المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ دور الأمويين في نقل الحضارة العربية الإسلامية إلى الأندلس: - السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي

[عبد الشافى محمد عبد اللطيف]

فهرس الكتاب

- ‌[بحوث في السيرة النبوية والتأريخ الإسلامي]

- ‌مقدّمة

- ‌[البحث الأول] أوائل المؤلفين في السيرة النبوية

- ‌ مقدمة

- ‌ دوافع المسلمين للاهتمام بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌ بداية التأليف في السيرة النبوية:

- ‌طبقات كتّاب السيرة

- ‌ رجال الطبقة الأولى من كتّاب المغازي والسير:

- ‌1- أبان بن عثمان:

- ‌2- عروة بن الزبير:

- ‌3- شرحبيل بن سعد:

- ‌4- وهب بن منبه:

- ‌ رجال الطبقة الثانية من كتّاب المغازي والسير:

- ‌1- محمد بن مسلم بن شهاب الزهري

- ‌2- عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري

- ‌3- عاصم بن عمر بن قتادة:

- ‌ رجال الطبقة الثالثة من كتّاب المغازي والسير:

- ‌1- موسى بن عقبة:

- ‌2- معمر بن راشد:

- ‌3- محمد بن إسحاق المطلبي

- ‌ رحلته إلى العراق:

- ‌ مكانة ابن إسحاق العلمية:

- ‌ متى ألف ابن إسحاق

- ‌أ- التاريخ الجاهلي:

- ‌ب- المبعث:

- ‌ج- المغازي:

- ‌ عمرو بن حزم الأنصاري:

- ‌ الواقدي

- ‌ محمد بن سعد:

- ‌[البحث الثاني] صدى الدعوة في مدن الحجاز غير مكة- كالطائف والمدينة

- ‌ الحالة الدينية في الحجاز قبيل ظهور الإسلام:

- ‌ الحالة الدينية في المدينة قبيل البعثة:

- ‌ صدى الدعوة في يثرب:

- ‌ صدى الدعوة لدى اليهود في يثرب:

- ‌ اثر اليهود في تطور موقف عرب يثرب من الدعوة:

- ‌ صدى الدعوة في يثرب بعد اتصالاتها المباشرة بالنبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌ التحول الكبير في موقف عرب يثرب:

- ‌ صدى رحلة مصعب بن عمير:

- ‌ اهل يثرب والتحدي الكبير:

- ‌ صدى الدعوة في خيبر:

- ‌[البحث الثالث] العلاقات بين المسلمين وقريش من الهجرة إلى بدر

- ‌العلاقات بين المسلمين وقريش من الهجرة إلى بدر

- ‌ قريش تستمر في إلحاق الأذى بالمهاجرين:

- ‌ قريش تصادر ديار المهاجرين واموالهم:

- ‌ المهاجرون في سجون مكّة:

- ‌ الدولة الإسلامية تقوم في المدينة لتحمي الدعوة:

- ‌ التحديات الكبرى أمام الدولة الوليدة:

- ‌ النشاط العسكري الإسلامي قبل بدر:

- ‌ أهداف السرايا والغزوات الأولى:

- ‌ سرية عبد الله بن جحش

- ‌[البحث الرابع] العلاقات بين المسلمين والروم في ضوء غزوة تبوك

- ‌ تمهيد:

- ‌ المسلمون قبل اتصالهم بالروم:

- ‌ اتصال المسلمين بالروم:

- ‌ المقدمات التي أدّت إلى غزوة مؤتة:

- ‌ تدخل الروم في مؤتة إعلان حرب على الإسلام:

- ‌ من مؤتة إلى تبوك:

- ‌ الأسباب المباشرة لغزوة تبوك:

- ‌ ماذا صنع النبي في تبوك

- ‌ نتائج غزوة تبوك:

- ‌[البحث الخامس] الإدارة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ المقصود بالإدارة هنا:

- ‌ طبيعة الدعوة الإسلامية:

- ‌ قيام الدولة الإسلامية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌ أول رئيس للدولة الإسلامية:

- ‌ هيئة الحكومة النبوية:

- ‌ صاحب السر:

- ‌ صاحب الشرطة:

- ‌ حراس الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌ حراس المدينة أو شرطة المدينة:

- ‌ المنفذون للحدود بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌ حجّاب الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌ حاملوا خاتم الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌ بيت الضيافة:

- ‌ مراقبة الأسواق:

- ‌ جهاز جمع المعلومات «المخابرات» :

- ‌ كتّاب الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌ جهاز الإعلام:

- ‌ خلفاء الرسول على المدينة أثناء غيابه عنها في غزو أو غيره:

- ‌ اتساع نفوذ الدولة الإسلامية:

- ‌ اليمن أول إقليم عربي يدخل تحت سيادة الدولة الإسلامية:

- ‌ ولاية مكة:

- ‌ ولاية الطائف:

- ‌ إسلام البحرين:

- ‌ إسلام اهل عمان:

- ‌[البحث لسادس] دولة الإسلام وعلاقاتها الدولية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ قيام دولة الإسلام: * في عهد النبي:

- ‌ الإسلام دين عالمي:

- ‌ السلام أساس العلاقات الدولية في الإسلام:

- ‌ الحرب المشروعة في الإسلام:

- ‌الحالة الأولى: الدفاع عن النفس

- ‌الحالة الثانية: الدفاع عن المظلومين

- ‌الحالة الثالثة: الدفاع عن حرية نشر العقيدة

- ‌ آداب الحرب في الإسلام

- ‌ مبادئ القانون الدولي في الإسلام:

- ‌ الإسلام يحترم مبعوثي الأعداء وحاملي رسائلهم:

- ‌ معاهدة الحديبية في ميزان العلاقات الدولية:

- ‌ الإسلام والعالم:

- ‌ خاتمة البحث:

- ‌[البحث السابع] قراءة تاريخية جديدة في موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الفتوحات الإسلامية

- ‌ موقف عمر بن الخطاب من الفتوحات

- ‌[البحث الثامن] دور المصريين في إنشاء البحرية الإسلامية من كتاب «مصر والإسلام»

- ‌ تمهيد:

- ‌ بداية التفكير في إنشاء قوة بحرية إسلامية:

- ‌ معارضة عمر بن الخطاب لمشروع معاوية:

- ‌ التجربة الأولى:

- ‌ التجربة الفاشلة الثانية:

- ‌ معاوية ينجح في أخذ موافقة عثمان بن عفان:

- ‌ الارتباط الأمني بين مصر والشام:

- ‌ دور الصناعة في مصر وأثرها في إنشاء الأساطيل الإسلامية

- ‌ دار الصناعة في الإسكندرية:

- ‌ دور صناعة السفن في رشيد ودمياط وتنيس:

- ‌ دار صناعة السفن بالقلزم- السويس

- ‌ دار صناعة السفن بجزيرة الروضة:

- ‌ المصريون يبنون أساطيل الشام:

- ‌ دور المصريين في إنشاء أسطول المغرب العربي:

- ‌[البحث التاسع] الفتح الإسلامي لبلاد ما وراء النهر وانتشار الإسلام هناك

- ‌ تمهيد:

- ‌ المسلمون والفرس:

- ‌ ردة الفرس بعد وفاة عمر بن الخطاب:

- ‌ سياسة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما تجاه البلاد المفتوحة:

- ‌ بلاد ما وراء النهر قبيل الفتح الإسلامي:

- ‌ المراحل التمهيدية لفتح بلاد ما وراء النهر:

- ‌ فتوحات قتيبة بن مسلم فيما وراء النهر:

- ‌ خطوات الفتح ومراحله:

- ‌المرحلة الأولى: استغرقت عاما واحدا تقريبا (86- 87 ه

- ‌المرحلة الثانية (87- 90 ه

- ‌المرحلة الثالثة (90- 93 ه

- ‌المرحلة الرابعة (93- 96 ه

- ‌ موقف الخليفة الوليد من قتيبة:

- ‌ بلاد ما وراء النهر بعد قتيبة:

- ‌ العباسيون وبلاد ما وراء النهر:

- ‌ انتشار الإسلام في بلاد ما وراء النهر:

- ‌تمهيد:

- ‌ العباسيون وانتشار الإسلام فيما وراء النهر:

- ‌[البحث العاشر] تبادل الوفود والهدايا بين خلفاء المسلمين والأباطرة البيزنطيين

- ‌ مقدمة:

- ‌ العلاقات الإسلامية البيزنطية في عهد النبي والخلفاء الراشدين:

- ‌ العلاقات الإسلامية البيزنطية في العهدين الأموي والعباسي:

- ‌ تبادل الوفود لعقد معاهدات الصلح:

- ‌ الوفود والبعثات العلمية:

- ‌ التعاون بين الدولتين في المجالات العمرانية:

- ‌ تبادل الهدايا بين الخلفاء والأباطرة:

- ‌[البحث الحادي عشر] الأمويون ودورهم في نقل الحضارة العربية الإسلامية إلى الأندلس

- ‌ملخص البحث

- ‌ بنو أمية في التاريخ:

- ‌ الأمويون والحضارة الإنسانية:

- ‌ الأمويون والترجمة:

- ‌ الفتح الإسلامي للأندلس:

- ‌ الدولة الأموية في الأندلس:

- ‌ مجمل الأوضاع السياسية والعسكرية والاقتصادية في الأندلس الأموية:

- ‌ الجيش:

- ‌ الأوضاع الاقتصادية في الأندلس الأموية:

- ‌ ازدهار الصناعة:

- ‌ دور الأمويين في نقل الحضارة العربية الإسلامية إلى الأندلس:

- ‌[البحث الثاني عشر] واقع الإنسان في المجتمعات الإسلامية المعاصرة

- ‌ جر العالم الإسلامي إلى أحلاف تخدم الأهداف الاستعمارية:

- ‌ الأحلاف الغربية الإسلامية:

- ‌ حربا الخليج الأولى والثانية وتدمير العراق:

- ‌ حرب الخليج الأولى (1980- 1988 م) :

- ‌ حرب الخليج الثانية:

- ‌ الإسلام العدو الأول للغرب:

- ‌ أهم المشكلات التي يعانيها المسلم المعاصر:

- ‌1- الظاهرة الأولى: العلاقات الإسلامية

- ‌2- الظاهرة الثانية: [غياب الديمقراطية]

- ‌[البحث الثالث عشر] نشأة الاستشراق وتطوره إلى نهاية الحروب الصليبية

- ‌ الخلفية التاريخية للاستشراق:

- ‌ دور المستشرقين المتعصبين في تشويه صورة الإسلام في الغرب:

- ‌ بداية الاستشراق:

- ‌ تطور الحركة الاستشراقية:

- ‌ الاستشراق والحروب الصليبية:

- ‌الفهرس

- ‌السيرة الذاتية للمؤلف

الفصل: ‌ دور الأمويين في نقل الحضارة العربية الإسلامية إلى الأندلس:

وخلاصة القول: أن الأندلس في العصر الأموي (138- 442 هـ/ 756- 1031 م) قد اجتمع لها من أسباب القوة ما بوأها مكان الصدارة بين الدول الإسلامية، وأصبحت قرطبة مركز الجاذبية السياسية في غرب أوربا، إليها تتجه الأنظار في طلب المودة ونشدان العلاقات الدبلوماسية «1» ، إلى قرطبة جاءت وفود الدول الكبرى من أوربا، من القسطنطينية وفرنسا وألمانيا، أما نصارى شمال أسبانيا فكانوا يعتبرون عبد الرحمن الناصر (300- 350 هـ/ 912- 961 م) مرجعهم وحكمهم في خلافاتهم.

وخير ما نختم به هذه السطور قول العلامة أميلوجارثيا جومث: «لقد كانت الخلافة القرطبية بناء هائلا، لم يولد صدفة؛ لأنه أتى ليتوج فترة طويلة من التشكل ومن السعي لتحقيق التوازن والتالف بين السلالات والعناصر المختلفة للمجتمع، فقد قامت على هدف وغاية سامية، وتشبعت بالتراث، وكان لها فن مميز

وكان لديها نظم إدارية فعالة، وفي خدمتها عائلات متمرسة لعدة أجيال على السياسة، واقتصادها- حسبما نعلم- كان ينعم بالازدهار والصحة؛ والدليل على ذلك أن الحكم الثاني (350- 366 هـ/ 961- 976 م) قام قبل موته بقليل بتخفيض الأعباء الضريبية على رعاياه، لقد كانت باختصار دولة قوية متحضرة، لا منافس لها على الإطلاق في عالم الغرب» «2» ا. هـ.

يروي المقري أن عبد الرحمن الناصر ترك في خزائنه عند وفاته ما يقرب من عشرين مليون دينار ذهبا «3» . إذا أخذنا في الاعتبار أن هذا الذي تركه عبد الرحمن الناصر، وهو مبلغ هائل بحساب تلك الأيام- كان فائضا بعد سلسلة المشاريع العمرانية الكثيرة التي قام بها مثل مدينة الزهراء والإنفاق العسكري والمدني الهائل- إذا أخذا ذلك في الاعتبار أدركنا درجة الثراء والرخاء الاقتصادي الذي كانت تتمتع به الأندلس في العصر الأموي، والذي انعكس بدوره على الحياة الاجتماعية.

*‌

‌ دور الأمويين في نقل الحضارة العربية الإسلامية إلى الأندلس:

في الصفحات السابقة قدمنا صورة موجزة للغاية عن الأمويين في التاريخ

(1) راجع ليفي بروفنسال- تاريخ أسبانيا الإسلامية في العصر الأموي، مرجع سابق (ص 352- 403) .

(2)

ليفي بروفنسال- تاريخ أسبانيا الإسلامية، مرجع سابق (ص 25) .

(3)

نفح الطيب (1/ 154) وما بعدها.

ص: 353

ودورهم في الحفاظ على التراث الحضاري العظيم الذي ورثوه عن الدول السابقة في فارس والعراق والشام ومصر

إلخ، وبدء ترجمة بعض هذا التراث إلى العربية، ودورهم في وضع أسس العلوم العربية والإسلامية ومفردات الحضارة الآخرى، ثم أوجزنا القول في الفتح الإسلامي للأندلس وظروفه، وأعطينا صورة مجملة عن الأوضاع السياسية والإدارية والعسكرية والسياسية في دولة الأمويين في الأندلس.

وفي الصفحات التالية نحاول إعطاء صورة مجملة أيضا- لأن المقام لا يتسع للتطويل- عن دور الأمويين- أمرائهم وخلفائهم- في نقل الحضارة العربية الإسلامية من المشرق إلى الأندلس، فهذا الدور هو أعظم وأخلد أدوارهم في التاريخ فقد ذهبوا وذهبت دولتهم، وبقيت آثارهم التاريخية والحضارية التي لا زالت ظاهرة- بعضها على الأقل الذي نجا من التخريب والتدمير الذي دفعت إليه روح التعصب المسيحي على أيدي محاكم التفتيش- وما عصفت به روح التعصب وضاع من الآثار المعمارية الخالدة في قرطبة والزهراء والزاهرة وغرناطة وإشبيلية.. إلخ «1» .

حفظته بطون الكتب، فقد عكفت طائفة من المستشرقين- أسبان وفرنسيين وهولنديين وألمان وإنجليز وغيرهم- على هذا التراث ودراسته، إضافة إلى العلماء العرب مثل محمد عبد الله عنان في دراسته الموسوعية عن دولة الإسلام في الأندلس والدكتور السيد عبد العزيز سالم والدكتور أحمد مختار العبادي والدكتور عبد الرحمن الحجي والدكتور حسين مؤنس والدكتور حسين دويدار، كل أولئك وهؤلاء درسوا التراث الحضاري العربي الإسلامي في الأندلس وقدموا للفكر الإنساني خدمة جليلة، ووضحوا بالأدلة والبراهين، كم كانت الحضارة العربية الإسلامية متألقة ومتوهجة على أرض الأندلس التي كانت هي البقعة الوحيدة المضيئة في أوربا الغربية في ذلك الزمان الخالد والتي عم ضوؤها على بعض دول القاهرة الأوربية فأخرجتها من عصورها الوسطى المظلمة وفتحت أمامها أبواب النهضة، وكانت قرطبة وغيرها من مدن الأندلس مقصد من يطلب العلم في مدارسها ومعاهدها، ومن يطلب العلاج في مستشفياتها، بل من يطلب أدوات الزينة ووسائل الترفيه كالموسيقى والغناء.. إلخ «2» .

(1) راجع عن الآثار المعمارية والفنية في المدن الأندلسية كتاب فون شاك- الفن العربي في أسبانيا وصقلية. ترجمة الدكتور الطاهر أحمد مكي، طبع دار المعارف: القاهرة، الطبعة الثانية (1406 هـ/ 1985 م) .

(2)

راجع عباس العقاد- أثر العرب في الحضارة الأوروبية، طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة، سنة (1998 م) ، (ص 90، 91) .

ص: 354

تتحدث كل المصادر القديمة والمراجع الحديثة التي أرخت لحياة أمراء وخلفاء بني أمية في الأندلس مجمعة على أنهم كانوا في معظمهم علماء وأدباء وفقهاء وشعراء، الأهم من هذا أنهم كانوا مشجعين كبارا للعلم والعلماء «1» ، مولعين بجمع الكتب- ولعا قل أن تجد له نظيرا- في سبيل الحصول عليها، واحترامهم للعلماء أشادت به كل المصادر والمراجع.

وقد سلكوا في سبيل النهوض بالأندلس والوصول بها إلى أعلى مراتب الحضارة نفس الطرق التي تسلكها الآن الدول التي تحاول اللحاق بركب الدول المتقدمة التي تملك ناصية العلم والقوة بكل ما تحمل كلمة القوة من معنى، فهذه الدول الآن- وبصفة خاصة الدول العربية- في سعيها الدؤوب نحو التقدم تسلك ثلاث طرق رئيسية:

أولا: بعث أبنائها إلى الدول المتقدمة مثل أمريكا وأوربا لتحصيل العلم والعودة إلى بلادهم مزودين بكل جديد قدر استطاعتهم.

ثانيا: استقدام علماء من الدول المتقدمة كأساتذة زائرين لتعليم أبنائهم في موطنهم الأصلي.

ثالثا: محاولة ترجمة كل جديد في مختلف العلوم إلى اللغة العربية ليكون في متناول أيدي أبنائها، وهذه الطرق ذاتها سلكها الأمويون عند ما قامت دولتهم في الأندلس سنة (138 هـ- 756 م) . فقد كانوا على وعي كامل بكل الظروف المحيطة بدولتهم، سواء في القارة الأوربية، أو في محيط العالم الإسلامي الفسيح الأرجاء، وأدركوا أنهم بدون قوة عسكرية لا تدوم لهم دولة فالأعداء كثر ومتربصون دائما، فحاولوا- ونجحوا- في تحقيق قوة عسكرية برية وبحرية- كما سبقت الإشارة- حافظت على كيان دولتهم طالما وجد القائد التاريخي البطل الذي يستطيع استثمار تلك القوة، في الحفاظ على أمن وسلامة الدولة، وأدرك الأمويون في الوقت نفسه أن القوة العسكرية وحدها لا تكفي لبناء المجد بل لا بد من العلم،

(1) يكفي أن نشير هنا إلى أنموذج من هذه المصادر والمراجع، مثل ابن الفرضي- تاريخ علماء الأندلس، والضبي- بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس، وابن بشكوال- كتاب الصلة، وابن بسام- الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، والمقري- نفح الطيب، ومن المراجع الحديثة مؤلفات العلامة رينهرت دوزي، والأستاذ ليفي بروفنسال وخوليان ريبيرا، وجوستاف لوبون، والدكتورة سيجريد هونكه، والأستاذ محمد عبد الله عنان، ود/ حسين مؤنس، ود/ عبد الرحمن علي الحجي، ود/ السيد عبد العزيز سالم، ود/ أحمد مختار العبادي.. والقائمة طويلة، ولا نريد الإكثار من الهوامش.

