الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكن هذا صحيحا، فالفرار لم يكن من خلق المسلمين الصادقين أبدا ولن يكون.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قدر موقفهم ورفع معنوياتهم وقال: «ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله» .
وهكذا أصبح جليّا أن الروم قد أعلنوها حربا شعواء على الإسلام ودولته. ولكن المسلمين سوف يلقنونهم درسا قاسيا، وسوف يرغمون هرقل على أن يغادر الشام وإلى الأبد. وقلبه يقطر دما وهو يقول:«وداعا يا سوريا وداعا لا لقاء بعده» .
*
من مؤتة إلى تبوك:
رأينا ما قد صنع الروم بالمسلمين في مؤتة، حيث حاولوا استئصالهم، لولا لطف الله، الذي ألهم خالد بن الوليد بخطة الانسحاب. وقلنا لك: إن تدخل الروم في مؤتة على هذا الشكل يعتبر إعلان حرب من جانبهم على الإسلام والمسلمين.
وما داموا قد أعلنوا الحرب على الإسلام والمسلمين، فإن جهادهم ورد عدوانهم أصبح واجبا على المسلمين وقيادتهم. وقد فتحت مؤتة عيون المسلمين أكثر فأكثر على خطر الروم. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم دائم الرصد لأخبارهم وكل تحركاتهم، وكان ينتظر الفرصة المناسبة لتأديبهم ولينسيهم وساوس الشيطان. ولم يكن مناسبا أن يغزو النبي صلى الله عليه وسلم الروم قبل أن تذعن قريش للإسلام، صحيح أن بين النبي وبين قريش هدنة بسبب صلح الحديبية، ولكن لا يدرى ماذا تصنع قريش إذا علمت أن الرسول صلى الله عليه وسلم انشغل في حرب مع الروم؟ فقد تنتهز الفرصة وتنقض على المدينة، وعندئذ يقع المسلمون بين عدوّين خطيرين. لذلك آثر النبي أن يؤجل الاشتباك مع الروم والذي- أصبح واجبا محتما- إلى ما بعد تصفية الحساب مع قريش. خصوصا وأن قريشا عندما علمت بهزيمة المسلمين في مؤتة أمام الروم، فرحت جدّا، وظنت أن في ذلك القضاء على المسلمين، فما دام الروم قد وجهوا أنظارهم إلى المسلمين، ورصدوا لهم هذه الأعداد الهائلة، فإنهم سوف يريحونها من الإسلام هكذا ظنت قريش وهكذا فكرت، ولكن خاب تفكيرها وساء ظنها: حمل هذا التفكير السقيم وهذا الظن السيئ قريشا على نقض معاهدة الحديبية- التي أشرنا إليها- استخفافا بأمر المسلمين بعد مؤتة، ولتعيد الأمور كما كانت عليه قبل عهد الحديبية «1» ، ولم تكن تدري أن ذلك سوف يؤدي إلى أن تفتح مكة أبوابها للنبي صلى الله عليه وسلم.
(1) انظر د. هيكل- حياة محمد (ص 412) .
كان من بنود صلح الحديبية أن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه. فدخلت قبيلة خزاعة في عهد النبي، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، فلما كانت مؤتة، وخيّل إلى قريش أن المسلمين قد قضي عليهم، فلما اعتدت بنو بكر على خزاعة- وهم حلفاء النبي- نصرتهم قريش ولم تراع صلح الحديبية، وبهذا تكون قد نقضت المعاهدة نقضا صريحا. ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليقبل من قريش هذا العبث بالعهود، خصوصا في هذا الجو النفسي الذي شاع بعد مؤتة. والنبي من ناحيته وفيّ لقريش تماما بكل التزاماته نحوها، وطبقا لما نص عليه صلح الحديبية، حتى أنه لم ينصر بعض المسلمين الذين كانت تعذبهم قريش؛ لأنه التزم بذلك، وأكبر مثل على ذلك، قصة أبي جندل بن سهيل بن عمرو قصة أبي بصير. ومع ذلك تنقض قريش العهد بهذه البساطة، أليس ذلك استخفافا بالمسلمين؟! لذلك عزم النبي صلى الله عليه وسلم على غزو قريش، وتلقينها درسا في احترام العهود. ولم تقو قريش على مواجهة النبي، ففتحت مكة أبوابها وأذعنت قريش لأمر الله ورسوله. وضرب الرسول لهم أروع الأمثلة في العفو والتسامح، فنسي ما صنعوه معه طوال عشرين عاما.
فلما دخل البيت العتيق، وقريش كلها في قبضته، قال لهم:«ماذا تظنون أني فاعل بكم؟» قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال:«اذهبوا فأنتم الطلقاء» «1» .
فتحت مكة في العشرين من رمضان في العام الثامن الهجري، وأسلمت قريش وبعد أسبوعين من فتح مكة، علم النبي في أثنائها أن هوازن تعد العدة للهجوم على المسلمين، فقرر أن يباغتهم قبل أن يباغتوه فحدثت موقعة حنين وهزمت هوازن وحلفاؤها من ثقيف ثم حاصر النبي الطائف لإخضاع ثقيف التي تحصنت فيها، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم رفع الحصار عن الطائف؛ لأنه كان على يقين أنه بعد فتح مكة وإسلام قريش، فلن تقو أية قبيلة عربية على حربه، وأن ثقيف آتية إليه طال الزمن أو قصر، ولقد استشار النبي نوفل بن معاوية الدئلي في المقام على حصار ثقيف فقال له:«يا رسول الله ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك فأذّن بالرحيل» «2» .
(1) ابن الأثير- الكامل (2/ 252) .
(2)
ابن الأثير- الكامل (2/ 267) .