الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في هذا المجال تملأ المصادر التاريخية، الإسلامية والبيزنطية على السواء.
*
تبادل الوفود لعقد معاهدات الصلح:
من المعروف أنه في تلك العصور التي نتحدث عنها لم يكن هناك تمثيل دبلوماسي دائم بين الدول، أي لم تكن هناك بعثات دبلوماسية لها مقرات دائمة- سفارات أو قنصليات- وإنما كانت الدول تتبادل الوفود والبعثات عند الحاجة، وكذلك كان الحال بين الدولتين الإسلامية والبيزنطية فقد قامت علاقاتهما على أسس راسخة، وتقاليد ثابتة، من حيث اختيار السفراء والمبعوثين، من ذوي الثقافة العالية والكفاءة واللباقة وقوة الشخصية والقدرة على التأثير، إلى جانب الفطنة والذكاء وقوة الحافظة، ومن حيث نظام استقبالهم على قدر مكانتهم في بلدهم- وتسهيل مهماتهم- ورعاية حقوقهم، وتوفير الحصانة لهم وضمان عودتهم إلى بلادهم سالمين «1» .
وكانت المهمات الرئيسية لتبادل الوفود والبعثات الرسمية بين الدولتين- الإسلامية والبيزنطية- التفاوض من أجل عقد معاهدات الصلح أو تبادل الأسرى، وكانت تأتي بعثات من كلا الجانبين إلى الآخر لمجرد المجاملة.
ولقد عرف تاريخ العلاقات الإسلامية البيزنطية تبادل الوفود منذ وقت مبكر، فقد عرفنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أرسل وفدا يحمل رسالته إلى هرقل وكان رئيس ذلك الوفد الصحابي الجليل دحية بن خليفة الكلبي والمصادر وتتحدث عن أكثر من رسالة من النبي إلى هرقل، كما أن الطبري يحدثنا عن وفد أرسله عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الإمبراطور هرقل وكان يحمل بعض الهدايا «2» لكن أول معاهدة صلح تحدثنا عنها المصادر تلك التي أبرمها معهم معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما سنة (60 هـ/ 680 م) ، في آخر سنة من حياته، وكانت مدتها ثلاثين عاما «3» ؛ الأمر الذي يدل على الرغبة في استمرار السلام، فالدولتان اللتان تعقدان معاهدة صلح مداها ثلاثون عاما لا يمكن أن تكونا راغبتين في الحرب.
(1) راجع في ذلك كتاب (رسل الملوك) لابن الفراء- تحقيق د. صلاح الدين المنجد- القاهرة سنة (1947 م) .
(2)
سنشير إلى هذا الوفد فيما بعد عند الحديث عن تبادل الهدايا.
(3)
د. محمد فتحي عثمان- الحدود الإسلامية البيزنطية (1/ 394) . دار الكتاب العربي القاهرة سنة (1966 م) .
وكما يدل على اهتمام الدولة البيزنطية بأمر تلك المعاهدة أنها اختارت لرياسة الوفد الذي أرسلته إلى عاصمة الخلافة الأموية- دمشق- للتفاوض بشأنها رجلا من أشهر الدبلوماسيين في البلاط البيزنطي، ويدعى يوحنا، الذي كان شخصية مرموقة حظيت بالاحترام والتقدير في البلاط الأموي، فقد حضر إلى دمشق ولقي الخليفة معاوية، وفاوضه في عدة جلسات، وحضرها كبار أبناء البيت الأموي، وكبار رجال الدولة، وقد أبدى رئيس الوفد البيزنطي من حسن التخاطب واللباقة واللياقة والإجلال للخلافة الأموية- ما أكسبه احترام الخليفة معاوية نفسه، وجعله ينجح في عقد المعاهدة المنوه عنها آنفا «1» .
ومما يدل على جو العلاقات بين الدولتين في ذلك الوقت وما كان يسوده من ميل إلى السلام أنهما حكمتا جزيرة قبرص حكما مشتركا، يقول ابن حوقل:«كانت قبرص بينهم نصف للمسلمين، ونصف للنصرانية، وكان للمسلمين فيها أمير وحاكم» «2» .
وفي عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (65- 89 هـ/ 685- 705 م) نقض الروم معاهدتهم مع معاوية، فجددها عبد الملك «3» مما يدل على الرغبة في استمرار حالة السلام بين الدولتين.
ولقد بلغت العلاقات الإسلامية البيزنطية أفضل حالاتها في العصر الأموي، في خلافة عمر بن عبد العزيز (99- 101 هـ/ 707- 720 م) ، ومعاصره الإمبراطور ليون الإيسوري (717- 741 م) .
