الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهكذا مضى العباسيون قدما في تنفيذ السياسة التي رسمها الأمويون لأسلمة بلاد ما وراء النهر، وحققوا نجاحات هائلة، وسارت الثقافة الإسلامية في ركاب الإسلام، وتوطدت أركانها بين أهل البلاد ولم تعد ثقافة الوافدين، وبدأ أهل البلاد يتعلمون اللغة العربية، وإذا كانت المراكز الثقافية فيما وراء النهر- خاصة في بخارى وسمرقند- لم تبرز وتحدد معالمها إلا في عهد الطاهر بين (205- 259 هـ/ 820- 873 م) والسامانيين (261- 389 هـ/ 874- 999 م) إلا أن الخطوات الأولى التي أدت إلى ذلك التطور قد بدأت في أواخر العصر الأموي وأوائل العصر العباسي.
ومن أراد أن يعرف الجهود التي بذلها أهل ما وراء النهر وإسهاماتهم في الثقافة الإسلامية ويقدر كل ذلك حق قدره فما عليه إلا أن يرجع إلى كتب طبقات العلماء، مثل طبقات الأطباء، والحفاظ، والفقهاء، والمفسرين، والمحدثين، والنحاة، واللغويين، والشعراء
…
إلخ ومما لا شك فيه أن بروز علماء كبار من أهل تلك البلاد من أمثال الإمام البخاري- لا على مستوى بلاد ما وراء النهر فحسب، بل على مستوى العالم الإسلامي- لم يتم بين عشية وضحاها بل لا بد أن يكون هذا الجيل من العلماء مسبوقا بأجيال كثيرة مهدت له الطريق «1» .
*
انتشار الإسلام في بلاد ما وراء النهر:
تمهيد:
قبل الحديث عن انتشار الإسلام في بلاد ما وراء النهر، يجدر بنا أن نقول كلمة موجزة عن طبيعة الدعوة الإسلامية والعوامل التي مكنت للإسلام من الانتشار والقبول في جميع الأقطار التي فتحت بصفة عامة، وفي بلاد ما وراء النهر بصفة خاصة.
أما عن طبيعة الدعوة الإسلامية وماهيتها فهي طبيعة عالمية، والدين الإسلامي دين عالمي بمعنى الكلمة «2» ؛ فقد جاءت الرسالة الإسلامية للجنس البشري كله، وليس لشعب دون شعب، ولا لأمة دون أمة، وهذه الحقيقة نصت عليها آي الذكر الحكيم في وضوح مثل قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ: 28]، وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107]، وقوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 158] ، إلى غير ذلك من الآيات
(1) د. حسن أحمد محمود- المرجع السابق (ص 163، 164) .
(2)
انظر بارتولد- تاريخ الترك في آسيا الوسطى (ص 70) .
القرآنية الكريمة التي تقرر عالمية الإسلام، وأنه الرسالة الخاتمة لرسالات السماء، فليس بعد القرآن الكريم كتاب سماوي، وليس بعد محمد رسول؛ ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40] .
ومن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي تقرر تلك الحقيقة قوله: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا، فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: ما أجمل هذه البيت لولا هذه اللبنة. فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» «1» .
بناء على تلك النصوص الكريمة يتبين لنا أن طبيعة الرسالة الإسلامية تختلف عن طبيعة الرسالات السماوية التي سبقتها، فتلك الرسالات كانت محدودة الزمان ومحدودة المكان ومحدودة البيئة البشرية، لذلك نجد أكثر من رسول متعاصرين ومتجاورين، كما كان الحال بالنسبة لإبراهيم ولوط عليهما السلام، وهذا بطبيعة الحال لا يقلل من شأن الرسالات السابقة- حاشا لله- لأن محدوديتها أمر اقتضاه تطور الجنس البشري في مدارج الكمال العقلي، وكل رسالة جاءت في موعدها، وكل رسول أدى دوره وكان لبنة صالحة في صرح عقيدة التوحيد إلى أن جاء الوقت الملائم وأصبحت البشرية مستعدة لقبول الرسالة العالمية الخاتمة فكانت رسالة الإسلام على يد خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله.
وقد يتبادر إلى بعض الأذهان أن معنى عالمية الإسلام أنه يجب أن يكون كل الناس مسلمين، وأنه يجب على المسلمين حمل السيف دائما لإجبار الناس على اعتناق الإسلام.
وهذا ليس مقصودا، بل معنى عالمية الإسلام- بكل بساطة ووضوح- أنه دين مفتوح لكل البشر، من جميع الأجناس، دون قيود أو حدود، وليس دينا خاصّا بشعب مختار، وأنه دين الفطرة الذي يلائم كل الناس، في كل زمان ومكان ليسره وسهولته فأي إنسان يريد أن يكون مسلما، فليس مطلوبا منه إلا أن يقول: أشهد ألا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله، وبعدها يصبح مسلما له حقوق المسلمين وعليه واجباتهم.
ومن ناحية أخرى فإن حمل الناس جميعا على اعتناق دين واحد أمر لم يحدث
(1) ابن حجر العسقلاني- فتح الباري (6/ 158) .
في الواقع في كل التاريخ البشري، بل إن نصوص القرآن الكريم تبين لنا في جلاء أن حمل الناس جميعا على اعتناق دين واحد أمر صعب بل يكاد يكون مستحيلا.
انظر على سبيل المثال إلى قوله تعالى لنبيه- عليه الصلاة والسلام: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس: 99]، وقوله تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103]، وقوله تعالى:
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ [هود: 118، 119] .
فمعنى عالمية الإسلام إذا أنه دين مفتوح لكل البشر وملائم لفطر كل الناس، والدعوة إليه لا تكون بالسيف- كما يدعي خصومه- بل بالحكمة والموعظة الحسنة كما يقول الله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: 256] ، ولا يستطيع أي إنسان أن يدلنا على مثل واحد أجبر المسلمون فيه أحدا على اعتناق الإسلام بالقوة في أي زمن وعلى أية أرض.
وإنما الثابت تاريخيّا والذي يؤكده الباحثون الغربيون «1» - قبل المسلمين- أن الذين اعتنقوا الإسلام في كل زمان وفي كل أرض، اعتنقوه عن قناعة وحرية مطلقة، ولو كانت القوة هي وسيلة الإسلام للانتشار لما بقي إنسان واحد في كل البلاد المفتوحة على دين غير دين الإسلام. وهناك مجموعة من العوامل شجعت الناس على اعتناق الإسلام، إضافة إلى طبيعته العالمية نوجزها فيما يلي:
1-
المعاملة السمحة الكريمة التي عامل بها الفاتحون المسلمون أبناء البلاد المفتوحة، واحترام آدميتهم وكرامتهم، ولقد تجلت تلك المعاملة لا في نصوص المعاهدات التي نظمت العلاقات بين المسلمين الفاتحين وبين أبناء البلاد المفتوحة الذين فضلوا البقاء على أديانهم فحسب، بل في الوفاء من جانب المسلمين بتلك المعاهدات والالتزام بها بأمانة وشرف.
فلم يحمل الظفر والنصر المسلمين على البطر والتكبر والتجبر على أبناء البلاد المفتوحة وإهانتهم وإذلالهم، بل بالعكس كانوا كرماء معهم- حتى مع الذين
(1) انظر على سبيل المثال الكتب الآتية: الدعوة إلى الإسلام، لمؤلفه توماس آرنولد، تاريخ الترك في آسيا الوسطى- لمؤلفه بارتولد، تاريخ بخارى، لمؤلفه أرمينيوس فامبري، وكلهم باحثون أوربيون؛ لتقف على مدى سماحة الإسلام والمسلمين في معاملة أهالي البلاد المفتوحة وأثر تلك السماحة في انتشار الإسلام.
