الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في واشنطن في مطلع الستينيات: أنه دعا إلى المركز أحد العلماء الأمريكيين، الذين كانوا عائدين من زيارة إلى إفريقيا. لكي يحاضر في المركز عن مستقبل تلك القارة السمراء بعد خروج الاستعمار منها، فذكر ذلك العالم الأمريكي في محاضرته: أنه وجد أن إفريقيا بعد خروج الاستعمار منها بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن يجتاحها الإسلام أو الشيوعية؛ لأن إفريقيا كرهت الدول الاستعمارية، ولا تريد أن ترى لها ظلّا في إفريقيا. وأن إفريقيا لم تعد بعد زوال الاستعمار مكانا خصبا للمسيحية، ثم تساءل- العالم الأمريكي- ما موقفنا نحن في أمريكا؟ هل نناصر الشيوعية أم نناصر الإسلام؟ فإذا لم يسيطر الإسلام- ووسائل سيطرته سهلة ميسورة- فستسيطر الشيوعية، وبناء على هذا أعلن الرجل في محاضرته أنه ينبغي على أمريكا ألا تقف في سبيل ما يقوم به المسلمون لنشر الإسلام في إفريقيا؛ لأنهم ينشرون مع الدين الخلق والفضيلة، ويباعدون بيننا وبين الشيوعية «1» .
*
الأحلاف الغربية الإسلامية:
في خضم صراعه مع الشيوعية، في فترة الحرب الباردة، أقدم الغرب على إنشاء عدد من الأحلاف العسكرية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة (1945 م) حتى أن أحد الباحثين سمى هذه الفترة بفترة صناعة الأحلاف.
ففي غضون عشرين عاما قدمت ونفّذت ستة مشاريع أحلاف متعاقبة؛ إما كأحلاف عسكرية دفاعية، أو كأحلاف دينية سياسية وكان مهندس هذه الأحلاف الولايات المتحدة وبريطانيا «2» . وتم جر كثير من الدول الإسلامية إليها وإجبارها على الانضمام إليها. وقد امتدت هذه الأحلاف من الباكستان شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، وقد كان من أول وأبرز هذه المشروعات مشروع ظهر على مسرح السياسة العالمية في الأربعينيات المتأخرة والخمسينيات الباكرة، لإنشاء تجمع أو حلف أو جامعة إسلامية يتلخص هدفه- كما قدموه- في الوقوف كلحلف مقدس في وجه الشيوعية ليدافع عن الإسلام، ويواجه خطر الإلحاد، ويبدأ المشروع كما رسموه من موقع العالم الإسلامي الجغرافي والأيديولوجي في عالم بعد الحرب،
(1) انظر د. مصطفى رمضان، مرجع سابق (ص 76) نقلا عن محاضرة للدكتور محمود حب الله ألقيت في قاعة الشيخ محمد عبده بجامعة الأزهر عام (1968 م) .
(2)
راجع كتاب الرئيس نيكسون- انتهزوا الفرصة (ص 55) وما بعدها.
فبالموقع الجغرافي توضح الخريطة السياسية حقيقة مهمة، وهي أن أطول حدود مشتركة مباشرة للاتحاد السوفيتي هي مع الدول الإسلامية، ابتداء من الباكستان وأفغانستان، عبر إيران وتركيا، هذا فضلا عن أن جسم العالم الإسلامي الأساسي في مجموعه بعد هذا ظهير ضخم للكتلة الشيوعية، وإذا نحن حللنا جوهر الحلف على ضوء هذه الحقائق فسنجد أنه أساسا وفي الدرجة الأولى جزء لا يتجزء من استراتيجية الغرب لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ أعني إستراتيجية «الإحاطة والتطويق» المشهورة، التي تهدف إلى حصار الكتلة الشرقية عامة والاتحاد السوفيتي خاصة بسلسلة متصلة الحلقات من الأحلاف السياسية والعسكرية؛ تبدأ من النرويج حتى اليابان والحلف بهذا موجه إلى الخارج، أعني أنه يجند العالم الإسلامي ككل لينظر إلى خارج حدوده، وبالتحديد نحو تخومه الشمالية، وبعبارة أخرى- ورغم المخاطرة بالتكرار- ينبغي أن نصرّ على أن الحلف كان تعبيرا عن استراتيجية الكتلتين، وانعكاسا لمنطق الاستقطاب الثنائي، والحلف بهذا ليس حلفا دينيّا، رغم الاسم، ولكنه حلف سياسي عسكري «1» .
