الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أشد إجهادا من القتال، وكان في هذا كسب معنوي للمسلمين» «1» . وقد نجحت سياسة الحصار الاقتصادي ضد قريش، واضطرتها إلى تغيير طريقها المعتاد، وأن تتنكّب طرقا أخرى وعرة عبر الصحراء حينا وعلى ساحل البحر حينا آخر، وفوق ما في هذا من خسارة جسيمة لقريش فهو شيء لم تألفه ولم تتعود عليه، وهو يحط من هيبتها بين العرب ويزري بمكانتها.
والأخطر من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعها تنعم بهذه الطرق البديلة التي ظنّتها بعيدة عن متناول المسلمين، فقد لاحقها المسلمون في كل طريق سلكته مما يدل على أن ضرب حصار اقتصادي صارم عليها كان هدفا رئيسيّا من أهداف السياسة النبوية فبعد بدر تجنّبت قريش المرور في الطريق الذي يمر بالمدينة؛ لئلا تصطدم بالمسلمين، فسلكت طريقا آخر- يمر عبر نجد إلى العراق- متجشمة بذلك متاعب كبيرة، وكانت تظن أنها أصبحت في أمان من تصدّي المسلمين لها، ولكن كانت مفاجأتها كبيرة، عندما وجدت المسلمين لها بالمرصاد. فقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صفوان ابن أمية بن خلف خرج على رأس قافلة فيها أموال كثيرة، سالكا نجد إلى العراق.
فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة رضى الله عنه على رأس مائة من الصحابة فاعترضوا طريق القافلة وأصابوها جميعها، وأفلت منهم صفوان ومن معه من أعيان القوم، وقدم زيد بالعير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخمّسها فبلغ الخمس عشرين ألف درهم، وقسّم الرسول ما بقي على أهل السرية «2» .
أمر سرية زيد هذه يخرج عن نطاق بحثنا؛ لأنها حدثث بعد بدر، لكني ذكرتها لدلالتها على سياسة الحصار الاقتصادي الذي ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم على قريش وستقدم لنا
سرية عبد الله بن جحش
دليلا آخر على هذه السياسة النبوية الحكيمة.
* سرية عبد الله بن جحش:
سرية عبد الله بن جحش رضى الله عنه هي آخر الحملات الصغيرة التي كان يجردها النبي قبل معركة بدر الكبرى، وقد وعدنا أن نخص هذه السرية بكلمة خاصة مفصلة؛ لما ترتب عليها من نتائج، ولطبيعتها أيضا. ونحن قد رأينا أن معظم الغزوات التي قادها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه والسرايا التي أرسل أحد أصحابه- كانت وجهتها الطريق
(1) محمد عبد الفتاح إبراهيم- محمد القائد (ص 18، 19) .
(2)
ابن سعد- الطبقات الكبرى (2/ 36) .
الساحلي بين مكة والمدينة؛ بهدف تهديد الطريق التجاري الرئيسي الذي تمر منه تجارة قريش. أمّا سريّة عبد الله بن جحش، فقد شذّت عن هذه القاعدة، فقد أمرت هذه السرية باستطلاع أخبار قريش من مكان قريب جدّا من مكة- وادي نخلة بين مكة والطائف- وهو اتجاه جديد في سياسة الحصار ضد قريش، فها هو الخطر أصبح قريبا منها، وفي عقر دارها.
وقد أمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش على اثني عشر في رواية ابن سعد وعلى ثمانية في رواية ابن إسحاق، وهي التي نثبتها هنا يقول ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب مقفله من بدر الأولى، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتابا، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره من أصحابه أحدا
…
فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فيه فإذا فيه: «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصّد بها قريشا وتعلّم لنا من أخبارهم» فلما نظر عبد الله في الكتاب قال: سمعا وطاعة، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشا حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحدا منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلّف عنه منهم أحد، وسلك على الحجاز، حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له: بحران- أضلّ سعد بن أبي وقّاص وعتبة وابن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقيانه، فتخلّفا عليه في طلبه.
ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة فمرّت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة من تجارة قريش فيها عمرو بن الحضرمي
…
وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل المخزوميان، والحكم بن كيسان، مولى هشام بن الغيرة، فلمّا رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريبا منهم، فأشرف لهم عكّاشة بن محصن، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا وقالوا: عمّار لا بأس عليكم منهم، وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من رجب، فقال القوم: والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلنّ الحرم فليمتنعنّ منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنّهم في الشهر الحرام، فتردّد القوم، وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم وأجمعلوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي
عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت القوم نوفل بن عبد الله، فأعجزهم، وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآهم- قال:«ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام» فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنّفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدّم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال
…
فلمّا أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا [البقرة: 217] .
فلما نزل القرآن بهذا من الأمر فرج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشّفق- الخوف- قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا- يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان- فإنّا نخشاكم عليهما فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم» فقدم سعد وعتبة، ففداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فأما الحكم بن كيسان فأسلم، فحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافرا «1» .
هذا ملخص رواية ابن إسحاق عن سريّة عبد الله بن جحش رضى الله عنه التي كانت في نهاية رجب من السنة الثانية من الهجرة. وهذه السرية كانت على جانب عظيم من الأهمية بالنسبة لعلاقات المسلمين وقريش في هذه الفترة. وقد ترتبت عليها نتائج كبيرة، وكشفت للمسلمين عن أشياء- ربما كانت خافية عنهم- وعلى رأس ذلك موقف اليهود، الذين كشفوا عن نواياهم الخبيثة في التحريض والتحريش على الحرب بين المسلمين وقريش. ولذلك أخذوا يردّدون:«عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله، عمرو عمرت الحرب، والحضرميّ حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله وقدت الحرب» يعني أرادوا أن يشعلوها حربا على المسلمين، ولكن عليهم وعلى
(1) ابن هشام (2/ 240- 242) .
جميع أعداء الله من المشركين ستدور الدوائر. وسينصر الله نبيه ويعز دينه وجنده، ويهزم الأحزاب وحده. وسرية عبد الله بن جحش كانت حملة استطلاع، وجمع معلومات، ورصد أخبار عن قريش، ولم تكن حملة قتال أو تصدّ لعير قريش؛ إذ لا يعقل أن يرسل النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أو حتى اثنى عشر- حسب رواية ابن سعد- من أصحابه ليقاتلوا قريشا في عقر دارها، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يريدهم أن يقاتلوا لكان حجم الحملة أكبر من هذا بكثير؛ فالهدف إذا هو جمع المعلومات، وعندئذ كلما كان العدد أقل كانت الفرصة أكبر في تحقيق الهدف؛ لأن القدرة على الاستخفاء- وهو من لوازم جمع المعلومات والاستطلاع- تكون أكبر.
والدليل على أنها ليست حملة قتال قول النبي صلى الله عليه وسلم عند عودتهم: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام» والقتال إذن جاء اجتهادا من قائد الحملة ورفاقه. فقائد الحملة وهو عبد الله بن جحش لما رأى عير قريش وعليها تجارة وتوشك أن تدخل حرم مكة لعلّه ذكر ما صنع المشركون بهم حيث طردوهم من ديارهم وصادروا أموالهم، لعله ذكر ذلك فثارت في نفسه روح الثأر والانتقام من قريش وإذلالها في عقر دارها، أليس أخذ أبو سفيان بن حرب دار عبد الله بن جحش في مكة وباعها؟
إذن القتال حدث نتيجة اجتهاد شخصي من قائد الحملة، لا بأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم فأوامر الرسول كانت صريحة واضحة «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصّد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم» «1» ؛ فليس في الأوامر ذكر للقتال أو التعرض لقوافل قريش.
