الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
معاهدة الحديبية في ميزان العلاقات الدولية:
تقف معاهدة الحديبية التي وقّعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، دليلا شامخا على ميل المسلمين إلى السلام، وعلى أن السلام هو الأصل في علاقات المسلمين بالآخرين. فما هي قصة هذه المعاهدة؟
منذ بدء الدعوة الإسلامية وقريش تعادي النبي صلى الله عليه وسلم عداء سافرا ووحشيّا، استمر ما يقرب من عشرين عاما، وبعد ست سنوات من الهجرة قضاها النبي وأصحابه في جهاد مستمر، ضد المشركين من العرب تارة، وضد اليهود ومؤامراتهم وخياناتهم تارة أخرى، وفي أثناء ذلك كان الإسلام يزداد منعة وانتشارا وقوة، مما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يفكر أنه ربما تكون قريش قد اقتنعت بخطئها وعجزها عن مقاومة الإسلام، فقرر أن يعطيها فرصة إما لتدخل فيما دخل الناس فيه وتعتنق الإسلام، وإما أن تكف عن حربه ومقاومته وعن صد الناس عنه فأعلن صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة من العام السادس الهجري عن عزمه على زيارة مكة هو وأصحابه، زيارة سليمة لتأدية شعائر العمرة، وهي تجربة لقريش، فإن هي خلت بينه وبين زيارة البيت الحرام، فقد يكون ذلك مؤشرا طيبا لتراجعها، ولبداية علاقات سلمية معها، وعندئذ يمكن أن يتفرغ النبي صلى الله عليه وسلم لتبليغ دعوته خارج شبه الجزيرة العربية. ودعا القبائل العربية المجاورة للمدينة، والتي لا تزال على شركها لتشاركه وأصحابه زيارة البيت الحرام، ليدلل أكثر وأكثر على رغبته في السلام.
ومن ناحية أخرى حرص النبي على أن يأخذ معه أكبر عدد من المسلمين؛ لأن احتمال أن تضطره قريش إلى الدخول معها في معركة كان احتمالا واردا، فهو يعرف غدرها وغرورها، فخرج من المدينة ومعه نحو ألف وأربعمائة من أصحابه مقدمين الهدي أمامهم، كدليل على أنهم جاؤوا معتمرين حاجين، ولم يجيؤوا مقاتلين «1» .
وما أن علمت قريش بعزم النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أعلنت عن موقفها العدائي، وهو منع النبي من دخول مكة، مهما كلفها ذلك، واستنفرت جيشا كبيرا جعلت على قيادته خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل. وكان هذا موقفا ظالما مصرّا على العداء والحرب. فكيف تمنع قريش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من زيارة البيت الحرام،
(1) في كل ما يتعلق بقصة الحديبية راجع: ابن هشام، القسم الثاني (ص 308) وما بعدها، ابن حجر- فتح الباري (7/ 349) وما بعدها، د. هيكل- حياة محمد (ص 363) وما بعدها.
الذي هو مباح للعرب جميعا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان مصرّا على تنفيذ خطة السلام التي التزمها منذ خروجه من المدينة، فقرر ألا يعطيها فرصة لاستفزازه والدخول معها في معركة ما استطاع إلى ذلك سبيلا. فما أن سمع بموقفها حتى قال:«يا ويح قريش! لقد أهلكتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإلم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة» وليتحاشى الاحتكاك بجيش قريش سلك طريقا صعبا، تجشم فيه هو وأصحابه متاعب كبيرة حتي وصلوا إلى الحديبية. وليدلل على صدق نواياه فقد أطلق سراح مجموعة من جيش قريش، وقعت أسرى في أيدي المسلمين، حينما حاولوا الإغارة على معسكر النبي. ولكن كل ذلك لم يجد أمام نزعة قريش العدوانية. حتى بعد أن عادت إليها كل وفودها التي أرسلتها إلى النبي، مؤكدة لها أنه ما جاء مقاتلا بل زائرا للبيت يسوق الهدي أمامه. ولكنها أصرت على موقفها، وعلّلت ذلك بعلة سخيفة؛ وهي خوفها من ضياع هيبتها وسمعتها أمام العرب.