ص: 355

والعلم آنئذ كان موجودا في الشرق، أي على الأرض التي يسيطر عليها العباسيون، الأعداء الألداء للأمويين، والذين كانت علاقاتهم بهم من أسوأ العلاقات.

فالأمويون في الأندلس أقاموا علاقات ودّ وحسن جوار، بل تعاون وتحالف مع كثير من أعدائهم التقليديين السابقين، والنموذج الواضح على ذلك علاقاتهم بالرستميين في المغرب الأوسط- الجزائر الحالية- فدولة الرستميين قامت على أساس المذهب الأباضي وهو أحد مذاهب الخوارج، والعداء بين الأمويين والخوارج من أبرز ظواهر التاريخ الإسلامي، بل إن الخوارج الذين أقاموا دولا في المغرب الإسلامي- الرستميون في تاهرت وبنو مدرار في سجلماسة في جنوب المغرب- جاؤوا إلى هنا فرارا من ملاحقة الأمويين لهم في المشرق.

ومع ذلك وحّد العداء للعباسيين، أو قل: دفع العداء المشترك للعباسيين كلّا من الأمويين في الأندلس والرستميين في المغرب الأوسط إلى التعاون والتحالف في شتى الميادين، وقد يتسع الوقت لإعطاء لمحة عن ذلك التعاون فهو جزء مكمل لإبراز دور الأمويين في سعيهم لنقل الحضارة العربية الإسلامية إلى الأندلس.

لم يكن هناك سبيل إذن لإقامة أي نوع من العلاقات السياسية بين الأمويين والدولة العباسية في المشرق، التي أسقطت دولتهم وقامت ضدهم بحركة إبادة لم ينج منها إلا أفراد قلائل كان منهم عبد الرحمن الداخل مؤسس دولة الأمويين في الأندلس.

العلاقات السياسية لا سبيل إليها، أما العلم وكل مفردات الحضارة العربية الإسلامية التي بدأت في التألق والازدهار في المشرق فلا بد من إحضارها كاملة غير منقوصة، فبذل الأمويون في ذلك كل جهد ممكن، وسلكوا- كما أشرنا قبل قليل- كل الطرق الممكنة، ومنها:

أولا: تسهيل ارتحال أبناء الأندلس إلى المشرق لتحصيل العلوم، والرجوع إلى الأندلس لنشر ذلك العلم بين أهله، ولقد وفرت فريضة الحج فرصة نادرة للارتحال إلى المشرق لأداء تلك الفريضة في مكة المكرمة وزيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وقلما جاء عالم أو طالب علم من الأندلس إلى المشرق لأداء تلك الفريضة وعاد إلى بلاده دون أن يطوف بكل أو بعض مراكز العلم في المشرق، سواء في الحجاز أو العراق أو الشام أو مصر، وحتى في شمال إفريقيا، وبصفة خاصة مدينة

ص: 356

القيروان التي أصبحت- منذ أسسها القائد الفاتح الكبير عقبة بن نافع (50- 55 هـ/ 670- 674 م) مركزا علميّا كبيرا «1» .

هذه الرحلة التي كان يقوم بها أهل الأندلس كانت آمنة وميسرة إلى حد كبير حسب أسلوب ذلك العصر في السفر والشد والترحال؛ لأن حكام الدول الإسلامية على اختلاف سياساتهم وأوطانهم كانوا يهتمون غاية الاهتمام بتعبيد الطرق التي تربط مكة المكرمة والمدينة المنورة بأطراف العالم الإسلامي، من الأندلس غربا إلى حدود الصين شرقا ومن آسيا الوسطى شمالا إلى المحيط الهندي جنوبا، بل كان الحكام المسلمون يتبارون ويتنافسون في تمهيد الطرق وتوفير الأمن والراحة للحجاج بإقامة الخانات والفنادق على كل تلك الطرق وكانوا يتقربون إلى شعوبهم بهذا العمل الذي ييسر للمسلمين الوصول إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة ومسجد رسوله- عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة.

ومما سهل مهمة طلاب العلم من أهل الأندلس إلى المشرق لأداء فريضة الحج والتزود بكل جديد من العلم في شتى الميادين؛ حرية التنقل بين أقطار العالم الإسلامي، فعلى الرغم من الخلافات السياسية بين الأمويين في الأندلس والعباسيين في بغداد المسيطرين على الحجاز- موطن الحرمين الشريفين- فإن العباسيين لم يستطيعوا منع أي إنسان أندلسي من أن يجوب البلاد التي تحت سيطرتهم والالتقاء بالعلماء، حتى في بغداد نفسها، وقضية حرية التنقل تلك وعدم وضع موانع في طريق المسافرين يعد من أهم وسائل ازدهار الحضارة العربية الإسلامية في المشرق والمغرب على السواء.

ولا بأس ونحن نتحدث عن الحج وأثره في جذب أبناء الأندلس إلى المشرق أن نشير إلى واحدة من أبرز البعثات التي جاءت من الأندلس لأداء فريضة الحج ونقلت علما كان له أعظم الأثر في دولة الأمويين في الأندلس وحياة شعبها تلك هي بعثة أو رحلة يحيى بن يحيى الليثي وزملائه إلى الحج، وتتلمذهم على الإمام مالك (93- 179 هـ/ 711- 795 م) وأخذ كتابه «الموطأ» ، ثم لقاؤهم بفقهاء مصر-

(1) إذا تصفحنا بعض المصادر التي أرخت لعلماء الأندلس، مثل: ابن الفرضي- تاريخ علماء الأندلس، وابن بشكوال- الصلة، والمقري- نفح الطيب وغيرها، لوجدنا أنه قلما وجد عالم أو طالب علم أندلسي إلا وشد رحاله لأداء فريضة الحج، وقلما حج واحد منهم وعاد دون أن يطوف بمراكز العلم الشرقية يتعلم وينسخ ويعود ينشر علمه في الأندلس ومن هنا انتقل علم المشرق إلى المغرب.

ص: 357

الليث بن سعد وعبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم- وعودتهم إلى بلادهم حيث نشروا المذهب المالكي الذي سيطر على الحياة الفقهية في الأندلس، سيطرة تكاد تكون تامة، وانفرد أتباعه بالمناصب الدينية العليا وبصفة خاصة مناصب القضاء، ونحّى فقهاء المالكية مذهب الأوزاعي الذي كان المذهب الأول والوحيد الذي عرفه أهل الأندلس؛ لأنه شامي، والأمويون يعدون شاميين في ميولهم، فالشام موطنهم ومستقر ملكهم ومجدهم.

لكن المذهب المالكي استطاع أن يسيطر على الحياة الفقهية، ولذلك قصة ينبغي أن تعرف؛ لأنها ذات دلالة على أثر السياسة في العلم وعلى دور الأمويين باعتبارهم أصحاب السلطة في نصرة مذهب على مذهب. فالإمام مالك بن أنس (93/ 197 هـ)«1» المشهور بإمام دار الهجرة، كان الود مفقودا بينه وبين العباسيين، بسبب فتواه الشهيرة التي أفتاها لأهل المدينة عندما سألوه: إن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب- المشهور بالنفس الذكية- يطالبنا ببيعته بالخلافة، ونحن سبق منا بيعة لأبي جعفر المنصور، فأفتاهم فتوى حللتهم من بيعة المنصور حيث قال لهم:«لقد بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين» «2» . وبناء على هذه الفتوى الخطيرة هرع الناس إلى بيعة محمد النفس الذكية؛ لما للإمام مالك من مكانة ومصداقية وهيبة في عيون الناس، وكانت حروب راح ضحيتها عشرات الآلاف من أرواح المسلمين، فالعباسيون لم ينسوا هذا أبدا للإمام وناله منهم أذى كثير.

كل هذا أدى إلى تنافر شديد بين الإمام مالك وبين بني العباس، ويبدو أن ذلك مرتبط بما كان يكنه مالك من ودّ قديم لبني أمية في المشرق، بل تتحدث بعض الدراسات عن ميل مالك إلى الأمويين ومجافاته عن العلويين، يقول الشيخ أمين الخولي «3» : «إنه- الإمام مالك- ليس علويّا في شيء ما، وليس له ميل سياسي نحو هذا الحزب المعارض- الحزب العلوي- المتطرف في عهد الدولتين- الأموية والعباسية- جميعا، وهو لا يقول بتفضيل علي رضي الله عنه حين يتحدث غير مرة عن أفضل

(1) ألف الأستاذ أمين الخولي كتابا قيما عن الإمام مالك في سلسلة أعلام العرب تحت (رقم 11) القاهرة، وأعطاه عنوان «مالك تجارب حياة» استقصى فيه أخبار ذلك الإمام الكبير والفقيه الذي قيل عنه: لا يفتى ومالك في المدينة، واشتهر بين الناس بإمام دار الهجرة.

(2)

راجع القصة بتمامها في ابن الأثير- الكامل في التاريخ (5/ 532) .

(3)

مالك تجارب حياة (ص 299) .

ص: 358

الناس، وحين يسأله علوي عن هذا التفضيل ولا يفضل عليّا، يقول له العلوي: والله لا أجالسك أبدا، فيقول له مالك: فالخيار لك» ا. هـ.

ويقول في موضع آخر «1» : «يمكن القول: إن مالكا كان ذا ميل سياسي هادئ للأمويين- يقصد الدولة الأموية الكبرى في المشرق- هذا مالك مع أموي المشرق وأما الداخلون منهم إلى الأندلس بعد سقوط دولتهم بالمشرق، فقد أشرنا قبل الآن إلى أن للإمام مالك ميلا واضحا إليهم، وأنه تمنى أن يزيّن الله الحرم بمثل عبد الرحمن- الداخل- وتتكرر الحكاية عن هشام بن عبد الرحمن الذي كان يتشبه بعمر بن عبد العزيز، وأن مالكا قال فيه مثل الذي قال في أبيه من التمني، وقد تجاوب الأمويون مع مالك، فتعصبوا لعلمه تعصبا قويّا حين جاء الراحلون من الأندلسيين به إلى بلادهم، وأخذ هشام المذكور الناس جميعا بالتزام مذهب مالك وصيّر القضاء والفتيا عليه في حياة مالك نفسه

وحين أدخل قوم من الرحالين إلى الأندلس شيئا من مذهب الشافعي وأبي حنيفة وداود الظاهري، لم يتمكنوا من نشره، فمات بموتهم على اختلاف أزمانهم

وكذلك أميت ما كان بالأندلس من علم- في مجال الفقه- غير علم مالك من قبله كعلم الأوزاعي، الذي كان أسبق إلى الأندلس من فقه مالك كذلك عمل الترغيب في نشر علم مالك إذ كان يحيى ابن يحيى مكينا عند الأمويين ولا يولّى قاض إلا بمشورته، وهو لا يشير إلا بأصحابه ومن على مذهبه، وكما قالت الرواية القديمة نفسها: الناس سراع إلى الدنيا فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم منه» ا. هـ.

ولكن رغم هذا النفوذ الكبير الذي تمتع به علماء المالكية في الأندلس فإن أمراء بني أمية كانوا يتدخلون عندما تدعو الضرورة إذا تجاوز هذا النفوذ حده في الحجر على الأفكار الآخرى ومصادرتها وغلق الساحة الفقهية على فقههم وحده. فعندما أحضر أحد علماء الأندلس- وهو بقي بن مخلد- مصنف أبي بكر بن أبي شيبة من المشرق في رحلته العلمية وقرئ في الأندلس أنكر عليه علماء المالكية ذلك «2» ، بل شنعوا عليه، وسلطوا العامة عليه، ومنعوه من قراءته مع أن الكتاب ليس كتابا في الزندقة والإلحاد ولكنه مصنف في الحديث والفقه يحمل أفكارا قد تخالف ما عليه المالكية لذلك وقفوا ضده بقوة، ليس إلا لإثبات الهيمنة على الساحة الفقهية، فلما

(1) المرجع السابق (ص 294، 295) .

(2)

راجع القصة في الضبي، بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس (ص 15) .

ص: 359

وصل الأمر إلى سمع الأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم (238- 273 هـ/ 852- 886 م) طلب حضور «بقي» ومعه الكتاب، وطلب حضور معارضيه من فقهاء المالكية، وأمر بقيّا أن يتصفح الكتاب جزآ جزآ إلى أن أتى على آخره، وقد ظن علماء المالكية أن الأمير قد وافقهم على إنكارهم على صاحب الكتاب وأنه سيأمر بمصادرته أو منعه من القراءة والتداول، ولكنهم فوجئوا بالأمير يقول لخازن الكتب: «هذا كتاب لا تستغني خزانتنا عنه، فانظر في نسخه لنا ثم قال لبقي بن مخلد: انشر علمك وارو ما عندك من الحديث، واجلس للناس حتى ينتفعوا بك

ونهاهم أن يتعرضوا له» «1» ا. هـ.

بعض أولئك الذاهبين إلى المشرق للحج وطلب العلم لم يعودوا إلى الأندلس مزودين بالعلم في صدورهم فقط، بل كانوا يعودون بأعداد من الكتب، جمعوها في سنين عددا، وإليك أنموذجا من هؤلاء ذكره ابن بشكوال في كتاب الصلة وهو «سلمة بن سعيد بن سلمة الأنصاري» رحل إلى المشرق وحج وأقام بالمشرق ثلاثا وعشرين سنة وأدب في بعض أحياء العرب ولقي أبا بكر محمد بن الحسين الآجري، وسمع منه بعض مصنفاته، وأجاز له أيضا حمزة بن محمد الكناني، والحسن بن رشيق، وابن مسرور الدباغ، والحسن بن شعبان وغيرهم، ولقي أيضا أبا الحسن الدارقطني وأخذ عنه وأبا محمد بن أبي زيد الفقيه، وكان رجلا فاضلا ثقة فيما رواه، راوية للعلم، حدث وسمع الناس منه كثيرا، ذكره الخولاني وقال: كان حافظا للحديث، يملي من صدره، يشبه المتقدمين من المحدثين، وكانت روايته واسعة وعنايته ظاهرة، ثقة فيما نقل وضبط،

ثم يصل ابن بشكوال إلى ما نريد التنويه به، وهو أن سلمة حمل معه من المشرق ثمانية عشر حملا مشدودة من الكتب، ثم يقول: وسافر من اتجه إلى المشرق، واتخذ مصر موئلا واضطرب- أي: تجول- في المشرق سنين كثيرة جدّا يجمع في الآفاق كتب العلم، فكلما اجتمع من ذلك مقدار صالح نهض به إلى مصر، ثم انزعج- أي: رجع- بالجميع إلى الأندلس، وكانت في كل فن من العلم، ولم يتم له ذلك إلا بمال كثير حمله

(1) المصدر السابق (ص 15) ، وهناك مناسبات كثيرة تدخل فيها أمراء بني أمية للحد من تسلط فقهاء المالكية ومعارضتهم لكل رأي مخالف لأرائهم، راجع في ذلك د. محمد عبد الحميد عيسى- تاريخ التعليم في الأندلس، طبع دار الفكر، القاهرة (1982 م) ، (ص 98) وما بعدها.

ص: 360

إلى المشرق، هذا نموذج تكرر كثيرا «1» .

وإلى جانب هذه الأعداد الكبيرة التي لا يكاد سيلها ينقطع ترحالا إلى المشرق، كان الأمراء أيضا يبعثون بعض رجالهم في مهمات علمية خاصة، كالذي ذكره ابن سعيد عن إرسال الأمير عبد الرحمن الأوسط- ابن الحكم (206- 238 هـ/ 822- 852 م) - عباس بن ناصح إلى العراق في التماس الكتب القديمة فأتاه بالسند هند- وهو من أقدم الكتب التي ترجمت من الهندية إلى العربية، ومنه تعلم العرب الحساب والأعداد الهندية المعروفة- وغيره، وهو أول من أدخلها إلى الأندلس وعرف أهلها بها، ونظر هو فيها «2» .

ثانيا: من الطرق التي سلكها الأمويون في الأندلس للنهوض بدولتهم وبناء حضارة مزدهرة فيها، استقدام علماء من المشرق من المبرزين لنشر علمهم في الأندلس، وهؤلاء أيضا أعدادهم كبيرة، حفلت بها المصادر الأندلسية مثل كتاب تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي الذي كان ينص على من وفد من المشرق إلى الأندلس، فعقب أن يترجم لعلماء الأندلس في آخر كل حرف يقول: ومن الغرباء في هذا الباب: فلان وفلان، ويعد من وفد من المشرق إلى الأندلس والمشرق عنده متسع جدّا، فهو يشمل علماء القيروان وصقلية.. إلخ وإذا رجعنا إلى نفح الطيب للمقري نجد أعدادا هائلة من علماء المشرق الذين رحلوا إلى الأندلس واستوطنوها ونشروا علمهم فيها، ولا شك أن سمعة أمراء بني أمية الطيبة في الأندلس وحبهم للعلم واحترامهم الكبير للعلماء وسخائهم معهم لا شك أن كل ذلك جذب كثيرين من علماء المشرق- وبصفة خاصة من العراق- إلى الأندلس؛ لأنهم أدركوا أن أمراء بني أمية في الأندلس من شدة تنافسهم مع العباسيين في المشرق في مضمار الحضارة والعلوم يبذلون كل ما في وسعهم لإكرام العلماء، فكان من الطبيعي أن يشد هؤلاء رحالهم إلى الأندلس؛ لأن السلطان كما يقال في المثل:«سوق يذهب إليه ما يروج فيه» .

والحق أن إكرام أمراء بني أمية وخلفائهم للعلماء كان شيئا نادرا عز مثاله في غير

(1) راجع ابن بشكوال- كتاب الصلة، (رقم 513)(ص 224، 225) .

(2)

راجع ابن سعيد- المغرب في حلى المغرب، تحقيق د. شوقي ضيف دار المعارف القاهرة سنة (1978 م) ، (1/ 45) ، وراجع ترجمة عباس بن ناصح كاملة في نفس المصدر تحت (رقم 22)(ص 324) ، وفي ابن الفرضي، تاريخ علماء الأندلس (برقم 881)(ص 296، 297) .

ص: 361

دولتهم، فعلى كثرة ما نسمع عن سماحة الخليفة العباسي المأمون (198- 218 هـ/ 813- 833 م) وإكرامه للعلماء فإن ما نقرأه عن احترام الخليفة الأموي الحكم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر (350- 366 هـ/ 961- 976 م) يفوق كل ما سمعناه عن المأمون، فقد ذكر المقري في «نفح الطيب» حكاية لذلك الخليفة الأموي مع أحد العلماء ينبغي أن تروى ليعرف الناس كيف كان بعض حكام المسلمين يعاملون العلماء، يقول المقري ما ملخصه: يروي الفقيه أبو القاسم بن مفرج: كنت أختلف إلى الفقيه أبي إبراهيم- رحمه الله تعالى- فيمن يختلف إليه للتفقه والرواية، فإني لعنده بعض الأيام في مجلسه بالمسجد المنسوب لأبي عثمان الذي كان يصلي به قرب داره، ومجلسه حافل بجماعة الطلبة، وذلك بين الصلاتين، إذ دخل عليه خصيّ من أصحاب الرسائل، جاء من عند الخليفة الحكم، فوقف وسلم، وقال له: يا فقيه، أجب أمير المؤمنين- أبقاه الله- فإن الأمر خرج فيك، وها هو قاعد ينتظرك، وقد أمرت بإعجالك، فالله الله- كأنه يستعجله- فقال له الفقيه أبو إبراهيم: سمعا وطاعة لأمير المؤمنين، ولا عجلة، فارجع إليه، وعرفه- وفقه الله- عني أنك وجدتني في بيت من بيوت الله تعالى مع طلاب العلم، أسمعهم حديث ابن عمه، رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم يقيدونه عني، ليس يمكنني ترك ما أنا فيه حتى يتم المجلس المعهود لهم في رضى الله وطاعته، فذلك أوكد من مسيري إليه الساعة، فإذا انقضى أمر من اجتمع إلي من هؤلاء المحتسبين في ذات الله، الساعين لمرضاته مشيت إليه إن شاء الله تعالى ثم أقبل على شأنه، ومضى الخصي يهينم متضاجرا من توقفه، فلم يك إلا ريثما أدى جوابه، وانصرف سريعا ساكن الطيش، فقال له: يا فقيه أنهيت قولك على نصه إلى أمير المؤمنين أبقاه الله، فأصغى إليه، وهو يقول لك: جزاك الله خيرا عن الدين وعن أمير المؤمنين، وجماعة المسلمين وأمتعهم بك، وإذا أنت أوعيت- انتهيت- فامض إليه راشدا إن شاء الله تعالى، وقد أمرت أن أبقى معك حتى ينقضي شغلك وتمضي معي.

فقال له: - أبو إبراهيم- حسن جميل، ولكني أضعف عن المشي إلى باب السدّة ويصعب عليّ ركوب دابتي لشيخوختي، وضعف أعضائي، وباب الصناعة الذي يقرب إليّ من أبواب القصر المكرم أحوط وأقرب وأرفق بي، فإن رأى أمير المؤمنين- أيده الله تعالى- أن يأمر بفتحه لأدخل إليه منه، هون على المشي، وودع جسمي، وأحب أن تعود وتنهى إليه ذلك عني، حتى تعرف رأيه فيه وكذلك حتى

ص: 362

تعود إلى فيه، فإني أراك فتى سديدا، فكن على الخير معينا.

ومضى عنه الفتى، ثم رجع بعد حين وقال: يا فقيه أجابك أمير المؤمنين إلى ما سألت، وأمر بفتح باب الصناعة وانتظارك من قبله، ومنه خرجت إليك، وأمرت بملازمتك مذكرا بالنهوض عند فراغك قال: افعل راشدا وجلس الخصي جانبا حتى أكمل أبو إبراهيم مجلسه كأفسح ما جرت به عادته، غير منزعج ولا قلق، فلما انفضضنا عنه قام إلى داره، فأصلح من شأنه، ثم مضى إلى الخليفة الحكم، فوصل إليه من ذلك الباب، وقضى حاجته من لقائه، ثم صرفه على ذلك الباب، فأعيد إغلاقه على أثر خروجه.

قال ابن مفرج ولقد تعمدنا في تلك العشية إثر قيامنا عن الشيخ أبي إبراهيم المرور بهذا الباب المعهود بإغلاقه بدبر القصر، لنرى تجشم الخليفة له، فوجدناه كما وصف الخصي مفتوحا، وقد حفه الخدم والأعوان منزعجين، ما بين كناس وفراش، متأهبين لانتظار أبي إبراهيم، فاشتد عجبا لذلك، وطال تحدثنا عنه.

ويعلق المقري على الرواية مأخوذا بروعة هذا الكبرياء، فيقول «1» :«هكذا تكون العلماء مع الملوك، والملوك مع العلماء قدس الله تلك الأرواح» ا. هـ.

ليست هذه مجرد حكايات تروى، وإنما هي ترجمة لسلوك ملوك كبار عرفوا قيمة العلم فاحترموا العلماء، وأحلوهم منهم المكان الذي يليق بهم، وبعلمهم.

وبهذا قامت الحضارة وتأثل المجد. وبنفس هذه الروح استقبلت الأندلس أحد أبرز علماء المشرق في اللغة والأدب، وهو أبو علي القالي، هذه كنيته واسمه إسماعيل ابن القاسم، وقد استدعاه الخليفة عبد الرحمن الناصر لعلمه وفضله، وليكون معلما لابنه وولي عهده الحكم المستنصر، وندع الحميدي يروي لنا قصة القالي ومجيئه إلى الأندلس، فيقول «2» : «إسماعيل بن القاسم، أبو علي القالي اللغوي، ولد بمنازجرد من ديار بكر، فنشأ بها، ورحل منها إلى العراق في طلب العمل، فدخل بغداد في سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، وسمع من أبي القاسم عبد الله بن عبد العزيز البغوي، وأبي سعيد الحسن بن علي بن زكريا بن يحيى بن صالح بن عاصم

(1) راجع القصة بتمامها في المقري- نفح الطيب (1/ 176، 177) ، وراجع كذلك خوليان ريبيرا- التربية الإسلامية في الأندلس، أصولها المشرقية وتأثيراتها المغربية، ترجمة د. الطاهر أحمد مكي، دار المعارف القاهرة (1981 م) ، (ص 102- 104) .

(2)

جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس (ص 164- 168) .

ص: 363

ابن زفر العدوي، وأبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد، وأبي بكر محمد بن السري، المعروف بابن السراج، وأبي إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج.. وغيرهم، وقيل: إنه سمع من أبي يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي، ومال بطبعه إلى اللغة وعلوم الأدب، فبرع فيها، واستكثر منها، وأقام ببغداد خمسا وعشرين سنة، ثم خرج منها قاصدا إلى المغرب في سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، في أيام عبد الرحمن الناصر، وكان ابنه الأمير أبو العاص الحكم بن عبد الرحمن أحب ملوك الأندلس للعلم، وأكثرهم اشتغالا به، وحرصا عليه، فلتقاه بالجميل، وحظي عنده وقرب منه، وبالغ في إكرامه، يقال: إنه هو كان قد كتب إليه، ورغبه في الوفود عليه، واستوطن قرطبة، ونشر علمه بها، وكان إماما في علم اللغة متقدما فيها، متقنا لها، فاستفاد الناس منه، وعولوا عليه، واتخذوه حجة فيما نقله، وكانت كتبه على غاية التقييد والضبط والإتقان، وقد ألف في علمه الذي اختص به تواليف مشهورة، تدل على سعة روايته، وكثرة إشرافه، وأملى كتابا سماه «النوادر» يشتمل على أخبار وأشعار ولغة، وسمع منه جماعات وحدثوا عنه، منهم: أبو محمد عبد الله بن الربيع بن عبد الله التميمي

» ا. هـ. فنجتزئ بهذا القدر من ترجمة الحميدي لأبي علي القالي؛ لأنها طويلة حيث جاءت في نحو خمس صفحات. مما يدل على أهمية القالي وأهمية علمه؛ لأن الحميدي من أصحاب الإيجاز في الترجمة، فبعض الترجمات عنده لا تزيد على بضعة سطور، وخلاصة ما تبقى من الترجمة أن أبا علي القالي جمع عالم المشرقيين في اللغة والأدب وسافر بعلمه إلى الأندلس، فنشر ما شاء الله أن ينشر في الأندلس، واشتهر بأماليه «1» . وكان أثيرا لدى الخليفة الحكم المستنصر.

قوائم العلماء المشرقيين الذين ارتحلوا إلى الأندلس طويلة، لا في العلوم العربية والإسلامية فحسب، بل في العلوم الطبية وغيرها «2» .

ولا يتسع المقام هنا لإيراد المزيد، ولكن لا يتم الكلام في هذا المجال دون إشارة

(1) راجع أحمد أمين- ظهر الإسلام، الطبعة الرابعة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة (1966 م) ، (2/ 22) .

(2)

راجع كتب طبقات الأطباء مثل كتب ابن أبي أصيبعة عيون الأنباء في طبقات الأطباء، وابن جلجل- كتاب طبقات الأطباء والحكماء، وكتاب صاعد الأندلسي- طبقات الأمم لاستقصاء أخبار الأطباء المشرقيين الذين رحلوا إلى الأندلس.

ص: 364

إلى شخصية مشرقية قدمت إلى الأندلس في مطلع ولاية الأمير عبد الرحمن الأوسط ابن الحكم (206- 238 هـ/ 822- 852 م) وحظيت باهتمام قلما حظيت به شخصية أخرى.

وهي شخصية الموسيقي والمغني المشهور «زرياب» صاحب التأثير الكبير في حياة الأندلسيين بصفة عامة، وأهل قرطبة بصفة خاصة، ولم يكن تأثيره في مجال الموسيقى والغناء وإدخاله وترا خامسا للعود فحسب، إنما كان في مجالات عديدة في ألوان الطعام، ونظام الموائد، وحتى في الملابس وما يصلح منها لكل فصل من الفصول، وحتى تصفيف الشعر، وباختصار كل ما يدخل في ما يسميه الناس الآن فن (الإتيكيت) والأناقة ولذلك أطلقوا عليه ملك الأناقة، وقالوا عنه: كأنه نقل بغداد بكل ما فيها إلى الأندلس.

