الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاهتمام بالمغازي والسّير لم يعد مقصورا على أهل المدينة وحدهم، بل أصبح الاشتغال بها موضع اهتمام العلماء في كل الأقطار الإسلامية. ويختلف مؤرخو وهب بن منبه حول نسبه؛ فمنهم من يرى أنه من أصل يهودي، ومنهم من يرى- وهو الأرجح- أنه من أصل فارسي؛ أي من الفرس الذين سكنوا اليمن في فترة السيطرة الفارسية وسموا بالأبناء، ولكن الأهم من هذا كله أنه قد نشأ في أسرة مسلمة، اشتهر معظم رجالها بالعلم، وكانوا أهل ثقة عند العلماء «1» ، وقد تأثر وهب بالجو العلمي الذي كان يحيط به في أسرته، وروى عن طائفة من الصحابة، منهم أبو هريرة، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عباس، وأبو سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله وغيرهم وعنده من علم أهل الكتاب شيء كثير، وحديثه في الصحيحين عن أخيه همام بن منبه، وكان ثقة واسع العلم «2» . ويعتبر من العلماء الموسوعيين، الذين تناولوا موضوعات شتى، فقد كانت له عناية واهتمام بأحاديث أهل الكتاب الذين كثر عددهم في جنوب بلاد العرب، وهو من الثقات المعتمدين خاصة في قصص الأنبياء «3» . ويرجح أنه كتب كثيرا في المغازي والسير، مما جعل العلماء يضعونه بين رجال الطبقة الأولى من علماء هذا الفن. ويوجد في مجموعة البرديات الموجودة في مدينة هيدلبرج في ألمانيا مجلد، يقول عنه بيكر: إنه يرجح أنه يحتوي على قطعة من كتاب المغازي لوهب بن منبه، وتاريخ نسخ هذه القطعة (عام 228 هـ) . وفيها معلومات عن بيعة العقبة الكبرى، وحديث قريش في دار الندوة- الذي قرروا فيه قتل النبي صلى الله عليه وسلم، والاستعداد للهجرة نفسها، ووصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة «4» .
وهكذا أسهم وهب بن منبه إسهاما طيبا في إثراء حركة التأليف في المغازي والسير وعاش حياة علمية ثرية حتى توفاه الله (سنة 110 هـ) .
*
رجال الطبقة الثانية من كتّاب المغازي والسير:
لا يعني تقسيم علماء المغازي والسير إلى طبقات- أولى وثانية وثالثة.. إلخ-
(1) انظر طبقات ابن سعد (5/ 543) ، وتذكرة الحفاظ للذهبي (1/ 100) وفيهما ترجمة لوهب.
(2)
تذكرة الحفاظ (1/ 100، 101) .
(3)
المغازي الأولى ومؤلفوها. مرجع سبق ذكره (ص 30، 31) .
(4)
انظر المرجع السابق (ص 34، 35) .
أنه لا تبدأ الطبقة الثانية إلا إذا انتهت الطبقة الأولى؛ لأنه ليس هناك حد زمني فاصل بين هذه الطبقات، فالعلم متصل، وحلقاته ممتدة ومستمرة، وأجيال العلماء متداخلة، وربما يكون الواحد منهم تلميذا وأستاذا في نفس الوقت، بل المقصود من هذا التقسيم، تمييز رجال كل مرحلة عن التي سبقتها والتي تلتها. وكلما امتد الزمن اتسعت دائرة العلم وزاد عدد العلماء وتلاميذهم؛ ولذلك سنجد في هذه الطبقة الثانية، حشدا كبيرا من علماء المغازي والسير ذوي المكانة العلمية الرفيعة، خاصة في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويكفي أن نلقي نظرة على سيرة ابن إسحاق- الذي سنخصه بحديث مفصل في هذا الكتاب لتميزه وإمامته في ميدان السيرة النبوية- والتي جاءتنا عن طريق عبد الملك بن هشام برواية زياد بن عبد الله البكائي، لنعرف مدى الحجم الذي وصل إليه عدد العلماء، وكيف كان اهتمام هذا الجيل بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فابن إسحاق يروي مباشرة بطريق المشافهة، عن أكثر من مائة راو من علماء المدينة وكلهم يروي عنه بقوله: حدثني فلان، أو أخبرني فلان، أو سألت فلانا فأخبرني، فبالإضافة إلى أستاذه الأكبر محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، نجده يروي عن عدد كبير من العلماء، كثيرون منهم من أسرة واحدة، مثل آل الزبير ومواليهم، فهو يروي عن هشام بن عروة بن الزبير، وعن يحيى بن عروة بن الزبير، وعن عمر بن عبد الله بن الزبير، وعن محمد بن جعفر بن الزبير، وعن يحيى بن عباد بن عبد الله ابن الزبير، وعن يزيد بن رومان مولى عروة بن الزبير، وغيره من مواليهم، ورواية ابن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه، أو عن الزهري عن عروة بن الزبير، لها قيمتها الكبرى من ناحية التوثيق العلمي؛ فهي مرفوعة في أغلب الأحوال إلى السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وإذا رفعت الرواية عن الثقات، عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى السيدة عائشة؛ كانت هي الصدق بعينه، كذلك يروي ابن إسحاق عن نافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، وعن عبد الله بن أبي بكر بن حزم الأنصاري، وعن أبيه إسحاق بن يسار. رجال هذه الطبقة- الثانية- من علماء المغازي والسير هم أساتذة محمد بن إسحاق وشيوخه المباشرون، ولكثرة عددهم فمن الصعب الحديث عنهم كلهم في حيز هذا الكتيب، ولذلك سنقصر الحديث على أشهرهم وأكثرهم تأثيرا في إثراء حركة التأليف في ميدان المغازي والسير، ويأتي على رأس القائمة: