الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بحوث في السّيرة النّبويّة والتّاريخ الإسلاميّ قراءة ورؤية جديدة
[البحث السابع] قراءة تاريخية جديدة في موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الفتوحات الإسلامية
قراءة تاريخية جديدة لموقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الفتوحات الإسلامية في شهر نوفمبر (1993 م) عقد اتحاد المؤرخين العرب ندوة في مقره بمدينة نصر عن الحضارة الإسلامية وعالم البحار، وفي أثناء إلقاء البحوث والمناقشات تطرق الحديث إلى إنشاء الأسطول الحربي الإسلامي، ومعارضة عمر بن الخطاب في البداية بشدة لهذا الموضوع، عند ما عرض عليه والي الشام- معاوية بن أبي سفيان- الأمر طالبا الإذن منه في إنشاء قوة بحرية إسلامية تدافع عن سواحل المسلمين في الشام ومصر ضد هجمات الأسطول البيزنطي، خاصة من قاعدته القريبة من شواطئ الشام في جزيرة قبرص التي قال عنها معاوية: إن الناس في حمص يسمعون نباح كلابها وصياح دجاجها «1» .
وجاء رفض الخليفة عمر بدافع حرصه على سلامة المسلمين وعدم الزج بهم في ميدان خطر كهذا قبل أن يستعدوا له تمام الاستعداد؛ إذ كانت له تجربتان سابقتان في التعامل مع البحر، كلاهما لم تنجح وسنعود إلى الحديث عنهما قريبا.
ولكن الذي نريد أن نوضحه هنا- والذي كان دافعنا إلى كتابة هذا البحث- أن أحد أساتذة التاريخ علق على موقف عمر من إنشاء أسطول إسلامي ورفضه الحاسم، قائلا: إن عمر بن الخطاب كان يجهل أمر البحر ولا يعرف شيئا عنه؛ لأنه رجل نشأ في الصحراء وكان يخاف من ركوب البحر ولذلك استشار عمرو بن العاص في هذه المسألة، وطلب منه أن يصف له البحر، فجاء وصف عمرو بن العاص للبحر مؤكدا لمخاوف عمر بن الخطاب، فقد كتب إليه قائلا:«يا أمير المؤمنين، إني رأيت خلقا عظيما يركبه خلق صغير، ليس إلا السماء والماء، وإنما هم كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق» «2» .
عند ذلك صمم عمر بعد أن قرأ هذا الوصف على الرفض.
فكيف يجهل عمر بن الخطاب البحر وأحواله، وهو الذي أمر بحفر قناة تصل النيل بالبحر الأحمر، لتسير فيها السفن محملة بالميرة إلى أهل الحجاز، فقد كتب إلى عمرو بن العاص: «إن الله فتح على المسلمين مصر، وهي كثيرة الخير والطعام، وقد ألقي في روعي- لما أحببت من الرفق بأهل الحرمين والتوسعة عليهم- أن أحفر
(1) تاريخ الطبري (4/ 258) .
(2)
تاريخ الطبري (4/ 259) .
خليجا من نيلها حتي يسيل في البحر فهو أسهل لما نريد من حمل الطعام إلى المدينة ومكة، فإن حمله على الظهر يبعد، ولا نبلغ معه ما نريد، فانطلق أنت وأصحابك فتشاوروا في ذلك حتى يعتدل فيه رأيكم.. انطلق يا عمرو بعزيمة مني حتى تجد في ذلك، ولا يأتي عليك الحول حتى تفرغ منه، إن شاء الله «1» .
هذا هو عمر بن الخطاب يأمر بحفر قناة لوصل النيل بالبحر الأحمر سميت خليج أمير المؤمنين لتسهيل عملية النقل والتجارة بين مصر والجزيرة العربية، فهو لا يجهل البحر ولكن هناك فرقا بين استخدام البحر للتجارة وبين الحروب البحرية ومخاطرها على المسلمين، والتي كان عمر يخشاها عليهم، عند ما سمعت هذا الكلام أحسست بالدهشة، بل بالانزعاج الشديد؛ إذ كيف يوصف عمر بن الخطاب، من أحد أساتذة التاريخ، وبهذه «البساطة» بأنه يجهل أمر البحر؛ لأنه نشأ في الصحراء.
أو ليست هذه الصحراء شبه جزيرة تحيط بها المياه من ثلاث جهات: البحر الأحمر من الغرب، والخليج من الشرق، وبحر العرب من الجنوب، وقد تبين لي من خلال المناقشات أنه ليس عمر بن الخطاب الذي يجهل أمر البحر، وإنما بعض أساتذة التاريخ- مع الأسف الشديد- هم الذين يجهلون تاريخ عمر بن الخطاب وأسلوبه في إدارة الدولة الإسلامية بصفة عامة، وإدارة دفة الفتوحات الإسلامية بصفة خاصة، ويجهلون أن قرارات عمر بن الخطاب لم تكن ارتجالية، بل كانت مبنية على أسس موضوعية، وبعد استشارة كبار الصحابة، وفي هذه النقطة بالذات له مبرراته القوية، كما سنشرح فيما بعد.
فإذا كان هناك من يستحق أن يوصم بالجهل فهو من يصف عمر بن الخطاب بالجهل، ولكي نعرف موقف عمر بن الخطاب من الفتوحات بصفة عامة، ومن إنشاء أسطول بحري إسلامي يغزو المسلمون به في البحار بصفة خاصة، ينبغي أن نلم ببعض النقاط:
أولا: إن حركة الفتوحات الإسلامية تعد واحدة من الأحداث العالمية الكبرى في التاريخ البشري، بل هي أخطر وأعظم حركة فتوحات في كل ذلك التاريخ، وذلك لما أحدثته من تغييرات وتأثيرات عميقة، على رقعة واسعة من الأرض امتدت على طول وعرض قارات العالم القديم: آسيا وأفريقيا وأوربا.
(1) حسن المحاضرة للسيوطي (1/ 157، 158) طبعة (1) دار إحياء الكتب العربية (1967 م) .
وقد شملت تلك التأثيرات الأحوال الدينية والسياسية واللغوية والفكرية والثقافية والاجتماعية، وهي لا تزال مستمرة وفي زيادة مطردة.
ومن هذه الناحية- ناحية التأثيرات العميقة والمستمرة في العالم- فإن الفتوحات الإسلامية إذا قورنت بحركات فتوحات عسكرية سابقة عليها، كفتوحات الإسكندر الأكبر المقدوني، التي سبقتها بنحو ألف سنة، أو جاءت بعدها، كغزوات المغول التي تلتها بستة قرون تقريبا، فإن هذه المقارنة تظهر عظمة الفتوحات الإسلامية.
أما فتوحات الإسكندر وإمبراطوريته التي شادها في الشرق، فلم يكد يختفي من الحياة حتى تمزقت أوصال تلك الإمبراطورية وأخذت تضمحل شيئا فشيئا إلى أن أصبحت ذكرى من ذكريات التاريخ.
