الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه الغزوة وادع بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا «1» .
*
أهداف السرايا والغزوات الأولى:
يبدو لدارس سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلوبه في التعامل مع قريش في هذه المرحلة، أنه كان يتوخّى من هذه الغزوات والسرايا تحقيق أهداف كثيرة منها:
أوّلا: تدريب المسلمين عمليّا على الطرق والمسالك والأماكن التي ستصبح- مستقبلا- ميادين فعلية للقتال، وساحات للمعارك الحاسمة مع أعداء الله من قريش وغيرها. فالرسول صلى الله عليه وسلم من خبرته الطويلة في التعامل مع قريش أدرك أنها لن تذعن إلا لقوة قاهرة تعيدها إلى صوابها وتزيحها من طريق الدعوة.
ثانيا: هذه الجهات والأماكن التي اتجهت إليها هذه الغزوات والسرايا الأولى تقع كلها على طريق القوافل الذي تسلكه قريش في طريقها إلى الشام، ولقريش صداقات وعلاقات ودية مع أغلب القبائل المقيمة في هذه الجهات، وهذه القبائل تعرف الكثير من أخبار قريش وتحركاتها، وقوة الحراسة التي تحرس عيرها، فإذا نجح النبي صلى الله عليه وسلم في كسب ودّ هذه القبائل، وأقام معها علاقات صداقة فسوف يفوز بمعلومات دقيقة عن خطط قريش، وبالفعل حققت تلك الغزوات والسرايا نتائج طيبة في هذا السبيل، وتمكّن النبي صلى الله عليه وسلم من إقامة علاقات ودّية بل وعقد محالفات دفاعية مع بعض القبائل، كانت لها دلالات عميقة على بعد نظر النبي صلى الله عليه وسلم في تخطيطه لمستقبل الدعوة الإسلامية. وإليك أنموذجا من هذه المحالفات، الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لبني ضمرة بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأنّ لهم النّصرة على من رامهم، إلا أن يحاربوا في دين الله
…
وأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعاهم لنصرته أجابوه، عليهم بذلك ذمّة الله وذمّة رسوله «2» . فأنت ترى من نص هذه المعاهدة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينجح فقط في تحييد هذه القبائل، والتي كانت في الأصل صديقة لقريش، بل ذهب إلى أكثر من ذلك، فنجح في عقد معاهدات دفاعية معها، وسوف يكون لهذا أثر كبير في مستقبل العلاقات مع قريش. وهذه المعاهدة
(1) ابن سعد- الطبقات الكبرى (12/ 10) ، وابن هشام (2/ 235) ، وابن كثير- السيرة النبوية (2/ 362) .
(2)
السيرة الحلبية (2/ 125) .
تدلنا على شيء عظيم آخر، وهو أن كلمة المسلمين أصبحت نافذة في هذه الجهات وأن قوتهم أصبحت ظاهرة، وأصبحت القبائل في هذه النواحي تخشى قوة المسلمين وتخطب ودّهم، فبنو ضمرة وهم من القبائل المهيمنة على طريق القوافل، يبسط عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حمايته ويضمن لهم الأمان على أموالهم وأنفسهم. والذي يمنح الأمان هو الأقوى، الذي يستطيع أن يخيف ويؤمّن أيضا. فهذا كله يدلّنا على المدى الكبير الذي وصلت إليه قوة المسلمين في تلك الفترة.
ثالثا: من الأهداف الرئيسية كذلك لتلك الغزوات والسرايا- في هذه المرحلة- تضييق الخناق على قريش، وضرب حصار اقتصادي صارم عليها، بقطع طريق تجارتها إلى الشام، فالتجارة هي مصدر حياة قريش، وأساس قوتها وازدهارها وسيادتها، وبدون التجارة لن تقوم لها قائمة، فحرمانها من نشاطها التجاري هو الموت بعينه، وهو أمر لن تحتمله قريش، ولا جدال في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يهدف أن يهلك قريشا ويدمّر حياتها، وإنما كان يقصد أن يلقّنها درسا قاسيا، وأن يذيقها طعم الكأس التي جرّعتها المسلمين في مكة، ألم تحاصرهم قريش اقتصاديّا؟ ألم تصادر أموالهم وديارهم؟ فعليها أن تدفع الثمن الآن، فإذا استطاع النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون أن يحصلوا على شيء من أموال قريش، فهذا جزء مما أجبرتهم قريش على تركه في مكة، وما اغتصبته منهم اغتصابا، فتصدّي المسلمين لقوافل التجارة ومحاولة الحصول عليها هو أمر مشروع وعادل، ولا يماري في ذلك إلا جاهل مكابر، عدو للإسلام حاقد عليه.
وقد حققت هذه التحركات العسكرية هدفا آخر نفسيّا، فقد زرعت الخوف والفزع في قلوب قريش، ولا أدل على ذلك من الأعداد الهائلة من الرجال الذين كانوا يقومون على حراسة القوافل في ذهابها وإيابها إلى الشام ومنه، فقد رأيت أن القافلة التي كان على رأسها أبو جهل بن هشام- والتي اعترض لها حمزة بن عبد المطلب- كان يرافقها ثلاثمائة من الحراس وهو أمر لم يكن مألوفا قبل الآن في حراسة القوافل التجارية. إذا فقد «استطاع المسلمون أن يبقوا قريشا على حذر؛ فحراس القوافل وقادتها يتوقّعون لقاء المسلمين في كل لحظة، يخافونهم إذا انبلج الصبح واقترب الليل، كل غبار يتطاير من وراء الأفق يظنون فيه الظنون، وكل همس في الليل يقدرون أن وراءه الموت، وهذا الاستعداد الدائم للحرب يثير الأعصاب، وهو