الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تلك المحاولة كانت بداية لمأساة دامية ومروعة استمرت ما يقرب من ربع قرن من الزمان، اضطربت فيها الأندلس بالفتن، وغدت السلطة الفعلية بأيدي الفتيان العامريين والبربر وغيرهم، وانتحل لقب الخلافة أكثر من طامع، ومن سخريات الأيام أن قامت في الأندلس- التي كانت في بداية عصر الولاة جزآ من ولاية شمال إفريقيا- في وقت واحد خلافة في قرطبة وأخرى في مالقة وثالثة في إشبيلية، وانتهى الأمر إلى زوال خلافة قرطبة العتيدة، وإلى تمزق الأندلس كلها إلى ولايات صغيرة وعديدة مستقلة يحكم كلّا منها زعيم أو أمير، وبدأ ما يسمى في التاريخ الأندلسي عصر ملوك الطوائف، الذين قال فيهم ابن رشيق القيرواني:
مما يزهدني في أرض أندلس
…
أسماء معتضد بها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها
…
كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
*
مجمل الأوضاع السياسية والعسكرية والاقتصادية في الأندلس الأموية:
في الصفحات التالية موجز لمجمل الأوضاع السياسية والإدارية والعسكرية والاقتصادية للأندلس في العصر الأموي «1» لنعرف إلى أي مدى استطاع الأمويون أن يحققوا لدولتهم الاستقرار والازدهار في شتى الميادين، وأن يهيؤوها للقيام بالدور الحضاري العظيم الذي قيامت به في عالم العصور الوسطى.
قامت حكومة عبد الرحمن الداخل من البداية على غرار حكومة أسلافه في دمشق، حيث كان هو الرئيس الأعلى للدولة، يحكم من خلال مجلس استشاري ضم إليه خيرة الرجال المخلصين له ولدولتهم، لكن بمرور الزمن بدأت حكومة قرطبة- التي اتخذها عبد الرحمن عاصمة- تتميز عن حكومة المشرق في نظامها السياسي والإداري من ناحية الأسلوب والوظائف السياسية والإدارية، فعلى سبيل المثال كان لدى الأمويين في المشرق وظيفة الحاجب، ولم يكن دوره يتعدى تنظيم دخول الناس على الخليفة أو الأمير، حسب أهميتهم، فهو بمثابة السكرتير الخاص للخليفة، أما في الأندلس فكانت وظيفة الحاجب منذ إنشائها ذات أهمية كبيرة،
(1) مراجعنا الأساسية في هذا الموجز، الجزء الأول من المقري، نفح الطيب، طبع المطبعة الأزهرية بالقاهرة (1302 هـ) ، والضبي، بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس، طبع دار الكاتب العربي سنة (1970 م) ، وأبي بكر بن القوطية، تاريخ افتتاح الأندلس، والخشني، قضاة قرطبة، طبع الدار المصرية للتأليف والترجمة القاهرة (1966 م) ، ودوزي، المسلمون في الأندلس، وليفي بروفنسال، تاريخ أسبانيا الإسلامية من الفتح إلى سقوط الخلافة القرطبية، ومحمد عبد الله عنان، دولة الإسلام في الأندلس، ود. عبد الرحمن علي الحجي، التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة.
وأصبح الحاجب هو الرجل الثاني في الدولة بعد الأمير أو الخليفة، فهو بمثابة رئيس الوزراء. ولأهمية المنصب فقد كان الأمويون يختارون له أبناء البيوتات من ذوي الشرف، وظهرت أسماء كثيرة تنتمي إلى أسر مثل أسرة شهيرة بني مغيث وبني أبي عبدة وبني شهيد والمصحفي
…
إلخ. والوزارة أيضا اختلف مضمونها ومؤداها عن سميتها في المشرق، حيث لم يكن سوى وزير واحد، يتلقى أوامره من الخليفة وينفذها، إذا كانت شخصية الخليفة قوية وكان يسمى وزير تنفيذ، وإذا كانت شخصية خليفة ضعيفة كان الوزير يستبد بمعظم الأمور، فهو الذي ينفذ وعندئذ كان يسمى وزير تفويض «1» .
أما في الأندلس فقد تعددت الوزارات- وكانت تسمى خطط- وأصبح لكل ناحية من نواحي الإدارة العامة وزير مختص، مثل وزارة المالية والترسيل والمظالم والثغور «2»
…
إلخ.
