الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
معاوية ينجح في أخذ موافقة عثمان بن عفان:
ظل عمر بن الخطاب ثابتا على موقفه المعارض بشدة للبدء في بناء أسطول بحري عسكري إسلامي إلى أن لقي ربه؛ رضي الله عنه، وظل معاوية ثابتا على رأيه في ضرورة البدء فورا في إنشاء هذا الأسطول.
فلما توفي عمر وآلت الخلافة إلى عثمان بن عفّان في نهاية (سنة 23 هـ) جدّد معاوية مطالبته بالبدء في إنشاء الأسطول، وفاتح عثمان في الأمر، لكن عثمان لم يستجب له بسهولة، بل قال له:«قد شهدت ما رد عليك به عمر رحمه الله، حين استأمرته في غزو البحر» «1» أي: إن عثمان كان يعرف رأي عمر في القضية، وهو ليس أقل من عمر حرصا عل سلامة المسلمين.
غير أن معاوية لم ييأس؛ بل واصل إلحاحه على عثمان حتى ظفر منه بالموافقة المشروطة في نهاية المطاف، وهي أن يستعد للأمر استعدادا جيدا، وألا يكره أحدا من المسلمين على الغزو في البحر، وأن يكون هو نفسه على رأس الغزاة، ومعه امرأته، فقد قال له:«فإن ركبت البحر ومعك امرأتك، فاركبه مأذونا لك، وإلا فلا» «2» وهذا الشرط الذي أكد عليه الخليفة عثمان بن عفان، وهو أن يأخذ معاوية امرأته معه عند ما يغزو في البحر كان يقصد منه أنه إذا أخذ معه امرأته فإنه سوف يستبسل في القتال، حفاظا على عرضه.
وهذه عادة عربية قديمة، فقد كان اصطحابهم لزوجاتهم في القتال بمثابة دافع إضافي للاستبسال في القتال؛ وذلك من شدة حرص العربي على عرضه، فإذا أدرك أن عرضه معرض للخطر فإنه عندئذ يفضل الموت على الحياة.
على كل حال ظفر معاوية أخيرا بموافقة الخليفة على البدء في إنشاء أسطول إسلامي. فبدأ على الفور، وفي غضون سنوات قليلة ظهر الأسطول الإسلامي، وأصبح للمسلمين قوة بحرية هائلة، حققت أمجادا وانتصارات باهرة.
*
الارتباط الأمني بين مصر والشام:
إذا كانت الدعوة إلى بناء قوة بحرية إسلامية جاءت من معاوية بن أبي سفيان، أمير الشام إلا أن الدور الأهم في بناء تلك القوة اضطلعت به مصر، ومعاوية نفسه
(1) البلاذري- فتوح البلدان (ص 181) .
(2)
البلاذري- فتوح البلدان (ص 181) .
كان يعرف أنه بدون التعاون بين الشام ومصر؛ فلن يكتب لمشروعه أن يرى النور ويصبح حقيقة واقعة، والشام ومصر آنئذ أجزاء من الدولة الإسلامية، والتعاون بينهما لن تكون أمامه عوائق. لا سيما في ظل حكم أميرين من طراز معاوية أمير الشام، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، أمير مصر، وكانت نتيجة ذلك التعاون عظيمة وباهرة، فقد نشأت قوة بحرية إسلامية هائلة، أثبتت وجودها بسرعة فائقة، وحققت انتصارات باهرة على البيزنطيين، وانتزعت منهم جزيرة قبرص (سنة 33 هـ)«1» وحققت عليهم انتصارا حاسما في موقعة ذات الصواري (سنة 34 هـ) . وأخذ الأسطول الإسلامي ينتزع السيادة على البحر الأبيض المتوسط من البيزنطيين، ونجح في ذلك حتى غدا ذلك البحر بحرا إسلاميّا لعدة قرون تالية.
وقصة التعاون بين الشام ومصر تؤكد الارتباط القوي بين أمن مصر وأمن الشام، فأية قوة تمتلك مصر لا تكون آمنة إذا كانت الشام في يد قوة معادية، وهذه حقيقة اكتشفها الفراعنة منذ وقت مبكر، وأول من أدركها الفرعون تحتمس الثالث عند ما طارد الحيثيين وانتصر عليهم في معركة مجدو (سنة 1479 م) ، فإنه رفع العلم المصري عند شط الفرات في أقصى شمال شرق الشام، وقال هذه حدود مصر الشرقية «2» .
