادئ القانون الدولي في الإسلام:

- ‌ الإسلام يحترم مبعوثي الأعداء وحاملي رسائلهم:

- ‌ معاهدة الحديبية في ميزان العلاقات الدولية:

- ‌ الإسلام والعالم:

- ‌ خاتمة البحث:

- ‌[البحث السابع] قراءة تاريخية جديدة في موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الفتوحات الإسلامية

- ‌ موقف عمر بن الخطاب من الفتوحات

- ‌[البحث الثامن] دور المصريين في إنشاء البحرية الإسلامية من كتاب «مصر والإسلام»

- ‌ تمهيد:

- ‌ بداية التفكير في إنشاء قوة بحرية إسلامية:

- ‌ معارضة عمر بن الخطاب لمشروع معاوية:

- ‌ التجربة الأولى:

- ‌ التجربة الفاشلة الثانية:

- ‌ معاوية ينجح في أخذ موافقة عثمان بن عفان:

- ‌ الارتباط الأمني بين مصر والشام:

- ‌ دور الصناعة في مصر وأثرها في إنشاء الأساطيل الإسلامية

- ‌ دار الصناعة في الإسكندرية:

- ‌ دور صناعة السفن في رشيد ودمياط وتنيس:

- ‌ دار صناعة السفن بالقلزم- السويس

- ‌ دار صناعة السفن بجزيرة الروضة:

- ‌ المصريون يبنون أساطيل الشام:

- ‌ دور المصريين في إنشاء أسطول المغرب العربي:

- ‌[البحث التاسع] الفتح الإسلامي لبلاد ما وراء النهر وانتشار الإسلام هناك

- ‌ تمهيد:

- ‌ المسلمون والفرس:

- ‌ ردة الفرس بعد وفاة عمر بن الخطاب:

- ‌ سياسة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما تجاه البلاد المفتوحة:

- ‌ بلاد ما وراء النهر قبيل الفتح الإسلامي:

- ‌ المراحل التمهيدية لفتح بلاد ما وراء النهر:

- ‌ فتوحات قتيبة بن مسلم فيما وراء النهر:

- ‌ خطوات الفتح ومراحله:

- ‌المرحلة الأولى: استغرقت عاما واحدا تقريبا (86- 87 ه

- ‌المرحلة الثانية (87- 90 ه

- ‌المرحلة الثالثة (90- 93 ه

- ‌المرحلة الرابعة (93- 96 ه

- ‌ موقف الخليفة الوليد من قتيبة:

- ‌ بلاد ما وراء النهر بعد قتيبة:

- ‌ العباسيون وبلاد ما وراء النهر:

- ‌ انتشار الإسلام في بلاد ما وراء النهر:

- ‌تمهيد:

- ‌ العباسيون وانتشار الإسلام فيما وراء النهر:

- ‌[البحث العاشر] تبادل الوفود والهدايا بين خلفاء المسلمين والأباطرة البيزنطيين

- ‌ مقدمة:

- ‌ العلاقات الإسلامية البيزنطية في عهد النبي والخلفاء الراشدين:

- ‌ العلاقات الإسلامية البيزنطية في العهدين الأموي والعباسي:

- ‌ تبادل الوفود لعقد معاهدات الصلح:

- ‌ الوفود والبعثات العلمية:

- ‌ التعاون بين الدولتين في المجالات العمرانية:

- ‌ تبادل الهدايا بين الخلفاء والأباطرة:

- ‌[البحث الحادي عشر] الأمويون ودورهم في نقل الحضارة العربية الإسلامية إلى الأندلس

- ‌ملخص البحث

- ‌ بنو أمية في التاريخ:

- ‌ الأمويون والحضارة الإنسانية:

- ‌ الأمويون والترجمة:

- ‌ الفتح الإسلامي للأندلس:

- ‌ الدولة الأموية في الأندلس:

- ‌ مجمل الأوضاع السياسية والعسكرية والاقتصادية في الأندلس الأموية:

