الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يحترم مبعوثي الأعداء وحاملي رسائلهم- معاهدة الحديبية في ميزان العلاقات الدولية- الإسلام والعالم- خاتمة البحث. هذا وبالله التوفيق.
*
قيام دولة الإسلام: * في عهد النبي:
الإسلام دين ودولة؛ أو بمعنى آخر الإسلام عقيدة إلهية تنبثق منها شريعة، يقوم على مبادئ هذه الشريعة نظام اجتماعي كامل وفاضل، يحقق سعادة البشر جميعا في الدنيا والآخرة. تلك حقيقة لا ينكرها إلا مكابر يجهل حقيقة الإسلام، أو متعصب أعمى التعصب- ضد الإسلام- بصره وبصيرته.
فالتاريخ قد عرفنا برجال جاؤوا برسالات سماوية، ورجال بنوا أمما، ورجال آخرين أسّسوا دولا. لكن التاريخ لم يحدثنا عن رجل واحد جاء برسالة من عند الله، ثم بنى أمة، ثم أسس دولة، سوى النبي العربي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان محمد رسولا من عند الله للبشرية كلها؛ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ: 28] . وهو مكلف بتبليغ رسالته للناس؛ يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] والقرآن الكريم كما حمّل النبي عليه الصلاة والسلام مسؤولية تبليغ الرسالة، فقد حمّله كذلك مسؤولية الحكم بين المسلمين، طبقا لمبادئ هذه الرسالة؛ إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النساء: 105] ، وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ
…
[المائدة: 49] . وصفة الإيمان تنتفي عن المؤمنين إذا لم يحكموا الرسول في أمورهم؛ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء: 65] . وبناء على هذا يمكننا أن نقول: إن مهمة تأسيس دولة إسلامية يقوم نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي على أسس شريعة الإسلام، هي مهمة أساسية من مهمات الرسول- عليه الصلاة والسلام وقد اضطلع بهذه المهمة، فأسس الدولة الإسلامية- في المدينة المنورة بعد الهجرة مباشرة- وكان هو- عليه الصلاة والسلام قائد المسلمين وإمامهم، ينفذ الشريعة بينهم، ويرعى مصالحهم ويحدد لهم علاقاتهم فيما بينهم. ويحدد لهم علاقاتهم بغيرهم من الأمم الآخرى على أسس ومبادئ
ثابتة، والمبادئ التي تقوم على أساس علاقات الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم هي مبادئ عالمية؛ ذلك بأن طابع الدولة الإسلامية له ما للدعوة الإسلامية من اعتبار إنساني عام حدّده مصدر الرسالة الإسلامية وهو القرآن الكريم في قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 158] ؛ فالدعوة الإسلامية للناس جميعا. ولذلك ففكرة الدولة في الإسلام هي فكرة عالمية، ومبادئ علاقاتها الدولية هي مبادئ عالمية كذلك «1» . وينبغي أن نشير هنا إلى أن هذه هي أول مرة في تاريخ الأديان تقوم دولة ذات صبغة عالمية في مبادئها وأهدافها على أساس عقيدة وشريعة سماوية «2» . وهذه ميزة امتاز بها الإسلام، وهي ميزة ناشئة عن طبيعته كدين، وناشئة أيضا عن ظروف نشأته التاريخية، وفي كلا الأمرين يختلف الإسلام عن المسيحية مثلا.
فالمسيحية- من حيث طبيعتها كدين- تعتبر رسالة إصلاحية، وجاءت لإصلاح الديانة اليهودية، وتخليصها من البدع والخرافات والأساطير التي أضافها إليها اليهود، والتي أحالتها طقوسا جامدة، لا حياة فيها ولا روح، فاليهود حرّفوا الكلم عن مواضعه كما سجّل عليهم القرآن الكريم هذا العبث: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [المائدة: 13] .
من أجل ذلك جاء السيد المسيح عليه السلام برسالته ليصحح الديانة اليهودية، ويعيد لها صفاءها الأول، كما جاء بها موسى عليه السلام وليهدي خراف بني إسرائيل الضالة.
وروي عنه قوله: «ما جئت لأنقض الناموس، بل لأصححه» .
