الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
خاتمة البحث:
الموضوع الرئيسي الذي حاولنا معالجته في هذا البحث؛ هو العلاقات الدولية لدولة الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وقد رأينا أن تلك العلاقات كانت تقوم على أساس السلام مع الآخرين، كما تؤيد ذلك كل الأدلة والنصوص الموثوق بها، كما تؤيده وقائع التاريخ التي استشهدنا بها كثيرا في ثنايا البحث. وظهر لنا أن الإسلام لم يعمد إلى الحرب ليجبر الناس على اعتناقه، ولم يبدأ أحدا بعدوان قط. وعندما أباح الإسلام الحرب، أباحها للدفاع عن النفس، أو عن حرية نشر العقيدة، أو الدفاع عن المظلومين في الأرض. وحصر الإسلام الحرب في نطاق هذه الضرورات وحدها، ونفر من التوسع فيها؛ لأن الحرب ليست هدفا وإنما هي وسيلة لتحقيق هدف وهو إقامة السلام على الأرض، وتحقيق المساواة الكاملة بين بني البشر، ولتكون كلمة الله هي العليا، وشريعته هي الغالبة، وإذا سادت شريعة الله وحكمت تصرفات البشر، وقبلوها راضين، فلن يكون هناك مبرر للحرب على الإطلاق من وجهة نظر الإسلام. وبرغم وضوح الأدلة على أن السلام هو الأصل في العلاقات الدولية في الإسلام، وأن الحرب كانت استثناء دعت إليه الضرورة. إلا أن أعداء الإسلام والحاقدين عليه من المستشرقين وغيرهم، ما برحوا يروجون لفكرة سيطرت على عقولهم نتيجة لجهلهم لطبيعة الإسلام، ولمعنى كلمة الجهاد في الإسلام من ناحية ولتعصبهم ضد الإسلام كدين وحضارة من ناحية ثانية. هذه الفكرة هي أن الإسلام انتشر بالسيف، وأنه دين دموي، وأنه يدعو أتباعه دائما إلى حمل السلاح لإجبار الناس جميعا على اعتناقه بالقوة. وهذا هو نص كلام واحد من المستشرقين الذين يذهبون إلى هذا الرأي الخبيث؛ يقول كارل بروكلمان:
«يتحتم على المسلم أن يعلن غير المسلمين بالعداوة حيث وجدهم؛ لأن محاربة غير المسلمين واجب ديني» «1» . ولا ندري من أين جاء بروكلمان بهذه الحتمية، ونصوص القرآن الكريم واضحة أمامنا في النهي عن عدم الإكراه في الدين- كما قدمنا- ولا يكون القتال واجبا دينيّا على المسلم، إلا في حالة الدفاع عن النفس أو حرية العقيدة أو عن المظلومين في الأرض. أما من لم يبدأ المسلمين بعداء فليسوا
(1) كارل بروكلمان- تاريخ الشعوب الإسلامية (ص 78) . وانظر كذلك- فان فلوتن- السيادة العربية في عهد بني أمية (ص 5) وما بعدها.
مطالبين بقتاله، بل بالعكس مطالبون بالكف عنه؛ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا [النساء: 90] . ولكنه التعصب المقيت ضد الإسلام الذي دأب عليه المستشرقون، بقصد تشويه الإسلام، وتصويره بأنه دين يدعو إلى سفك الدماء. وهؤلاء المستشرقون لم يفهموا ظاهرة انتشار الإسلام على حقيقتها، ولم يفهموا أسبابها؛ التي من أولها وأهمها بساطة الإسلام نفسه وملاءمته لفطرة الإنسان. في كل زمان ومكان، ولما لم يفهموا ذلك، وأفزعهم الانتشار الهائل والسريع للإسلام في أرجاء العالم، راحوا يروجون أنه انتشر بالسيف، وليس أبعد عن الحقيقة والواقع من هذه الفكرة. فالإسلام- كما تدل وقائع التاريخ- كان ينتشر ويتضاعف معتنقوه أوقات السلم أكثر وأسرع مما كان ينتشر في أوقات الحرب. فمن المعروف تاريخيّا أن عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز (99- 101 هـ) كان عهد سلام؛ إذ توقفت فيه الحروب تقريبا وبأمر الخليفة نفسه، وكان من أول قراراته التي أصدرها قراره بفك الحصار الذي كان المسلمون قد ضربوه على مدينة القسطنطينية وأن يعود الجيش الإسلامي إلى الديار الإسلامية «1» . وكان عهده عهد حل كل المشكلات سواء الداخلية أو الخارجية بطريق سلمي. ومع ذلك فقد شهد هذا العهد القصير إقبالا على الإسلام بصورة لم يسبق لها مثيل «2» ، واعتنقه الناس لبساطته وسمو مبادئه، خصوصا من أهل الكتاب، لدرجة أن بعض الولاة اشتكى للخليفة من أن إقبال الناس على اعتناق الإسلام قد أضر ببيت المال، لرفع الجزية عمن أسلموا. وطلب بعض الولاة من الخليفة أن تبقى الجزية مفروضة عليهم بعد إسلامهم.