- ‌ الجيش:

- ‌ الأوضاع الاقتصادية في الأندلس الأموية:

- ‌ ازدهار الصناعة:

- ‌ دور الأمويين في نقل الحضارة العربية الإسلامية إلى الأندلس:

- ‌[البحث الثاني عشر] واقع الإنسان في المجتمعات الإسلامية المعاصرة

- ‌ جر العالم الإسلامي إلى أحلاف تخدم الأهداف الاستعمارية:

- ‌ الأحلاف الغربية الإسلامية:

- ‌ حربا الخليج الأولى والثانية وتدمير العراق:

- ‌ حرب الخليج الأولى (1980- 1988 م) :

- ‌ حرب الخليج الثانية:

- ‌ الإسلام العدو الأول للغرب:

- ‌ أهم المشكلات التي يعانيها المسلم المعاصر:

- ‌1- الظاهرة الأولى: العلاقات الإسلامية

- ‌2- الظاهرة الثانية: [غياب الديمقراطية]

- ‌[البحث الثالث عشر] نشأة الاستشراق وتطوره إلى نهاية الحروب الصليبية

- ‌ الخلفية التاريخية للاستشراق:

- ‌ دور المستشرقين المتعصبين في تشويه صورة الإسلام في الغرب:

- ‌ بداية الاستشراق:

- ‌ تطور الحركة الاستشراقية:

- ‌ الاستشراق والحروب الصليبية:

- ‌الفهرس

- ‌السيرة الذاتية للمؤلف

الفصل: ‌ موقف عمر بن الخطاب من الفتوحات

لإشباع بطونهم كما يزعم أعداء الإسلام.

*‌

‌ موقف عمر بن الخطاب من الفتوحات

بعد توضيح هذه الملاحظات أو النقاط التي كانت ضرورية لبيان موقف الخليفة عمر بن الخطاب من الفتوحات، الذي دعانا إلى إعادة قراءته وتقديمه للناس ما أشرنا إليه في البداية؛ وهو اتهامه من بعض أساتذة التاريخ بالجهل بأمر البحر، والتردد في قرار الفتح.

كان عمر بن الخطاب أقرب الصحابة رضي الله عنهم جميعا إلى أبي بكر وأبرز المشاركين في القرار السياسي، وعلى علم تام بكل شيء من أمور الدولة وبأدق التفاصيل، وكان متفقا تماما مع أبي بكر في ضرورة حرب الروم حربا وقائية، أو القيام بالهجوم الذي هو أفضل وسائل الدفاع- كما يقول العسكريون في كل زمان ومكان- بل فكر فيها ربما قبل أن يفكر فيها الخليفة أبو بكر نفسه، أو في الوقت نفسه، فقد قال لأبي بكر عند ما دعاه للاشتراك في الاجتماع الذي قرر فيه غزو الشام:«والله ما استبقنا إلى شيء من الخير إلا سبقتنا إليه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. قد والله أردت لقاءك لهذا الرأي الذي ذكرت، فما قضى الله أن يكون حتى ذكرته الآن، فقد أصبت أصاب الله بك سبل الرشاد» «1» . ولما آلت إليه الأمور بعد وفاة الصديق، كانت رحى الحرب دائرة، والجيوش الإسلامية مشتبكة في معارك كبيرة على الجبهتين الفارسية والرومية، فواجه الموقف بكل وعي وعزم وتصميم ورجولة فائقة قل نظيرها في التاريخ.

ومضى بالفتوحات إلى نهاية محددة أو فلنقل: إلى حدود جغرافية يمكن الدفاع عنها؛ ففي الشام واصلت الجيوش الإسلامية فتوحاتها إلى حدوده الشمالية حتى سلسلة جبال طوروس التي تفصله عن آسيا الصغرى، وغربا حتى سواحل البحر الأبيض المتوسط، وشرقا حتى حدوده مع العراق حيث التقت بقوات الفتح الإسلامي هناك، والحد الجنوبي للشام هو الجزيرة العربية، كما هو معروف.

وتم فتح مصر، بل تجاوزتها جيوش الفتح إلى طرابلس الغرب، وهنا كانت وقفة عمر الحاسمة بضرورة التوقف، والاكتفاء بفتح مصر «2» ، التي كان فتحها ضرورة عسكرية لتأمين الفتوحات الإسلامية في الشام، ولم يكن ممكنا ولا مقبولا، لا من

(1) انظر فتوح الشام لمحمد بن عبد الله الأزدي (ص 2) .

(2)

ابن عبد الحكم وفتوح مصر (ص 172، 173) .

ص: 216

الخليفة عمر نفسه، ولا من قائد فتح مصر عمرو بن العاص؛ تجاهل أهمية مصر العسكرية والوقف دونها، ولو حدث ذلك لانتقدهما العسكريون وخطؤوهما.

وفي العراق استقر الفاتح العظيم سعد بن أبي وقاص في المدائن عاصمة الأكاسرة من آل ساسان، بعد انتصاره الرائع عليهم في موقعة القادسية العظيمة، وهنا تصور عمر رضي الله عنه أن الخطر قد زال عن الدولة الإسلامية، باندحار جيوش الفرس والروم، ومن ثم فليس هناك داع للاستمرار في المعارك؛ فهذه البلاد التي فتحت بتلك السرعة، وإن انتزعت من الفرس والروم؛ فهي ليست بلادهم، فهي أرض عربية، ومعظم سكانها عرب، والفرس غرباء على العراق ومحتلون له، والروم غرباء على الشام ومحتلون له أيضا، ومشاعر السكان لم تكن ودية في العراق للفرس ولا في الشام للروم؛ لأسباب كثيرة.

وفي ضوء ذلك يمكن أن نفسر ونفهم مقولة الإمبراطور هرقل اليائسة وهو يغادر أنطاكيا بعد انكسار جيوشه وهزيمتها الساحقة؛ خاصة في معركة اليرموك الخالدة فقد قال- والألم يعتصر قلبه على جهوده الضائعة التي بذلها في استرداد هذه البلاد من الفرس قبل سنوات قليلة-: «عليك يا سوريا السلام؛ ونعم البلد هذا للعدو» «1» .

هذه رواية البلاذري لمقولة هرقل.

أما بتلر فقد ذكرها بصيغة أخرى في كتابه «فتح العرب لمصر» ؛ نقلا عن المصادر البيزنطية، ولكنها تؤدي ذات المعنى؛ يقول بتلر: وعرف الإمبراطور أن بقاءه بالشام قد أصبح لا غناء فيه فرحل عنها- أنطاكيا- إلى القسطنطينية في البحر، في شهر سبتمبر (سنة 636 م)، وقال إذ هو راحل:«وداعا يا بلاد الشام؛ وداعا ما أطول أمده» «2» ويقول بتلر معلقا على مقولة هرقل: «وكأننا بها تحمل ما كان يدور في نفسه من أن مجده الغابر ونصره الباهر قد انتهيا بعد الخذلان والعار، وأنه إذ يقولها ليودع عزه وبطولته» «3» . فلماذا قال هرقل هذه المقولة اليائسة التي تعبر عن فقدان الأمل نهائيّا في استرداد بلاد الشام من أيدي المسلمين؛ مع أن هذه البلاد ذاتها كان الفرس قد استولوا عليها؛ ثم استردها منهم هو نفسه منذ سنوات قليلة (622- 628 م) ؟ ليس هناك من تفسير معقول ومقبول لذلك

(1) فتوح البلدان (ص 142) .

(2)

بتلر- فتح العرب لمصر (ص 173) .

(3)

بتلر- فتح العرب لمصر (ص 173) .

