الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التقدم في هذا الاتجاه ظل بطيئا إلى عام الحديبية. فقد كانت الحديبية نقطة تحول كبرى في تاريخ الدعوة والدولة معا، فبعد الحديبية انفتح الطريق أمام انتشار الدعوة وامتداد الدولة وذلك بفضل بعد نظر الرسول صلى الله عليه وسلم ومهارته السياسية الفائقة ففي شهر ذي القعدة من العام السادس الهجري أعلن الرسول عن عزمه للخروج معتمرا مسالما لا محاربا، وخرج بالفعل في ألف وأربعمائة من أصحابه، ولعله أراد أن يختبر نوايا قريش فلعلها راجعت موقفها من الدعوة- خصوصا بعد الهزائم العسكرية التي منيت بها- وتفتح معه صفحة جديدة، فها هو يمد يده إليها فماذا هي صانعة، وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية بالقرب من مكة وواتته الأخبار بعزم قريش على منعه من دخوله مكة، واتصلت بينه وبينهم المفاوضات- التي لا نريد أن نقف عندها طويلا الآن- وانتهت إلى ما عرف بصلح الحديبية، والذي كان من أهم بنوده وأعظمها أثرا على مستقبل الدعوة والدولة ذلك البند الذي نص على هدنة أو فترة سلام بين الفريقين مدتها عشرة أعوام.
وقبل الرسول هذه المعاهدة- رغم المعارضة الشديدة من بعض أصحابه- واستثمرها بنجاح فائق ظهر أثره، واضحا بعد فترة وجيزة.
ذلك أنه ما إن استقر في المدينة بعد عودته من الحديبية حتى شرع في تنفيذ خطة واسعة النطاق لتبليغ الدعوة إلى جميع مناطق شبه الجزيرة العربية وإلى الدول الأجنبية المجاورة. ففي شهر المحرم من العام السابع الهجري أرسل ستة سفراء دفعة واحدة، إلى كسرى فارس وهرقل- إمبراطور الروم- والمقوقس في مصر، ونجاشي الحبشة، وأمير غسان بالشام، وزعيم بني حنيفة في اليمامة «1» .
*
اليمن أول إقليم عربي يدخل تحت سيادة الدولة الإسلامية:
والذي يهمنا من أمر هذه الرسائل الآن، هو أمر رسالته إلى كسرى فارس؛ فقد كانت هذه الرسالة وما ترتب عليها من رد فعل مفتاح إسلام أهل اليمن، ودخولهم
(1) انظر رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء المعاصرين له في ابن حجر- فتح الباري بشرح صحيح البخاري (1/ 32) وما بعدها (8/ 127) ، وصحيح مسلم- بشرح النووي (12/ 107، 108) ، وتاريخ اليعقوبي (3/ 67) وما بعدها، وابن الأثير الكامل في التاريخ (2/ 145) ، والسيرة الحلبية (3/ 244) وما بعدها، ومحمد حميد الله- مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة (ص 81) وما بعدها، وأحمد زكي صفوت- جمهرة رسائل العرب (1/ 32) وما بعدها، ود. محمد حسين هيكل- حياة محمد (ص 383) وما بعدها.
ضمن نفوذ الدولة الإسلامية.
والذي حمل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى أبرويز بن هرمز، هو عبد الله بن حذافة السهمي، فلما أوصل إليه الرسالة، وقرئت عليه استبد به الغضب والغرور وقال: يكتب إليّ وهو عبدي- يقصد النبي صلى الله عليه وسلم وطرد عبد الله بن حذافة- مبعوث النبي صلى الله عليه وسلم من المدائن، ثم أرسل كتابا إلى باذان- عامله على اليمن- أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به «1» .
فامتثل باذان لأمر سيده، وأرسل قائدين من قواده هما خرخسرو وبابويه ومعهما عدد من الجنود، وقال لبابويه: ائت بلد هذا الرجل وكلمه وائتني بخبره فخرجا حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه بابويه فقال: إن شاهنشاه- ملك الملوك كسرى- قد كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي، فإن فعلت كتب فيك إلى ملك الملوك ينفعك ويكفه عنك، وإن أبيت، فهو من قد علمت، فهو مهلك، ومهلك قومك، ومخرب بلادك، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ارجعا حتى تأتياني غدا» وأتى رسول الله الخبر من السماء وأن الله سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله، فدعاهما فأخبرهما، فقالا له: هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا، أفنكتب هذا عنك ونخبر الملك؟ قال: «نعم، أخبراه ذلك عني، وقولا له: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى
…
وقولا له: إن أسلمت أعطيت ما تحت يديك وملكتك على قومك من الأبناء» «2» .
أوصل رسولا باذان رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إليه ثم جاءته الأخبار من فارس تصدق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يلبث باذان أن أراد الله به خيرا وشرح صدره للإسلام، وأرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفدا برئاسة فيرزز الديلمي بإعلان إسلامه وإسلام الأبناء من أهل اليمن «3» .
وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على حكم المناطق التي كان يتولاها تحت الإدارة الفارسية، والتي يبدو أنها كانت قاصرة على منطقة صنعاء وما حولها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ولى ولاة آخرين على بقية مناطق اليمن التي تتابع دخولها في الإسلام، وكانت سياسة النبي صلى الله عليه وسلم أن يولي على كل قوم زعيما منهم. وكيفما كان الأمر فإن باذان كان
(1) انظر نص كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى في الطبري (2/ 654، 655) .
(2)
المصدر السابق (2/ 656) .
(3)
المصدر السابق (2/ 656) .