وأما غزوات المغول؛ فإنها في حد ذاتها تقدم أكبر وأقوى البراهين على عظمة الفتوحات الإسلامية وخلودها؛ لأن هذه الغزوة المغولية البربرية التي لم يعرف لها التاريخ مثيلا من قبل في وحشيتها وهمجيتها، والتي دمرت معظم العالم الإسلامي في الشرق بما كان له من حضارة زاهرة، ولم يوقف زحفها المدمر، ويحمي بقية العالم منها سوى الوقفة الباسلة والشجاعة التي وقفها الجيش المصري بقيادة السلطان قطز وقائده الظاهر بيبرس، حين ألحقوا بالمغول أول هزيمة ساحقة تحل بهم منذ ظهورهم في مطلع القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، وكانت تلك الملحمة الإسلامية الرائعة في عين جالوت في شهر رمضان المبارك (عام 658 هـ- 1260 م) هذه الغزوة المغولية البربرية كان يمكن أن ينساها التاريخ، أو يذكرها ككابوس عابر فظيع ألم بالإنسانية في مسيرتها الطويلة، ومضى إلى سبيله، كان يمكن أن يحدث ذلك لولا أن الله سبحانه وتعالى قد أدرك برحمته الواسعة هذه الجموع الهمجية وهداها، فأسلم أغلب المغول، وطواهم الإسلام تحت جناحه، وأظلهم بحضارته، وحولهم من قوة غاشمة مدمرة إلى قوة خيرة، ومن أعداء مهاجمين إلى أتباع مدافعين ومشاركين في صنع الحضارة الإسلامية وشادوا حضارة ارتبطت باسمهم في الهند وإيران وأفغانستان. وهذه الظاهرة المغولية عكست نظرية ابن خالدون، أو هي ربما الاستثناء الوحيد من تلك النظرية التي ذهب إليها؛ وهي أن المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب، فالغالب- وهم المغول- هو الذي قلد المغلوب- وهو هنا المسلمين- بل لم يقلده فقط؛ إنما اعتنق دينه وخضع لسيادته، واستظل بحضارته وأسهم في إثرائها وهذه هي
عبقرية الإسلام الخالدة والباقية على الزمن.
فكل أرض وصلت إليها الفتوحات الإسلامية، انتشر فيها الإسلام واللغة العربية والثقافة الإسلامية، وشكلت العالم الإسلامي، ولم يتراجع الإسلام عن أية منطقة، سوى الأندلس، وعند ما تراجع الإسلام عن الأندلس، لأسباب ليس هنا مجال شرحها، عوض ذلك أضعاف أضعافها في مناطق أخرى في آسيا وأفريقيا، وبدون أية حروب أو معارك بل عن طريق الدعاة والتجار المسلمين.
ثانيا: إن هذه الحركة- الفتوحات الإسلامية- الكبيرة والخطيرة لم تدرس حتى الآن دراسة شاملة من الناحية العسكرية البحتة، مع أن المسلمين خاضوا معارك عسكرية كبيرة وحاسمة، ضد الدولتين العالميتين في ذلك الوقت- فارس والروم- فأجنادين واليرموك على جبهة الروم، والقادسية ونهاوند على الجبهة الفارسية، كانت من المعارك الخطيرة في التاريخ العسكري العالمي. وكانت معارك حاسمة في التاريخ البشري بدون شك، فالعالم الذي كان قبل تلك المعارك لم يعد هو العالم بعدها؛ بل تغير تغيرا جذريّا في كل شيء، بل معركة واحدة هي معركة نهاوند أزال انتصار المسلمين فيها إمبراطورية الفرس من الوجود، وقد سمى الطبري تلك المعركة فتح الفتوح، وقال عن الفرس بعدها: لم تقم لها قائمة، ولم تجتمع لهم كلمة «1» .
وكثير من القادة العسكريين المسلمين أمثال خالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، عمرو بن العاص، وأبي عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان ومعاوية بن أبي سفيان، والنعمان بن مقرن
…
وغيرهم برعوا في وضع الخطط العسكرية وفي تنفيذها ببراعة هائلة، وحققوا انتصارات مدوية، وأظهروا مواهب عسكرية فذة، وكان من حقهم أن يدرسوا وتدرس معاركهم وانتصاراتهم بأقلام كتاب عسكريين مسلمين، حتى تعرف الأجيال الحاضرة والقادمة الجهود الكبيرة التي بذلها هؤلاء القادة العظام، لتقدر جهادهم حق قدره حتى تمتلئ بالأمل ولا تفقد ثقتها في نفسها وفي أمتها، وتؤمن بأن الأمة التي أنجبت هؤلاء القادة الأفذاذ، لهي قادرة على إنجاب أمثالهم يردون لها اعتبارها وكرامتها التي ديست في التراب الآن من شذاذ الآفاق.