فالخليفة عمر كان رجلا صالحا يكره الحرب والعنف بطبعه، فأوقف الحروب على الحدود الإسلامية البيزنطية، بل أمر برفع الحصار الذي كان يفرضه الجيش الإسلامي على القسطنطينية- عاصمة الدولة البيزنطية- وأمر بعودة ذلك الجيش إلى الشام، واهتم بأمر الأسرى المسلمين الذين كانوا في أيدي البيزنطيين، فأرسل إلى القسطنطينية وفدا من أجل التفاوض لافتدائهم، وعودتهم إلى بلادهم.
ولقد كان الاحترام والإعجاب متبادلين بين الخليفة والإمبراطور على المستوى الشخصي، فقد روى مؤلف سيرة عمر بن عبد العزيز «4» ، أنه عند ما مرض الخليفة
(1) د. السيد الباز العريني- الدولة البيزنطية (ص 133) . ودار النهضة العربية القاهرة سنة (1960 م) .
(2)
المسالك والممالك (ص 160) .
(3)
البلاذري- فتوح البلدان (ص 64) .
(4)
ابن عبد الحكم- سيرة عمر بن عبد العزيز (ص 118) .
عمر، علم بذلك الإمبراطور ليون وأرسل إليه أحد أطباء القصر الإمبراطوري ليعالجه، ومما يدل على حسن العلاقات أن ذلك الطبيب كان قسيسا، أي من رجال الدين المسيحي، وقد وصل الطبيب القسيس فعلا إلى دمشق «1» .
ويبدو أن العلاقات الودية بين عمر بن عبد العزيز والإمبراطور ليون قد شجعت الخليفة التقي الصالح على دعوة الإمبراطور إلى الإسلام حيث أرسل إليه وفدا يحمل رسالة بهذا الغرض.
وبطبيعة الحال لم يقبل الإمبراطور دعوة الخليفة ونصيحته، ولكنها لم تؤثر سلبيّا على علاقاتهما، فقد استمرت ودية، على خير ما يرام، وظل الإمبراطور على إعجابه بالخليفة المسلم واحترامه إلى وفاته، فقد روى المسعودي، أن عمر بن عبد العزيز بعث وفدا إلى ملك الروم، في أمر من مصالح المسلمين وحق يدعوه إليه
…
فتلقاهم بجميل، وأجابهم بأحسن الجواب، وانصرفوا عنه في ذلك اليوم، فلما كان في غداة غد غزاة أتاهم رسوله، فدخلوا عليه، فإذا هو قد نزل عن سريره ووضح التاج عن رأسه، وقد تغيرت صفاته التي شاهدوه عليها، كأنه في مصيبة، فقال:«هل تدرون لم دعوتكم؟ قالوا: لا، قال: إن صاحب مسلحتي التي تلي العرب جاء في كتابه في هذا الوقت إن ملك العرب، الرجل الصالح قد مات، فما ملكوا أنفسهم أن بكوا، فقال: لا تبكوا له، وابكوا لأنفسكم ما بدا لكم، فإنه خرج إلى خير مما خلف، قد كان يخاف أن يدع طاعة الله في الدنيا، فلم يكن الله ليجمع عليه مخافة الدنيا ومخافة الآخرة، ولقد بلغني من بره وفضله وصدقه، ما لو كان أحد بعد عيسى يحيي الموتى، لظننت أنه يحيي الموتى، ولقد كانت تأتيني أخباره ظاهرا وباطنا، فلا أجد أمره مع ربه إلا واحدا، بل باطنه أشد حين خلوته بطاعة مولاه، ولم أعجب لهذا الراهب الذي قد ترك الدنيا وعبد ربه على رأس صومعته، ولكني عجبت من هذا الذي صارت الدنيا تحت قدميه فزهد فيها، حتى صار مثل الراهب، إن أهل الخير لا يبقون مع أهل الشر إلا قليلا» «2» .
هذه أجمل صورة للعلاقات الإسلامية البيزنطية، تحمل أكثر من دلالة، ولها
(1) المصدر السابق الصفحة نفسها وانظر مقال ماريوس كانار بعنوان «ملاحظات على هامش العلاقات بين العرب والروم» مجلة الدراسات الاستشراقية، المجلد الأول (ص 98- 119)(1956 م) .
(2)
مروج الذهب (3/ 195) طبع دار الفكر- بيروت. بدون تاريخ.
أكثر من معنى.
