الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أدى إلى خلق مناخ صحي وهيأ الجو لأبناء البلاد المفتوحة للإقبال على اعتناق الإسلام «1» . بل أدى إلى تناسق في السلوك الأخلاقي وفي العادات والتقاليد في جميع البلاد المفتوحة وأصبح هناك عالم إسلامي واحد.
هذا ما يمكن أن يقال بإيجار شديد عن الدولة الأموية في الشرق كتوطئة أو تمهيد لمعرفة الدور العظيم الذي قام به الفرع الأموي الذي أقام الدولة الأموية في أسبانيا- الأندلس أو شبه جزيرة إيبيريا- في النهضة الحضارية الهائلة التي قامت على تلك الأرض، ثم أفاضت على بقية دول أوربا وكانت من أهم روافد الحضارة التي قامت عليها النهضة الأوربية نهاية العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة.
*
الأمويون والحضارة الإنسانية:
يعرف مؤرخو الحضارة العربية الإسلامية جهود العباسيين في ترجمة التراث العلمي العظيم الذي خلفه الأقدمون في كل اللغات التي كتب بها ذلك التراث، مثل اللغة الهندية والفارسية والسريانية والعبرية واليونانية واللاتينية
…
إلخ يعرف مؤرخو الحضارة العربية الإسلامية ذلك الجهد العظيم للعباسيين ويشيدون به؛ لأنه إنقاذ للحضارة الإنسانية وحفظ لها من الضياع، فلولا ترجمة هذا التراث إلى اللغة العربية لضاع على الإنسانية كنز حضاري لا يعوض، واختفت علوم كثيرة مثل
(1) يراجع في ذلك كتاب توماس أرنولد- الدعوة إلى السلام، ترجمة د/ حسن إبراهيم حسن وآخرين، طبعة دار النهضة المصرية (1970 م) ، فهو أوفى المراجع العلمية في هذا الموضوع.
(2)
الحضارة العربية (ص 50) ترجمة غنيم عبدون- الدار المصرية- للتأليف والترجمة.
الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء والفلك والرياضيات والفلسفة
…
إلخ تقول الدكتورة سيجريد هونكه «1» : «إن ما قام به العرب لهو عمل إنقاذي له مغزاه الكبير في تاريخ العالم، وإن حضارة قد هوت وتحطمت، وكانت على وشك الفناء أمام أعين خالقيها، الذين صار لهم الآن هدف آخر يسعون إليه، ولا يمت لهذا العالم بصلة، فما بقي من هذه الحضارة يجب أن تشكر عليه البشرية اليوم العرب وحبهم للعلم» ا. هـ.
ولقد أخذ العباسيون حقهم من الاعتراف والإشادة بعملهم العظيم في خدمة الحضارة الإنسانية بما ترجموا وبما ابتكر العلماء وأضافوا وبما صححوا من أخطاء السابقين ونقحوا، غير أن الأمويين لم يأخذوا حقهم في هذا المجال إلى الآن؛ لأن ما قاموا به من الحفاظ على التراث الحضاري الإنساني القديم وصيانته من الضياع لا يقل أبدا عما قام به العباسيون. لقد فتح الأمويون مناطق كثيرة في قارات العالم القديم- آسيا وإفريقيا وأوربا- وامتدت دولتهم من حدود الصين شرقا إلى شبه جزيرة أيبيريا غربا ومن آسيا الوسطى شمالا إلى المحيط الهندي جنوبا- كما سبقت الإشارة- وهذه المساحة الشاسعة من الأرض كانت تحتوي على الكنوز الحضارية التي تركتها الأمم القديمة، مثل الهنود والصينيين والفرس واليونانيين والرومان والمصريين
…
إلخ. فماذا صنع الأمويون بهذا التراث الحضاري العظيم خلال ما يقرب من قرن من الزمان؟ لقد حافظوا عليه وصانوه صيانة كاملة فلم تمتد إليه يد التخريب والتدمير، ولم يسجل التاريخ حادثة واحدة أقدم فيها المسلمون خلال العصر الأموي على المساس عمدا بأي أثر حضاري «2» ، رغم كثرة الحروب سواء مع غير المسلمين أو مع الثائرين عليهم من المسلمين الشيعة والخوارج والطامعين في الحكم من أمثال المختار بن أبي عبيد الثقفي وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ويزيد بن
(1) شمس العرب تسطع على الغرب، ترجمة فاروق بيضون وكمال دسوقي، نشر دار الجيل. بيروت، الطبعة الثامنة (1413 هـ- 1993 م) ، (ص 377) .