قاوموهم بعنف- فبعد إلقاء السلاح، كان التسامح هو طابع السلوك الإسلامي العام مع المغلوبين، ونتحدى أن يكون التاريخ البشري قد سجل في صفحاته حالة واحدة تفوق فيها غير المسلمين من الغالبين على المسلمين، وكانوا أكثر تسامحا منهم، بل حتى ساووهم في التسامح والإنسانية مع المغلوبين الذين أصبحوا تحت السيادة الإسلامية، ووفاء المسلمين بالمعاهدات- نصّا وروحا- أصبح من الحقائق التاريخية التي لا يجادل فيه باحث منصف لدرجة أنه لما خالف أحد القادة الفاتحين هذه القاعدة وشذ عليها، سجل التاريخ الإسلامي تلك الحالة الوحيدة، وأزال خليفة المسلمين تلك المخالفة؛ والحالة هي حالة قتيبة بن مسلم، عند ما دخل سمرقند على شروط معينة، ولكنه لما دخلها لم يف بالشروط، فلما جاء الخليفة عمر بن عبد العزيز (99- 101 هـ) رفع إليه أهل سمرقند شكواهم، وقالوا: إن قتيبة دخل مدينتهم على وعد بالخروج منها، ولكنه لم يف بوعده، أي: غدر بهم، فكتب الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى عامله على بلاد ما وراء النهر أن ينصب لهم قاضيا ينظر في شكواهم، فإن قضى بإخراج المسلمين من المدينة أخرجوا منها، فأقام لهم الوالي القاضي حاضر بن جميع، الذي نظر في القضية، ورأى أن الحق مع أهل سمرقند- المغلوبين- فحكم بإخراج المسلمين من المدينة على أن ينابذوهم على سواء، ولكن أهل سمرقند- وقد أذهلهم هذا السلوك الإسلامي الذي لم يسبق له مثيل في التاريخ البشري- كرهوا الحرب وأقروا المسلمين على الإقامة في مدينتهم «1» .
هذا هو الإسلام، وذلك هو سلوك المسلمين وهذا المثل الوحيد- الذي خالف فيه قتيبة ما اتفق عليه مع أهل سمرقند- وسط كل تلك الحروب المتواصلة والأحداث المتلاحقة، وكثرة الانتقاض ونكث العهود من أهل تلك البلاد، يدل على أن المبدأ الأصيل هو التزام المسلمين بالوفاء بالعهود، وأن السلطة الإسلامية العليا- الخلافة- كانت ساهرة على حفظ وصيانة المعاهدات، وتصحيح أي خطأ قد يحدث من أي عامل في أي مكان.
فعلى سبيل المثال عند ما أخطأ بعض العمال- لما تزايد إقبال الناس على اعتناق الإسلام، وأدى ذلك إلى تناقص الجزية- وظلوا يأخذون الجزية من المسلمين الجدد، مؤثرين الجباية على الهداية، مخالفين بذلك قواعد الإسلام، وعندئذ لم يحتمل ضمير
(1) انظر تفاصيل القصة في فتوح البلدان للبلاذري (ص 519) .
الأمة الإسلامية هذا الخطأ الجسيم، المخالف لمبادئ الإسلام التي تمنع أخذ الجزية من المسلم «1» وسخط المسلمون العرب- قبل غيرهم- على هؤلاء العمال الذين ارتكبوا هذا الخطأ، ورفعوا الأمر إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز، الذي غضب غضبا شديدا على هؤلاء العمال وأمرهم على الفور برفع الجزية عمن يسلم، وصاح صيحته المشهورة «قبّح الله رأيكم، فإن الله قد بعث محمدا هاديا ولم يبعثه جابيا» «2» .
والأمثلة في هذا المجال كثيرة، وخلاصة القول: أن معاملة المسلمين الكريمة وسماحتهم مع أبناء البلاد المفتوحة كانت من أهم عوامل جذبهم إلى الإسلام.
2-
العامل الثاني الذي كان له أثر كبير في انتشار الإسلام في البلاد المفتوحة هو إشراك أبناء البلاد في إدارة بلادهم، فالفاتحون المسلمون لم يصنعوا صنيع الحكومات السابقة عليهم، ويحرموا أبناء البلاد من إدارة بلادهم.
فالمسلمون لم يحتفظوا إلا بعدد قليل جدّا من المناصب، مثل الإمارة وقيادة الجيش والقضاء- وكان ذلك ضروريّا- وما عدا ذلك من الوظائف فقد كان متاحا لأبناء البلاد المفتوحة الذين بقوا على أديانهم، ووصل عدد كبير منهم إلى أعلى المناصب الإدارية التي كانوا محرومين منها في عهود ما قبل الحكم الإسلامي، وكانت حكومة الخلافة الإسلامية تضع ثقتها في أهل الأمانة منهم دون أية حساسية.
ويكفي أن نقدم على ذلك مثلا واحدا من العصر الأموي، حيث بقي ديوان الخراج المركزي في دمشق عاصمة الخلافة- وهو أهم دواوين الدولة- تحت رئاسة أسرة مسيحية، وهي أسرة سرجون بن منصور الرومي، طوال عهود الخلفاء: معاوية ابن أبي سفيان وابنه يزيد، ومروان بن الحكم وابنه عبد الملك، وكان ديوان خراج العراق في الفترة ذاتها تحت رئاسة رجل فارسي، هو زادان فروخ «3» ، ولم يكن سرجون بن منصور- وهو مسيحي- رئيسا لديوان لخراج عاصمة الخلافة فقط، وإنما كان مستشارا سياسيّا للخليفة معاوية بن أبي سفيان «4» .