وكذلك الحال بالنسبة للشام، لن تكون آمنة إذا كانت مصر في يد قوة معادية، وليس سرّا أن عمرو بن العاص عند ما فكر في فتح مصر كان يرمي من وراء ذلك إلى تأمين الوجود الإسلامي في الشام، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل.
وطوال مراحل التاريخ الإسلامي أدرك حكام المسلمين ضرورة الوحدة بين الشام ومصر. فعند ما حدث الخلاف بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان- أمير الشام- كان أول ما فكر فيه هذا الأخير هو ضم مصر إلى دولته. وكان نجاحه في ذلك مفتاح نجاحه في الوصول إلى الخلافة، وبناء دولة أموية أصبح لها في التاريخ الإسلامي شأن كبير، وكذلك الحال عند ما تعرضت الدولة الأموية للزوال بعد وفاة يزيد بن معاوية (سنة 64 هـ) وكادت تضيع، وعندئذ ظهر مروان بن الحكم بن
(1) غزا معاوية جزيرة قبرص بقوة بحرية شامية مصرية مشتركة (سنة 28 هـ) ، ومع أنه انتصر وامتلك الجزيرة إلا أنه انسحب منها بشروط، فلما أخل أهل قبرص بالشروط غزاها مرة أخرى (سنة 33 هـ) وضمها إلى الدولة الإسلامية، ونقل إليها اثني عشر ألف أسرة من الشام، أسكنهم فيها وبنى لهم المساجد والأسواق
…
إلخ.
(2)
د. شكري فيصل- حركة الفتح الإسلامي في القرن الأول (ص 110) .
أبي العاص، واستطاع أن يلم شمل الأمويين من جديد، فبايعوه بالخلافة، واستهل عهده بالإنتصار على أنصار عبد الله بن الزبير في معركة مرج راهط الشهيرة «1» ، واستطاع استعادة الشام، كان أول ما فكر فيه بعد ذلك هو ضم مصر إلى الشام، انطلاقا من فهم استراتيجي سليم، وهو أنه إذا نجح في ضم مصر إلى الشام فلن تستطيع قوة أن تقف في طريقه وهذا ما حدث بالضبط، فبعد أن نجح في استرداد مصر من عبد الله بن الزبير، كان ذلك مفتاح نجاح خليفته وابنه عبد الملك في دحر قوات عبد الله بن الزبير، بل دحر كل خصومه في العراق وبلاد فارس والحجاز، وإعادة توحيد الدولة الإسلامية (سنة 73 هـ) . حتى وصفه المؤرخون بأنه المؤسس الثاني للدولة الأموية.
وهكذا أخذت هذه التجارب تؤكد أن التحام الشام ومصر في دولة واحدة يجعلها قوة كبيرة ذات تأثير خطير على مجريات الأمور في الشرق كله. فصلاح الدين الأيوبي نجح في الانتصار على الصليبيين في حطين وما بعدها؛ لأنه تمكن من توحيد مصر والشام تحت حكمه، وكان بدوره مدركا لأهمية ذلك، ولم يبدأ عمله ضد الصليبيين إلا بعد أن تمكن من ضم الشام إلى دولته، وعلى خطاه سار المماليك في مقاومة الصليبيين والمغول، وانتصروا عليهم، وطهروا أرض الإسلام منهم.
وأعداء الأمة العربية والإسلامية يدركون ذلك جيدا فعندما قامت الوحدة بين مصر وسوريا في (22 فبراير سنة 1958 م) فيما عرف بالجمهورية العربية المتحدة؛ وعندئذ أدركت القوى الاستعمارية الغربية أن الخطر أصبح وشيكا على صنيعتهم إسرائيل التي زرعوها في بلادنا وخططوا لبقائها. وقالوا: إن إسرائيل أصبحت بين كسارة البندق؛ سوريا من الشمال ومصر من الجنوب. لذلك لم يهدأ لكل القوى المعادية للعروبة والإسلام بال إلا بعد أن تمكنوا بكل الوسائل من فصل سوريا عن مصر في (28 سبتمبر سنة 1961 م) .
هذه هي عبر التاريخ ودروسه عن الارتباط الأمني الوثيق بين الشام ومصر.
فالبيزنطيون أنفسهم كانوا مدركين لأهمية الارتباط بين الشام ومصر، وهما تحت حكمهم، خاصة في الشؤون البحرية «فكان التقسيم الإداري للدولة البيزنطية قبل ظهور الإسلام يجمع بين الشام ومصر في العمليات البحرية، ويقضي بتعبئة أساطيلهما معا لإخضاع العناصر التي تشق عصا الطاعة على السلطات البيزنطية، في
(1) تاريخ الطبري (5/ 535) وما بعدها.