ولكن للأسف الشديد فإن تاريخ هؤلاء القادة الكبار، بل التاريخ العسكري
(1) تاريخ الطبري (4/ 116) .
الإسلامي كله يعتبر حتى الآن غير معروف بالقدر اللازم الكافي، فليس هناك مؤلف واحد شامل- فيما أعلم- عن التاريخ العسكري الإسلامي وضعه رجل حرب مسلم، وخبير عسكري متمرس، يكون قد قام بدراسة ميدانية كاملة لميادين الحروب التي خاضها المسلمون- خاصة في فتوحاتهم الأولى- واصفا أشهر المعارك على الأقل، وموازنا بين خطط وتكتيك وأداء القادة العسكريين المسلمين؛ وبين خطط أعدائهم الذين واجهوهم ومدى مطابقتها لقواعد وأصول ومبادئ الحرب ومن انتصر؟ وهل كان يستحق الانتصار؟ ومن هزم؟ وهل كان يستحق أن يهزم؟ ليس هناك مؤلف واحد شامل بهذه المثابة «1» . والكتاب الوحيد اليتيم، الذي يستحق صاحبه أسمى آيات الشكر والعرفان هو ذلك الكتاب الذي ألفه الجنرال الباكستاني أغا إبراهيم أكرم عن بطل أبطال الفتوحات الإسلامية- أو كما يسميه هو:«سيد الحروب» - خالد بن الوليد، وهو دراسة عسكرية بحتة عن الأعمال الحربية التي قام بها أو شارك فيها خالد بن الوليد، منذ غزوات أحد والخندق- حيث كان لا يزال مشركا- مرورا بأمجاده العسكرية منذ أسلم، بدا من غزوة مؤتة وانسحابه الرائع والمشرف بقواته سليمة. ذلك الانسحاب الذي سماه الرسول صلى الله عليه وسلم فتحا.
وسمى خالدا سيف الله حين نعى القواد الثلاثة الذين استشهدوا في المعركة على التوالي، وهم زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة- رضي الله عنهم جميعا- بعد أن نعاهم الرسول في المدينة، قال:«ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله؛ خالد بن الوليد» «2» .
ثم دوره في حروب الردة وقضائه عليها وفتوحاته الأولى في العراق وانتصاراته على جيوش الفرس ثم دوره الفذ ضد الروم في معارك الشام، خاصة معركة اليرموك
(1) نعم توجد بعض الكتابات المحدودة في المجال العسكري ولكنها كتابات عامة، مثل كتاب اللواء محمد جمال الدين محفوظ «القيادة بإدارة الحرب من توجيهات الإسلام» وكتابات محمد فرج «فن إدارة المعركة في الحرب الإسلامية» وغيرها مثل كتابات اللواء «محمود شيت خطاب. عن قادة الفتح الإسلامي في المشرق والمغرب، كما توجد مؤلفات أخرى عن الفتوحات مثل فتح العرب لمصر، للمؤلف الإنجليزي الفرد يتلر، وفتح العرب لآسيا الوسطى لهاملتون جب، وفتح العرب للمغرب، للدكتور حسين مؤنس، وهذه المؤلفات على أهميتها تناولت الفتوحات تناولا سياسيّا أكثر منه عسكريّا وتبقى الحاجة ماسة لمزيد من المؤلفات ذات الطابع العسكرى والتي يجب أن يقوم بها عسكريون مسلمون خبراء في الاستراتيجية وتخطيط المعارك.
(2)
الكامل في التاريخ لابن الأثير (2/ 238) .
وطردهم منها إلى الأبد ولقد زار الخبير العسكري المسلم جميع المواقع التي حارب فيها خالد بن الوليد على الطبيعة «1» ، وكلفه ذلك جهودا ومتاعب كبيرة، حيث تعلم اللغة العربية حتى يستطيع قراءة المصادر العربية، وزار ست دول عربية هي: سوريا ولبنان والأردن والعراق والكويت والمملكة العربية السعودية (1968- 1969 م) .