أما طبيعة الإسلام كدين فلم تكن كذلك؛ فلم يأت الإسلام لإجراء تصحيح جزئي في ديانة سابقة، وإنما جاء الإسلام لهدم كل انحراف عقدي أو أخلاقي أو سلوكي، سواء في شبه الجزيرة العربية، أو في أي مكان آخر من العالم يصل إليه، وليقيم عقيدة عالمية للبشرية كلها؛ هي عقيدة التوحيد الخالص لله وحده سبحانه وتعالى، وعبادته دون سواه، ومعها شريعة خاتمة لكل الشرائع، وشاملة لكل شؤون الدنيا والآخرة.
(1) د. محمد البهي- الدين والدولة، من توجيه القرآن الكريم (ص 490) .
(2)
حسن خالد- الشهيد في الإسلام (ص 33) .
وهناك فارق آخر بين الإسلام والمسيحية من حيث النشأة التاريخية لكل منهما فالمسيحية كما هو معروف، نشأت في فلسطين، حيث ولد السيد المسيح عليه السلام، وفلسطين يومئذ مستعمرة رومانية، والدولة الرومانية كانت في تلك الأزمان دولة كبيرة وعتيدة. دولة لها نظامها الاجتماعي الخاص بها، ولها قوانينها الراسخة، والتي كانت مبعث فخرها- لا تزال القوانين الرومانية تعتبر ينبوعا لمعظم القوانين في أوربا- فلم تكن الدولة الرومانية لتسمح للسيد المسيح عليه السلام أن ينازعها سلطانها، وأن يقيم في ولاية من ولاياتها دولة ومجتمعا يخالف نظامها وقوانينها. ولقد أدرك السيد المسيح نفسه هذا الوضع فلم يحاول أن يقحم نفسه ورسالته في هذا الميدان، ولم يسع لإقامة دولة مسيحية على أساس الديانة المسيحية، ونقلت الكتب المتداولة في أيدي المسيحيين الآن عنه قوله:«دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر» «1» . ويعني هذا أن المسيحية قصرت جهودها على العمل في ميدان الروح والوجدان، وقد نجحت المسيحية في رسالتها الروحية، قبل أن ينحرف بها أتباعها- كما انحرف اليهود من قبل بديانتهم- ويحمّلوها ما ليس من طبيعتها، وما فوق طاقتها، وهذا موضوع طويل وليس مكانه في هذا البحث. وإنما كل ما نريد أن نوضحه أن النشأة التاريخية للإسلام تختلف عن النشأة التاريخية للمسيحية، وأن هذا كان له تأثير كبير على نشأة الدولة الإسلامية ذاتها. فالإسلام نشأ في إقليم الحجاز في شبه الجزيرة العربية، حيث ولد محمد صلى الله عليه وسلم، وتلقّى رسالته، وهذه المنطقة التي ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم، ونشأ فيها الإسلام، كانت مستقلة تماما عن أي نفوذ أجنبي، فلا سلطان عليها لا لملك ولا لإمبراطور، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فلم تكن بالمنطقة نظم أو قوانين كتلك التي كانت سائدة في فلسطين- المستعمرة الرومانية- عند نشأة المسيحية. وكانت تلك فرصة طيبة للإسلام لكي يقيم المجتمع والدولة والنظام الذي يريده، على أساس الشريعة التي أنزلها الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، دون تدخل من أية قوة خارجية أو إعاقة من أي نظام أو قانون داخلي، ولم يكن مضطرّا لقصر عمله على ميدان الروح والوجدان «2» ؛ بل عمل في ميدان الروح والوجدان، وعمل في واقع الحياة وفي كل ميدان من ميادينها الفسيحة. وكان من حيث طبيعته العالمية، ومن حيث نشأته التاريخية مهيئا لإقامة دولة إسلامية ذات
(1) إنجيل متى- الإصحاح الثاني والعشرين- الآية (ص 21) .
(2)
سيد قطب- العدالة الاجتماعية في الإسلام (ص 4) وما بعدها.