ص: 217

سوى أن العاهل البيزنطي الكبير قد أدرك أن صلة القرابة بين العرب القاطنين في الشام من قبل، والعرب الفاتحين القادمين من الجزيرة العربية ستعمل عملها في استقرار الفتح الإسلامي في الشام، خاصة بعد أن يعرف عرب الشام ما يحمله لهم الإسلام من عزة وكرامة وبعد أن يتبينوا أن حركة الفتوحات الإسلامية قد حررتهم من السيطرة البيزنطية التي كانوا يبغضونها لأسباب كثيرة دينية وغير دينية، ومن ثم سيكون صعبا على الروم استرداد تلك البلاد.

وربما يكون هذا هو ما فهمه الخليفة عمر بن الخطاب نفسه، ورتب خططه المستقبلية على أساسه، فالمسلمون إذا عملوا على نشر الإسلام بين إخوانهم عرب الشام، ووضحوا لهم ما يحمله لهم من قيم العدل والحرية والمساواة فهنا يمكن أن تسهم قرابة الدم في استقرار للفتح والحكم الإسلامي، وعندئذ لن يحتاج المسلمون إلى فتوحات أو توسعات جديدة؛ لأن الإسلام ليس في حاجة إلى قوة عسكرية لينتشر، ولكنه دين ينتشر بقوة مبادئه وسماحته، فالقوة لا تستطيع أن تفرض الدين أبدا على القلوب والله تعالى يقول: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: 256] ولو كان استخدام القوة لنشر الإسلام واردا لكان في إمكان المسلمين- وقد انتصروا في كل المعارك انتصارات حاسمة- أن يجعلوا كل الشعوب المفتوحة مسلمة ولكن هذا لم يحدث، وإنما كل الذين أسلموا في تلك البلاد أسلموا طواعية، دون إجبار أو إكراه، ونتحدى أي مؤرخ أن يدلنا على حادثة واحدة أجبر فيها المسلمون أحدا على اعتناق الإسلام بالقوة.

ويعرف الناس جميعا أن الإسلام قد انتشر في بلاد بعيدة جدّا عن موطنه الأصلي مثل جنوب شرق آسيا، لا عن طريق القوة، فلم يذهب جندي واحد إلى بلد مثل أندونيسيا لينشر الإسلام فيها؛ بل انتشر الإسلام هناك عن طريق التجار المسلمين الذين كانوا يذهبون بتجارتهم ويتعاملون بالصدق والأمانة، ثم يؤدون فروض ربهم من صلاة وصيام، وكان الناس يسألونهم عما يفعلون، فيشرحون لهم حقائق ومبادئ وشرائع الإسلام فأقبل الناس على اعتناقه طواعية وتحولت أندونيسيا بكاملها إلى الإسلام، وعدد شعبها الآن يقترب من عدد الأمة العربية مجتمعة؛ قل ذلك عن بقية البلاد في جنوب شرق آسيا، وفي أفريقيا شرقا وغربا، ونحن هنا نريد مثلا لا استقصاء وحصرا؛ لعل الذين يدّعون أن الإسلام انتشر بالسيف يكفون عن ترديد تلك الفرية.

نعود إلى سياق الحديث السابق- بعد هذا الاستطراد الذي كان ضروريّا- فنلفت النظر إلى أن صلة القرابة بين عرب الجزيرة العربية الفاتحين، والعرب القاطنين

ص: 218

في كل من العراق والشام، لم تحدث تأثيرها في استقرار الفتوحات الإسلامية إلا بعد انتهاء المعارك، أما أثناء احتدامها فكانوا كلهم- تقريبا- مع الأعداء، فمن الواضح أن البيزنطيين لم يكونوا يقاتلون المسلمين بالجيش البيزنطي وحده، بل كان عدد كبير من العرب يقاتل معهم، فقد قاتلوا معهم في معارك وادي عربة، وفي أجنادين، ودمشق، بل يقول إدوارد جيبون: إن جيش الروم في اليرموك كان يتكون من مائة وأربعين ألفا، كان منهم ستون ألفا من العرب، بقيادة جبلة بن الأبهم «1» .