هذا الحلف لم يكتب له النجاح بل مات بالسكتة القلبية لكن الغرب لم ييأس، وإنما فكر على الفور في بدائل له، تخلو من القناع الديني، وتكون سياسية وعسكرية، وكان أولها هو ما يسمى بمنظمة الدفاع عن الشرق الأوسط «2» أو الميدو Medo التي تمتد من تركيا حتى الباكستان ومن إيران حتى مصر. «وقدم الغرب بنفسه هذا المشروع.. لكل من العرب وإسرائيل، فكانت تلك الخطوة القاتلة التي أودت بالمشروع في مهده. ومن هذه التجربة الحرجة بدأ الغرب يعدل تكتيكه- الغزو من الداخل- بدلا من أن يفرض الحلف نفسه من الخارج، والتمويه- هذه المرة- بمواجهة إسرائيل، بدلا من المشاركة معها، ومن هنا كان حلف بغداد؛ الذي دعت إليه- شكليّا- دول في منطقة الشرق الأوسط، للدفاع والأمن المشترك، وروجت له- تضليلا- على أساس أنه دفاع وحماية ضد إسرائيل والصهيونية. وقد تألف الحلف من باكستان وإيران والعراق وتركيا،
(1) د. جمال حمدان، المرجع السابق (ص 146) .
(2)
راجع كتاب الرئيس الأسبق نيكسون- انتهزوا الفرصة (ص 55) ترجمة حاتم غانم. الطبعة الأولى سنة (1992 م) القاهرة.
وانضمت إليه بريطانيا وأمريكا، وقد كانت الضغوط لحشد الدول العربية في حظيرة الحلف ملحمة تاريخية فاشلة «1» . غير أن الحلف في نطاقه الضيق الذي انتهى إليه، فقد فعاليته وبدأ البحث عن وريث له وهو على قيد الحياة» «2» .
كان حلف بغداد قد أنشئ سنة (1955 م) ، وبعد قيام ثورة العراق سنة (1958 م) انسحبت منه، وتحول اسمه إلى الحلف المركزي، ثم سقط وانتهى إلى الإهمال كما يقول الرئيس نيكسون «3» .
وكان البديل الذي قدمته أمريكا لهذه الأحلاف السابقة الفاشلة هو ما سمي بمشروع أيزنهاور، الذي قدم سنة (1957 م) لملأ الفراغ الذي قيل: إنه نشأ في الشرق الأوسط بعد هزيمة بريطانيا وضياع هيبتها بعد حرب السويس سنة (1956 م) وخروجها من المنطقة، بيد أن مصير هذا المشروع لم يكن أحسن حظّا من سابقه، فلقي المصير نفسه، ودفن المورث والموروث معا في وقت واحد، على حد تعبير الدكتور جمال حمدان «4» .
خلاصة ما تقدم: أن الكتلة الغربية بزعامة الولايات المتحدة قد حاولت باستماتة حشد العالم الإسلامي خلفها في صراعها مع الكتلة الشرقية الشيوعية، واستثمرات في ذلك مبدأ الجهاد الإسلامي- الذي طالما شوهته وأدانته- وجاءتها فرصة أخرى من الفرص التاريخية النادرة، التي غيرت التاريخ، وذلك حين اجتاحت القوات السوفيتية- نحو مائة ألف جندي- أفغانستان في نهاية سنة (1979 م) ، بهدف إيقاف المد الإسلامي، الذي بدأ ينطلق من أفغانستان، بتأثير الثورة الإسلامية التي تفجرت في إيران في مطلع سنة (1979 م) ذلك أن الاتحاد السوفيتي خشي من ذلك المد الإسلامي على الجمهوريات السوفيتية الإسلامية في آسيا الوسطى «5» .
والحقيقة أن الاتحاد السوفيتي كان أقام سلسلة من الانقلابات العسكرية في أفغانستان منذ بداية السبعينيات من هذا القرن ونصب عليها عددا من عملائه
(1) قام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بدور بارز في إسقاط حلف بغداد.
(2)
د. جمال حمدان، المرجع السابق (ص 148، 149) .
(3)
راجع كتاب الرئيس نيكسون (ص 55) .
(4)
المرجع السابق (ص 149) وانظر كتاب نيكسون (ص 55) .
(5)
هذه الجمهوريات التي استقلت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي هي كازاخستان وأوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان وقيرغيرستان.
الشيوعيين، ولما تبين لهم عجزهم عن السيطرة على ذلك البلد المسلم، المتمسك بإسلامه، وبعد قيام الثورة الإيرانية، أدرك أنه لا بد له أن يتدخل تدخلا سافرا إذا أراد أن يحمي مستعمراته في آسيا الوسطى، ولكنه بدلا من أن يحمي تلك المستعمرات فقد لقي هو نفسه حتفه هناك؛ لأن الولايات المتحدة لم تترك تلك الفرصة النادرة تفلت من يديها، وقررت أن تجعل من أفغانستان مقبرة تدفن فيها الاتحاد السوفيتي، أو كما سماه الأمريكان إمبراطورية الشر «1» . كانت تلك بالفعل فرصة نادرة لتثأر لنفسها من الاتحاد السوفيتي عما صنعه معها في حربها في فيتنام في حقبة الستينيات وبداية السبعينيات، فقد أحرجها وأزرى بهيبتها وجعلها تخرج من فيتنام ذليلة، وهو دولة عظمى، لقد رأى الناس في كل مكان السفير الأمريكي وهو يخرج مذعورا من سايجون متخفيا- حقّا كان موقفا مزريا بزعيمة العالم الحر.
الآن جاءت الفرصة للولايات المتحدة على طبق من ذهب، فرصة لم تكن من تخطيطها ولا من تفكيرها، فلم تدّع الولايات المتحدة أن غزو القوات السوفيتية لأفغانستان كان من تدبيرها ولا من تفكيرها ولا من تخطيطها، ولكنها إرادة الله التي عجلت بزوال دولة الكفر والإلحاد، وكان غزو القوات السوفيتية لأفغانستان هو القشة التي قصمت ظهر البعير- كما يقول المثل العربي- صحيح أن زوال الاتحاد السوفيتي كان حتما مقضيّا، وزوال الشيوعية كان آتيا لا محالة؛ لأنه نظام ضد الفطرة الإنسانية، وأي نظام أو فكر أو مذهب يضاد الفطرة الإنسانية لا بد من سقوطه في نهاية المطاف حتى لو بدا أنه ناجح في البداية؛ لأن الزبد لا بد أن يذهب جفاء ولا يبقى في الأرض إلا ما ينفع الناس، كما أخبر بذلك الحق تبارك وتعالى في كتابه العزيز.
ولقد توقع الكثير من المفكرين الغربيين، وفيهم روس، بزوال الشيوعية، وتفكك الاتحاد السوفيتي، قبل نهاية القرن العشرين بل كان أسبق من هؤلاء جميعا المفكر العربي العملاق عباس محمود العقاد فقد توقع في كتابه «لا استعمار ولا شيوعية» «2» توقع سقوط الشيوعية وزوالها، وزوال الاتحاد السوفيتي قبل نهاية
(1) راجع كلام الرئيس نيكسون عن إمبراطورية الشر هذه في كتابه السابق (ص 79) وما بعدها.
(2)
راجع كتاب العقائد هذا من (ص 9) وما بعدها- الطبعة الثانية- دار الكتاب العربي- بيروت- لبنان سنة (1971 م) .
القرن العشرين، بل جاء السقوط وحل الانهيار أسرع مما توقع، لا أريد للحديث أن يجنح بنا بعيدا عما قصدنا إيضاحه في هذا البحث، وهو أن الولايات المتحدة جاءتها فرصة نادرة لتوجيه الضربة القاضية لعدوها الخطير الاتحاد السوفيتي، دون أن تدخل هي بشكل مباشر ودون أن تتكلف الكثير، فها هم المسلمون جاهزون ليقوموا بالدور نيابة عنها وحماسهم لدحر الشيوعية لا حدود له، ومبدأ الجهاد الإسلامي أنجح وسيلة لتحقيق كل هذا، وهكذا أخذت الولايات المتحدة تحرض الدول الإسلامية المتحالفة معها، سواء أكانت قريبة من أفغانستان أو بعيدة عنها، أخذت تحرض الدول الإسلامية لحشد المجاهدين وملأ الساحة الأفغانية بالشباب المسلم، الذي أخذ يتدافع بقوة وبحماسة لا نظير لها من أجل نصرة أشقائهم في العقيدة، وذهب عشرات الآلاف من مصر والسعودية واليمن والأردن والسودان وفلسطين والعراق وسوريا ولبنان، وبلاد المغرب العربي، ومن باكستان وإيران وغيرها من الدول الإسلامية، بل تطوع شباب مسلم للدفاع عن أفغانستان ضد الغزو السوفيتي من مسلمي أمريكا وأوربا، وقد وصل عدد هؤلاء المجاهدين- من كل تلك البلاد- نحو ربع مليون مجاهد، وأطلق عليهم المجاهدون الأفغان.