والذي أعطى «زرياب» - واسمه علي بن نافع- هذه الأهمية أنه جاء إلى الأندلس في مطلع حكم الأمير عبد الرحمن الأوسط، وتروي المصادر أن الذي استدعاه كان الأمير الحكم بن هشام، ولكنه عندما وصل إلى الأندلس كان الأمير الحكم قد فارق الحياة، وأصبح ابنه عبد الرحمن الأوسط هو الأمير فاستقدم (زرياب) واحتفى به احتفاء عظيما وأغدق عليه الأموال، ذلك أن عبد الرحمن بن الحكم عاصر المأمون العباسي في نحو اثني عشر عاما من حكمه وكان بلاط بغداد في عهد المأمون قد بلغ الغاية في الفخامة والبهاء وكان عبد الرحمن الأوسط شديد الولع بكل ما هو شرقي، وكان يريد لبلاطه أن يكون مثل بلاط بغداد أو أبهى منه، من هنا كان ترحيبه بفنان ضاقت عنه قصور بغداد بسبب المنافسة بينه وبين أستاذه إسحاق الموصلي الذي ضاق به ذرعا وحسده لما رأى إعجاب الرشيد به فكان هذا مما حمله على ترك بغداد والرحيل إلى الأندلس، ولا بد أنه كان على ثقة من حسن استقباله والاحتفاء به، وهذا هو السبب المشهور، أما أبو بكر بن القوطية فيروي سببا آخر لهجرة زرياب من بغداد إلى الأندلس فيقول «1» : «وقدم زرياب على عبد الرحمن بن الحكم رحمه الله، وكان- زرياب- بالمحل القريب من الأمين بن هارون- الرشيد- وكان المأمون الوالي بعد الأمين، فعد عليه- على زرياب- أشياء، فلما خذل الأمين فرّ زرياب إلى الأندلس، فحل من عبد الرحمن بكل محل، وكان أهلا لذلك في أدبه

(1) تاريخ افتتاح الأندلس (ص 62، 63) ويراجع أيضا خوليان ريبيرا- التربية الإسلامية في الأندلس، مرجع سابق (ص 93- 97) .

ص: 365

وروايته وتقدمه في الصناعة التي كانت بيده» ا. هـ.

ويضيف ابن القوطية خبرا له مغزاه، ينبغي ذكره، ملخصه أن «زرياب» غنى الأمير عبد الرحمن صوتا استحسنه، فأمر خزان بيت المال أن يدفعوا له ثلاثين ألف دينار، ولكنهم رفضوا، وقالوا: نحن وإن كنا خزان الأمير أبقاه الله فنحن خزان بيت مال المسلمين، نجبي أموالهم وننفقها في مصالحهم، ولا والله ما ينفذ هذا ولا منا من يرضى أن يرى هذا في صحيفته غدا أن نأخذ بثلاثين ألفا من أموال المسلمين، وندفعها إلى مغنّ في صوت غناه، يدفع إليه الأمير أبقاه الله مما عنده- أي: من ماله الخاص وليس من مال المسلمين- فلما أخبر الأمير بذلك كان «زرياب» حاضرا فقال: ما هذه طاعة- كأنه يحرض الأمير على خزان بيت المال؛ لأنهم عصوا أوامره- أما الأمير عبد الرحمن فقال: هذه الطاعة، ولأولينهم الوزارة على هذا الأمر، وصدقوا فيما قالوا، ثم أمر بدفعه إلى «زرياب» مما عنده.

ما أجمل الأمراء عندما يستجيبون لنصح الناصحين!

ثالثا: في الصفحات السابقة وضحنا أن الأمويين في الأندلس سلكوا في بناء نهضة حضارية عربية إسلامية على أرض الأندلس ثلاث طرق، تحدثنا عن اثنتين منها وهما: بعث طلاب العلم والعلماء إلى المشرق الإسلامي للتزود بكل جديد في كل العلوم العربية الإسلامية وعلوم الطب والفلك والكيمياء والفيزياء

إلخ والعودة بهذا الحصاد إلى الأندلس وكانوا مدركين أنه بدون هذا التواصل العلمي مع المشرق فلن يتأتى لهم بناء الحضارة التي يتوقون إليها ويطمحون أن تضاهي حضارة بغداد.

والطريق الثاني: استقدام علماء من المشرق إلى الأندلس للانتفاع بعلمهم، وفي الصفحات التالية نوجز القول في الطريق الثالث الذي سلكه الأمويون في الأندلس لبناء نهضتهم الحضارية؛ وهو الكتاب، فالكتاب هو سيد الموقف في الفكر الإنساني بلا خلاف، فمهما تقدمت وسائل التعليم سيبقى هو في مكانته ليس له بديل في ملء العقول بالعلم والفكر، من هنا أعطى الأمويون قضية الكتاب وإحضاره من الشرق والغرب أيضا إلى الأندلس أهمية قصوى، وفي هذه المسألة ربما كانت مهمتهم أسهل نسبيّا من مهمة العباسيين؛ لأن العباسيين اضطلعوا بعبء الترجمة من اللغات الأجنبية، وبصفة خاصة الهندية والفارسية واليونانية إلى اللغة العربية، وهو عبء ثقيل ومكلف ماديّا، ففوق ما وجده العباسيون على الأرض التي

ص: 366

كانوا يسيطرون عليها من ثراث تلك الأمم، وهو التراث الذي أشدنا أكثر من مرة بدور الأمويين في الحفاظ عليه وصيانته وتركه للعباسيين ليقوموا بترجمته إلى اللغة العربية، غير أن العباسيين لم يقنعوا بما وجدوه على الأرض التي كانوا يسيطرون عليها، والتي تمتد حدودها من المحيط الأطلسي غربا إلى حدود الصين شرقا، وإنما دفعهم النهم العلمي والرغبة الصادقة في بناء صرح حضاري يتناسب مع عظمة الدولة العباسية وثرائها إلى البحث عن زخائر الفكر الإنساني التي لم تكن في متناول أيديهم، وحاولوا الحصول عليها بكل الطرق، وتعددت وسائلهم في الحصول على المخطوطات في مختلف العلوم الأجنبية فأحيانا عن طريق المعاهدات مع أباطرة الدولة البيزنطية، التي كانوا يشترطون فيها تسليمهم كميات من المخطوطات اليونانية «1» أو عن طريق الهدايا.

ويقول صاعد الأندلسي في هذا الصدد «2» : «ثم لما أفضت الخلافة إلى الخليفة السابع منهم عبد الله المأمون

فأقبل على طلب العلم في مواضعه واستخرجه من معادنه بفضل همته الشريفة، وقوة نفسه الفاضلة، فراسل ملوك الروم، وأتحفهم بالهدايا الخطيرة، وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلاسفة، فبعثوا إليه بما حضرهم من كتب أفلاطون، وأرسطوطاليس، وأبقراط، وجالينوس، وأوقليدس، وبطليموس وغيرهم من الفلاسفة، فاستجاد لها مهرة التراجمة، وكلفهم إحكام ترجمتها، فترجمت له على غاية ما أمكن، ثم حض الناس على قراءتها ورغبهم في تعليمها، فنفقت سوق العلم في زمانه وقامت دولة الحكمة في عصره» ا. هـ. وأحيانا عن طريق البعثات العلمية التي كانوا يرسلونها إلى أراضي تلك الدولة للحصول على المخطوطات، عن طريق الشراء، وكتاب الفهرست لابن النديم زاخر بأخبار تلك البعثات. والكتب التي كانوا يعودون محملين بها.

لقد حصل العباسيون على عدد هائل من المخطوطات، ولم يحصلوا عليه ليحبس في خزائن الكتب، وإنما ليترجم إلى اللغة العربية، ويبعث من جديد، ينقح ويصحح ويضاف إليه جديد من قرائح العلماء وعبقرياتهم، وقدموه للعالم وبصفة خاصة إلى أوربا، التي قامت نهضتها في مطلع العصر الحديث على أساس علوم العرب

(1) راجع سيجريد هونكه- شمس العرب تسطع على الغرب، مرجع سابق (ص 175) .

(2)

طبقات الأمم (ص 64) .

ص: 367

ومعارفهم، كما يشهد بذلك كل المنصفين من الأوربيين أنفسهم، ولقد سبق أن اقتبسنا كثيرا من مؤلفاتهم التي ورد ذكرها في هذا البحث، مما يؤيد ما نقول.

لذلك أنشأ الخليفة هارون الرشيد (170- 193 هـ/ 786- 808 م) بيت الحكمة في بغداد ليكون أول مؤسسة علمية أكاديمية تضطلع بهذا الدور في التاريخ، وهو دور الترجمة، وكان أول رئيس لهذه المؤسسة العلمية العظيمة هو يوحنا بن ماسويه، وكان نصراني الديانة سريانيّا، يقول ابن أبي أصيبعة «1» :«قلده الرشيد ترجمة الكتب القديمة، مما وجده بأنقرة وعمورية وسائر بلاد الروم، حين سباها المسلمون، ووضعه أمينا على الترجمة، وخدم هارون الرشيد- والأمين والمأمون، وبقي على ذلك إلى أيام المتوكل» ا. هـ. هل يحتاج هذا الخبر إلى تعليق ولفت الأنظار إلى هذا التسامح الإسلامي من أعظم ملوك الدنيا عندئذ وهم يضعون عالما نصرانيّا على رأس أهم مؤسسة علمية في دولتهم؟!.

وإذا كان الرشيد قد أسس بيت الحكمة فقد بلغت ذروة مجدها وعصرها الذهبي في عهد المأمون، الخليفة العالم، الذي كان يكافئ المترجمين- فوق رواتبهم الرسمية- بوزن الكتاب المترجم ذهبا خالصا، مما جعل المترجمين يبذلون أقصى طاقاتهم في نقل كنوز العلم القديم كله إلى اللغة العربية، وحديثنا عن الترجمة في المشرق المقصود به أن نوضح أن ما قام به العباسيون من ترجمة كان فيه خدمة هائلة للأمويين- بل للإنسانية جمعاء- لأنهم لم يضطروا إلى الترجمة فقد وجدوا كل شيء جاهزا ومعدّا، ففي نهاية عهد المأمون (198- 218 هـ/ 813- 833 م) كان معظم التراث القديم قد ترجم وأصبح يقرأ في اللغة العربية، وهذه خدمة جليلة للعلم بصفة عامة وللأمويين بصفة خاصة، سيما وأن اللغة اليونانية المكتوب بها معظم هذا التراث لم تكن معروفة في الأندلس إلا في أضيق الحدود «2» . ولذلك لم تشهد الأندلس حركة ترجمة كالتي حدثت في بغداد، واكتفوا بهذا وكان فيه الغناء.