بل كانت تعليمات هرقل لجبلة أن يكون هو وقومه في المقدمة لمواجهة الجيوش الإسلامية، فقد قال له: كونوا في المقدمة فإن هلاك كل شيء بجنسه ولا يقطع الحديد إلا الحديد «2» .

إذن كان عرب العراق عونا للفرس، وعرب الشام عونا للروم ضد المسلمين، بل يمكننا القول: إن عداء عرب الشام للإسلام والمسلمين منذ البداية كان من الأسباب المباشرة للصدام بين المسلمين والبيزنطيين.

ولذلك فليس صحيحا ما ذهب إليه بعض الكتاب، مثل فيليب حتى من أن عرب الشام كانوا عونا للعرب الفاتحين، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث قال:

إن الفتح الإسلامي كان حركة قومية، وأن الفوز فيه كان للقومية العربية لا للدين الإسلامي «3» ، أرأيت شططا في القول أبعد من هذا؟ فهل كان المسلمون الفاتحون يفكرون في القومية العربية آنذاك؟ سبحانك ربي هذا بهتان عظيم، وكل هذه الأقوال هدفها تقليل الجهد الذي بذله المسلمون في الفتوحات الإسلامية. على كل حال ما يهمنا من شرح أوضاع العرب في الشام والعراق وموقفهم من الإسلام قبل وأثناء وبعد الفتوحات، هو أن نفهم موقف الخليفة عمر بن الخطاب من تلك الفتوحات الذي هو هدفنا من هذا البحث؛ لأن هذا الموقف في حد ذاته من أقوى الأدلة على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف، وأن الحرب لم تكن هدفا من أهداف الإسلام والمسلمين؛ وإنما كان وسيلة ضرورية لإزالة العوائق والسدود التي أقامها الفرس والروم ضد الإسلام، فلو زالت تلك العوائق لم يعد هناك مبرر للحرب أبدا،

(1) نقلا عن كتاب خالد بن الوليد لأغا إبراهيم أكرم (ص 433) .

(2)

فتوح الشام للواقدي (1/ 152) .

(3)

فيليب حتى- تاريخ العرب (ص 197) نقلا عن حركة الفتوحات الإسلامية للدكتور شكري فيصل (ص 45) .

ص: 219

وهذا ما تصوره عمر بن الخطاب عند ما أصدر أوامره الحاسمة للقادة المسلمين بعدم مواصلة الحروب، فقد قال لسعد بن أبي وقاص- بعد انتصاره العظيم في معركة القادسية، واستقراره في المدائن عاصمة الفرس عند ما طلب الإذن بالاستمرار في الفتوحات-:«لوددت أن بين السواد وبين الجبل سدّا لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم، حسبنا من الريف السواد- أي: أرض العراق- إني آثرت سلامة المسلمين على الأنفال» «1» هذا موقف الخليفة في وضوح وحسم، رجل يعرف ما يريد ويقدر مسؤوليته عن سلامة المسلمين، التي هي عنده أفضل من الغنائم.

وفي هذا السياق كان رفضه الحاسم أيضا أن يستمر عمرو بن العاص في الفتوحات في الشمال الأفريقي، وكان قد وصل إلى طرابلس الغرب- كما أشرنا آنفا- وأمره بالعودة إلى مصر.