ولقد اهتم الأمويون اهتماما كبيرا بالقضاء، وكانوا يختارون له- بعد مشاورة كبار العلماء والوزراء- أصلح الناس من المشهورين بالنزاهة وتحري العدل، وكان القضاء مستقلّا ولم يكن القضاة يسمحون لأحد من الأمراء أو الخلفاء أن يتدخل في عملهم، وكانوا يحكمون طبقا لمبادئ الحق والعدل كما تقضي بذلك الشريعة الإسلامية حتى لو كان ذلك ضد رغبة صاحب السلطان، بل كان القضاة أحيانا يتعرضون بالنقد اللاذع للخلفاء في بعض التصرفات التي لا يرضون عنها، مع أنها كانت تخرج عن دائرة عملهم، كما حدث من القاضي منذر بن سعيد البلوطي، فقد انتقد الخليفة عبد الرحمن الناصر علنا في خطبة الجمعة- والخليفة يسمع- على إسرافه في النفقات التي أنفقها في بناء مدينة الزهراء بالقرب من العاصمة قرطبة، ومع أن الخليفة الناصر- وهو من هو- قد غضب غضبا شديدا من القاضي إلا إنه لم يتخذ ضده أي إجراء عقابي، وكل ما فعله أنه امتنع عن أن يصلي خلفه.
وقبل ذلك وفي بداية الدولة قضى القاضي عبد الرحمن بن طريف اليحصبي ضد رغبة وإرادة عبد الرحمن الداخل في قضية كانت موضع اهتمام الأمير، ومع ذلك
(1) الماوردي- الأحكام السلطانية، طبع الحلبي الطبعة الثالثة، القاهرة (1393 هـ- 1973 م) ، (ص 24، 25) .
(2)
راجع مقدمة ابن خالدون، تحقيق علي عبد الواحد وافي دار نهضة مصر للطباعة والنشر القاهرة، الطبعة الثالثة، (2/ 670) .
قضى القاضي طبقا للحق والعدل لا طبقا لرغبة الأمير، ولم يتعرض لأي أذى «1» .
ولقد اختلف القضاء الأندلسي في تنظيمه عن القضاء في المشرق الإسلامي، ففي الشرق استحدث العباسيون في عهد هارون الرشيد (170- 193 هـ/ 786- 808 م) منصب قاضي القضاة، الذي أصبح له حق اختيار قضاة الولايات والإشراف عليهم.
أما الأندلس فلم تعرف هذا المنصب بهذا المعنى، وإنما عرفت ما سمي بقاضي الجماعة أو قاضي الحضرة، والمقصود به قاضي العاصمة قرطبة وحدها، ولم يكن له حق تعيين القضاة في الأقاليم الآخرى أو الإشراف عليهم، وكان هؤلاء يعينهم الأمير أو الخليفة، وهم مستقلون في عملهم تماما مثل قاضي الجماعة، ومن الخطط التي اهتم بها الأمويون خطة الحسبة لمراقبة الأسواق والمرافق العامة، كما اهتموا بالشرطة لضبط الأمن في بلد متعدد الأعراق والأهواء.
ولقد استحدث الأمويون خطة سموها خطة الشورى وكانوا يسندونها إلى كبار العلماء من ذوي الشرف والهيبة «2» .
وهكذا أصبح للنظام السياسي والإدارة في الأندلس طابع مميز، في الوقت الذي لم يتوقف فيه عن التأثر بما يحدث في المشرق، فقد أدخل الأمير عبد الرحمن الأوسط (206- 238 هـ/ 822- 852 م) كثيرا من نظم العباسيين وطقوسهم وبصفة خاصة في قصر الحكم «3» وأبهة البلاط.
وباختصار يمكن القول: إن الأندلس في العصر الأموي قد تمتعت في أغلب الأوقات بإدارة حسنة وشرطة فعالة ونظام قضائي محكم.
ويجدر بنا ونحن بصدد الحديث عن السياسة والإدارة الأموية في الأندلس أن ننوه بسياسة التسامح التي اتبعوها مع أهل الذمة من النصارى واليهود فقد كفلوا لهم الحرية الدينية والاجتماعية، وأنشؤوا منصبا خاصّا لإدارة شؤون أهل الذمة عرف صاحبه بالقومس، كما كان للنصارى المعاهدين قاض خاص، كما عين لهم مطران خاص، كان مركزه مدينة إشبيلية، وقد استمر هذا التسامح مع النصارى المعاهدين على الرغم مما كانوا يدبرونه في بعض الأحيان ضد الحكومة المسلمة من الدسائس
(1) انظر الخشني- قضاة قرطبة، مصدر سابق (ص 23، 24) .
(2)
راجع محمد عبد الله عنان- دولة الإسلام في الأندلس، مرجع سابق (2/ 685) .
(3)
راجع ليفي بروفنسال- الحضارة العربية في أسبانيا، (ص 61، 62) .