الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لم يكن عبيد الله عازما هذه المرة على الاستقرار فقد قبل أن يأخذ الجزية من الملكة- ألف ألف درهم- والتي دفعتها طائعة إنقاذا لبلادها «1» . وعاد إلى مرو. ولكن الحملات لم تنقطع أبدا على بلاد ما وراء النهر فقد واصل خلفه سعيد بن عثمان بن عفان حملاته على بخارى «2» وغيرها من بلاد ما وراء النهر، ثم تصاعدت الحملات على يد المهلب بن أبي صفرة، والي خراسان من قبل الحجاج الثقفي (78- 83 هـ) . ثم على يدي ولديه يزيد بن المهلب والمفضّل (83- 85) وقد بدأ المهلب غزواته في بلاد ما وراء النهر سنة (80 هـ)، حيث يقول ابن الأثير:
وفي هذه السنة قطع المهلب نهر بلخ، ونزل على كشّ وأقام بها سنتين «3» ولما توفي المهلب سنة (83 هـ) خلفه ابنه يزيد على ولاية خراسان، فواصل غزو ما وراء النهر ثم واصل أخوه المفضل الغزو أيضا إلى أن عزله الحجاج بدوره وأسند ولاية خراسان إلى الرجل الذي شاءت له الأقدار أن يخطو الخطوة الحاسمة في فتح بلاد ما وراء النهر وأن يرتبط فتح هذه البلاد باسمه، ذلك الرجل هو قتيبة بن مسلم الباهلي، الذي استثمر جهود كل القادة الكبار الذين سبقوه، وحرثوا له البلاد، ومهدوا له الطريق ابتداء من عبد الله بن عامر، ومرورا بزياد بن أبي سفيان وابنه عبيد الله، وسعيد بن عثمان بن عفان، والمهلب بن أبي صفرة وأولاده.
*
فتوحات قتيبة بن مسلم فيما وراء النهر:
ولي قتيبة خراسان من قبل الحجاج بن يوسف الثقفي- والي العراق والمشرق كله- وكان ذلك سنة (85 هـ) على الأرجح، بعد عزل المفضّل بن المهلب.
وكان اختيار الحجاج لقتيبة لولاية خراسان اختيارا موفقا وجاء في موعده فقد كان الرجل من الأبطال الشجعان، ذوي الحزم والدهاء والغناء، ويعتبر بحق من كبار القادة الفاتحين الذين أنجبتهم الأمة العربية وعرفهم التاريخ الإسلامي.
ففي خلال نحو عشر سنوات (86- 96) فتح أقاليم شاسعة في آسيا الوسطى، وهدى الله على يديه خلقا كثيرا، فأسلموا ودانوا لله عز وجل «4» .
وقد شرف الله تعالى قتيبة بحمل راية الفتوحات الإسلامية في بلاد ما وراء النهر في وقت ملائم تماما، فقد استفاد من جهود كل من سبقوه، وكان يعتمد- بعد
(1) تاريخ بخارى (ص 58) .
(2)
تاريخ بخارى (ص 58) .
(3)
الكامل في التاريخ (4/ 453) .
(4)
ابن كثير- البداية والنهاية (9/ 167) .
الله تعالى- على والي العراق العظيم الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي اختاره لهذه المهمة الجليلة، ووضع ثقته فيه، ولم يقصر في إمداده بالرجال والعتاد والرأي والمشورة، كما كان من حسن حظ قتيبة أن ولايته على خراسان واضطلاعه بقيادة الفتوحات في بلاد ما وراء النهر قد جاءت في وقت ملائم تماما، حيث كانت الدولة الأموية تغلبت على جميع مناوئيها، واستقرت أمورها واستردت عافيتها، في خلافة الوليد بن عبد الملك (86- 96 هـ) فاجتمعت لقتيبة شجاعة القائد وإقدامه وعزم الوالي وتصميمه، وقوة الدولة واستقرارها، فكانت أمجاده وأعماله الرائعة في ما وراء النهر.
ولقد برهن قتيبة بن مسلم على أنه لم يكن قائدا عسكريّا فذّا وفاتحا عظيما فحسب، بل أنه كان رجل إدارة وتنظيم وسياسة من الطراز الأول وأنه كان يعرف طبيعة المهمة التي أو كلت إليه، كما أنه كان يعرف كل شيء عن خراسان- القاعدة التي ستنطلق منها الغزوات- والتي كانت رياح الخلافات والعصبيات العربية قد هبّت عليها؛ من جراء التنافس على الولاية والمناصب الآخرى بين أبناء القبائل العربية- خاصة اليمن وقيس- فكان على قتيبة- قبل أن يمضي إلى تنفيذ مشروعه الكبير لفتح ما وراء النهر- أن ينسي العرب خلافاتهم ويجعلهم يرتفعون فوق العصبيات، ويذكّرهم برسالتهم السامية التي أكرمهم الله بها وشرفهم بحملها، وأن يعدهم نفسيّا لاستئناف الجهاد في سبيل الله.
فما أن وصل خراسان حتى اجتمع برؤساء القبائل وأعيان الناس، وخطب فيهم خطبة بليغة، كان لها أبلغ الأثر في جمع الكلمة والتوجه للجهاد في سبيل الله بدلا من ضياع الوقت والجهد في المنازعات والخلافات القبلية التي لا طائل من ورائها.
وكان مما قاله قتيبة في خطبته تلك، مخاطبا زعماء القبائل: «إن الله أحلكم هذا المحل ليعز بكم دينه، ويذبّ بكم عن الحرمات، ويزيد بكم المال استفاضة، والعدو وقما- أي: ذلّا- ووعد نبيه صلى الله عليه وسلم النصر بحديث صادق وكتاب ناطق، فقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 32] ، ووعد المجاهدين في سبيله أحسن الثواب وأعظم الذخر عنده، فقال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا