الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العالمي، ممثلا في الرسائل التي حملها مبعوثو النبي صلى الله عليه وسلم إلى زعماء العالم، كل ذلك لم يكن ممكنا قبل إخضاع قريش وتقييد حركتها ضد الإسلام، ورغم أنها ظنّت- بل ظنّ بعض المسلمين- أنها خرجت كاسبة من معاهدة الحديبية، ولكن في واقع الأمر كان صلح الحديبية انتصارا رائعا لدبلوماسية الرسول صلى الله عليه وسلم وسياسته الحكيمة وبعد نظره، وقد دلّت كل وقائع التاريخ بعد ذلك على نجاح هذه السياسة النبوية، وصدق الله العظيم الذي سمى هذا الصلح: فَتْحاً مُبِيناً [الفتح: 1] .
هل تعجب- بعد أن علمت ورأيت كل ذلك- من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطى كل هذه الأهمية لقريش، وكرّس معظم جهوده لمعالجة العلاقات معها؟ حتى علاقاته بالقبائل الآخرى التي كانت تقطن المناطق الساحلية على الطريق بين مكة والمدينة- خزاعة وجهينة وغفار وضمرة وبنو مدلج وغيرهم- والتي حالفها ووادعها وعاهدها، كانت جزآ رئيسيّا من سياسته صلى الله عليه وسلم ضد قريش ومن خطته في محاصرتها، وتضييق الخناق عليها، وأخذ طريق تجارتها لإجبارها على التخلي عن معاداتها للدعوة الإسلامية. ودراسة خطة النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الفترة تجاه قريش بالذات، تعتبر ذات أهمية كبيرة لدارس سيرة الرسول، وخط سير الدعوة الإسلامية، ومراحلها الرئيسية، وما تتميز به من حركية تلائم كل مرحلة، ففي مكة كانت الدعوة إلى الله بالحجة والإقناع والصبر على الأذى في سبيل الله. وفي المدينة- بعد الهجرة وقبل بدر- كانت مرحلة الاستعداد والاستكشاف والدراسة، والتلويح بالقوة أحيانا- لإعلام خصوم الدعوة الإسلامية- وقريش بالذات- أن القوة لم تكن أمرا مستبعدا عند الضرورة. فخير لها من الآن أن تذعن لله ولرسوله. ولما لم تفهم قريش، أو لم تحاول أن تفهم؛ أو قل: لم ترد أن تفهم، كانت الحرب الصريحة- منذ بدر- لتحطيم قوى البغي والعدوان والطغيان وتطهير الطريق أمام الدعوة منها، وفي كل المراحل لم تتوقف الدعوة بالحجة والإقناع؛ لأن هذا هو الأساس والقاعدة، أما الحرب فكانت الاستثناء؛ يلجأ إليه عند الضرورة، وهي لرد العدوان؛ وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة 190] .
*
النشاط العسكري الإسلامي قبل بدر:
ظلّ النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ستة شهور في المدينة بعد الهجرة قبل أن يقوم بأي نشاط عسكري، ورأيت أنه كان مشغولا في تلك الفترة بتأسيس الدولة الإسلامية وترتيب
أوضاع المسلمين في موطنهم الجديد، ولكنه مع ذلك لم يغافل أمر تدريب المسلمين على فنون القتال، وحثهم على تعلم الرّمي، وأثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ألا إنّ القوة الرّمي» قالها ثلاثا.