صبغة عالمية. ولقد قامت الدولة الإسلامية بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى يثرب- المدينة المنورة بعد الهجرة- مباشرة، فمنذ اللحظة الأولى بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة في إرساء دعائم دولة الإسلام وصياغة المجتمع الإسلامي وقد خطا صلى الله عليه وسلم في هذا المجال خطوات عملية وسريعة من أهمها:
أولا: بناء المسجد النبوي في المدينة «1» ، وكان هذا هو أول عمل قام به النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة. وقد عمل في بنائه بنفسه مع أصحابه، وحول المسجد أقيمت مساكن الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان بناء المسجد النبوي بسيطا بساطة تعبر عن بساطة الإسلام نفسه وعزوفه عن البذخ والترف. ولكن هذا المسجد البسيط العظيم قام بالدور الرئيسي في حياة الإسلام والدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي. فلم يقتصر مسجد الرسول على إقامة الصلوات فيه، وإنما أصبح مركز النشاط الإسلامي كله، فهو مهبط الوحي، يتلقاه النبي فيه ويبلغه للناس، وفيه كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الصحابة- رضوان الله عليهم- أمور الدين والدنيا ويدربهم على فنون الحكم والقيادة والإدارة، ويعدّهم للدور العظيم الذي ينتظرهم لقيادة العالم، ونشر الدين، وحماية العقيدة، وبناء دولة الإسلام وتطويرها على أساس شريعة الله.
وكان المسجد مركز حكومة النبي صلى الله عليه وسلم، فيه يقضي ويحكم بين الناس في المنازعات، وفيه يعقد الألوية والرايات لقواد حملاته العسكرية، ويعقد عهود الولاية للعمال على المناطق التي تدخل في تبعية الدولة الإسلامية. وفيه كان يستقبل الوفود الأجنبية، ومنه يرسل مبعوثيه كذلك، وحاملي رسائله إلى الأمراء والملوك والأباطرة المعاصرين، وفيه كان صلى الله عليه وسلم يناقش مشاكل المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية مع أصحابه بروح المعلم العظيم والقائد العظيم. وباختصار شديد ففي هذا المسجد البسيط اتخذت أعظم القرارات التي غيرت وجه التاريخ، وبدلت مصائر العالم، ومنه خرجت شعلة النور التي أضاءت جنبات الأرض، فلا غرو إذن إذا اعتبرنا بناء مسجد المدينة من أهم ركائز قيام الدولة الإسلامية.
ثانيا: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. تلك المؤاخاة التي قامت على أساس العقيدة الإسلامية، والتي ربطت بينهم بهذا الرباط الوثيق، وجعلتهم أمة متميزة بخصائصها الإسلامية، وكانت في نفس الوقت دليلا عمليّا واضحا على طبيعة
(1) انظر: بناء مسجد الرسول في ابن هشام، السيرة النبوية، القسم الأول (ص 496) ، وابن كثير- البداية والنهاية (3/ 219) ، ود. محمد حسين هيكل- حياة محمد (ص 220) .
الإسلام العالمية. ذلك الدين الذي لا يقيم أي وزن لآية رابطة تقوم على العصبية القبلية أو القومية أو الجنسية، فالرابطة الوحيدة التي يعترف بها الإسلام هي رابطة العقيدة؛ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
…
[الحجرات: 10] . فهي الرابطة التي تحقق المساواة الكاملة بين البشر. ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة العملية على ذلك، فقد آخى بين عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ومولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه «1» ، وبهذه المؤاخاة أصبح المسلمون أمة واحدة، متميزة بخصائصها الدينية في مواجهة المجموعات الآخرى في المدينة، ومنهم اليهود.
ثالثا: معاهدة المدينة. فبعد أن نظم الرسول صلى الله عليه وسلم العلاقات بين المسلمين على النحو السابق، كان لا بد من تنظيم العلاقات بين المسلمين وبين بقية سكان المدينة، ولا بد من تحديد الحقوق والواجبات لكل طرف؛ حتى يعرف كل إنسان ما له وما عليه، وهنا يقدم لنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنموذجا آخر، على عالمية الإسلام وشمول مبادئه، وطبيعته التنظيمية، ذلك الأنموذج الذي تمثل في المعاهدة التي عقدها الرسول مع اليهود وغيرهم من سكان المدينة، تلك المعاهدة التي تعتبر أدق وأوفى المعاهدات في التاريخ، والتي أصبحت الأساس الدستوري لقيام الدولة الإسلامية في المدينة بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم، باعتراف جميع الأطراف التي اشتركت فيها ووقعت عليها.