ثم كان رفضه الأشد حسما لطلب معاوية بن أبي سفيان وإلى الشام بالبدء في إنشاء أسطول لحماية شواطئ المسلمين في الشام ومصر من هجمات الأسطول البيزنطي؛ لأن الخليفة لم يكن يرى ضرورة لذلك في ذلك الوقت، ولم يقبل كل المبررات التي ساقها معاوية بشأن جزيرة قبرص وما كانت تمثله من تهديد خطير للمسلمين في الشام، وقال قولته الخالدة ردّا على مبررات معاوية:«والله لمسلم واحد أحب إليّ مما حوت الروم» «2» . هذا هو الخليفة العظيم الذي يحرص على سلامة الرجال، ويخاف عليهم من الخطر فموقفه إذن موقف رجل يعلم ويدرك تماما خطورة هذه الأمور، ويرى من واجبه الحفاظ على سلامة الرجال، وليس جهلا منه بأمر البحر، فهو قد مر بتجربتين بشأن الغزو في البحر، كلتاها انتهت بكارثة بالنسبة للمسلمين، ولعل ذلك كان له أثر في موقفه من نزول المسلمين إلى البحر، فقد كان يرى أن الوقت لا زال مبكرا، والاستعدادات لم تكن كافية، وكان يريد أن يترك ذلك للمستقبل حيث يستعد المسلمون للنزول إلى هذا الميدان الخطير استعدادا جيدا.

أما التجربتان اللتان مر بهما المسلمون بشأن الغزو في البحر فقد كانت الأولى هي غزوة العلاء بن الحضرمي لفارس من جزيرة البحرين، وبدون علم الخليفة، وكان

(1) تاريخ الطبري (4/ 28) .

(2)

تاريخ الطبري (4/ 259) .

ص: 220

ذلك (سنة 17 هـ)«1» ، فقد أراد العلاء بهذه المبادرة- ولا نريد أن نقول:

المغامرة- أن يسطر نصرا مثل انتصارات سعد بن أبي وقاص، فإذا كان سعد قد فتح المدائن عاصمة آل ساسان، فلماذا لا يفتح هو مدينة اصطخر، وهي ليست أقل من المدائن في الأهمية؟.

وعلى كل حال هذه منافسة شريفة بين الرجال ولا بأس بها، غير أن الخطورة فيما قام به العلاء أنه قام به دون علم أو إذن الخليفة، خاصة وأنه عرض المسلمين لكارثة، فقد مكر بهم الفرس وأحاطوا بهم بعد أن تركوهم ينزلون شواطئهم، وكادوا يفنونهم عن آخرهم لولا أن عمر بن الخطاب تدارك الأمر بسرعة وأنقذهم بنجدة سريعة من جند المسلمين الذين كانوا يرابطون في جنوب العراق، بقيادة عتبة ابن غزوان.

وكان جزاء العلاء بن الحضرمي على تلك المخالفة العزل من ولاية البحرين، وتكليفه بأثقل الأمور إليه- حسب تعبير ابن الأثير- وهو أن يعمل تحت قيادة سعد ابن أبي وقاص «2» .

التجربة الثانية حدثت (سنة 20 هـ) ، حيث كانت قوة من جيش الحبشة قد غزت سواحل اليمن من البحر؛ فأرسل عمر بن الخطاب حملة بحرية لتأديب الحبشة بقيادة علقمة بن مجزز المدلجي غير أن تلك الحملة هزمت وتحطمت مراكبهم، وأضيفت تجربة أخرى فاشلة إلى تجربة العلاء؛ لذلك الى عمر بن الخطاب على نفسه ألا يحمل أحدا في البحر أبدا «3» .

ويبدو أن الحبشة- رغم العلاقات الطيبة التي كانت تربطها بالمسلمين منذ أيام الرسول صلى الله عليه وسلم قد أصبحت ولأسباب لا نعرفها مصدر قلق للمسلمين؛ لدرجة أن الخلفاء الراشدين كانوا يحسبون حسابها في خططهم الحربية يروي البلاذري أنه عند ما قرر عمر بن الخطاب أن يخوض معركة نهاوند ضد الفرس، الذين نقضوا كل عهودهم ومواثيقهم مع المسلمين، وأجبروا الخليفة على تغيير موقفه السابق بشأن عدم الاستمرار في الفتوحات، وبعد أن استشار المسلمين في ذلك خاصة وأن التقارير أخذت تتوالى عليه من العراق بأن الفرس قد تجمعوا حول الإمبراطور يزدجرد الثالث،

(1) الكامل في التاريخ لابن الأثير (2/ 538، 539) .

(2)

الطبري (4/ 81) .

(3)

المصدر السابق (4/ 112) .

ص: 221

وأنهم جمعوا جموعهم في نهاوند استعدادا للانقضاض على المسلمين في العراق؛ عندئذ أدرك عمر أن الانتظار قد يكون ضارّا جدّا بالمسلمين، وأن الجمود عند الموقف السابق قد يكون كارثة فقرر أن يكون زمام المبادرة بيده، ولم يتردد لحظة واحدة في مواجهة الفرس، وجهز لذلك جيشا كبيرا.

لأن جولة جديدة من القتال ضد الفرس أصبحت ضرورة عسكرية حتى يعودوا إلى صوابهم؛ فأخذ يستشير الصحابة فيما ينبغي عمله لمواجهة هذا الموقف الخطير، فأشاروا عليه بأن يغزو أهل الشام من شامهم وأهل اليمن من يمنهم؛ يعني يحرك قوات من الشام وأخرى من اليمن للاشتراك في معركة نهاوند، لكن الخليفة الحصيف الحذر قال: أخاف إن أخليت الشام من الجنود أن تعود الروم إليها، وإن أخليت اليمن من الجنود أخاف أن تغلب الحبشة على ما يليها منها «1» .

ولذلك حرك قوات من الكوفة والبصرة، وترك قوات الشام واليمن مرابطة حيث هي لحماية البلاد والعباد فهذه هي عظمة القيادة المسؤولة، المهم أن الحبشة أصبحت عامل ضغط خارجي ضد المسلمين، وكلما واتتهم الفرصة كانوا يغيرون على شواطئ اليمن والحجاز، فقد حدث ذلك منهم في عهد عمر، وعهد عثمان بن عفان الذي اضطر أن يشحن السواحل بالرجال والسلاح لصد هجمات الأحباش «2» .

كانت هناك إذن أخطار خارجية تهدد الدولة الإسلامية، خاصة من جانب بيزنطة وكان على الخليفة العظيم أن يحسب لهذه الأخطار حسابها، ولذلك كانت وقفته الحاسمة من استمرار الفتوحات برّا وبحرا.

والنظر إلى البلاد المفتوحة ومشاكلها وإداراتها إدارة سليمة، ونشر الإسلام والتمكين له في البلاد عن طريق المعاملة الحسنة والإدارة الحسنة والقدوة الحسنة، فهذه هي مهمة المسلمين الأساسية، وهذا ما كان عمر بن الخطاب يهدف إلى تحقيقه من عدم استمرار الفتوحات، وكان يعرف يقينا أنه بعد أن ينجح المسلمون في تثبيت أقدامهم في البلاد المفتوحة ويضربون للناس المثل العملي على سمو الإسلام ومبادئه وعدله وما يحمل لهم من عزة وكرامة وحرية، فإن الناس عندئذ سوف يقبلون على الإسلام من تلقاء أنفسهم، فمن ذا الذي يرفض العدل والحرية والمساواة

(1) انظر فتوح البلدان للبلاذري (ص 300) .

(2)

ابن أعثم الكوفي كتاب الفتوح (2/ 116، 117) .

ص: 222

والعزة والكرامة؟!.

فعمر بن الخطاب عند ما عارض قادته في الاستمرار في الفتوحات كان يتصرف كرجل دولة مسؤول، يعرف تماما ماذا يريد وماذا يقدر عليه، ولم يكن مرتجلا لسياسته ولا مترددا- حاشا لله- كما تظهره بعض الروايات المتهاوية، مثل رواية استشارته لعمرو بن العاص عن البحر والسؤال عن أحواله، ومثل تردده في فتح مصر من البداية، والقصة الضعيفة التي تقول: إنه أرسل لعمرو بن العاص رسالة، وقال له فيها: إذا وصلك كتابي هذا قبل أن تدخل أرض مصر فارجع ولا تدخلها وإن وصلك وقد دخلت فلا ترجع. وأن عمرو وصله الكتاب قبل أن يصل إلى حدود مصر، ولكنه لرغبته القوية في فتح مصر لم يفتح الكتاب إلا بعد أن تجاوز العريش ودخل في أرض مصر. وأشهد على ذلك لئلا يعاقبه الخليفة على مخالفة أوامره.

