الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويستغيثون برسول الإسلام نفسه، ولكنه صلى الله عليه وسلم يعتذر لهم، لالتزامه مع الأعداء بعهد ولا يصح في دينه نقض العهد.
ولم يكن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على وفاء المسلمين بعهودهم بأقل من حرصه على الوفاء بعهوده الشخصية وإليك الحادثة الآتية: عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: وما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل، قال: فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمدا، فقلنا: ما نريده، ما نريد إلّا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفنّ إلى المدينة ولا نقاتلنّ معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه الخبر. فقال:«انصرفا، نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم» «1» .
«ثم يمضي الإسلام في طريقه العلوي، مع الشرف والكرامة والأخلاق، فلا يبيح الغدر حتى وهو يخشى خيانة الآخرين، فلا بد أن يعلنهم بالعداوة، ويجاهرهم بالحرب، وينبذ إليهم عهدهم في وضح النهار، ولا يبيتهم بالغدر وهم منه على أمان؛ وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ [الأنفال: 58] «2» . أما إذا التزم الأعداء بالعهد مع المسلمين فيجب على المسلمين الالتزام بالعهد وإتمامه إلى مداه: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة: 4] . وهكذا وهكذا، صور وأمثلة كثيرة لوفاء الإسلام والمسلمين بالعهد، وفي مقدمتهم معلم الإنسانية ورسول الرحمة والسلام عليه الصلاة والسلام.
*
الإسلام يحترم مبعوثي الأعداء وحاملي رسائلهم:
هناك ناحية أخرى مهمة، في مجال العلاقات الدولية، أولاها الإسلام عنايته، وكان للمسلمين فيها تقليد إنساني؛ تلك هي ناحية احترام المبعوثين السياسيين وحاملي رسائل الأعداء. إذ من المسلم به أن تبادل الرسل والرسائل أمر لا بد منه في أية علاقات دولية. وغني عن القول أن وجود بعثات سياسية دائمة تقيم بصفة مستمرة لكل دولة لدى الدول الآخرى أمر لم يكن معروفا في العلاقات الدولية في الزمان الذي نتحدث عنه. فذلك أمر لم تعرفه العلاقات الدولية إلا في القرون
اعتذر لأبي جندل، عند ما طلبوا حمايته مثل أبي بصير.
(1)
صحيح الإمام مسلم (12/ 144) .
(2)
انظر سيد قطب- السلام العالمي والإسلام (ص 194) .
الأخيرة، وعلى أكثر تقدير منذ القرن السابع عشر الميلادي. أما تبادل الرسل وحاملي الرسائل فكان يتم في الزمن الذي نتحدث عنه، بل بعده بكثير، في المناسبات، وعند ما تكون هناك ضرورة. وقد مارس النبي صلى الله عليه وسلم، هذا اللون من العلاقات الدولية بنوعية؛ أي: إنه صلى الله عليه وسلم أرسل من عنده رسلا كثيرين، وفي مناسبات عديدة، إلى عدد من ملوك وأمراء العالم، كما استقبل في مسجده في المدينة، العديد من الرسل والمبعوثين وحاملي الرسائل. فكيف كان يعاملهم؟ وقائع التاريخ تدلنا على أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يعامل رسل الأعداء والأصدقاء على حد سواء معاملة واحدة، وهي الاحترام والتكريم، والذي يهمنا هنا هو معاملة النبي لرسل الأعداء بصفة خاصة؛ لأن هذا أوقع في تصوير موقف الإسلام من هذه الناحية المهمة من نواحي العلاقات الدولية. كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستقبل رسل الأعداء برحابة صدر، ويستمع إليهم في اهتمام، ثم يمنحهم الأمن على أرواحهم، ويعطيهم الحصانة التي تخولهم حق العودة إلى أوطانهم سالمين ومتى شاؤوا، مهما كانت خطورة الرسائل التي يحملونها.