وقد توسع الأمويون في استخدام أبناء البلاد المفتوحة في الإدارة مما أشعرهم بالأمان والاطمئنان إلى الحكم الإسلامي وجعلهم يقبلون على اعتناق الإسلام بملء
(1) انظر كتاب الخراج لأبي يوسف (ص 254) .
(2)
انظر فتوح مصر لابن عبد الحكم (ص 107) .
(3)
انظر فتوح البلدان للبلاذري (ص 368) .
(4)
انظر تاريخ خليفة بن خياط (ص 228) ، والطبري (5/ 330- 348) .
إرادتهم الحرة.
عرفنا فيما سبق من صفحات هذا البحث أن بلاد ما وراء النهر قد فتحت في نهاية القرن الهجري الأول، في خلافه الوليد بن عبد الملك (86- 96 هـ) وأن ما تبقى من عهد الدولة الأموية بعد ذلك- سقطت سنة (132 هـ) - كان جهودا متواصلة لتثبيت الفتوحات وتأمين بلاد ما وراء النهر من غارات الأتراك الشرقيين.
وعلى الرغم من أن أقاليم ما وراء النهر فتحت متأخرة، بل كانت من آخر الفتوحات الإسلامية في العصر الأموي، وعلى الرغم من مقاومة أهلها مقاومة عنيفة، إلا أن أهل تلك البلاد سرعان ما بدؤوا يفكرون في الإسلام؛ دين الفاتحين، وسرعان ما أدركوا أنه دعوة خالصة لتوحيد الله سبحانه وتعالى، وأنه دين سمح عادل رحيم، من مبادئه الأصيلة المساواة بين الناس جميعا، وأنه دين العزة والكرامة ومن الطبيعي أن يكونوا قد قارنوا- ولو داخل نفوسهم- بين الإسلام وبين الأديان الوثنية التي كانت تنتشر بينهم، فجاءت المقارنة في صالح الإسلام، خاصة عند ما رأوا الفاتحين يحطمون الأصنام بأيديهم ويحتقرونها.
عندئذ زالت عنهم الغشاوة التي كانت تغطي عقولهم، وأدركوا أن تلك الأصنام لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ولا تبصر، وأنه من السخف عبادتها، فأمام أعينهم أحرق قتيبة بن مسلم الأصنام في سمرقند ولم يصبه أي أذى مما كانوا يخوفونه منه، كان لتلك الحادثة أثر كبير في إقبال الناس على الإسلام «1» ، فإن قتيبة عند ما سار بعدها لفتح إقليم الشاش خلف نهر سيحون كان جيشه يضم عشرين ألفا من أهل بخارى وكش ونسف وهؤلاء كانوا قد قاوموا المسلمين في البداية مقاومة عنيفة ولكنهم سرعان ما حدث التحول الخطير في حياتهم حيث هداهم الله إلى الإسلام فأصبحوا من جنده المخلصين المدافعين عنه بحماس.
ومرة أخرى نستشهد بكلام المؤرخ المجري فامبري حيث يقول: «ولقد غزا المسلمون بخارى ثلاث مرات من قبل ونشروا دينهم بها ولكن أهلها كانوا يرتدون إلى عقيدتهم القديمة عقب رحيل الغزاة عنهم في كل مرة وها هي تفتح أبوابها للمرة الرابعة لتستقبل الفاتحين ومعهم تعاليم نبيهم، تلك التعاليم التي قوبلت أول الأمر بمعارضة شديدة، ثم أقبل القوم من بعد ذلك عليها في غيرة شديدة، حتى لترى
(1) انظر فتوح البلدان للبلاذري (ص 518) .
الإسلام- الذي أخذ شأنه اليوم يضعف في جهات آسيا الآخرى- وقد غدا في بخارى اليوم (1873 م) على الصورة التي كانت عليها أيام الخلفاء الراشدين» «1» بل إن لدينا من الشواهد ما يحملنا على الاعتقاد بأن كثيرين من أبناء ما وراء النهر قد اعتنقوا الإسلام في وقت مبكر، وحتى قبل استقرار الفتوحات في بلادهم، ففي الغزوات التمهيدية التي كانت تتوالى قبل فتوحات قتيبة كان الغزاة المسلمون يعودون إلى خراسان ومعهم أعداد كبيرة من أسرى بلاد ما وراء النهر، وكانوا يقسمونهم فيما بينهم وكانوا يعايشونهم ويعاملونهم معاملة حسنة فعملت تلك المعاملة عملها في جذب كثير منهم إلى الإسلام، ففي غزوة واحدة عاد عبيد الله بن زياد بأعداد كبيرة من أسرى بخارى قد بلغ عددهم أربعة آلاف أسير، وقدم بهم البصرة، وفرض لهم العطاء «2» .
كل الشواهد إذن تدل على أن خطى الإسلام قد اطردت في بلاد ما وراء النهر وأخذت تترسخ مع خطوات الفتح الأولى، وكان الفاتحون المسلمون يشجعون الناس على اعتناق الإسلام بالقدوة والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وتلك هي مهمة الفاتحين الأولى التي كانوا يعطونها الاعتبار الأول، فما من مدينة فتحها قتيبة بن مسلم إلا بنى فيها المساجد وترك فيها الدعاة ينشرون الإسلام ويفقهون الناس فيه «3» .
وأقبل الناس على اعتناق الإسلام على نطاق واسع ولا أدل ذلك من مشكلة الجزية التي برزت على السطح كنتيجة من نتائج زيادة المقبلين على الإسلام من أبناء البلاد المفتوحة، حيث أبقى عمال بني أمية الجزية على المسلمين الجدد الذين تزايد عددهم وأدى إلى تناقص الجزية ونضوب الأموال، وهو الأمر الذي أزعج المسلمين العرب وأثار سخطهم على العمال ورفعوا الأمر إلى عمر بن عبد العزيز الذي أمر على الفور برفع الجزية عن كل من يسلم من أبناء البلاد المفتوحة كما ذكرنا من قبل، ولقد أدت سياسة عمر بن عبد العزيز، في رفع الجزية عن المسلمين- وهي السياسة السليمة التي يقررها الإسلام- أدت إلى زيادة انتشار الإسلام، خاصة وأن سمعة عمر الطيبة قد ذاعت وانتشرت في كل البلاد، ولم تقتصر سياسة عمر على رفع الجزية عن المسلمين الجدد بل إنه أوقف الحروب، بعد أن رأى أنها اتسعت أكثر من اللازم- بل كان يريد سحب الجيوش الإسلامية من بعض البلاد ومنها بلاد ما وراء
(1) تاريخ بخارى (ص 67) .
(2)
البلاذري فتوح (ص 507) .
(3)
المصدر السابق (ص 518) .
النهر، وبدلا من إرسال الجيوش والجنود إلى البلاد المفتوحة أخذ يرسل الدعاة ينشرون الإسلام ويعلمون الناس أصوله وقواعده وأرسل إلى الملوك والأمراء رسائل يدعوهم فيها إلى الإسلام وقد استجاب كثيرون منهم «1» .
والحق أن عهد عمر بن عبد العزيز القصير (99- 101 هـ) قد شهد- لعدله وسمعته الطيبة- إقبالا على الإسلام في كل البلاد المفتوحة، ومنها بلاد ما وراء النهر ولقد سبق أن ذكرنا موقفه من أهل سمرقند الذين شكوا إليه غدر قتيبة وكيف أنصفهم؛ مما كان له أكبر الأثر عليهم وزاد من إقبالهم على الإسلام.
ولقد استمرت السياسة الأموية بعد عمر بن عبد العزيز، في الدعوة إلى الإسلام في بلاد ما وراء النهر، فقد عهد الخليفة هشام بن عبد الملك (105- 125 هـ) بولاية خراسان إلى أشرس بن عبد الله السلمي، الذي سماه الناس: الكامل؛ لفضله وصلاحه «2» .
ويقول عنه الطبري: فلما استقر في خراسان عزم على توجيه الدعاة إلى ما وراء النهر يدعون الناس إلى الإسلام، فقال لخاصته: أبغوني رجلا له ورع وفضل أوجهه إلى من وراء النهر فيدعوهم إلى الإسلام، فأشاروا عليه بأبي الصيداء، صالح بن طريف «3» .
فاستدعاه وعرض عليه القيام بتلك المهمة، ولكن أبا الصيداء اشترط على الوالي ألا تؤخذ الجزية ممن يسلم فقبل الوالي هذا الشرط، فقال أبو الصيداء لأصحابه:
«فإني أخرج فإن لم يف العمال أعنتموني عليهم، قالوا: نعم» «4» .
يفهم من كلام الرجل الصالح أبي الصيداء، وتشدده، واشتراطه على الوالي بصراحة رفع الجزية عمن يسلمون، يفهم من هذا أن الولاة الأمويين بعد عمر بن عبد العزيز قد عادوا إلى سياستهم الخاطئة والضارة معا، وهي أخذ الجزية ممن كانوا يسلمون.
على كل حال ذهب أبو الصيداء إلى بلاد ما وراء النهر، وأخذ يدعو أهل سمرقند وما حولها إلى الإسلام- وكان شرطه الذي اشترطه على الوالي، وهو رفع الجزية عمن يسلمون قد ذاع أمره- فسارع الناس إلى الإسلام «5» ، وأثمرات دعوته لدرجة اصطدامها مرة أخرى بمشكلة الجزية، فقد هال العمال كثرة إقبال الناس على
(1) انظر الكامل في التاريخ لابن الأثير (5/ 54) .
(2)
انظر زين الأخبار، لأبي سعيد الكرديزي- مصدر سابق (1/ 185) .
(3)
الطبري (7/ 52) .
(4)
المصدر السابق (7/ 54) .
(5)
الطبري (7/ 55) .
اعتناق الإسلام وتناقص الجزية، فعادوا- لقصر نظرهم وجهلهم وتفضيل الجباية على الهداية- إلى السياسة القديمة الخاطئة وفرضوا الجزية على المسلمين الجدد، وهو الأمر الذي لم يقبله الداعية الكبير أبو الصيداء ولم يحتمله ضميره، ويبدو أن الرجل كان يتوقع حدوث مثل هذا، بدليل أنه اشترط على الوالي أشرس بن عبد الله صراحة رفع الجزية عن من يسلمون، ولقد ساءه نكوص الوالي عن شرطه واستجابته لحجة العمال الذين تذرعوا بتناقص الأموال والإضرار ببيت المال نتيجة لرفع الجزية عن المسلمين الجدد.
ودليل آخر على توقع أبي الصيداء حدوث مثل هذا أنه كان قال لعدد من أصدقائه المخلصين لدينهم عند ما عرض عليه الوالي أشرس بن عبد الله القيام بمهمة الدعوة إلى الإسلام في بلاد ما وراء النهر، قال لهم:«فإني أخرج فإن لم يف العمال أعنتموني عليهم، قالوا: نعم» «1» الآن جاء أوان وفائهم- بعد أن نكص الوالي وعماله- فاجتمع بهم أبو الصيداء وتعاهدوا على مقاومة إجراآت العمال ولو بالقوة، وقوّت حركة أبي الصيداء وحماسه وغيرته على الدين هو وأصدقاؤه، من عزم مسلمي ما وراء النهر، فلم يرضخوا لإجراآت العمال، وأبوا دفع الجزية بعد أن أكرمهم الله تعالى بالإسلام، واستمروا في إصرارهم على عدم دفعها إلى أن جاء نصر بن سيار واليا على خراسان في أواخر عهد هشام بن عبد الملك «2» سنة (120 هـ) واستمر إلى قيام الثورة العباسية سنة (129 هـ) فصحت عزيمته على تصحيح الأمر، وعبر بنفسه إلى بلاد ما وراء النهر وأعلن في حشد كبير رفع الجزية عمن أسلموا، وكان لذلك أثر طيب للغاية عند الناس وأسرعوا إلى اعتناق الإسلام، ويقول الطبري:«فما كانت الجمعة التالية- يعني الجمعة التالية للتي أعلن فيها قراره- حتى أتاه ثلاثون ألف مسلم كانوا يؤدون الجزية عن رؤوسهم» «3» وهذا العدد الهائل من المسلمين ظلوا يدفعون الجزية ولم يرجعوا عن دينهم، وهذا يدل على رسوخ الإسلام في قلوبهم، ولنا أن نتوقع أن أعدادا كبيرة تكون قد أقبلت على الإسلام بعد قرار الوالي نصر بن سيار.
وخلاصة القول: أن حركة انتشار الإسلام في بلاد ما وراء النهر قد اتسع نطاقها
(1)(7/ 54) .
(2)
انظر: زين الأخبار، لأبي سعيد الكرديزي- مصدر سابق (1/ 187) .
(3)
(7/ 173) .