«وجعلت لهم أمريكا مراكز يتجمعون فيها قريبا من الحدود الأفغانية الباكستانية في مدينة بشاور بغربي باكستان، وكانوا يتلقون في هذه المراكز تدريبا عسكريّا مكثفا، على حرب العصابات، تشرف عليه الولايات المتحدة الأمريكية، وتدعمهم بالسلاح «1» ، وكانت بعض الدول البترولية، وعلى رأسها السعودية تدعمهم بالمال، وقدمت دول عربية أخرى وعلى رأسها مصر، الدعم بالرجال، وكانت عملية التطوع تتم تحت نظر السلطات، أو حتى بإيعاز منها «2» .
ونجحت هذه القوات المجاهدة في جعل مهمة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان مستحيلة، وأجبرته على أن ينسحب في مشهد من أصعب مشاهد التاريخ، حقّا لقد كان انسحاب السوفييت من أفغانستان مخزيا، وهل هناك أخزى من أن يفر جيش عملاق مدجج بالسلاح المتطور من أمام المجاهدين، الذي كان معظم تسليحهم من مخلفات الحرب العالمية الثانية، ولقد رويت في ذلك أعاجيب تناقلتها
(1) ريتشارد نيكسون- انتهزوا الفرصة (ص 13) .
(2)
د. مصطفى رمضان، مرجع سابق (ص 78، 79) .
وكالات الأنباء ووسائل الإعلام العالمية، ومنها أن المجاهدين الأفغان كانوا يسقطون الطائرات بالحجارة التي تقذفها المقاليع، المهم تحقق الهدف الاستراتيجي الذي ظل الغرب كله يخطط له منذ نصف قرن «1» ، وهزم الاتحاد السوفيتي، ولم يخرج من أفغانستان فقط، وإنما خرج من الدنيا كلها وأصبح أحاديث تروى بعد أن كان أحد العملاقين العالميين، وسبحان مالك الملك ومغير الأحوال.
إن من يقرأ كتاب الرئيس نيكسون «نصر بلا حرب» الذي ظهر سنة (1989 م) يعرف كيف أخذ الغرب يخطط بقيادة الولايات المتحدة لهزيمة الاتحاد السوفيتي بدون حرب، وذلك عن طريق الإنفاق الهائل على التسليح المتطور للغاية وغزو الفضاء، وهو يعرف أن الاتحاد السوفيتي لم يقبل إلا بأن ينافس في هذا الميدان وقد نافس بالفعل وأصبح القوة العظمى الثانية في العالم في مجال السلاح، ولكن بعد أن تكبد نفقات باهظة لم يقو اقتصاده على تحملها وكان ذلك على حساب رفاهية المواطن السوفيتي، ومستوى معيشته، بحيث إنه في الوقت الذي كان رواد الفضاء الروسي يجوبون أجواء السماء ويدورون حول أفلاكها، في ذلك الوقت كان المواطن السوفيتي على الأرض يئن من أعباء المعيشة ويجد مشقة بالغة في الحصول على الغذاء اليومي، وتعرف الدنيا كلها أن الاتحاد السوفيتي- تلك القوة العسكرية الرهيبة- هو مخترع الطوابير الطويلة من البشر التي تقف أمام المخابز للحصول على الخبز، وأمام محلات البقالة للحصول على بقية الطلبات الآخرى للحياة، وكلها كانت دون الكفاية ومن أردأ الأنواع، وليس هذا في ميدان الغذاء فقط، بل في ميدان الملابس وحاجيات الإنسان الآخرى، ناهيك عن صعوبة الحصول على مسكن ملائم
…
إلخ، يحدث ذلك في الاتحاد السوفيتي الذي كان يشغل مساحة 20 من اليابس على الكرة الأرضية، وموارده الطبيعية، ومحاصيله الزراعية بدون حدود، ولكن سوء الإدارة- إدارة الدولة- والفساد أدى إلى كل هذه الصعوبات، وفي النهاية إلى زوال إمبراطورية الشر على حد تعبير الرئيس الأمريكي ريجان، والذي كان يزيد من معاناة الشعوب السوفيتية التي وعدوها بجنة الشيوعية أنها كانت ترى وتسمع عن حياة المواطن العادي- وبصفة خاصة الطبقة العاملة- في الدول الرأسمالية الغربية، أنه يعيش حياة حرة كريمة، بل مترفة ومما كان
(1) ريتشارد نيكسون- انتهزوا الفرصة (ص 13) .