وإليك بعض الأمثلة العملية على ذلك ومنها؛ معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لرسولي كسرى أبرويز الثاني ملك الفرس. فقد أرسل- بعد صلح الحديبية- عددا من الرسائل إلى ملوك ورؤساء وأمراء العالم المعاصرين، يدعوهم إلى الإسلام- كما سيرد ذكره قريبا- وكان من بين هذه الرسائل رسالة إلى كسرى، ومع أن الرسالة كانت عبارة عن دعوة سلمية للدخول في الإسلام، وفي أسلوب مهذب رفيع، خالية من العنف أو التهديد بالحرب، إلا أن كسرى عند ما قرئت عليه الرسالة استشاط غضبا، وأخذته العزة بالإثم، ومزّق الرسالة، ولم يكتف بهذا، بل أرسل إلى باذان- عامله على اليمن التي كانت تحت سلطان الفرس آنذاك- يأمره أن يرسل إلى هذا العربي- يقصد النبي صلى الله عليه وسلم من يقبض عليه، ويحضره مقيدا في السلاسل، ليمثل أمام كسرى، ليعاقبه على جرأته في مخاطبته بهذا الشكل، إذ كيف يجرؤ ويتطاول إلى هذا المقام، ويخاطب ملك الملوك. وأذعن باذان لأوامر سيده وأرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم رسولين من عنده ليبلغه بقرار كسرى الغريب الذي يدل على الغرور والغطرسة وعماء البصيرة. وحضر الرسولان وأفضيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمضمون مهمتهما. فماذا حدث؟ وماذا كان موقف النبي من مبعوثين جاآه
مأمورين بالقبض عليه، وأخذه بالقوة ليحاكم أمام سيدهم؟ هل اعتقلهما أو أمر بقتلهما؟ أبدا، لم يحدث شيء من هذا، وإنما رد عليهما ردّا جميلا، وفي هدوء أخبرهما أن ملكهم هذا المتجبر قد هلك، وعلى يد ابنه بالذات حيث ثار عليه وقتله، وكلفهما بأن يحملا منه رسالة إلى باذان يدعوه فيها إلى الإسلام، فإن هو قبل وأسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سيقره على عمله كحاكم لليمن باسم الإسلام، وقد شرح الله صدر باذان للإسلام فأسلم وأصبح يحكم اليمن باسم النبي صلى الله عليه وسلم. أرأيت كيف عامل النبي مبعوثي عدوه وعدو الله كسرى. فأعطاهما الأمان ولم يمسهما بسوء.
وإليك مثلا آخر، يعتبر من أروع الأمثلة على ذلك. وهو صنيع النبي صلى الله عليه وسلم مع مبعوثي مسيلمة الكذاب، اللذين جاآه يحملان إليه مزاعم مسيلمة بأنه أشرك معه في الرسالة. فمع خطورة القضية التي جاآه من أجلها، ومع شذوذ مطلبهما إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمسهما بسوء؛ لأنهما رسولان. وكان رسولا مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، هما ابن النواجة، وابن آثال، وكان معهما رسالة من مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، نصها كالآتي:«من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك. أما بعد؛ فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم لا يعدلون» «1» فلما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم نص الرسالة قال: «فما تقولان أنتما؟» قالا: نقول كما قال. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما» «2» . ثم كتب إلى مسيلمة رسالة هذا نصها: «من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، السلام على من اتبع الهدى. أما بعد؛ فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» «3» هذه هي معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لمبعوثي الأعداء وحاملي رسائلهم؛ احترام وصيانة وأمن لأرواحهم، مهما كان من خطورة الموقف الذي يتباحثون من أجله، ومهما بدا منهم من الوقاحة والبذاءة.
بل أكثر من ذلك؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في كثير من الأحيان يتبسط مع الرسل والمبعوثين، ويهداهم بعض الهدايا، ويخلع عليهم بعض الخلع، وهذا من فرط سماحته وكرمه صلى الله عليه وسلم.
(1) ابن هشام- السيرة النبوية- القسم الثاني (ص 600) .
(2)
ابن هشام- السيرة النبوية- القسم الثاني (ص 600) .
(3)
ابن هشام- المصدر السابق (ص 601) .