الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صناعته، واستخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمما، وتكررت ممارستهم البحر وثقافته، واستخدموا بصراء بها، فتاقت نفوسهم إلى الجهاد فيه، وأنشؤوا فيه السفن والشواني، وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح، وأمطوها العساكر المقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر، واختصوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب إلى هذا البحر وعلى حافته» «1» .
كانت مصر أول بلد استفاد العرب الفاتحون من خبرته في بناء أساطيلهم البحرية «2» ولم يدخر أبناء مصر- من أسلم منهم ومن بقي على مسيحيته- وسعا في تقديم خبرتهم للعرب الفاتحين، وفي التفاني في خدمتهم لما رأوه منهم من تسامح وحسن معاملة.
*
دار الصناعة في الإسكندرية:
كانت الإسكندرية عاصمة مصر منذ أنشأها الإسكندر الأكبر المقدوني (سنة 332 ق. م) إلى الفتح الإسلامي لمصر. وكانت من أكبر دور صناعة السفن لا الحربية فقط، بل التجارية أيضا؛ لأنها كانت من أكبر أسواق العالم، وأكثر ثغوره ازدحاما وحركة في تجارة القمح والكتان والورق والزجاج، وغير ذلك من منتجات البلاد الزراعية والصناعية. وكان تصدير هذه المنتجات يحتاج إلى أسطول من المراكب التجارية لنقلها إلى شتى موانئ البحرين الأحمر والأبيض المتوسط. وإلى جانب المراكب التجارية كانت مصر تصنع السفن الحربية للدولة البيزنطية، التي كان بعضها يسع ألف رجل، وهي السفن التي كانت تشبه ما يطلق عليه البوارج في العصر الحاضر، وهناك سفن كان حجمها أصغر، تسع الواحدة منها مائة رجل، ويمكن تسمية ذلك النوع الصغير بالطرادات «3» .
كان من الطبيعي وقد انعقد عزم العرب على بناء أساطيلهم البحرية أن يهتموا بالقائم من دور الصناعة، وبصفة خاصة في مصر، وكان من الطبيعي أن تكون مدينة الإسكندرية من أوائل المدن البحرية التي يولونها عنايتهم، خصوصا وأنها معرضة أكثر من غيرها لهجمات الأساطيل البيزنطية، فالبيزنطيون لم يرفعوا عيونهم
(1) مقدمة ابن خالدون (2/ 690) . تحقيق د. علي عبد الواحد وافي.
(2)
د. إبراهيم العدوي- الأساطيل العربية في البحر الأبيض المتوسط (ص 17، 18) .
(3)
د. سعاد ماهر- البحرية في مصر الإسلامية (ص 73، 74) .
عنها منذ أن فتحها العرب، ولم يفقدوا الأمل في استعادتها منهم، كما نجحوا في استعادتها من الفرس من قبل. ومما زاد من عناية العرب الفاتحين بالإسكندرية تعرضها لهجوم بحري بيزنطي خطير بعد فتحها، مما يدل على إصرار البيزنطيين على استردادها. ففي سنة (25 هـ/ 645 م) هاجم أسطول بيزنطي ضخم مدينة الإسكندرية واستطاع أن يستولي عليها بمساعدة من بقي فيها من الروم، الذين أبقاهم المسلمون ومنحوهم الحرية والأمان، ولكنهم لم يحفطوا هذا كله، بل غدروا وتعاونوا مع الأسطول البيزنطي، وسهلوا له الاستيلاء على الإسكندرية، ولم يقنع قائد الأسطول البيزنطي مانويل بالاستيلاء على الإسكندرية، بل سار بقواته جنوبا إلى حصن بابليون لاستعادة مصر كلها. الأمر الذي جعل الخليفة عثمان بن عفان يعهد إلى عمرو بن العاص- فاتح مصر والذي كان قد طلب إعفاءه من ولايتها- بمهمة طرد الروم منها ثانية.
ولم يتردد القائد الكبير والفاتح العظيم في القيام بواجبه، وقد نجح في طرد الروم من مصر كلها مرة أخرى وإلى الأبد «1» .
هذه الحادثة قوت عزيمة المسلمين وأقنعتهم بضرورة الإسراع في بناء قوتهم البحرية الذاتية، وأكدت أن معاوية بن أبي سفيان كان على حق، وكان رجلا بعيد النظر حين فكّر في بناء الأساطيل البحرية الإسلامية، وإصراره على تنفيذ مشروعه، مهما كانت العقبات والمعارضات.
كانت الإسكندرية إذن من أوائل الموانئ المصرية التي أحيا فيها العرب الفاتحون صناعة بناء السفن، ولم تصبح مركزا من أهم مراكز صناعة السفن الحربية فحسب، بل أصبحت قاعدة لانطلاق الأساطيل المصرية في العصر الإسلامي لغزو بلاد الروم نفسها. ولم تكن تمد الأسطول المصري وحده بالسفن اللازمة، بل كانت تبني فيها السفن اللازمة للأسطول الشامي، بناء على طلب معاوية بن أبي سفيان «2» الذي أصبح خليفة منذ سنة (41 هـ/ 660 م) وأصبح صاحب القرار، وليس في حاجة إلى استئذان أحد، ومن هنا كانت انطلاقة المسلمين البحرية.
ويتضح من أوراق البردي العربية، والتي اكتشفت بالصدفة في كوم شقاو- أفروديتو- من أعمال محافظة أسيوط، يتضح من هذه الأوراق أن الإسكندرية
(1) ابن عبد الحكم- فتوح مصر (ص 117، 118) .
(2)
تاريخ البحرية المصرية- تأليف لفيف من أساتذة جامعة الإسكندرية (ص 342) .