(2)
وليس صحيحا ما تدعيه الدكتورة متليدة لوبث سرانو، التي أرخت للعصر القوطي في سلسلة تاريخ أسبانيا من أن العرب دمروا كل المكتبات القوطية فاختفت المخطوطات لأن معظم من أرخوا لأسبانيا أجمعوا على أنها كانت في وضع حضاري متواضع إلى أبعد الحدود، ولم يكن هناك مكتبات يعتد بها ولم يشر أحد يوثق به إلى أن العرب عند فتحهم لأسبانيا دمروا أو أحرقوا أية مكتبات. انظر د. الطاهر أحمد مكي بحث بعنوان حضارة الإسلام في الأندلس، مجلة الهلال (عدد يونيو 1976 م)(ص 92- 99) .
المهلب بن أبي صفرة وغيرهم
…
إلخ.
والحروب عادة تكون مصحوبة بعمليات هدم وتدمير وإحراق وسلب ونهب، أما حروب المسلمين في العصر الأموي فقد برئت من هذا كله، وكانت حروبا نظيفة؛ لأن المسلمين قرؤوا كتاب ربهم وسنة نبيهم، وتوجيهاته في عدم المساس بالأهداف المدنية على إطلاقها، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هدم المباني العامرة وحرق الزروع والأشجار؛ لأن الإسلام جاء ليعمّر الحياة لا ليهدمها ويدمرها. ولقد كان المسلمون يعون الإشارات التي كانت تصدر من النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المجال ويعملون بها، فعند ما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، كان ضمن الغنائم بعض صحائف من التوراة وقد طلب اليهود استثناءها من الغنائم التي حصل عليها المسلمون الفاتحون وتسليمها لهم لأهميتها عندهم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتسليمها لهم، وهذا غاية الاحترام لتراث الآخرين حتى ولو كانوا مغلوبين.
ولقد كان الأمويون يعرفون قيمة العلوم القديمة- ولقد ترجمت في عهدهم بعض العلوم الطبية- كما سنشير إلى ذلك فيما بعد. ولكن وسائلهم لم تكن كافية للقيام بعملية ترجمة في كل العلوم على نطاق واسع، وسنعرف الأسباب بعد قليل، لكن الذي نؤكد عليه هنا أنهم يعرفون أن دينهم هو دين العلم والمدنية؛ لأن أول الآيات التي نزلت في القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت أمرا صريحا بالقراءة؛ قال تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1- 5] ، ولقد أقسم الحق تبارك وتعالى بالقلم، فقال تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ [القلم: 1]، وأقسم بالكتاب فقال تعالى:
وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ [الطور: 1، 2] ؛ وهذا أعظم تكريم لوسائل العلم. أما الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تحض على العلم، وترفع من شأنه وشأن العلماء فهي أكثر من الحصر «1» .
لكل هذا حافظ الأمويون على ذلك التراث العلمي العظيم الذي كان منتشرا في دولتهم من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، وبصفة خاصة في مواطن الحضارات القديمة، مثل مصر والشام وبين النهرين- العراق- وبلاد فارس
…
إلخ.
(1) يكفي أن يطالع الإنسان في هذا ما جاء في كتب الحديث الصحيحة مثل صحيحي البخاري ومسلم في كتاب العلم.
فالعلم القديم لم ينقطع من هذه البلاد تحت الحكم الأموي، وبقي العلماء يعلمون، والتلاميذ يتعلمون تحت رعاية الخلفاء والأمراء وبفضل سخائهم معهم «1» ، وعند ما نتذكر مدنا كمدينة جندي سابور في إقليم خوزستان في بلاد فارس وكيف بقيت الحركة العلمية فيها حية، وبصفة خاصة في العلوم الطبية، وأنها أصبحت في العصر العباسي مركزا طبيّا هائلا، ولا يتسع المقام هنا لذكر سلسلة الأطباء الذين تخرجوا في هذه المدينة، وعند ما نتذكر مدينة كحران في إقليم الجزيرة في العراق والعلماء الذين برزوا فيها في عصر الترجمة في العصر العباسي في علوم الفلك والرياضيات، وعند ما نتذكر مدينة الإسكندرية «2» وعلماءها الذين كانوا من أول من قام بالترجمة في العصر الأموي لواحد من أمراء البيت الأموي نفسه، وهو خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.
وكذلك كان الحال في بقية المدن في الشام والعراق وفارس، مثل أنطاكية والرها ونصيبين إلخ. وعند ما نعرف أن الأديرة المسيحية في مصر والشام والعراق كانت مراكز علمية وبها مكتبات لم تكن قاصرة على علوم اللاهوت باعتبار الأديرة قامت أصلا للعبادة، ولكن إلى جانب علوم اللاهوت كانت توجد في كل دير مكتبة فيها الكثير من الكتب التي تحتوي على علوم مدنية «3» . وبقيت هي الآخرى تمارس عملها في حرية كاملة دون أي تضييق.
