الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
قريش تصادر ديار المهاجرين واموالهم:
ظلّ المسلمون في مكة منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حتى الهجرة للمدينة وهم يعانون من قريش، ومن سوء معاملتها لهم، واضطهادها إيّاهم وتعذيبهم، وتجويعهم، وترويعهم، لتفتنهم عن دينهم، وهم صابرون محتسبون، ينتظرون الفرج والمخرج من عند الله مما هم فيه. وما حلّ بال ياسر وبلال وخبّاب بن الأرتّ، وصهيب مشهور ومعروف. وإذا كانت الهجرة إلى الحبشة «1» قد حلّت مشكلة بعض المسلمين، فلا زالت الغالبية منهم في مكة تعيش في ضيق، وفي عنت شديد تنتظر انكشاف المحنة، ومع أن مكّة أحب بلاد الله إليهم جميعا، إلا أن فرحتهم كانت عظيمة عندما أذن لهم الرسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، وودّعوا مكة إلى حين.
يقول ابن إسحاق: «فلما أذن الله تعالى له صلى الله عليه وسلم في الحرب، وتابعه هذا الحيّ من الأنصار على الإسلام والنّصرة له ولمن اتّبعه، وأوى اليهم من المسلمين؛ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه من المسلمين بمكة بالخروج إلى المدينة، والهجرة إليها، واللحوق بإخوانهم من الأنصار وقال: «إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها» فخرجوا أرسالا، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر إلى أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة» «2» .
هكذا بدأت بشائر الفرج تأتي من يثرب- المدينة المنورة- وأصبح للمسلمين هناك إخوان يأمنون عندهم، كما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليتوكلوا على الله، ولا يلوون على شيء في مكة كائنا ما كان. ولماذا يلوون على شيء والله تعالى يقول: وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النساء: 100] ؟!
لذلك ترك المسلمون ديارهم وأموالهم في مكة مهاجرين في سبيل الله، وهناك أسر بكاملها غلّقت دورها في مكة وآثرت أن تعبد الله في حرية وأمان في كنف إخوانهم الأنصار في المدينة. يقول ابن إسحاق: «وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يبق منهم بمكة أحد إلا مفتونا أو محبوسا، ولم يوعب أهل هجرة من مكة بأهليهم وأموالهم إلى الله تبارك وتعالى وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أهل دور مسمّون:
(1) انظر تفاصيل الهجرة إلى الحبشة في ابن هشام (ج 1) . وابن كثير- السيرة النبوية (2/ 3) وما بعدها.
(2)
ابن هشام (2/ 76) .
بنو مظعون من بني جمح، وبنو جحش بن رئاب حلفاء بني أمية، وبنو البكير من بني سعد بن ليث حلفاء بني عديّ بن كعب، فإن دورهم غلّقت بمكة هجرة ليس فيها ساكن، ولما خرج بنو جحش بن رئاب من دارهم عدا عليها أبو سفيان بن حرب فباعها من عمرو بن علقمة أخي بني عامر بن لؤي، فلما بلغ بني جحش ما صنع أبو سفيان بدارهم ذكر ذلك عبد الله بن جحش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك الله بها دارا خيرا منها في الجنّة؟» قال: بلى، قال:«فذلك لك» «1» . وهكذا لم يكتف المشركون من قريش بطرد المسلمين من ديارهم، وإنما أوغلوا في أذاهم فأضافوا ذلك الألم النفسي الذي يعانيه الإنسان الحر عندما يعلم أن داره اغتصبت منه، وأن غيره يتصرف فيها ويبيعها، حارما له من أبسط حقوق التصرف في الملك.
وهذا هو الصحابي الجليل صهيب رضي الله عنه لا يطيق صبرا على فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يحتمل البقاء بعده في مكة، لكن المشركين لم يسمحوا له بالخروج من مكة إلا بعد أن أخذوا كل ما يملك، وقالوا له: أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب رضى الله عنه: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلّون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال:
فإني جعلت لكم مالي
…
وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء قبل أن يتحوّل منها، فلما رآني قال:«يا أبا يحيى ربح البيع» فقلت: يا رسول الله ما سبقني إليك أحد وما أخبرك بذلك إلا جبريل عليه السلام «2» .
وهكذا كان صحابة محمد صلى الله عليه وسلم، لم يكن شيء أحب إليهم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، ألم يقل سعد بن أبي وقاص، فاتح العراق رضي الله عنه غداة دخول المدائن عاصمة الأكاسرة، وهو يجول ببصره فيما احتواه القصر الأبيض «3» - حيث كان يحكم الطغاة المستبدون من أكاسرة الفرس- من نفائس وتحف ومتع، ألم يردد وقد أخذه العجب والدهش مما رأى قول الله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ [الدخان: 25، 29]
(1) ابن هشام (2/ 116، 117) .
(2)
ابن كثير- السيرة النبوية (2/ 223، 224) .
(3)
انظر د. محمد حسين هيكل- الفاروق عمر (1/ 199) .