ومشى على كل الأرض التي حارب عليها سيف الله خالد بن الوليد، ورسم (29) خريطة عسكرية للمواقع، ودرس بشكل تفصيلي حركة الجيوش المتحاربة في ميادين القتال الحقيقية، ولقد أزالت تلك الدراسة العلمية القيامة كثيرا من الغموض الذي كان يكتنف الفتوحات الإسلامية، من حيث ترتيب المعارك ترتيبا تاريخيّا وحدد خط سير لرحلة خالد بن الوليد الخطرة من العراق إلى الشام يختلف عما ذهب إليه كثير من المؤرخين المسلمين، وهو الطريق الذي بدأ من الحيرة وانتهى بسوي مارّا بقراقر واستبعد أن يكون خالد قد مر بدومة الجندل في هذه الرحلة لأسباب فنية «2» .
والرجل في الحقيقة لم يدع أنه حسم تلك المسألة نهائيّا، وإنما قال: إن هذا هو أقرب الحلول إلى المنطق وسير الحوادث.
أما المسألة التي حسمها فهي الموقع الذي دارت فيه معركة اليرموك، فقد قال:
إن ميدانها هو السهل الواقع شرقي نهر اليرموك وذلك لاعتبارات عسكرية.
والخلاصة أن هذا الكتاب هو أفضل كتاب تحدث عن الفتوحات الإسلامية التي تمت على يد سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه، وهو طبعا لم يتناول كل الفتوحات، ويبقى المجال مفتوحا لمزيد من الدراسات العسكرية الجادة عن بقية قادة الفتوحات الإسلامية، وأمجادهم العسكرية، مثل قتيبة بن مسلم، وفتوحاته في بلاد ما وراء النهر- والتي تسمى الآن آسيا الوسطى الإسلامية- ومحمد بن القاسم الثقفي وفتوحاته في إقليم السند، وعقبة بن نافع وموسى بن نصير وطارق بن زياد وغيرهم من قادة الفتوحات الإسلامية في المغرب والأندلس.
ثالثا: إن الدارس للفتوحات الإسلامية في مصادرها الأصلية، وهي كتب
(1) باستثناء المواقع التي تقع في فلسطين المحتلة.
(2)
انظر الخريطة (رقم 15)(ص 240) من الكتاب المذكور وعنوانه، خالد بن الوليد (سنة 1969 م) وترجمه إلى العربية إسماعيل كشميرى (سنة 1974 م) وهو من مطبوعات المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة.
الفتوح، مثل «فتوح الشام» للواقدي، المتوفى (سنة 207 هـ) . «وفتوح الشام» لمحمد بن عبد الله الأزدي، المتوفى (سنة 231 هـ) . «وفتوح مصر والمغرب والأندلس» لابن عبد الحكم المتوفى (257 هـ)«وفتوح البلدان» للبلاذري المتوفى (سنة 279 هـ) وكتاب «الفتوح» لابن أعثم الكوفي (سنة 320) هـ وغيرها من كتب التاريخ العام، مثل «تاريخ الطبري» المتوفى (سنة 310 هـ) ، «والكامل» لابن الأثير المتوفى «سنة 630 هـ» ، «والبداية والنهاية» لابن كثير المتوفى «سنة 774 هـ» ، الدارس للفتوحات في هذه المؤلفات يخرج بانطباع مهم، وهو أن المسلمين عند ما اضطروا للصدام مع الفرس والروم في وقت واحد، في حروب طاحنة منذ مطلع خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، لم تكن لديهم نية مبيتة للاشتباك العسكري مع هذه الدول الكبيرة ذات الجيوش الجرارة، وإنما أجبرتهم تلك الدول على خوض المعارك ضدها إجبارا، بمحاولتها خنقهم والقضاء عليهم في داخل الجزيرة العربية نفسها وأيدي الفرس والروم في حروب الردة وتأليب العرب على دولة الخلافة لم تكن خافية، ومثال واحد يكفي للدلالة على ذلك؛ وهو حالة سجاح بنت الحارث اليربوعية التميمية، التي ادعت النبوة، وخرجت من العراق تقود جيشا لقتال المسلمين بلغ عدده أربعين ألف رجل، فيكف يعقل أن تستطيع سجاح فعل هذا وتخرج من بلد كان تحت السيطرة الفارسية دون أن يكون الفرس أنفسهم من وراء ذلك تأييدا وتشجيعا وتحريضا.