والواقع أن العلاقات استمرت بدون مشكلات كبيرة ولا اشتباكات خطيرة على الحدود إلى نهاية العصر الأموي (132- 750 هـ) .
فلما قامت الدولة العباسية تجددت الاشتباكات الحدودية، والذي بدأ هم البيزنطيون؛ ظنّا منهم أن الدولة العباسية غير قادرة على حماية الحدود الإسلامية لانشغالها بالتمكين لنفسها، ولكن ظنهم لم يكن في محله؛ فسرعان ما وجدوا الجيوش الإسلامية لهم بالمرصاد، مما جعلهم يجنحون إلى السلام من جديد، ومرة أخرى أقام المسلمون الدليل على رغبتهم في السلام، مع أنهم كانوا الأقوى في ذلك الوقت، وأول معاهدة سلام بين الدولتين في العصر العباسي تحدثنا عنها المصادر تلك التي عقدها معهم هارون ابن الخليفة المهدي في عهد أبيه (158- 169 هـ/ 774- 785 م) مع الإمبراطورة إيريني، والتي يقول عنها الطبري: «فجرت بينها وبين هارون بن المهدي الرسل والسفراء، في طلب الصلح والموادعة وإعطائه الفدية، فقبل ذلك منها هارون، وشرط عليها الوفاء بما أعطت وأن تقيم له الأدلاء والأسواق في طريقه، فأجابته إلى ما سأل
…
ووجهت معه رسولا إلى المهدي، بما بذلت.... وكتبوا الهدنة إلى ثلاث سنوات وسلمت الأسارى» «1» .
ولما تولى هارون الخلافة بعد أخيه الهادي، وتلقب بالرشيد (170- 193 هـ/ 787- 809 م) نقض إمبراطور الروم نقفور المعاهدة التي وقعتها سلفه، بل هدد الرشيد بالحرب إن لم يعد له الجزية التي أخذها منها، مما جعل الرشيد يغزوه بنفسه، ليثبت حالة السلم على الحدود، وهنا أدرك الإمبراطور خطأه، واعتذر وتعهد بدفع أكثر مما كانت الإمبراطورة إيريني، فعادت حالة السلام بين الدولتين وتقرر الصلح كما ذكر الطبري «2» .
والذي يستخلص من كل ذلك أن الدولة الإسلامية لم يكن من خططها غزو أراضي الدولة البيزنطية والاستيلاء عليها، بل كان هدفها المحافظة على حدودها، ومنع تغيير تلك الحدود لمصلحة البيزنطيين، ولو كان المسلمون يبغون الغزو لكان ذلك ممكنا على الأقل في عهد الرشيد؛ لأنهم كانوا الأقوى، وفي عهد الخليفة المأمون (198- 218 هـ/ 813- 833 م) توترت العلاقات إلى حد ما بين
(1) تاريخ الطبري (6/ 152، 153) .
(2)
المصدر السابق (8/ 321) .
الدولتين، إلا أنهما سرعان ما عادتا إلى التفاوض وإجراء الصلح وحل المشكلات بالحوار والتفاهم.
وتبودلت الوفود والرسائل بين المأمون ومعاصره الإمبراطور تيوفيلوس، وكان الأخير هو الذي بدأ برسالة إلى المأمون بطلب عقد مصالحة، إلا أنه خلط فيها بين اللين والشدة والود والتهديد، وهو أسلوب مألوف في المناورات السياسية بين الدول، قال تيوفيلوس في رسالته إلى المأمون:
…
أما بعد فإن اجتماع المختلفين على حظهما أولى بهما في الرأي مما عاد عليهما بالضرر، ولست حريّا أن تدع لحظ يصل إلى غيرك حظّا تحوزه إلى نفسك، وفي علمك كاف عن أخبارك، وقد كنت كتبت إليك داعيا إلى المسألة، راغبا في فضيلة المهادنة، لتضع أوزار الحرب عنا، ونكون كل واحد منا لكل واحد وليّا وحزبا مع اتصال المرافق، والفسح في المتاجرة، وفك المستأسر، وأمن الطرق والبيضة، فإن أبيت فلا أدب لك في الخمر «1» ، ولا أزخرف لك في القول، فإني لخائض إليك غمارها، وآخذ عليك أسدادها، شانّ عليك خيلها ورجالها، وإن أفعل فبعد أن قدمت المعذرة، وأقمت بيني وبينك علم الحجة. والسلام «2» . هذا هو نص رسالة الإمبراطور البيزنطي إلى الخليفة المأمون الذي رد عليها بقوله بعد المقدمة:
«أما بعد، فقد وصلني كتابك فيما سألت من الهدنة، ودعوت إليه من الموادعة، وخلطت فيه من اللين والشدة، مما استعطفت به من شرح المتاجر واتصال المرافق، وفك الأسارى، ورفع القتل والقتال، فلولا ما رجعت إليه من أعمال التؤدة، والأخذ بالحظ في تقليب الفكرة، وإلا أعتقد الرأي في مستقبله إلا في استصلاح ما أوثره في معتقبه، لجعلت كتاب جوابك خيلا تحمل رجالا من أهل البأس والنجدة والبصيرة، ينازعونكم عن ثكلكم، ويتقربون إلى الله بدمائكم، ويستقلون في ذات الله ما نالهم من ألم شوكتكم، ثم أوصل إليهم من الأمداد، وأبلغ لهم كافيا من العدة والعتاد، هم أظمأ إلى موارد المنايا منكم إلى السلامة، من مخوف معرتهم عليكم، موعدهم إحدى الحسنيين، عاجل غلبة أو كريم منقلب، غير أني رأيت أن أتقدم إليك بالموعظة، التي يثبت الله بها عليك الحجة من الدعاء لك ولمن معك إلى الوحدانية، والشريعة الحنيفية، فإن أبيت ففدية توجب ذمة وتثبت نظرة، وإن تركت ذلك ففي يقين المعاينة لنعوتنا ما يغني عن الإبلاغ في القول، والإغراق في الصفة، والسلام على
(1) يقصد بقوله: «فلا أدب لك في الخمر» : لا أبالغ في التزلف إليك والتقرب منك.
(2)
تاريخ الطبري (8/ 629) .
من اتبع الهدى «1» .
هاتان الرسالتان المتبادلتان بين الخليفة المأمون والإمبراطور تيوفيلوس من الوثائق المهمة في تاريخ العلاقات الإسلامية البيزنطية «2» ؛ لأنهما تضمنتا كثيرا من العبارات التي تحض على المسالمة وتجنب الحروب، وتمهيد السبل لاتصال التجارة والمرافق، وفك الأسرى
…
إلخ.
وهذه العبارات لم تأت في الرسالتين جزافا، بل إن كلّا من العاهلين الكبيرين كان يعني ما يقول، مما يدل على الرغبة القوية في السلام- رغم ما في الرسالتين من نغمات التهديد- بل أكثر من ذلك فإننا لو تأملنا قول الإمبراطور للخليفة:«ونكون كل واحد لكل واحد وليّا وحزبا» لأدركنا أنه يهدف إلى أكثر من المسألة والتعاون، فهو يقترح التحالف والصداقة بين الدولتين، ولذلك ليس صائبا قول الأستاذ فازيليف «إن دعوة المأمون تيوفيلوس إلى الدخول في الإسلام لم تكن حرية أن تؤدي إلى سلام بين الملكين» «3» ؛ لأن دعوة الخليفة المسلم للإمبراطور البيزنطي إلى الدخول في الإسلام لم تكن دعوة جبرية، وإنما تلك الدعوة إلى الإسلام أصبحت من التقاليد الإسلامية الراسخة، منذ أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رسائله في العام السابع الهجري إلى ملوك ورؤساء وأمراء العالم يدعوهم فيها إلى الدخول في الإسلام، لذلك درج الخلفاء على هذه السنة النبوية في دعوة نظرائهم من الملوك للدخول في الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، ولذلك كانت عبارة المأمون إلى الإمبراطور هي:«غير أني رأيت أن أتقدم إليك بالموعظة التي يثبت الله بها عليك الحجة من الدعاء لك ولمن معك إلى الوحدانية والشريعة الحنيفية» فدعوة سلمية كهذه لم يكن لها أن تمنع قيام السلام بين دولتين راغبتين في السلام والتعايش السلمي وقد سبق أن ذكرنا أن الخليفة الأموي، عمر بن عبد العزيز أرسل رسالة مماثلة إلى معاصره، الإمبراطور البيزنطي ليون الثالث الإيسوري، يدعوه إلى الدخول في الإسلام، ولم يغضب الإمبراطور من تلك الرسالة- ولم يسلم طبعا- واستمرت العلاقات سلمية بل ودية بينهما، كما سبق وأن أشرنا.
(1) المصدر السابق (8/ 629، 630) .
(2)
تبادل الخليفة والإمبراطور رسائل كثيرة غير هاتين الرسالتين، في مناسبات كثيرة.
(3)
فازيليف: العرب والروم، الترجمة العربية (ص 109) .