ولقد نظمت معاهدة المدينة كافة الحقوق والواجبات والالتزامات بين سكان المدينة جميعا، باعتبارهم مواطنين في الدولة الجديدة، مع اختلاف العقيدة، حيث اعتبرت المعاهدة اليهود طرفا فيها، واعتبرتهم مواطنين في المدينة، ومع ذلك ضمنت لهم حرية عقائدهم وشعائر دينهم، والمحافظة على ممتلكاتهم، وعلى كل حال لا نريد أن نطيل في شرح تفاصيل معاهدة المدينة في هذا البحث، وإنما يهمنا منها أمر واحد، وهو أنها كانت إعلانا بميلاد دولة الإسلام بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم، وباعتراف جميع أطرافها بما فيهم اليهود، وقد جاء هذا الاعتراف في نص صريح في المعاهدة.
«وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
» «2» . بهذا الشكل تم إعلان قيام
(1) انظر موضوع المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في ابن هشام، القسم الأول (ص 504) وما بعدها. وابن سعد- الطبقات الكبرى (1/ 2/ 1) وما بعدها، د. هيكل- حياة محمد (ص 223) .
(2)
راجع نص معاهدة المدينة في ابن هشام، القسم الأول (ص 501) وما بعدها، ومحمد حميد الله- الوثائق السياسية للعهد النبوي (ص 41) وما بعدها، ود. هيكل- حياة محمد (ص 225) وما بعدها.
دولة الإسلام بالمدينة. وكانت بداية باهرة، ففي تلك المدينة الصغيرة قامت الحكومة الإسلامية، التي أرست دعائم الحق والعدل والمساواة بين البشر جميعا.
وبعد أن وضع النبي صلى الله عليه وسلم أسس الإسلام في المدينة المنورة، استمر يؤدي المهمتين الأساسيتين اللتين اضطلع بهما:
الأولى: مهمة تلقي الوحي وتبليغه للناس.
والثانية: تطبيق الشريعة وتنفيذ أحكامها، وقيادة الأمة الإسلامية ورعاية مصالحها ورسم مستقبلها وعلاقاتها الخارجية.
ولما التحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، كان معنى هذا انتهاء المهمة الأولى. أما المهمة الثانية، وهي قيادة الأمة الإسلامية؛ فقد أصبحت شاغرة، وكان لا بد من شغلها، ولقد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ضرورة أن يختاروا- وعلى وجه السرعة- من يخلف النبي في قيادة الأمة، في ذلك الظرف العصيب الذي أعقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وبدا اهتمامهم بهذه القضية من إعطائهم إياها الأولوية على كل شيء سواها، حتى على دفن جسد النبي الطاهر- عليه الصلاة والسلام وكرهوا أن يبيتوا ليلة واحدة بدون إمام «1» . وكان هذا يمثل قمة الإحساس بالمسؤولية من جانب الصحابة- رضوان الله عليهم- والذي يتابع مناقشاتهم الجادة التي جرت في سقيفة بني ساعدة «2» يدرك مدى فهمهم العميق لطبيعة دينهم التنظيمية، وإخلاصهم النيّة في محاولة اختيار أفضلهم وأرجحهم عقلا لتولي هذا المنصب الخطير، منصب خلافة النبي في قيادة الأمة الإسلامية، ويعجب ببعد نظرهم، وحسمهم للأمور؛ إذ لم ينته اليوم الأول على وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان الله قد وفقهم إلى اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه لتولي منصب الخلافة. فكان خير خلف لخير سلف، قاد الأمة بتجرد ومهارة فائقة في معالجة مشاكلها الداخلية والخارجية.
ثم أسلم الراية لابن الخطاب العظيم، الذي تابع المسيرة الخالدة. وقفز بالدولة قفزة هائلة في جميع الميادين، ودلل على القدرة العقلية العربية على القيادة والتنظيم السياسي والإداري، وأخذت دولة الإسلام تتطور حتى أصبحت أعظم دولة
(1) راجع د. ضياء الدين الريس- الإسلام والخلافة في العصر الحديث (ص 205) وما بعدها ثم انظر آراء الفقهاء في وجوب تنصيب إمام للمسلمين، يطبق الشريعة ويرعى مصالح الأمة في الأحكام السلطانية للماوردي (ص 5) وما بعدها.
(2)
انظر تفاصيل ما جرى في سقيفة بني ساعدة في الطبري (3/ 199) وما بعدها، وابن حجر- فتح الباري (7/ 30) وما بعدها، وابن الأثير (2/ 220) .