ولما كان الأمويون في الأندلس- وبصفة خاصة آخر العظماء منهم، وهو الحكم المستنصر- لا يقلون رغبة عن العباسيين في التعلم والتحضر فقد بذلوا أقصى طاقاتهم في إحضار كل ما كان يؤلف أو يترجم في المشرق، في أي علم من العلوم،

(1) عيون الأنباء في طبقات الأطباء (2/ 124) .

(2)

راجع خوليان ريبيرا- التربية الإسلامية في الأندلس، مرجع سابق (ص 190، 191) .

ص: 368

ولم يمنعهم بعد الشقة ولا كثرة التكاليف عن الوصول إلى غاياتهم، وقد بدؤوا في تحقيق تلك الغاية ربما في الوقت نفسه التي بلغت فيه الترجمة ذروتها في عهد المأمون، فأول من أرسل بعثة رسمية إلى المشرق لإحضار الكتب القديمة والحديثة هو الأمير عبد الرحمن الأوسط بن الحكم (206- 238 هـ/ 822- 852 م) وهو كما سبقت الإشارة عاصر المأمون لمدة اثني عشر عاما من حكمه، وسبق أن ذكرنا أنه أرسل عباس بن ناصح للبحث عن الكتب فجاءه بعدد منها، كان من بينها كتاب «السند هند» وكان قد ترجم إلى العربية في بغداد.

ولما كان هذا البحث قد تجاوز الحيز المقدر له فلن نستطيع تتبع جهود كل أمراء وخلفاء بني أمية في الأندلس في إحضار الكتب من كل الأقطار وفي كل العلوم، ولذلك سنقصر الحديث تقريبا على أكثرهم حبّا للعلم والعلماء والقراءة، وهو الحكم المستنصر العظيم (350- 366 هـ/ 962- 976 م) الذي يقول عنه أحد الباحثين: إنه كان بمثابة وزير التعليم في عهد والده الناصر «1» . فهو فارس هذا الميدان بدون منازع، وعنه يقول صاعد الأندلسي «2» :«ثم لما مضى صدر من المائة الرابعة انتدب الأمير الحكم المستنصر بالله بن عبد الرحمن الناصر لدين الله، وذلك في أيام أبيه إلى العناية بالعلوم وإيثار أهلها، واستجلب من بغداد ومصر وغيرهما من ديار الشرق عيون التواليف الجليلة والمصنفات الغريبة في العلوم القديمة- يقصد العلوم التي سماها المسلمون علوم الأوائل مثل الطب والهندسة والفلك والرياضيات والكيمياء والفيزياء وغيرها- والحديثة- ويقصد العلوم العربية والإسلامية مثل الفقه والحديث والتفسير وعلوم اللغة العربية وآدابها.. إلخ- وجمع منها في بقية أيام أبيه، ثم في مدة ملكه من بعده ما كاد يضاهي ما جمعته ملوك بني العباس في الأزمان الطويلة، وتهيأ له ذلك لفرط محبته للعلم. وبعد همته في اكتساب الفضائل، وسمو نفسه إلى التشبه بأهل الحكمة من الملوك، فكثر تحرك الناس في زمانه إلى قراءة كتب الأوائل، وتعلم مذهبهم» ا. هـ.

الحق لم نقرأ في التاريخ الإسلامي على امتداده شرقا وغربا أن خليفة أبدى من الاهتمام بجمع الكتب والتعليم بصفة عامة مثل الخليفة الحكم المستنصر، وهو لم يجمع الكتب ليخزنها وإنما تفيض المصادر بالأخبار المتواترة أنه قرأ كثيرا من

(1) راجع د. محمد عبد الحميد عيسى- تاريخ التعليم في الأندلس (ص 108) .

(2)

طبقات الأمم (ص 87) .

ص: 369

محتويات مكتبته التي كان بها ستمائة ألف كتاب ووجدت له تعليقات على بعض هذه الكتب بخط يده، كانت موضع ثقة العلماء مما يدل على أنه قرأ وفهم، يقول ابن سعيد في كتاب «المغرب في حلى المغرب» عن الحكم المستنصر ما يلي «1» :

«كان له إذ ولي بعد أبيه سبع وأربعون سنة وكان حسن السيرة جامعا للعلوم، محبّا لها مكرما لأهلها، وجمع من الكتب في أنواعها ما لم يجمعه أحد من الملوك قبله، وذلك بإرساله فيها إلى الأقطار واشترائه لها بأعلى الأثمان

ووجه لأبي الفرج الأصبهاني ألف دينار على أن يوجه له نسخة من كتاب الأغاني، وباسمه حرر أبو علي البغدادي كتاب الأمالي، فأحمد وفادته» ا. هـ.

ومن حبه للعلم ونشره بين أبناء الأمة الأندلسية فإنه بنى على نفقته الخاصة سبعا وعشرين مدرسة لتعليم الفقراء، مما يدل على أن القادرين كانوا ينفقون على تعليم أنفسهم.

ولقد فشا التعليم في الأندلس بصفة عامة وفي العاصمة قرطبة بصفة خاصة إلى الحد الذي جعل بعض الباحثين يقول: إن غالبية السكان كانوا يجيدون القراءة والكتابة ولذلك كان أصحاب المصانع لا يقبلون عاملا في مصانعهم إلا إذا كان يجيد القراءة والكتابة، حتى ولو كان العمل لا يتطلب ذلك، ومعنى ذلك أن المجتمع والرأي العام هو الذي جعل التعليم إجباريّا وليس عملا قامت به السلطة وحدها «2» .

والتعليم شمل الجنسين، الذكور والنساء على السواء، يقول الأستاذ خوليان ريبيرا «3» :«وبلغ تعليم المرأة حدّا واسعا من الانتشار يمكن أن نستنتجه مما ذكره ابن فياض في تاريخه أخبار قرطبة قال: كان بالربض الشرقي من قرطبة مائة وسبعون امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي، هذا في ناحية من نواحيها، فكيف بجميع النواحي، وتزاحم الطلاب على الدراسة جعل المرأة أيضا تقبل عليها، وتفتح المدارس تلقي فيها الدروس، كما يصنع الرجال، وكان لبني حزم «4» - وهي أسرة اشتهرت بالأساتذة- مدرسة من أشهر مدارس قرطبة، يدرس فيها الأب للصبيان،

(1)(1/ 186) .

(2)

راجع خوليان ريبيرا- التربية الإسلامية في الأندلس، مرجع سابق (ص 50) .

(3)

المرجع السابق (ص 161) .

(4)

ليسوا هم بني حزم أسلاف أسرة ابن حزم العالم المشهور، بل هي أسرة أخرى، والأمر لا يعدو تشابه الأسماء.

ص: 370

والابن للفتيان، والبنت للفتيات» ا. هـ. ولقد اشتهرت نساء كثيرات وصلن إلى مكانة عالية في دنيا الثقافة؛ مثل «لبنى» كاتبة الخليفة الحكم، التي يقول عنها ابن بشكوال «1» :«كانت حاذقة بالكتابة، نحوية، شاعرة، بصيرة بالحساب، مشاركة في العلم، لم يكن في قصرهم أنبل منها، وكانت عروضية خطاطة جدّا» ا. هـ.

والقوائم طويلة ولا يتسع الوقت للمزيد.

نعود إلى الخليفة الحكم وأثره في إثراء عالم الكتب في الأندلس وإنفاقه بسخاء على جمع الكتب من كل مراكز العلم من المشرق، حيث كان له وكلاء فنيون يقيمون إقامة تكاد تكون دائمة في مدن المشرق، مزودين بأموال طائلة للحصول على الكتب بأي ثمن، وكان حريصا على أن يدخل مكتبته أي كتاب يصدر في المشرق ليقرأه قبل أن يقرأ في بلد المنشأ، والقصة المتواترة في ذلك المجال كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني الذي ينتمي إلى أصول أموية فقد دفع أحد وكلاء الحكم ألف دينار لأبي الفرج ليحصل على نسخة من الكتاب، قبل أن يصدر في بغداد وسبق أن اقتبسنا ذلك من ابن سعيد «2» .

وشاع بين رعايا الحكم الثاني أن أقصر الطرق إلى قلبه وأفضل وسيلة لإقناعه واستمالته للحصول على خير أو بلوغ منصب أن يقدم له كتاب ليس عنده في مكتبته، ولهذا أخذوا يخصونه بمؤلفاتهم، أو يهدون إليه نسخا من كتب نادرة، ونجد ذلك حتى بين الأساقفة المسيحيين في قرطبة، فقد ألف الأسقف ربيع بن زيد، واسمه اللاتيني رثموندو Recemundo كتاب الأنواء، واشتهر باسم تقويم قرطبة، وأهداه إلى الحكم الثاني، وهو كتاب طريف ومثير، ولحسن الحظ وصلنا كاملا، واشتهر بيننا ونشر أخيرا «3» .

هذه المكتبة الضخمة التي ارتبطت باسمه في الحقيقة لم تكن نتيجة جهوده وحده، وإنما بذل أسلافه جهودا كبيرة أيضا في جمع الكتب وأسسوا المكتبة ليصل بها هو إلى هذا المستوى العالي الذي وصلت إليه.

فالأسرة الأموية في الأندلس أظهرت- طبقا لكل المصادر التي تحدثت عنهم-

(1) كتاب الصلة، الترجمة رقم (1529)(ص 692) .

(2)

انظر المغرب في حلى المغرب، مصدر سابق (1/ 186) .

(3)

خوليان ريبيرا- التربية الإسلامية في الأندلس، مرجع سابق (ص 165) .