ولكن كل هذا لم يثن عزم النبي صلى الله عليه وسلم عن المضي في شوط السلام إلى نهايته وعبر عن ذلك بقوله: «والله لا تدعوني قريش إلى خطة يسألون بها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها» وأرسل إلى قريش عثمان بن عفان رضي الله عنه، ليفاوضها، وطالت إقامة عثمان في مكة أكثر مما ينبغي، حتى أشيع أنه قتل، وعندئذ كان لا بد من أن يتغير الموقف، فإذا كانت قريش قد غدرت برجل مسلم مسالم في الشهر الحرام فإن النبي صلى الله عليه وسلم لن يترك مكانه حتى يلقنهم درسا كالذي أخذوه في بدر. وكان المسلمون قد امتلأت قلوبهم غيظا من صلف قريش وغرورها. فأسرعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعونه على بذل أرواحهم في سبيل الله ولإعلاء كلمته. وكان موقفهم رائعا باركته السماء وزكاه الحق تبارك وتعالى في القرآن الكريم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح: 18] والحق أن القتال كان أحب يومئذ للمسلمين لا لأنهم يهوون القتال لذاته، ولكن لرد عدوان قريش، التي لم تكتف بطردهم من ديارهم، بل وتصرّ على حرمانهم من زيارة البيت، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفقد الأمل في الوصول إلى خطة سلام. فما أن تبيّن أن خبر اغتيال عثمان غير صحيح، حتى عاد إلى أسلوب المفاوضات من جديد، واتصلت المباحثات بين الفريقين.
وانتدبت قريش سهيل بن عمرو ليفاوض النبي باسمها، ولكن على أساس شروط
قاسية. ونظر النبي صلى الله عليه وسلم ببصيرته الملهمة إلى الموقف من جميع جوانبه. ورأى أن مسؤوليته كقائد للمسلمين تفرض عليه أن يحقن دماءهم ما وجد إلى ذلك سبيلا.
وعظمة هذا الموقف أنه لم يكن موقف الضعيف الذي يذعن لعدوه استسلاما لمطالبه، ولكنه كان موقف القوي الذي يبحث عن السلام. وقبل شروط قريش، ووقعت معاهدة الحديبية وكان أهم شروطها كالآتي:
أولا: وضع الحرب بين الفريقين لمدة عشر سنين.
ثانيا: أن يرجع النبي وأصحابه عامهم هذا دون أن يدخلوا مكة، فإذا كان العام القادم دخلوها لمدة ثلاثة أيام بدون سلاح إلا السيوف في قرابها.
ثالثا: من أراد من القبائل العربية أن يدخل في حلف النبي وعهده دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في حلف قريش وعهدها دخل فيه.
رابعا: من أتى النبي من قريش من غير إذن وليه رده عليهم، أما من جاء قريشا من عند النبي فلا يردونه عليه.
وكان هذا الشرط الأخير أقسى ما في المعاهدة على قلوب المسلمين، واعتبروه مذلة لهم، حتى أن بعضهم- مثل عمر الخطاب رضي الله عنه لم يستطع أن يكتم معارضته. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم هدّأهم، وأظهر من الصبر وسعة الأفق ما لم يسبق له مثيل أمام غرور ممثل قريش، الذي أصر على حذف «بسم الله الرحمن الرحيم» من صدر المعاهدة، وعلى أن يكتب اسم النبي مجردا من صفة النبوة، وقبل النبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك، وهي تضحيات جسيمة. ولكن تحقيق السلام يستحق التضحيات الجسام.
ولقد أظهرت الظروف فيما بعد أن كل الذي تألم له المسلمون كان في مصلحتهم وكانت المكاسب التي حصل عليها الإسلام نتيجة صلح الحديبية أروع من أية مكاسب تأتي نتيجة أية معركة عسكرية. وذلك بفضل بعد نظر القائد العظيم- عليه الصلاة والسلام ولقد كانت الحديبية بداية الفتح الأعظم ونزلت بعدها سورة الفتح تبشر المسلمين بالفتح المبين، ولم يكد يمضي عامان على صلح الحديبية، حتى تضاعف عدد المسلمين عدة مرات. فعدد المسلمين الذين شهدوا الحديبية كان ألفا وأربعمائة، أما الذين ساروا خلف النبي لفتح مكة (سنة 8 هـ) فكانوا عشرة آلاف مسلم كما أن الإسلام خلال هذين العامين استطاع أن يخرج إلى النطاق العالمي.