الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شيء في هذه الأوضاع الاجتماعية والتفكك السياسي في حياة هذه الولايات كان في صالح الفتح العربي «1» .
*
المراحل التمهيدية لفتح بلاد ما وراء النهر:
المرحلة الحاسمة لفتح أقاليم ما وراء النهر جاءت على يد الفاتح البطل قتيبة بن مسلم الباهلي، ففي غضون عشر سنوات (86- 96 هـ) بسط السيادة الإسلامية على كل البلاد «2» ، ويمكن أن يقال: إن قتيبة كان رجلا حسن الحظ، حيث قدّر له أن يجني ثمار مراحل طويلة من الغزوات التي طرقت بلاد ما وراء النهر عبر عشرات السنين وثمار أعمال رجال وقادة عظاماء سبقوه إلى هذه البلاد ودوّخوها وعبّدوا له الطريق فمنذ خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه (41- 60 هـ) بدأ المسلمون يجتازون نهر جيحون منطلقين من خراسان، ولم يكن ينقطع غزوهم وعبورهم النهر، الذي أخذ يتكرر كل عام تقريبا بقصد التعرف على البلاد وطرقها وطبيعتها ومناخها وسكانها والتجرؤ عليها، ويمكننا القول: إن هذا الاجتياز وذلك الغزو كان عملا من أعمال الاستطلاع وجمع المعلومات، وشغل البلاد بالدفاع عن نفسها أكثر منه فتحا منظما بقصد الاستقرار؛ لأن الفتح المنظم كان يتطلّب ظروفا لم تكن متوفرة للدولة الإسلامية في تلك الفترة، فمن ناحية عاشت الدولة الإسلامية مرحلة من الفتن والحروب الأهلية منذ مطلع خلافة يزيد بن معاوية (60- 64 هـ) وحتى قرب نهاية خلافة عبد الملك بن مروان (65- 86 هـ) .
ومن ناحية ثانية لم يكن ممكنا الإقدام على تنفيد مشروع كبير كفتح بلاد ما وراء النهر قبل أن تستقيم للمسلمين الأمور في خراسان وطخارستان، التي لم يستقر أمرها إلا على يدي قتيبة بن مسلم.
فالفتور الذي كان يصيب المسلمين في خراسان، والخلافات القبلية التي كانت تعصف بهم وعصيانهم للأمراء وقسوة الأمراء عليهم، كل ذلك كان شديد الأثر في حركة الفتح في بلاد ما وراء النهر، وهو أثر سلبي بطبيعة الحال.
وإذا توفر لخراسان ولاة أكفاء لهم من الحزم والعزم والتصميم ما يضبط البلاد
(1) انظر الدكتور شكري فيصل- حركة الفتح الإسلامي (ص 209) نقلا عن كتاب جب «غزوات العرب في آسيا الوسطى» .
(2)
أرمينيوس فامبري- تاريخ بخارى (ص 61) .
ويشيع الاستقرار- كما كان زياد وابنه عبيد الله- فإن ذلك كان كفيلا بأن يتيح للحملات على بلاد ما وراء النهر مجالات من السعة والتقدم «1» .
ولدينا طائفة من الروايات التاريخية، كما جاء في فتوح البلدان للبلاذري «2» حول الذين عبروا النهر- جيحون- عبد الله بن عامر، والحكم بن عمرو الغفاري، الذي كان أول من عبر النهر، وسعيد بن عثمان بن عفان «3» ، وكان أول من قطعه، وسلم بن زياد، وكانت امرأته أول عربية عبر بها النهر، هذه الروايات قد يبدو فيها التناقض؛ لأن كل واحد من أبطالها قيل عنه: إنه الأول في عبور نهر جيحون وبالتأمل يمكن أن يزول التناقض، إذا تصورنا أنه لا مانع من أن يكون كل واحد منهم عبر من جبهة غير الجبهة التي عبر منها الآخرون، وعلى هذا يكون كل واحد هو الأول في العبور من الجبهة التي عبر منها، وسواء أصح هذا التصور أم لا؛ فإن الحقيقة التي تستخلص من كل تلك الروايات واحدة لا تتغير، وهي أن خطوات المسلمين الأولى إلى بلاد ما وراء النهر كانت خطوات تمهيدية.
ولعل زياد بن أبي سفيان أول من فطن إلى أن فتح ما وراء النهر لا يمكن قبل استقرار الأوضاع في خراسان «4» ، فأقدم على خطوة مهمة كانت بعيدة المدى والمرمى في حياة خراسان، حيث نقل خمسين ألف أسرة عربية من البصرة والكوفة وأسكنها خراسان «5» . ومن الطبيعي أن يكون زياد قد تشاور في هذا مع الخليفة معاوية بن أبي سفيان؛ لأنه من غير المعقول أن يقدم على عمل كبير كهذا دون علم الخليفة، وهكذا يمكننا أن نقول في ثقة: إن أسس فتح بلاد ما وراء النهر قد بدأها زياد وتابعها بعده ابنه عبيد الله، الذي وفق في عبور نهر جيحون ودخول بخارى، وبعد أن أخضع مدينة بيكند الغنية ومركز التجارة «6» ومنها سار إلى بخارى محملا بالغنائم يسير في ركابه أربعة آلاف أسير «7» وكان ذلك سنة (53 هـ) . وقد استنجدت الملكة خاتون ملكة بخارى بجيرانها الترك الذين حاولوا إنقاذ المدينة، ولما
(1) شكري فيصل- حركة الفتح الإسلامي (ص 210) .
(2)
(ص 408- 413) .
(3)
زين الأخبار أبو سعيد الكرديزي- (1/ 173) ترجمة الدكتورة عفاف السيد زيدان.
(4)
أرمينيوس فامبري- تاريخ بخارى (ص 57) .
(5)
البلاذري- فتوح البلدان (ص 410) .
(6)
تاريخ بخارى (ص 57) .
(7)
زين الأخبار (1/ 172) .