الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا يستطيع أحد أن يفرض عليها شيئا بالقوة.
وكل ما كان يطلبه المسلمون من الآخرين- خاصة جيرانهم الفرس والروم- أن يفسحوا لهم الطريق، ليدعوا الناس إلى دينهم- بدن عوائق وموانع- بالحكمة والموعظة الحسنة كما أمرهم ربهم، ولكن الفرس والروم أبوا ذلك، وحملوا المسلمين حملا على حمل السيف واللجوء إلى القوة لإزاحتهم من طريق الدعوة، فالحروب الإسلامية لم تكن لنشر الإسلام وإنما كانت لتحقيق الحرية لنشر الإسلام، ولو كانت الحروب لنشر الإسلام، وحمل الناس على اعتناقه بالقوة؛ لما بقي فرد واحد غير مسلم في كل بقاع الأرض التي وصلتها الجيوش الإسلامية، ولكن هذا لم يحدث وبقي أناس كثيرون غير مسلمين- وإلى الآن- في تلك البلاد وهذا دليل على أن الحروب لم تكن لنشر الإسلام وإنما لحماية الدعوة من الطغاة المتجبرين.
والذي يتأمل سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا المجال يجدها قائمة على تأمين شبه الجزيرة العربية، قاعدة الإسلام ومرتكزه ومنطقه- من أي عدوان خارجي- انظر على سبيل المثال أهداف غزوة مؤتة وتبوك وبعث أسامة بن زيد- ثم دعوة الناس خارج شبه جزيرة العرب إلى الإسلام بالحسنى والكلمة الطيبة، وتمثل ذلك في الرسائل التي أرسلها- صلوات الله وسلامه عليه- إلى الملوك والأباطرة والأمراء ومنهم كسرى أيزويز الثاني- ملك الفرس- وكانت كلها رسائل سلمية ولم ترد فيها كلمة واحدة عن الحرب أو التهديد بها.
*
المسلمون والفرس:
تجمع المصادر على أن كسرى أيزويز الثاني مزّق رسالة النبي- علوّا واستكبارا- بل طلب من باذان نائبه على حكم اليمن أن يقبض له على النبي ليقتله، عقابا له على جرأته، ومخاطبة ملك الملوك ودعوته إلى الإيمان بالله ورسوله، والنبي لم يزد عند سماعه بذلك على أن قال:«مزّق الله ملكه» «1» .
لا يشك عاقل في أن هذا الموقف من جانب ملك فارس عدائي للغاية، وسوف يتطور ويتصاعد العداء أكثر وأكثر، وتجلى ذلك في موقف الفرس من حروب الردة، وتحريضهم للقبائل العربية الخاضعة لنفوذهم في منطقة الخليج على الردة والتمرد على
(1) انظر تاريخ الطبري (2/ 654) .
حكومة الخلافة في المدينة المنورة، مما أدى إلى الاشتباك العسكري بين المجاهدين المسلمين الذين كانوا يلاحقون المرتدين على ساحل الخليج العربي شمالا بقيادة المثنى ابن حارثة الشيباني، وبين الفرس؛ ذلك الاشتباك الذي تطور ليصبح صداما شاملا لم يتوقف إلا بعد فتح إيران كلها وإدخالها تحت السيادة الإسلامية، ولا يستطيع منصف أن يلوم المسلمين على ذلك، فلم يكونوا البادئين بالعدوان، فبعد الاشتباكات الأولى أدرك المثنى أن الفرس ألقوا بكل ثقلهم في المعارك- دون أن يكونوا مقصودين، فلم يكن يدور بفكر المثنى أن يحارب دولة كبيرة كفارس- بما معه من قوات صغيرة- فطلب مددا من المدينة لصدّ عدوانهم، وأدرك الخليفة الأول، أبو بكر الصديق رضي الله عنه ببصيرته النافذة- دقة الموقف، فدفع إلى الجبهة بأعظم وأمهر قواده خالد بن الوليد، ليلقن الفرس درسا لم يلقنهم إياه أحد من قبل، وفي شهور قليلة من عام (12 هـ) فتح القائد المظفر نصف العراق الجنوبي وسحق ما به من قوات الفرس سحقا، واستقر في الحيرة عاصمة المناذرة، بناء على تعليمات الخليفة، وانتظارا لأوامره، وبعد قليل تطورت الأمور على الجبهة الغربية- بين المسلمين والروم- مما اضطر الخليفة أن يأمر خالدا بالتحرك ببعض القوات العاملة معه في العراق إلى الشام لكسر شوكة الروم، ولينسيهم وساوس الشيطان- على حد قول أبي بكر الصديق- فجاء خالد وحطم جيش الروم تحطيما- كما هو معروف- في معركة اليرموك سنة (13 هـ) وبضربة واحدة فتح الطريق أمام المسلمين لفتح الشام ومصر وما تلاها غربا مما لا مجال لذكره هنا، فهدفنا هنا الحديث عن فتح فارس الذي مهّد لفتح بلاد ما وراء النهر.
بعد تحرك خالد من العراق إلى الشام، ومعاركه الخالدة هناك، كان أبو بكر قد توفي سنة (13 هـ) وتولى الخلافة الفاروق عمر بن الخطاب فرمى الجبهة الفارسية ببطل آخر من أبطال الفتح الإسلامي العظماء، الأسد في عرينه- سعد بن أبي وقاص- الذي وصل إلى القادسية وأرسل وفدا إلى بلاط فارس في المدائن يعرض عليهم الإسلام وإذا أبوا فالجزية، وإذا أبوا فالقتال لإزاحتهم من طريق الدعوة ولكنهم أبوا إلا القتال، فكان لهم ما أرادوا، واشتبك الجيشان في القادسية وانتصر جند الله انتصارا عظيما، وهزم الجيش الفارسي هزيمة منكرة «1» وسقط قائده رستم- أعظم قادة الفرس- صريعا في المعركة، وتابع الفاتح الكبير بطل القادسية سعد بن
(1) انظر البلاذري- فتوح البلدان (ص 315) .
أبي وقاص زحفه إلى المدائن- عاصمة الأكاسرة- فدخلها يقود جحافل النصر في مشهد مهيب ونادر من مشاهد التاريخ، فها هو سعد بن أبي وقاص- أحد أبناء الصحراء- يدخل القصر الأبيض فاتحا ويجلس في نفس الإيوان الذي مزّق فيه كسرى أبروز الثاني رسالة النبي صلى الله عليه وسلم علوّا واستكبارا وقد حقق الله دعوة النبي فمزّق ملكه.
صلى سعد صلاة الشكر لله على هذا الفتح المبين في إيوان كسرى، وتلا قول الله تعالى:
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ [الدخان: 25- 29] .
أما آخر الأكاسرة الفرس، بل آخر كسرى في التاريخ، وهو يزدجرد الثالث فقد فرّ مذعورا كالفأر- وقد كان قبل شهور فقط يزأر كالأسد- تاركا عاصمة ملكه في قبضة الفاتحين المسلمين. وأما سعد فقد أرسل بشائر النصر والغنائم إلى عمر بن الخطاب في المدينة المنورة، وطلب منه أن يأذن له بمواصلة فتح بلاد فارس ولكن عمر رفض، وقال لسعد:«لوددت أن بين السواد وبين الجبل سدّا لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم، حسبنا من الريف السواد، إني آثرت سلامة المسلمين على الأنفال» «1» هذا الموقف من الخليفة يدل بوضوح على أن المسلمين ليسوا دعاة حرب، ولم يكن من خططهم نشر الإسلام بالقوة أو الاستيلاء على بلاد الناس بحد السيف والذي يتأمل كلام عمر وتصرفاته يستطيع أن يخرج بانطباع أن الخليفة قد تكونت في ذهنه فكرة محددة، وهي أن يقف بالفتوحات عند حدود العراق والشام، وأن يحاول تنظيم تلك المناطق ويطبق فيها منهج الإسلام والعدل والحرية بكل معانيها، ليدرك الناس أن المسلمين ما جاؤوا ليستولوا على بلادهم، بل جاؤوا ليخلصوهم من الظلم والاستعباد، وإذا تحقق ذلك فإن الناس في البلاد الآخرى المجاورة سوف يأتون من تلقاء أنفسهم، فمن ذا الذي يرفض العدل والمساواة والحرية؟ هذا ما استقر عليه رأي عمر بعد القادسية، ولعله توقع أن الفرس بعد الهزائم المريرة المتلاحقة التي منوا بها على أيدي المسلمين سوف يكفّون عن الحرب ويتركون المسلمين وشأنهم، خصوصا وأن المناطق التي فتحها المسلمون إلى الآن- وهي العراق- مناطق عربية وسكانها عرب، والفرس كانوا أجانب مستعمرين. ولكن ما توقعه عمر بن الخطاب لم يحدث بل حدث عكسه تماما، فقد دأب الفرس- خاصة أهل الأهواز- على التمرد ونقض المعاهدات التي منحها لهم المسلمون، وضمنوا لهم بمقتضاها حرية
(1) انظر تاريخ الطبري (4/ 28) .