ص: 371

حبّا للتعليم منذ عهد عبد الرحمن الداخل، فقد كان هو نفسه شاعرا وأديبا وفقيها، وفي عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن (238- 273 هـ/ 852- 886 م) بدأ المؤرخون يتحدثون عن المكتبة الملكية كواحدة من خيرة مكتبات قرطبة، واشتهر عبد الرحمن الناصر نفسه بحب الكتب شهرة وصلت إلى بيزنطة وحين أراد الإمبراطور قسطنطين السابع أن يتقرب إلى الناصر أهداه بعض الكتب، منها كتاب ديسقوريدس في الطب في مجلد رائع كتب بحروف مذهبة

وفي ذلك الوقت بدأ اثنان من أبناء الناصر- وهما الحكم ومحمد- دراستهما تحت إشراف مؤدبين من أسبانيا والشرق، واستيقظت هوايتهما للكتب في قوة، حتى أن مكتبة والدهما لم تعد تشبع نهمهما، وتنافس كلاهما، أيهما يستطيع أن يسبق الآخر في تكوين مكتبة أدق اختيارا وأكثر عددا؟ وبعد فترة توفي الأمير محمد وورث أخوه الحكم مكتبته، وجمع الثلاث في واحدة، وأصبحت هذه مكتبة القصر

وكان يعمل فيها دون توقف أمهر المجلدين في أسبانيا، إلى جانب آخرين جيء بهم من صقلية وبغداد، ومعهم جمهرة من الفنانين، رسامين ومزوقين ومنمقين، يزخرفون الكتب بالصور الجميلة، بعد أن نسخها أدق الخطاطين لتقديمها إلى لجنة من كبار العلماء، تقوم بمعارضتها وتصحيحها، وتدفع لهم الدولة مرتباتهم في سخاء «1» .

إن هذا الولع الملكي بالكتب انتقل إلى الشعب، حتى لم يكد يخلو بيت من مكتبة، وهناك أسر كبيرة جمعت كميات هائلة من الكتب وكونت مكتبات كبيرة، مثل أسرة ابن فطيس وغيرهم.

ولا يتسع المكان للحديث عن بقية مكتبات قرطبة فضلا عن غيرها من مكتبات المدن الأندلسية الآخرى، مثل مكتبات إشبيلية والمرية ومالقة وبطليوس وطليطلة وسرقسطة وبلنسية.. إلخ ولا يتسع الحديث كذلك عن المكتبات التي كان الأثرياء يوقفونها على الفقراء من طلبة العلم، فالكتب التي تجمعت في المكتبات الأندلسية، سواء التي ألفها علماء الأندلس أنفسهم، أو التي جاءت من المشرق الإسلامي أعدادها تفوق الحصر، فكل عالم جاء من الأندلس إلى المشرق ودرس وتعلم وعاد إلى الأندلس عاد ومعه كتب، بل رأينا فيما سبق عالما واحدا وهو سلمة بن سعيد جاء من المشرق إلى الأندلس بثمانية عشر حملا من الكتب، والمقصود بالحمل

(1) المرجع السابق (ص 190، 191) .

ص: 372

حمل بعير، وحمل البعير من الكتب يكفي لتكوين مكتبة محترمة، فما بالنا بثمانية عشر حملا جاء بها عالم واحد؟ والعلماء الذي رحلوا من المشرق إلى الأندلس حملوا معهم أيضا كثيرا من الكتب، وعند ما ألف ابن عبد ربه تحفته الأدبية الرائعة- «العقد الفريد» - دل على أن علم المشرق كان معروفا كله عند علماء الأندلس، ولذلك عندما قرأ الوزير البويهي الشهير الصاحب بن عباد ذلك الكتاب قال عبارته المشهورة:«هذه بضاعتنا ردت إلينا» .

وخلاصة القول: أن أمراء وخلفاء بني أمية في الأندلس بذلوا أقصى طاقاتهم ولم يدخروا وقتا ولا جهدا ولا مالا، وسلكوا كل السبل لبناء حضارة عربية إسلامية على الأرض الأندلسية التي كانت من قبل ذات حضارة متواضعة بالقياس إلى الحضارة في أقطار المشرق، مثل مصر والشام والعراق وفارس

إلخ وهذا يشهد للأمويين بالعبقرية «1» ، فقد فتحوا قنوات ثقافية مع العديد من الدول الإسلامية والنصرانية على السواء، وسبق ذكر الهدية التي أهداها الإمبراطور قسطنطين السابع إلى الخليفة عبد الرحمن الناصر من الكتب القيامة. وكذلك أقام الأمويون علاقات طيبة وودية مع الرستميين في الجزائر الحالية. وهم خوارج إباضية- كما أشرنا من قبل- وأصبحت تاهرت عاصمتهم أحد روافد العلوم التي كانت تمد قرطبة بكل ما يأتيها من الشرق، وتتلقى منها كذلك «وشهدت عاصمتا الدولتين العديد من الزيارات المتبادلة بين العلماء كما أصبحت الدولة الرستمية الجسر الذي ضمن استمرار التدفق الحضاري من المشرق إلى الأندلس؛ لذا حرص الأمويون على استغلال هذا الجسر رغبة منهم في ربط إمارتهم البعيدة بتيار الحضارة الإسلامية في المشرق، وعن طريق الرستميين نجح أمراء بني أمية في الأندلس في الحصول على ما يحتاجون إليه من كنوز المشرق العربي ومؤلفاته ومخطوطاته وكذلك علمائه، وكانت لدى الرستميين مكتبتهم الضخمة التي عرفت بالمعصومة والتي حوت عددا ضخما من الكتب والمؤلفات في مختلف العلوم والفنون بالإضافة إلى جهود العلماء المحليين.

وبذا يكون الرستميون قد قاموا بدور الوسيط الثقافي، كما قاموا من قبل بدور الوسيط التجاري، فأخذوا من المشرق وأعطوا الأندلس، فكانت بلادهم ماء الحياة

(1) راجع سيجريد هونكه- شمس العرب تسطع على الغرب، مرجع سابق (ص 474، 475) ، وراجع أيضا، جاك ريسلر الحضارة العربية، مرجع سابق (ص 273) .

ص: 373

الذي جدد انطلاق الإسلام إلى غرب أوربا عن طريق الأندلس «1» .

لقد بذل الأمويون جهودا كبيرة طوال نحو ثلاثة قرون- عمر دولتهم في الأندلس- لبناء نهضة حضارية عربية إسلامية عظيمة، ولم يدخروا جهدا في نقل العلوم العربية الإسلامية، من المشرق الإسلامي من فقه وتفسير وحديث وأدب

إلخ.

وظهر في كل تلك العلوم علماء مبرزون وضعوا مؤلفات خلدت أسماءهم، وكذلك نقلوا العلوم التي ترجمت في المشرق، مثل الطب والهندسة والفلك والرياضيات والكيمياء والفيزياء

إلخ. وظهر كذلك في كل تلك العلوم علماء كان لهم شأن عظيم، ولا يتسع المجال حتى لضرب الأمثلة؛ لأن تلك الأسماء فوق الحصر، ويتضح ذلك لمن يطالع بعض أمهات الكتب الأندلسية مثل «تاريخ علماء الأندلس» لابن الفرضي، و «جذوة المقتبس» للحميدي، و «الصلة» لابن بشكوال، و «نفح الطيب» للمقري، و «الإحاطة في أخبار غرناطة» لابن الخطيب، و «فهرس ابن خير» ، و «الزخيرة» لابن بسام

إلخ.

ولقد نجح الأمويون في تحقيق ما قصدوا إليه من بناء نهضة حضارية عربية إسلامية عظيمة على أرض الأندلس وجعلوا منها البقعة الوحيدة المضيئة في غرب أوربا في عصورها الوسطى المظلمة، ولا أدل على ذلك من كثرة المؤلفات التي وضعها الأوربيون أنفسهم إشادة بهذه الحضارة والتي وردت بعض أسمائهم في ثنايا هذا البحث ولا نريد التكرار خوف الملال على القارئ.

المهم أن الناس هناك في الأندلس في ذلك الزمان البعيد عاشوا تلك الحضارة العظيمة واستمتعوا بخيراتها وثمارها وبركاتها فسكنوا أجمل المدن، حيث كانت المدن الأندلسية في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي- وهو عصر الأندلس الذهبي في تاريخها كله- أعمر المدن في القارة الأوربية من أقصاها إلى أقصاها، فبيوتها وشوارعها نظيفة، مبلطة ومضاءة بالمصابيح ليلا وترش بالمياه نهارا، وكان سكان مدينة قرطبة- عاصمة الأمويين- وحدها يزيدون على مليون مواطن، وقلما عرفت مدينة في الشرق والغرب مثل هذا العدد من السكان في ذلك الزمان، والناس كلهم تقريبا يتعلمون أفضل تعليم وكان التعليم مجانيّا لغير القادرين، وإجباريّا

(1) د. محمد عيسى الحريري- الدولة الرستمية بالمغرب الإسلامي، دار القلم الكويت، الطبعة الثالثة، (1408 هـ/ 1987 م) ، (ص 220) .

ص: 374

بضغط الرأي العام والمجتمع لا بضغط الحكومة وحدها.

ويتلقى السكان أفضل علاج ويستمتعون بحياة طيبة فيها كل ما يصبو إليه الإنسان من رفاهية وإلى قرطبة وغرناطة وإشبيلية وطليطلة ومرسية ومالقة والمرية وسرقسطة

إلخ كانت تأتي وفود العواهل الأوربيين في طلب الأدوية والتحف، وأدوات الترف والزينة، وفرق الموسيقى والغناء، وإلى تلك المدن أيضا كان يهرع طلاب العلم للتعلم في مدارسها ومعاهدها.

ألا حيّ الله تلك الأيام الخالدة، وبارك وقدس أرواح أولئك الرجال من الأمراء والخلفاء والعلماء الذين أبدعوا تلك الحضارة العظيمة.

ص: 375