ولكن المستشرقين مولعون بتشويه التاريخ الإسلامي، وتلفيق الروايات وتفسيرها تفسيرا خاصّا ليصلوا إلى ما يريدون من معلومات ليرتبوا عليها النتائج التي تعجبهم وتتفق مع مخططاتهم العدائية للإسلام؛ فها هو منتجومري وات- صاحب كتاب محمد في المدينة- يحاول أن يوحي لقارئه، وهو قارئ غربي أوربي معلوماته عن الإسلام وتاريخه ضئيلة إن لم تكن معدومة، ولذلك فإن هذا القارئ معذور إذا وقع فريسة للمعلومات الخاطئة التي يقدمها من يسمّون أنفسهم مستشرقين عن الإسلام- يحاول منتجومري أن يوحي لقارئه الغربي بأن المسلمين كانوا قطاع طرق، ويفسّر بعض الكلمات تفسيرا غربيا وكأنه يعرف أسرار اللغة العربية وما تدل عليه مفرداتها
(1) ابن هشام (2/ 239) .
أكثر من أهلها، فيقول:«كان الشيء الأساسي في أوامر محمد المختومة إلى عبد الله بن جحش، أن يذهب إلى نخلة، وينصب كمينا لقافلة قرشية، والشيء الثاني أن يرفع تقريرا لمحمد، وهذه إضافة لاحقة تحاول أن تجعل كلمة- ترصّدوا- بمعنى «راقبوا» بدلا من «ينصب كمينا» وهكذا ترفع المسؤولية عن محمد بسبب أي معركة دموية، ومما لا شك فيه أن محمدا أمر بالقيام بهذه المهمة، مع علمه بأنها ربما تؤدي إلى سقوط القتلى من رجاله أو من رجال أعدائه» «1» . هذا كلام منتجومري وات.
ونحن بادئ ذي بدء لا نعتبر التعرض لقوافل قريش من قبل المسلمين تهمة ندفعها، بل إن هذا حقهم، وهو العدل بعينه قصاصا من قريش التي صادرت أموالهم وديارهم وحرياتهم، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه يعترض لعير قريش أكثر من مرة كما رأيت، كذلك أمر أصحابه بالتعرض لها فليس في ذلك عيب، بل هو واجب عليهم؛ فالمسلم مطالب برفع الظلم أينما وكيفما كان، ومن باب أولى فعلى المسلم الحقّ أن يحارب الظلم الواقع عليه هو نفسه.
ولكن الذي نلاحظه أن هذا المستشرق يحاول أن يفهم اللغة العربية بطريقة تغاير ما تدل عليه مفرداتها، وبغير الطريقة التي يفهمها بها أهلها. فكلمة- ترصّدوا- يفهمها الخواجة بمعنى «ينصب كمينا» لا أدري كيف؟ ويجد من نفسه الجرأة على القول: إن هذه إضافة لاحقة تحاول أن تجعل كلمة ترصّدوا بمعنى «راقبوا» بدلا من «ينصب كمينا» وهكذا ترفع المسؤولية عن محمد
…
إلخ. ولم يقل لنا الأستاذ- وات-: متى أضيفت هذه الإضافة؟ وممّن كان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى المساءلة؟ أمن المشركين أم من هذا المستشرق الذي جاء في آخر الزمان يفسر تاريخ الإسلام على هواه؟ ويمضي هذا المستشرق في ترهاته فيقول: «ومما لا شك فيه أن محمدا أمر بالقيام بهذه المهمة، مع علمه بأنها ربما تؤدي إلى سقوط القتلى من رجاله أو من رجال أعدائه» الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المعصوم- يقول لأصحابه: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام» والأستاذ- وات- يحاول أن يوحي كما لو أن في الأمر خديعة أو تغرير بالمسلمين، وتهرب من جانب النبي- حاشا لله- من المسؤولية. وهذا بهتان عظيم، وافتراء على الحقيقة، وليّ للنصوص وتحريف
(1) منتجومري وات- محمد في المدينة (ص 12) .
