الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك، وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا، لئن كنت رسولا من الله كما تقول، لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك» «1» .
هذا هو موقف زعماء ثقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تخلوا حتى عن أبسط مبادئ الرجولة والنخوة العربية؛ إذ لم يكفهم أنهم خيبوا أمله فيهم ولم يؤمنوا به ولم ينصروه، بل سبوه وأغروا به سفهاءهم يصيحون به ويشتمونه ويقذفونه بالحجارة.
ورفضوا أن يكتموا أمره، حيث كان يخشى انعكاس الموقف على أهل مكة وشماتتهم به، لكنهم لم يكتموه بل تعمدوا إظهار موقفهم المخزي هذا، لتطمئن قريش على موقفهم معها ومعاضدتها في عدائها للنبي صلى الله عليه وسلم وسبب له ذلك حرجا وضيقا، فلم يستطع دخول مكة إلا في جوار المطعم بن عدي، ولم يكونوا يدرون أنهم بذلك فوتوا على أنفسهم فرصة نادرة، فلو قبلوا منه ونصروه لسموا أنصارا، ولكن هذا شرف كان الله تعالى قد ادخره لقوم آخرين. ولن يمر وقت طويل حتى يهيئ الله تعالى لدينه ونبيه أنصارا ودارا آمنة في المدينة، وسيتمكن من دحر قريش وإجبارها على قبول الإسلام كارهة، بعد أن رفضته طائعة. وبعد إذعان قريش تحت قوة السلاح، سيأتي دور ثقيف. فبعد إذعان قريش لم يعد في طاقة أحد من العرب أن يقف في وجه الدعوة التي جاءت لتخرج الناس من الظلمات إلى النور. وصدق الله العظيم إذ يقول: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 32، 33] .
*
الحالة الدينية في المدينة قبيل البعثة:
المدينة المنورة؛ ذلك هو الاسم الذي أصبح أشهر الأسماء لمدينة يثرب الحجازية «2» ، بعد أن هاجر إليها كامل النور محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ولا يسمح لنا المقام في هذا الحديث أن نخوض في تاريخ يثرب القديم، وتطورها وعناصر سكانها عبر مراحل هذا
(1) ابن هشام- المصدر نفسه (2/ 25، 29) ، الزخرف (32، 33) ، السهيلي- الروض الأنف (4/ 33، 35) ، عيون الأثر (1/ 134) .
(2)
يقول ياقوت: «ولهذه المدينة تسعة وعشرون اسما؛ وهي المدينة وطيبة وطابة، والمسكينة والعذراء
…
» إلخ انظر معجم البلدان (5/ 83) .
التاريخ، خصوصا وأنه تاريخ يحوطه الغموض إلى حد كبير «1» ، وإنما يعنينا في المقام الأول هنا، هو معرفة الحالة الدينية في يثرب قبل البعثة- بإيجاز شديد- لنعرف أثر ذلك في صدى الدعوة لدى أهل يثرب. والوضع الديني في يثرب يختلف عنه في مدن الحجاز الآخرى كمكة والطائف مثلا؛ فمكة والطائف مدينتان وثنيتان، أما يثرب فقد تجاورت فيها الوثنية مع اليهودية، ولم تختلف يثرب عن مكة والطائف في الناصية الدينية فقط؛ وإنما في عناصر السكان والسيطرة كذلك، فمكة والطائف مدينتان عربيتان خالصتان، تسيطر على كل منهما قبيلة عربية واحدة. أما في يثرب فقد اختلف الوضع، فقد تجاور فيها العرب مع اليهود، وكان لهؤلاء دينهم، ولهؤلاء دينهم، بل يمكن القول: إن اختلاف الدين كان بسبب اختلاف عناصر السكان، فقد كان عرب يثرب (الأوس والخزرج) وثنيين وقد لا يختلفون في ذلك عن عرب مكة والطائف، من حيث تعلقهم بالأصنام والالتفاف حولها.
أما اليهود فكانت لهم ديانتهم؛ وهي في أصلها وجوهرها ديانة توحيد، لكن اليهود الذين عاصروا الدعوة حرفوها وانحرفوا بها عن أصلها، كما أخبر بذلك القرآن الكريم (المائدة: 13، 41 على سبيل المثال) . ولعل تحريف اليهود لديانتهم والبعد بها عن جوهرها كان أحد أسباب عدم اعتناق عرب يثرب لها؛ لأنها لم تكن مقنعة لهم، بالإضافة إلى ادّعاء اليهود أنهم شعب الله المختار، وأن الله اختصهم بهذه الديانة ولم يشاؤوا أن يشاركهم غيرهم فيها؛ فلم يبذلوا أي جهد لدعوة العرب إلي دينهم.
