الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن لم تبتعد عن طريق الدعوة، وأن تكف عن ملاحقة المسلمين بالأذى، وإن لم ترفع أذاها عن المستضعفين من المسلمين، الذين حبستهم في مكة، وحالت بينهم وبين الهجرة إلى المدينة، فسوف يهدد الرسول تجارتها، بل مصدر عزها ومجدها وثرائها، وتفوقها على غيرها من قبائل العرب. فإن هي أفاقت لنفسها، وإلّا فلتأت الضربة القاضية.
*
قريش تستمر في إلحاق الأذى بالمهاجرين:
لم تكتف قريش بما صنعته بالنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في مكة طوال ثلاثة عشر عاما، وما أذاقتهم من الأذى والاضطهاد؛ فمن تعذيب جسدي لأصحاب النبي، إلى تجويع وحصار اقتصادي واجتماعي، إلى غير ذلك من الجرائم الوحشية التي ارتكبتها في حق الجماعة المؤمنة، بل إنها صعدت جرائمها إلى حد التامر على قتل النبي صلى الله عليه وسلم مما اضطره أن يهاجر من مكة- أحب بلاد الله إليه- ولم تترك المسلمين في موطنهم الجديد في المدينة المنورة وقد أجبرتهم على ترك ديارهم وأموالهم يمارسون شعائر دينهم، ويدعون إلى الله في حرية وأمان، بل أخذت تلاحق المهاجرين منهم لتردهم إلى مكة وتفتنهم عن دينهم، وتضعهم في السجون، وتحرمهم من حريتهم، متجاوزة بذلك كل الأعراف والتقاليد، ولم ترع لأحد حرمة. فقد روى نافع مولى عبد الله بن عمر عن عبد الله عن أبيه عمر بن الخطاب رضى الله عنهما أنه قال- أي عمر-:
«اتّعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعيّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل السهمي التّناضب «1» من أضاة بني غفار فوق سرف، وقلنا: أيّنا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه، قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التّناضب، وحبس عنها هشام، وفتن فافتتن. فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو ابن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحرث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما، حتى قدما علينا المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فكلّماه- أي: عيّاش- وقالا: إن أمّك قد نذرت ألايمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرقّ لها، فقلت له: يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فو الله لو قد آذى أمّك القمل
(1) التّناضب اسم موضع بالقرب من مكة، الأضاة: الغدير يجمع من ماء المطر، سرف موضع بين مكة والمدينة.
لا متشطت، ولو قد اشتد عليها حرّ مكة لا ستظلّت، قال: فقال: أبرّ قسم أمّي، ولي هناك مال فاخده، قال: فقلت: والله إنك لتعلم أنّي لمن أكثر قريش مالا، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما، قال: فأبى عليّ إلا أن يخرج معهما؛ فلما أبى إلا ذلك قلت: أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها، فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: والله يا أخي لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى، قال: فأناخ وأناخا ليتحوّل عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه ثم دخلا به مكة وفتناه فافتتن. قال ابن إسحاق:
فحدثني به بعض آل عياش بن أبي ربيعة أنهما حين دخلا به نهارا موثقا، ثم قالا:
يا أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا» «1» .
هذا مثل من أمثلة التنكيل والأذى الذي ألحقه القرشيّون بالمسلمين ليفتنوهم عن دينهم، وإليك قصة أخرى من قصص قريش المخزية مع المسلمين، والتي تجردت فيها من كل إنسانية، وبطل هذه القصة أبو سلمة المخزومي رضي الله عنه أوّل مهاجر من مكة إلى المدينة، بعد أن أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إليها، بعد بيعة العقبة الثانية، قال ابن إسحاق: فحدثني أبي إسحاق بن يسار، عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة، عن جدّته أمّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة ورحل لي بعيره، ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج بي يقود بي بعيره، فلمّا رأته رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم قاموا إليه، فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت: فنزعوا خطام البعير من يده، فأخذوني منه، قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة، قالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا، قالت: فتجاذبوا ابني سلمة بينهم، حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة، قالت: ففرّق بيني وبين زوجي وبين ابني «2» .
(1) ابن هشام- السيرة النبوية (2/ 84، 86) ، وابن كثير- السيرة النبوية (2/ 220) .
(2)
ابن هشام (2/ 77) .