أصبحت مركزا هامّا لصناعة السفن بعد الفتح الإسلامي بسنوات قلائل، وأن الأساطيل كانت تخرج منها للغزو، ففي إحدى البرديات يطلب والي مصر قرة بن شريك (90- 96 هـ/ 708- 714 م) من باسيليوس، حاكم كوم شقاو إرسال الزبد من أجل المقاتلين بالأسطول الهجومي المصري إلى تيودور الجسال الذي كان يقود الأسطول في الإسكندرية، وكان مسيحيّا على ما هو ظاهر من اسمه.
وتحتوي بردية أخرى على طلب عاجل، يطلب فيه الوالي ملاحين وعمالا مهرة للعمل في أسطول الإسكندرية.
إضافة إلى المعلومات الوفيرة التي زودتنا بها برديات كوم شقاو عن دار صناعة السفن بالإسكندرية، فإننا نجد حشدا كذلك من المعلومات عن الموضوع نفسه في كتب الجغرافيين والمؤرخين والرحالة المسلمين، فقد تحدث هؤلاء بإطناب- أحيانا- عن الإسكندرية ودار صناعتها ومكانتها الكبيرة في نشاط الأساطيل الإسلامية، وتزويدها بكل ما تحتاج.
كما تحدثوا عن منارتها- إحدى عجائب الدنيا- التي كانت لا تزال موجودة عند الفتح الإسلامي، واستمرت بعده تؤدي رسالتها في خدمة الأغراض البحرية، كما وصفوا مرآتها التي كانت تعلوها، وقالوا: إنها كانت تستخدم في رؤية العدو من بعد إذا قدم من بلاد الروم، وفي خطط المقريزي «1» كثير من هذه المعلومات.
وقد ذكر الرحالة الفارسي ناصر خسرو- الذي زار الإسكندرية في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر فيما بين سنتي (439- 442 هـ/ 1047- 1050 م) - أن منارة الإسكندرية كانت لا تزال موجودة تؤدي رسالتها عند زيارته للإسكندرية، ومن قوله في ذلك الشأن: وفي الإسكندرية منارة كانت قائمة وأنا هناك، وقد كان فوقها مرآة محرقة، فلما جاءت سفينة رومية من القسطنطينية أصابتها نار من هذه الحرّاقة فأحرقتها «2» .
وتتجلى أهمية قاعدة الإسكندرية في أن لها ميناءين عظيمين، يتسع كل منهما لعدد كبير من السفن، فضلا عن هدوء المياه في هذين الميناءين، بسبب وقوع جزيرة تدعى جزيرة فاروس شمالي الإسكندرية، وتمتد إلى حوالي ثلاثة أميال،
(1)(1/ 51) وما بعدها.
(2)
نقلا عن تاريخ البحرية المصرية- مرجع سابق (ص 342، 343) .
أصبحت مركزا هامّا لصناعة السفن بعد الفتح الإسلامي بسنوات قلائل، وأن الأساطيل كانت تخرج منها للغزو، ففي إحدى البرديات يطلب والي مصر قرة بن شريك (90- 96 هـ/ 708- 714 م) من باسيليوس، حاكم كوم شقاو إرسال الزبد من أجل المقاتلين بالأسطول الهجومي المصري إلى تيودور الجسال الذي كان يقود الأسطول في الإسكندرية، وكان مسيحيّا على ما هو ظاهر من اسمه.
وتحتوي بردية أخرى على طلب عاجل، يطلب فيه الوالي ملاحين وعمالا مهرة للعمل في أسطول الإسكندرية.
إضافة إلى المعلومات الوفيرة التي زودتنا بها برديات كوم شقاو عن دار صناعة السفن بالإسكندرية، فإننا نجد حشدا كذلك من المعلومات عن الموضوع نفسه في كتب الجغرافيين والمؤرخين والرحالة المسلمين، فقد تحدث هؤلاء بإطناب- أحيانا- عن الإسكندرية ودار صناعتها ومكانتها الكبيرة في نشاط الأساطيل الإسلامية، وتزويدها بكل ما تحتاج.
كما تحدثوا عن منارتها- إحدى عجائب الدنيا- التي كانت لا تزال موجودة عند الفتح الإسلامي، واستمرت بعده تؤدي رسالتها في خدمة الأغراض البحرية، كما وصفوا مرآتها التي كانت تعلوها، وقالوا: إنها كانت تستخدم في رؤية العدو من بعد إذا قدم من بلاد الروم، وفي خطط المقريزي «1» كثير من هذه المعلومات.
وقد ذكر الرحالة الفارسي ناصر خسرو- الذي زار الإسكندرية في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر فيما بين سنتي (439- 442 هـ/ 1047- 1050 م) - أن منارة الإسكندرية كانت لا تزال موجودة تؤدي رسالتها عند زيارته للإسكندرية، ومن قوله في ذلك الشأن: وفي الإسكندرية منارة كانت قائمة وأنا هناك، وقد كان فوقها مرآة محرقة، فلما جاءت سفينة رومية من القسطنطينية أصابتها نار من هذه الحرّاقة فأحرقتها «2» .
وتتجلى أهمية قاعدة الإسكندرية في أن لها ميناءين عظيمين، يتسع كل منهما لعدد كبير من السفن، فضلا عن هدوء المياه في هذين الميناءين، بسبب وقوع جزيرة تدعى جزيرة فاروس شمالي الإسكندرية، وتمتد إلى حوالي ثلاثة أميال،
(1)(1/ 51) وما بعدها.
(2)
نقلا عن تاريخ البحرية المصرية- مرجع سابق (ص 342، 343) .