ولما كان لليهود من أثر في موقف أهل يثرب (بل مواقف كثيرين من العرب) ، من الدعوة وفي تطور هذا الموقف، فينبغي أن نعرف شيئا من أخبارهم وتطور وجودهم وعلاقاتهم بمواطنيهم من العرب إلى أن جاء الإسلام، أو بمعنى آخر ينبغي أن نعرف متى جاؤوا إلى يثرب، ومن أين جاؤوا وما هو أصلهم؟ يختلف المؤرخون حول تحديد الزمن الذي جاء فيه اليهود إلى يثرب، وإقليم الحجاز عامة، فيرى البعض أنهم جاؤوا إلى الحجاز بعد خروج موسى عليه السلام بهم من مصر «2» ، وقبل دخولهم إلى فلسطين. ومنهم من يرى أنهم جاؤوا في عهد داود عليه السلام. وهذه أقوال
(1) أحمد إبراهيم الشريف- المرجع نفسه (ص 289) .
(2)
انظر ياقوت- معجم البلدان (5/ 84) ، وأحمد إبراهيم الشريف- المرجع السابق (ص 305) ، وابن رسته- الأعلاق النفيسة، (طبع ليدن، 1981 م)(ص 60) .
بعيدة جدّا عن الاحتمال؛ لأن قصة مجيئهم في عهد موسى عليه السلام أقرب إلى الأسطورة منها إلى التاريخ الصحيح؛ لأنها تحكي أنهم دخلوا الحجاز- ويثرب بصفة خاصة- مهاجمين محاربين، وهذا لا يتناسب مع جبنهم- في الفترة نفسها- عن دخول فلسطين مع موسى عليه السلام، كما يقص علينا القرآن الكريم (المائدة:
23-
26) . فلا يعقل أن يجبنوا عن دخول فلسطين ثم يهاجموا الحجاز، خصوصا وأن القرآن يتحدث عن تيههم في صحراء سيناء قبل دخولهم فلسطين (مع يوشع بن نون) ، والقرآن الكريم هو مصدرنا الرئيس عن تاريخ اليهود في جزيرة العرب «1» ، وإنما الأقرب إلى المنطق والقبول ذلك الرأي الذي يذهب أصحابه إلى أن مجيء اليهود إلى الحجاز بدأ منذ القرن الأول بعد الميلاد، بعد أن اشتد ضغط الرومان عليهم، فهاجر بعضهم إلى الحجاز وسكنوا يثرب وخيبر وفدك وتيماء ووادي القرى، وهي منطقة الواحات والوديان- الصالحة للزراعة- الواقعة بين يثرب وفلسطين «2» . وبناء على اعتماد ذلك الرأي تكون جنسية يهود الحجاز محددة بأنهم إسرائيليون، أي: ينتسبون إلى إسرائيل- وهو يعقوب عليه السلام لأن الآيات القرآنية التي تحدثت عنهم قد نسبتهم صراحة إلى إسرائيل دون استثناء.
«وربطت بينهم وبين بني إسرائيل الأولين من لدن موسى، بل من لدن يعقوب- الذي كان إسرائيل اسمه الثاني- على ما ذكره سفر التكوين» «3» . لذلك لا عبرة بما يذهب إليه بعض المؤرخين من أن يهود يثرب كانوا عربا تهودوا «4» ، أي:
اعتنقوا اليهودية. أما عرب المدينة- الأوس والخزرج- فينتمون إلى قبائل الأزد اليمنية التي هاجرت من اليمن بعد انهيار سد مأرب وتدهور الأحوال الاقتصادية فيها، وأرجح الأقوال أن مجيئهم إلى يثرب كان في حوالي أواخر القرن الرابع الميلادي «5» . ومعنى ذلك أن وصولهم إلى يثرب كان لاحقا على وصول اليهود إليها، الذين كانوا أصحاب النفوذ والثروة فيها، ومع ذلك فقد قبلوا سكنى العرب معهم في يثرب على مضض، وتراوحت العلاقات بينهم من الصراع إلى الحلف
(1) جواد علي- تاريخ العرب قبل الإسلام (6/ 513) .
(2)
أحمد إبراهيم الشريف، المرجع نفسه (ص 307) .
(3)
محمد عزة دروزة، تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم، (بيروت: المكتبة العصرية، 1389 هـ/ 1969 م) ، (ص 423) .
(4)
انظر تاريخ اليعقوبي (2/ 36) .
(5)
أحمد إبراهيم الشريف- المرجع نفسه (ص 315) ، وابن رسته (ص 64) .