لكن الخليفة الصالح الذي كان يفهم روح الإسلام قال صائحا: قبح الله رأيكم، إن الله أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم هاديا ولم يبعثه جابيا.
ثم ليخبرنا هؤلاء المستشرقون أي جيش إسلامي ذهب إلى جنوب شرقي آسيا لينشر الإسلام هناك؟ وكيف أصبحت أمة كأندونيسيا- التي يزيد عددها الآن عن عدد الأمة العربية تقريبا- مسلمة؟ إن الإسلام بدأ يدخل إلى أندونيسيا وغيرها من بلاد جنوب شرقي آسيا منذ القرن الثاني عشر الميلادي، أي في وقت كانت فيه القوة العسكرية الإسلامية قد زالت أو ضعفت ولم يصبح لها أي تأثير، وكان وصول الإسلام إلى هذه البلاد النائية عن طريق التجار الذين كانوا يتنقلون بين الموانئ
(1) انظر: الطبري (8/ 130) .
(2)
انظر: د. حسن إبراهيم حسن- تاريخ الإسلام السياسي (1/ 335) .
العربية وموانئ هذه البلاد كما يشهد بذلك بعض المؤرخين الأوربيين أنفسهم «1» .
ثم ليخبرنا بروكلمان وأمثاله كيف وصل الإسلام إلى أفريقيا، حيث توجد دول أفريقية بكاملها أو بغالبية سكانها على الأقل مسلمة الآن مثل نيجيريا والسنغال وغيرها. ولندع باحثا أوربيّا آخر ليقول لنا: كيف وصل الإسلام إلى أفريقيا. يقول سبنسر ترمنجهام: «وأما في غرب أفريقيا فإن انتشار الإسلام يرجع في المقام الأول إلى التجارة والدعوة له بواسطة التجار الأفارقة» «2» .
هل تبقى بعد ذلك للتهم التي يزعمها ويلصقها بالإسلام أعداؤه أية قيمة؟ أما آن للباحثين الغربيين أن يكفوا عن مهاجمة الإسلام، وأن يحترموا عقولهم بل وأن يحترموا عقول قرائهم في هذا العصر الذي يزعمون أنه عصر حرية الفكر.
أغلب الظن أن أغلب المستشرقين لم يستطيعوا التحرر من التعصب ضد الإسلام.
وجريا على قاعدة أن لكل قاعدة شواذ، فلم نعدم بعض المنصفين من الغربيين الذين فاهوا بالحقيقة وأعلنوها. ونختم هذه الخاتمة بكلمة لواحد من هؤلاء الغربيين المنصفين. وهي كلمة لها قيمتها في هذا المجال؛ لأنها صادرة عن باحث لا يمكن أن يكون متحيزا للإسلام أو متحمسا لترويج مبادئه والدعوة له. ولكنها الحقيقة ظهرت له ناصعة، فأجبرته على أن يعلنها. يقول توماس آرنولد:«وإذا نظرنا إلى التسامح الذي امتد على هذا النحو إلى رعايا المسلمين من المسيحيين في صدر الحكم الإسلامي ظهر أن الفكرة التي شاعت بأن السيف كان العامل في تحويل الناس إلى الإسلام بعيدة عن التصديق» «3» .
وإذا كنا استشهدنا أكثر من مرة بكلام آرنولد وغيره من الغربيين المنصفين فليس ذلك لأن الأدلة في تراثنا قليلة أو غير كافية على صدق رأينا؛ ولكن لئلا ننسى من يقول كلمة حق في حقنا، وليعرفوا أننا لسنا متعصبين مثلهم؛ لأن ديننا هو دين التسامح وعرفان الجميل.
وبعد؛ فهذه لمحة عن دولة الإسلام وعلاقاتها الدولية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. أرجو أن أكون قد وفقت في عرضها. فإن صح هذا فالحمد لله أولا وأخيرا، وإن تكن
(1) انظر توماس آرنولد- الدعوة إلى الإسلام (ص 316) .
(2)
سبنسر ترمنجهام- الإسلام في شرق إفريقيا (ص 111) .
(3)
توماس آرنولد- الدعوة إلى الإسلام (ص 88) .
الآخرى فبحسب الإنسان أن يحاول وأن يجتهد وعلى الله التوفيق وبه المعونة، والكمال لله وحده.
هذا ولا يزال الموضوع محتاجا إلى أبحاث كثيرة تستقصي جوانبه المتعددة، ندعو الله تعالى أن يوفق أهل العلم للقيام بها، وعلى الله قصد السبيل.