الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإدارة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
*
المقصود بالإدارة هنا:
إدارة الدولة، أو بمعنى آخر جهاز الحكم الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدير الدولة الإسلامية من خلاله؛ لأن الإدارة بمفهومها الحديث المعقد وتنوع أجهزتها واختصاصاتها هي من مستحدثات العصور الحديثة، وهي كعلم له قواعده وأصوله المقررة لم تعرف تقريبا على نطاق واسع في العالم إلا بعد قيام الثورة الصناعية في أوربا في القرن الثامن عشر، تلك الثورة التي أحدثت تحولا هائلا وخطيرا في الإنتاج الصناعي، بل وفي تاريخ العالم كله، وعلاقات دوله وشعوبه. وكان من الطبيعي أن تؤدي الثورة الصناعية إلى قيام الشركات والمؤسسات الصناعية الضخمة التي أصبحت تضم أعدادا هائلة من العاملين، سواء في الإنتاج أو تسويقه، وكان من الطبيعي أن يؤدي هذا الواقع الجديد في ميدان الإنتاج الصناعي إلى ضرورة التفكير في كيفية إدارة هذه المؤسسات العملاقة إدارة تضمن انتظام العمل في مختلف جوانبه، وهنا بدأت تظهر نواة علوم الإدارة الحديثة وقواعدها، وبدأت تنشأ المؤسسات العلمية لتعليم «أصول الإدارة» .
أما في العصور الوسطى- التي ظهر فيها الإسلام- فلم يكن فيها شيء من هذا، فلم تكن هناك مؤسسات صناعية كبرى، ولم يكن هناك معاهد لتعليم الإدارة، وإنما كانت الإدارة في ذلك الوقت موهبة شخصية أكثر منها علم، فكانت في جملتها إدارة حكومية. وكان رجال الإدارة البارزون يكتسبون الخبرة الإدارية في المجال العملي في ميادين العمل المختلفة. إذن فالإدارة التي نحن بصدد الحديث عنها هي إدارة الدولة الإسلامية التي أسسها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بعد الهجرة.
*
طبيعة الدعوة الإسلامية:
ولما كانت الدولة الإسلامية قد قامت على أساس الرسالة الإسلامية فينبغي أن نقول كلمة عن طبيعة الدعوة الإسلامية؛ لأن ذلك يعيننا على فهم طبيعة الدولة الإسلامية، وفهم أهدافها العليا.
فالرسالة الإسلامية من حيث طبيعتها رسالة عالمية، أي: لم تأت لفريق دون فريق
ولا لأمة دون أمة من الناس، ولا لمكان دون مكان، ولا لزمان دون زمان؛ بل هي عالمية الزمان والمكان وموجهة للجنس البشري كله. وتلك الطبيعة تحددها نصوص القرآن الكريم بشكل قاطع في نصوص قطعية الدلالة. منها قول الله تعالى- مخاطبا النبي صلى الله عليه وسلم: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ: 28]، ومنها قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: 1]، ومنها قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 158]، ومنها قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [التكوير 27- 29]، ومنها قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] إلى غير ذلك من الآيات التي توضح أن رسالة الإسلام موجهة إلى الجنس البشري كله.
كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ما أمر بالجهر بالدعوة طبقا لأمر الله له بقوله:
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر 94] جمع وجوه قريش وزعماءها وأعلن لهم رسالته، وكان مما قاله لهم:«إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة» .
والرسالة الإسلامية من هذه الناحية تختلف عن الرسالات السماوية التي سبقتها، فتلك الرسالات كانت محدودة الزمان والمكان والبيئة، بمعنى أن كل رسول كان يرسل إلى قوم معينين في زمان معين أيضا، لذلك نجد أكثر من رسول متزامنين ومتجاورين كذلك، كما هو الحال بالنسبة لإبراهيم ولوط- عليهما الصلاة والسلام- فقد كان إبراهيم في فلسطين ولوط في الأردن.
والقرآن الكريم في إخباره لنا بتلك الرسالات وضح لنا طبيعتها فيقول عن نوح عليه السلام:
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [نوح: 1]، وعن إبراهيم عليه السلام: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ [الشعراء: 69، 70]، وعن هود عليه السلام: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ [الأعراف: 65]، وعن صالح عليه السلام: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 72] وعن موسى عليه السلام: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصف: 5]، وعن عيسى عليه السلام وهو آخر الأنبياء قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] ، وهكذا لا نجد رسالة سماوية وجهت إلى الجنس البشري عامة سوى رسالة الإسلام.
وغني عن البيان أن هذا لا يقلل من شأن الرسل السابقين- حاشا لله- ولا من شأن رسالاتهم؛ لأن طبيعة رسالاتهم وضع اقتضاه تطور الجنس البشري وتدرجه العقلي، وكل منهم أدي دوره وكان لبنة صالحة في بناء صرح عقيدة التوحيد، فلما نضجت البشرية واكتمل رشدها وأصبحت مهيئة لتقبل وفهم رسالة عالمية في مبادئها وأهدافها؛ جاءت هذه الرسالة على يد خاتم الأنبياء محمد- عليه الصلاة والسلام، الذي صور موقع رسالته من رسالات السماء أدق تصوير فيما يرويه البخاري عنه حيث قال:«إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟» قال: «فأنا اللبنة» «1» .
ولا يظن أحد أن معنى عالمية الإسلام أنه يجب على المسلمين أن يحملوا سلاحهم لفرض الإسلام على الناس بالقوة- كما يدعي أعداء الإسلام- فهذا أمر غير وارد بنصوص القرآن الكريم: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة: 256] والمتأمل لنصوص القرآن الكريم يعلم أنها توضح أن حمل الناس على اعتناق دين واحد أمر يكاد يكون مستحيلا؛ يقول الله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس: 99]، ويقول تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] إذا فهمنا هذا أدركنا أن معنى عالمية الإسلام أنه دين يلائم كل الناس من كل جنس ولون وأنه دين مفتوح لكل البشر وطريق الدخول إليه كلمة يقولها الإنسان فيصبح بعدها مسلما له كل الحقوق وعليه كل الوجبات مثل بقية المسلمين مهما كان جنسه أو لونه تلك الكلمة هي: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» فهو ليس دين الصفوة المختارة كما يدعي اليهود ولكنه دين كل الناس، وسبيل دعوة الناس إليه في الظروف العادية حددها القرآن الكريم للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] .
هذا عن طبيعة الرسالة الإسلامية، فماذا عن طبيعة الدولة الإسلامية؟
(1) ابن حجر- فتح الباري بشرح صحيح البخاري (6/ 158) المطبعة السلفية- القاهرة بدون تاريخ.