لمعناها. هذا هو فهم المستشرقين للتاريخ الإسلامي، وتدخلاتهم لتفسير النصوص وتقديمها لقارئهم الغربي مشوهة محرّفة، وقد نجحوا في إقامة حائط كبير بين القارئ الغربي وبين حقيقة الإسلام، ولو كان لدى هؤلاء المؤرخين الأوربيين قدر من النزاهة وحرية التفكير- كما يزعمون ويدعون- لاختلف موقف القارئ العادي في أوربا من الإسلام عنه اليوم، فليس سرّا أن القارئ الأوربي الآن يميل إلى تصديق أية أخبار مشوهة عن الإسلام؛ لأن المفكرين الغربيين- الذين أجرموا في حق القارئ الغربي نفسه- يقدمون له الإسلام كدين للخرافات والأساطير، طبعا نحن نقول هذا الكلام؛ لأنه ينطبق على الغالبية المطلقة من المستشرقين، الذين يعجزون عن فهم اللغة العربية التي يقرؤون بها تاريخ الإسلام، فيفسرون النصوص بالطريقة التي تعجبهم، وهذا لا يمنع أن هناك قلة من المستشرقين تحاول الإنصاف ولكل قاعدة شواذ.
لعلي أطلت الوقوف عند كلام منتجومري وات، ولكن العذر أن الإنسان يشعر بالأسف الشديد عندما يقرأ لهؤلاء الناس، أقول: إلى متى ندع- نحن المسلمين- أمر ديننا لهؤلاء يمرحون فيه ويصولون ويجولون؟ ولماذا لا يتصدى علماء الإسلام للكتابة في تاريخ الإسلام بلغات أجنبية ليقدموا الإسلام للقارئ الأجنبي كما هو لا كما يريده المستشرقون وإذا عجزنا عن هذا، فهل نعجز عن تناول هذه المؤلفات- ومعظمها مترجم في لغتنا العربية- بالنقد والتفنيد وتبيان ما فيها من أباطيل؟!.
على كلّ دعنا الآن من هذا كله ونعود لعبد الله بن جحش رضى الله عنه لنؤكد القول بأن سريته كانت سرية معلومات، لا سرية قتال أو تعرض لقوافل، وقد أحيط أمرها بسرّية تامة- حسب الطاقة- كالشأن دائما في مثل هذه المهمات. فالأوامر أعطيت لقائد الحملة مختومة ليظل أمرها سرّا بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين من كتب الكتاب من كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم ثم سلوك الحملة لطريق يتجه نحو الشرق- نحو نجد- وكان هدفها الجنوب، وكان القصد من ذلك أن تبتعد عن عيون قريش وجواسيسها، الذين لا شك في وجودهم، وقد تعودت قريش أن تقابل المسلمين في الشمال والغرب ولم تتصور أن يأتوها من الشرق، كل هذا أدعى إلى أن تنجح الحملة في مهمتها، وتعود إلى المدينة سالمة.
قلنا: إن قائد الحملة اجتهد في الموضوع مخالفا بذلك تعليمات الرسول صلى الله عليه وسلم واستولى على القافلة وقتل أحد رجالها- عمرو بن الحضرمي- وأسر اثنان- عثمان بن
عبد الله والحكم بن كيسان- ولما كان هذا كله حدث في آخر شهر رجب، ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بالقتال، فقد أوقف التصرف في القضية كلها حتى يحسم الله تعالى الموقف بوحي من عنده. لم يطل الانتظار، فقد نزل قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة: 217] .