عند ما نعرف ذلك كله- وهو قليل من كثير- ندرك قيمة العمل الذي قام به الأمويون في حفظ التراث البشري وتسليمه للعباسيين الذين قاموا بترجمته إلى اللغة العربية. ولكن لا بد أن نعرف لماذا لم يقم الأمويون بعملية ترجمة على نطاق واسع؟.
(1) انظر ابن أبي أصيبعة- عيون الأنباء في طبقات الأطباء، دار الثقافة، بيروت، (1979 م) ، (2/ 3) وما بعدها، وانظر أحمد أمين- فجر الإسلام، مكتبة نهضة مصر- الطبعة الحادية عشرة (1975 م) ، (ص 165، 166) . وانظر دي لاسي أوليري- الفكر العربي ومركزه في التاريخ، ترجمة إسماعيل البيطار- نشر دار الكتب اللبناني- بيروت (1982 م) ، (ص 62) .
(2)
راجع عن أطباء الإسكندرية الذين استمروا في عملهم تحت الحكم الأموي وكان لهم إسهاماتهم في ترجمة الطب اليوناني إلى اللغة العربية في أواخر العصر الأموي. ابن أبي أصبيعة المصدر السابق، (2/ 3) وما بعدها. ثم راجع كتاب ابن النديم- الفهرست، طبعة دار المعرفة بيروت، الذي ألفه في نهاية القرن الرابع الهجري. وهو معجم علمي فريد وليس له مثيل في وقته في العالم كله ومنه نعرف كيف أن حركة العلم لم تنقطع، وظلت كل المدارس تؤدي دورها في ظل الخلافة الأموية.
(3)
ولم يحدث قط أن شكا أحد من أهل هذه الأديرة من تدخل الدولة في شؤونهم ولا في ماذا يدرسون من علوم بل كانت لهم الحرية كاملة في كل ما يعملون ويدرسون.
أولا: كان الأمويون مشغولين بالفتوحات وتثبيت أركان الدولة وتوطيد أجهزتها ومؤسساتها المدنية والسياسية والإدارية وهذا كله كان يحتاج إلى جهد كبير فكان من الحكمة أن يعطوا الأولوية لهذا العمل، وهو عمل شاق ويحتاج إلى وقت طويل.
ثانيا: هذه العلوم الكثيرة التي تركها الأقدمون مثل الطب والهندسة والفلك والرياضيات والكيمياء والفيزياء والفلسفة تحتاج إلى استعداد كبير وإلى كتيبة كبيرة بل كتائب من المترجمين، وهذا لم يكن ميسرا للأمويين، لدرجة أنهم أبقوا على بعض اللغات الأجنبية مستخدمة في أهم أجهزة الدولة، وهي دواوين الخراج التي كانت تمثل وزارة الخزانة للدولة فقد بقيت اللغة الفارسية مستخدمة في ديوان الخراج في العراق وبلاد فارس وبقيت اللغة اليونانية مستخدمة في ديوان الخراج في مصر والشام وكانت تلك ضرورة تعامل معها الأمويون بذكاء وتسامح وسعة أفق ولكنهم أخذوا يستعدون ويعدّون الرجال الذين سينهضون بترجمة هذه الدواوين ونقلها إلى اللغة العربية واستغرق ذلك عشرات السنين، ولم تبدأ عملية التعريب إلا في منتصف خلافة عبد الملك بن مروان «1» نحو سنة (74 هـ- 693 م) واستغرقت نحو نصف قرن؛ لأن آخر ديوان تم تعريبه كان ديوان خراسان (129 هـ- 746 م) فإذا كان تعريب الدواوين- وهي رغم أهميتها تعد محدودة- احتاج إلى هذا الوقت الطويل، فإن تعريب العلوم وهي كثيرة ومتنوعة لا بد أنه يحتاج إلى وقت أطول، ولو بقيت الدولة الأموية وعاشت فترة أطول لبدأت عملية ترجمة العلوم ربما في وقت أبكر من الوقت الذي بدأ فيه العباسيون عملية الترجمة؛ لأن كثيرين من الذين اضطلعوا بعبء الترجمة في العصر العباسي كانوا من الذين تعلموا اللغة العربية في العصر الأموي، فكثير من الموظفين غير العرب الذين كانوا يعملون في دواوين الخراج اضطروا لتعلم اللغة العربية عند ما عربت هذه الدواوين ليستمروا في عملهم، وهذا أدى إلى ذيوع اللغة العربية وانتشارها على نطاق واسع بين أبناء البلاد المفتوحة وهذا التطور الحضاري الكبير كان في مصلحة حركة الترجمة الواسعة النطاق للعلوم النقلية والفلسفية التي شهدها العصر العباسي.
خلاصة القول: أن الأمويين لم تكن تنقصهم الهمة ولا كانوا غافلين عن أهمية ترجمة تلك العلوم إلى العربية ولكن فقط كانت تنقصهم الوسائل وكانوا يحتاجون
(1) ابن النديم- الفهرست (ص 338، 339) .