وهذا يدل دلالة قاطعة على أن الفرس والروم جميعا حاولوا القضاء على العرب بالعرب كما كانت تلك عادتهم من قبل، فلما لم تنجح تلك المحاولة دخلوا الميدان بشكل سافر، فكان لا بد من الصدام، ولم يكن في وسع المسلمين أن يسكتوا ويقفوا مكتوفي الأيدي، حتى يدهمهم الفرس والروم ويأخذوهم على غرة.
ولقد بدأت الصدامات الأولى مع الفرس في العراق، عند ما كان أحد القادة المسلمين وهو المثنى بن حارثة الشيباني يطارد المرتدين، فهذه المنطقة هي التي جاءت منها سجاح بنت الحارث، وحينما كان المثنى يحارب المرتدين تكالبت عليه الجيوش الفارسية، الأمر الذي جعله يستنجد بالخليفة أبي بكر الصديق، الذي أدرك خطورة الموقف، وعواقب تدخل الفرس في المعارك، فأرسل إلى العراق أعظم قادته العسكريين سيف الله خالد بن الوليد، الذي استطاع بمهارته العسكرية أن يفتح نصف العراق الجنوبي في بضعة شهور. أما الصدام مع الروم فقد بدأ عندما
استدرجوا خالد بن سعيد بن العاص الذي كان قد أمّره أبو بكر على أحد الجيوش أثناء حروب الردة، وأمره أن يعسكر في منطقة تيماء، شمال الحجاز، على طريق الشام، وقال له: لا تقاتل إلا إذا قوتلت، ولكن الروم استدرجوه، وغرروا به واشتبكوا معه، وتظاهروا بالتقهقر أمامه داخل الشام، ثم انقضوا عليه وأوقعوا بجيشه هزيمة منكرة. مما أغضب الخليفة عليه أشد الغضب ولم تكن هذه أول مرة يعتدي فيها الروم على المسلمين، فقد سبق أن اعتدوا على المسلمين في غزوة مؤتة وكادوا يهزمونهم لولا مهارة خالد بن الوليد الذي استطاع أن ينسحب انسحابا مشرفا بقواته، وهذه الاشتباكات الأولى مع الفرس والروم وإن خاضها المسلمون مضطرين وبدون تخطيط مسبق، إلا أنها كانت ذات فائدة كبيرة؛ فقد أظهرت النوايا العدوانية لكل من الفرس والروم ضد المسلمين وجعلت الخليفة يعد ويستعد في الوقت المناسب، لذلك يقول الطبري: إنه رغم غضب أبي بكر من خالد بن سعيد، إلا أنه اهتاج للشام وعناه أمره «1» .
وجهز للشام أربعة جيوش في وقت واحد، جيش تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح، ووجهته حمص في شمال الشام، والثاني تحت قيادة يزيد بن أبي سفيان ووجهته دمشق، في وسط الشام، والثالث تحت قيادة شرحبيل بن حسنة ووجهته الأردن، والرابع تحت قيادة عمرو بن العاص ووجهته فلسطين، وهكذا بدأت الحروب تدور مع الفرس والروم في وقت واحد وكانوا هم البادئين بالعدوان.
رابعا: إن حركة الفتوحات الإسلامية في سرعتها ونجاحها، الباهر ونتائجها العظيمة قد حيرت المؤرخين، خاصة المستشرقين فذهبوا في تفسيرها وتحليل دوافعها مذاهب شتى، وأرجعوا مجمل أسبابها إلى الجوع والقحط الذي دفع العرب إلى الخروج من شبه الجزيرة العربية وغزو البلاد التي غزوها، أي: إن السبب الرئيسي لتلك الفتوحات كان اقتصاديّا من وجهة نظرهم.
وليس هناك قول أبعد عن الحقيقة من هذا القول، لا لأننا نستبعد تماما العامل الاقتصادي؛ ولكن لأن الحقيقة أن هذا العامل كان عاملا ثانويّا، ومعظم الجنود والقادة الذين صنعوا تلك الأمجاد، لم يكونوا يفكرون في بطونهم، كما يدعي بعض المستشرقين، ومن لف لفهم من كتاب العرب، وإنما كانوا يدافعون عن عقيدتهم وعن حرية نشرها، أي: إنهم كانوا يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا،
(1) تاريخ الطبري (3/ 389) .
وإذا جاءت الغنائم بعد ذلك فمرحبا بها وسهلا، والمؤرخون المسلمون أنفسهم لم ينكروا أن بعض الجنود كانت تحركهم دوافع اقتصادية فقد قال البلاذري لما استنفر أبو بكر العرب ودعاهم للاشتراك في الدفاع عن العقيدة ضد المعتدين- الفرس والروم- قال:«فتسارع الناس إليه من بين محتسب وطامع» «1» والعبارة أوضح من أن تحتاج إلى تفسير.
والخليفة العظيم رحب بالجميع، المحتسب؛ وهو الذي جاء مجاهدا في سبيل الله، والطامع الذي جاء يبغي الغنيمة، ولم يحظر على الطامعين الاشتراك في المعارك بل أكثر من هذا؛ فإن الخلفاء كانوا يتجاوبون مع هذه التطلعات من البعض إلى الأعمال الدنيوية، ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مع قبيلة بجيلة، عند ما انتدبهم إلى الاشتراك في معركة القادسية في العراق، وهم كانوا يودون الذهاب إلى الشام، ولكن عمر قال لهم: بل العراق؛ لأن الشام في كفاية، ولما وجد منهم تباطؤا وعدهم بحافز مادي إضافي فوق نصيبهم الشرعي من الغنائم.
كما يقول البلاذري «وكانت بجيلة ربع الناس يوم القادسية» «2» وكثير من القادة كانوا يحفزون جنودهم في المواقع ويحرضونهم على القتال بالحافز المادي، فقد قال خالد بن الوليد لجنوده في العراق:«ألا ترون إلى الطعام كرفغ التراب، وبالله لو لم يلزمنا الجهاد في الله والدعاء إلى الله عز وجل ولم يكن إلا المعاش؛ لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف، ونكون أولى به ونولي الجوع والإقلال من تولاه، ممن اثاقل عما أنتم عليه» «3» .
بل أكثر من هذا كله، يروي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال في غزوة حنين، وكان الموقف فيها صعبا وعصيبا-:«من قتل قتيلا فله سلبه» «4» ؛ لتحريض المسلمين على القتال بحافز مادي.
فالحافز المادي إذن لم يكن مستبعدا، لكنه لم يكن الهدف الأول من الفتوحات، ولو كان الجوع هو السبب الأول الذي دفع العرب إلى هذه الفتوحات؛ لكان يكفيهم منطقة صغيرة من الشام، أو العراق؛ لأن عدد الذين قاموا بالفتوحات؛ كان بضع عشرات من الألوف، ولم يكونوا في حاجة إلى فتح كل تلك البلاد
(1) البلاذري- فتوح البلدان (ص 158) .
(2)
فتوح البلدان (ص 328) .
(3)
تاريخ الطبري (3/ 354) .
(4)
مقاصد الشريعة الإسلامية للشيخ محمد الطاهر بن عاشور (ص 29) ، وانظر الكامل في التاريخ لابن الأثير (2/ 265) .