وكانت قريش قد حاولت أن تستغل الحادثة في الإساءة إلى سمعة النبي صلى الله عليه وسلم بين العرب- الذين يعظمون الأشهر الحرم- ولكن الله تعالى يرد عليهم بما معناه أن القتال في الشهر الحرام كبير، ولكن من الذي يتساءل عن الحرمات وعن الأشهر الحرم وعما يحل فيها ويحرم؟ قريش التي انتهكت كل الحرمات، وأخرجت المسلمين من الحرم وهم أهله، وصدوهم عن المسجد الحرام، وعن سبيل الله وكل ذلك أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام، كذلك فتنة المسلم عن دينه، ومحاولة إعادته إلى الكفر أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا [البقرة: 217] أي:
لن يكفوا عن محاولاتهم لفتنة المسلمين عن دينهم فهم كما يقول ابن إسحاق:
«مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين» .
فلما حسم القرآن الكريم الموقف على هذا النحو، ورفع الحرج عن المسلمين الذين قاموا بهذا العمل، واعتبر عملهم أمرا مشروعا لا جناح عليهم فيه، تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم في الغنائم فخمسها- خمس لله وللرسول إلخ- والأربعة الأخماس لأصحاب السرية، وانتهى الموقف. ولكن من الممكن أن نعتبر أن سرية عبد الله بن حجش كانت مقدمة لغزوة بدر الكبرى، التي سماها الله فرقانا؛ لأنها فرقت بين عهدين وتاريخين وفرقت بين الحق والباطل، ووجهت تاريخ الإنسانية كلها وجهة جديدة، ألم يستغل أبو جهل- عليه لعنة الله- مقتل عمرو بن الحضرمي في تحريض قريش على القتال في بدر فمن المعروف أن روح الكف عن القتال كادت تسري في زعماء قريش، وكادوا يرجعون إلى مكة دون قتال، إذ إن القتال أصبح لا مبرر له- وقد نجت عيرهم- من وجهة نظر بعضهم، وقصة عتبة بن ربيعة وتحريضه الناس على الرجوع إلى مكة دون قتال قصة معروفة ومشهورة، حتى يروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:«إن يكن عند القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر» يقصد عتبة بن ربيعة، فقد كان يركب جملا أحمر. ولكن دعوة عتبة بن ربيعة ذهبت أدراج الرياح تحت صيحات دعاة الحرب من أمثال أبي جهل- لعنة الله- فقد بعث إلى عامر بن
الحضرمي، وأثار فيه جذوة الثأر لمقتل أخيه- عمرو بن الخضرمي- «فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ: وا عمراه!! وا عمراه!! فحميت الحرب وحقب أمر الناس «1» واستوسقوا على ما هم عليه من الشر، فأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة» «2» وهكذا استغلت هذه الحادثة في إشعال أول معركة بين المسلمين والمشركين، وهي معركة بدر الكبرى.
وخلاصة القول: إن سرية عبد الله بن جحش كانت نهاية مرحلة، هي المرحلة التي بدأت مع الهجرة، وهي مرحلة الدراسة والاستعداد والتدريب على القتال، وجمع المعلومات والأخبار عن قريش، واستطلاع الطرق والمسالك التي تسلكها، وإقامة محالفات وصداقات مع القبائل ذات الشأن في منطقة الساحل التي تطرقها قريش، لإحكام حلقة الحصار عليها، لإجبارها على الإذعان والتسليم.
وكما رأينا فقد كان الطابع العام للسياسة النبوية تجاه قريش في هذه المرحلة التلويح بالقوة، وإفهامها أنها ليست مستبعدة عند اللزوم، فلما جاءت سرية عبد الله ابن جحش آذنت بنهاية المرحلة السابقة وبداية مرحلة جديدة، هي مرحلة الحرب الصريحة المكشوفة مع قريش التي بدأت ببدر الكبرى، ولم تنته حتى أذعنت قريش، ودخل رسول الله مكة ظافرا منتصرا في رمضان من العام الثامن للهجرة.
(1) حقب أمر الناس أي: اشتدّ، واستوسقوا أي: اجتمعوا.
(2)
ابن هشام (2/ 264) .