وأول عمل عسكري قام به النبي صلى الله عليه وسلم كانت السّريّة التي عقد لواءها لعمّه حمزة ابن عبد المطلب رضي الله عنه وكان ذلك في شهر رمضان من العام الأول الهجري على رأس سبعة أشهر من مهاجره- عليه الصلاة والسلام وكان اللواء أبيض، وحمله أبو مرثد كنّاز بن الحصين الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب، وبعثه رسول الله في ثلاثين رجلا من المهاجرين «وخرج حمزة يعترض لعير قريش قد جاءت من الشام تريد مكة، وفيها أبو جهل بن هشام، في ثلاثمائة رجل، فبلغوا سيف البحر؛ يعني ساحله، من ناحية العيص، فالتقوا حتى اصطفوا للقتال، فمشى مجديّ بن عمرو الجهيني، وكان حليفا للفريقين جميعا إلى هؤلاء مرة وهؤلاء مرة، حتى حجز بينهم ولم يقتتلوا، فتوجه أبو جهل وأصحابه إلى مكة، وانصرف حمزة بن عبد المطلب في أصحابه إلى المدينة» «1» . هذه رواية ابن سعد في الطبقات عن أول لواء عقده رسول الله وأول حملة عسكرية أرسلها لتناوش قريشا وتعترض طريق تجارتها. أما ابن إسحاق فيقدّم سريّة عبيدة بن الحارث في السياق على سريّة حمزة، ولكنه يتبع ذلك بقوله:«وبعض الناس يقول: كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين؛ وذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معا فشبّه ذلك على الناس» «2» . وكيفما كان الأمر، وسواء أكانت سرية حمزة أولا أم سرية عبيدة؛ فقد تتابعت السرايا والغزوات- قبل بدر- لتصل إلى أربع سرايا، وأربع غزوات قادها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، فبالإضافة إلى سريتي حمزة وعبيدة، كانت هناك سرية سعد بن أبي وقاص، في ذي القعدة من العام الأول الهجري، ثم سريّة عبد الله بن جحش في رجب من العام الثاني الهجري، وسنرجئ الحديث عن سريّة عبد الله بن جحش؛ لأنها تستحق كلمة خاصة، لما تدل عليه من تطور في العلاقات بين قريش والمسلمين، ولما ترتب عليها من نتائج جعلت الصدام العسكري بين المسلمين وقريش أصبح وشيكا ومحتما.
إلى جانب هذه السرايا التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل على رأسها أحد أصحابه، فقد
(1) ابن سعد- الطبقات الكبرى (2/ 6) وانظر بقية السرايا بعدها.
(2)
ابن هشام (2/ 200) ، وانظر أخبار بقية السرايا والغزوات بعدها.
قاد بنفسه أربع غزوات، وأولى هذه الغزوات هي غزوة الأبواء في صفر على رأس اثني عشر شهرا من مهاجره. «وحمل لواءها حمزة بن عبد المطلب وكان لواء أبيض، واستخلف على المدينة سعد بن عبادة، وخرج في المهاجرين ليس فيهم أنصاري حتى بلغ الأبواء يعترض لعير قريش فلم يلق كيدا، وهي غزوة ودّان، وكلاهما قد ورد، وبينهما ستة أميال، وهي أول غزوة غزاها بنفسه. وفي هذه الغزوة وادع مخشيّ بن عمر الضّمري، وكان سيّدهم في زمانه، على ألا يغزو بني ضمرة ولا يغزوه، ولا يكثّروا عليه جمعا، ولا يعينوا عدوّا، وكتب بينه وبينهم كتابا. وضمرة من بني كنانة. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة» «1» .
«ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بواط في ربيع الأول، من السنة الثانية للهجرة، وخرج في مائتين من أصحابه، يعترض لعير قريش فيها أمية بن خلف الجمحي ومائة رجل من قريش وألفان وخمسمائة بعير، فبلغ بواط، وهي جبال من جبال جهينة من ناحية رضوى، وهي قريب من ذي خشب، مما يلي طريق الشام، وبين بواط والمدينة نحوا من أربعة برد فلم يلق رسول الله كيدا فرجع إلى المدينة.
وفي الشهر نفسه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب كرز بن جابر الفهريّ، الذي كان أغار على سرح المدينة، فطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ سفوان من ناحية بدر، وفاته كرز ابن جابر فعاد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وهذه الغزوة يطلق عليها بعض المؤرخين غزوة بدر الأولى.
أما آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه قبل معركة بدر- فكانت غزوة ذي العشيرة في جمادى الآخرة من السنة الثانية للهجرة. خرج في مائتين من أصحابه يعترض لعير قريش حين أبدأت إلى الشام، وقد جاءه الخبر بفصولها من مكة فيها أموال قريش، فبلغ ذا العشيرة، وهي لبني مدلج بناحية ينبع، وبين ينبع والمدينة تسعة برد، فوجد العير التي خرج لها قد مضت قبل ذلك بأيام، وهي العير التي خرج لها أيضا يريدها حين رجعت من الشام فساحلت البحر، وبلغ قريشا خبرها فخرجوا يمنعونها، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر فواقعهم وقتل منهم من قتل
…
وفي
(1) انظر أخبار جميع هذه الغزوات والسرايا- ابن سعد- الطبقات (2/ 6) وما بعدها ابن هشام (2/ 230) وما بعدها- وابن كثير- السيرة النبوية (2/ 252) وما بعدها.