هذه الرواية وأمثالها تدخل في باب الحكايات؛ لأن فتح مصر ليس أمرا سهلا حتى يؤخذ بهذه البساطة، بل عملا كبيرا وكان ضرورة عسكرية لتأمين الفتوحات في الشام. وترك مصر في أيدي الروم وقد انسحب إليها بقايا الجيش البيزنطي المنهزم في فلسطين يكون خطرا على المسلمين. ولو لم يفتحوا مصر لكانوا قد ارتكبوا خطأ كبيرا؛ وهم أعقل وأحصف من أن يقعوا في مثل هذا الخطأ الجسيم.

ولذلك فتح مصر تم باتفاق تام بين الخليفة عمر بن الخطاب وقائده العبقري عمرو ابن العاص، بل إن ابن عبد الحكم يروي عن الليث بعد سعد أن عمر بن الخطاب هو الذي أمر عمرو بن العاص بالتوجه إلى مصر لفتحها، وكتب له:«أن اندب الناس إلى السير معك إلى مصر؛ فمن خف معك فسر به» «1» .

وهذه الرواية تتفق مع تفكير عمر بن الخطاب ورؤيته للفتوحات؛ وتتفق أيضا مع سير الأحداث ويقبلها العقل، أما الرواية التي أشرنا إليها منذ قليل؛ فيجب رفضها تماما. وإذا كان علماء الحديث لا يقبلون الحديث الذي يخالف متنه مقررات الشريعة الإسلامية ومقاصدها العليا؛ فنحن بالقياس نرفض روايات التاريخ التي لا تتفق مع العقل والمنطق وسياق الحوادث والنظرة الكلية للأمور.

ملاحظة أخيرة نسجلها ونحن في ختام هذا البحث؛ هي أننا نلفت نظر كل من يتحدث أو يكتب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ أن يأخذ في الاعتبار الظروف التي

(1) فتوح مصر (ص 57) .

ص: 223

كان يعيشها الرجل؛ ففي الوقت الذي كان يصارع دولتين كبيرتين؛ بل أكبر دول عصرهما؛ وهما فارس والروم؛ وقد وفقه الله إلى القضاء على أولاهما ووضع حدّا لغطرستها وعتوها وجبروتها على العباد، وحجم الثانية وأخذ منها أعز مستعمراتها في الشرق وأغناها الشام ومصر، وأشرف باقتدار على الحروب، ولم يستطع أي باحث أن يخطئه في قرار من قراراته الكثيرة، وفي الوقت نفسه كان يكمل بناء وتأسيس الدولة الإسلامية العظيمة، التي أرساها الرسول صلى الله عليه وسلم وتابعه في تأسيسها الصديق رضي الله عنه، ويرسي دعائم مؤسساتها السياسية والإدارية، حتى تركها أقوى وأعظم دولة في عالمها كل ذلك في عشر سنين من عمر الزمن.

لقد كان عمر عبقريّا لم يفر فري أحد؛ كما أخبر بذلك الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم ومن يريد أن يعرف عبقرية عمر السياسية والإدارية فليرجع إلى السفر الضخم القيم الذي ألفه الأستاذ الدكتور/ سليمان الطهاوي عن عمر بن الخطاب. وعنوانه «عمر ابن الخطاب وأصول السياسة والإدارة الحديثة- دراسة مقارنة» «1» .

(1) ويقع الكتاب في (512) صفحة من القطع الكبير، نشر دار الفكر العربي.

ص: 224