الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن الإسلام ورسوله وحضارته، فإن أصواتهم قد ضاعت تماما وسط الركام الهائل من الحقد والكراهية للإسلام والمسلمين.
*
بداية الاستشراق:
الاستشراق- دون الدخول في تفاصيل طويلة- تحدد المفهوم الجغرافي لكلمة الشرق التي اشتق منها المصطلح، ولأننا نعدها كلمة ذات مدلول حضاري أكثر منها ذات مدلول جغرافي، ولأننا نرى أن الأندلس (شبه جزيرة أيبريا) وإن كانت تعد من الغرب جغرافيّا، فهي تنسب إلى الشرق حضاريّا أثناء الوجود العربي الإسلامي فيها، والذي استمر نحوا من ثمانية قرون، كانت خلالها مركزا متقدما من مراكز الحضارة العربية الإسلامية، وعلى هذا الأساس نعد الذين يتناولون الحضارة الإسلامية في الأندلس مستشرقين، حتى ولو كانوا من أبناء الأسبان أنفسهم.
لكل هذا نقول: إن الاستشراق هو حركة أو ظاهرة أو مصطلح علمي قديم، تناول جميع الدراسات المشرقية بصفة عامة، والدراسات العربية والإسلامية بصفة خاصة، والمستشرقون هم أولئك العلماء- رجالا ونساء- الذين كرسوا حياتهم للدراسات الشرقية، ولأغراض متباينة، والذي يهمنا هنا هو الاستشراق الخاص بالدراسات العربية والإسلامية، وقد تناول هؤلاء المستشرقون الإسلام عقيدة وشريعة وحضارة من جميع النواحي، كما سبقت الإشارة.
وإذا كان الاستشراق قد بدأ في الأوساط الدينية، وفي الكنائس والأديرة، ومن منطلق البغض والتعصب والحقد على الإسلام ورسوله ورسالته، وتأثرا بالخليفة التاريخية التي أفضنا في الحديث عنها في مطلع هذا البحث، أقول: إذا كان الاستشراق قد بدأ هذه البداية العدائية الضيقة الأفق، إلا أنه أخذ يتطور ويتسع نطاقه بمرور الزمن، حتى عم كل أرجاء أوربا، ثم العالم الجديد فيما بعد، بحيث لا تكاد توجد جامعة أو معهد علمي في كل أوربا وأمريكا الآن إلا وهي تضم قسما أو أكثر للدراسات العربية والإسلامية.
والذي يطالع بعض الكتب والأبحاث التي ترجمت للمستشرقين فقط، وذكرت أسماءهم وعناوين مؤلفاتهم، مثل كتاب «المستشرقون» للأستاذ نجيب العقيقي، وهو في ثلاثة مجلدات كبار، ويزيد عدد صفحاته على ألف وخمسمائة صفحة، يدرك كثرة عدد المستشرقين كثرة هائلة، فهم يعدون بالآلاف، وليس بالمئات، مع أن هذا الكتاب ألف منذ عشرات السنين، ولم يستوعب كل شيء بطبيعة الحال عن المستشرقين،
ومن هذا القبيل كتب أصغر حجما وتعنى بالتأريخ للاستشراق والمستشرقين، في أقطار معينة، مثل دراسة المستشرق الألماني رودي بارت بعنوان «الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية» ، ودراسة الدكتور إسحاق موسى الحسيني بعنوان «علماء المشرقيات في انجلترا»
…
إلخ، من يطالع هذه الكتب وأمثالها يدرك حجم واتساع حركة الاستشراق، وأنها وإن بدأت ضيقة الأفق في الأوساط الكنسية والديرية، إلا أنها بدأت تتخلص من بعض النظرات المتعصبة الحاقدة، وبدأنا نقرأ أبحاثا فيها كثير من الإنصاف للإسلام ورسوله وحضارته، بل بدأنا نرى علماء كثيرين في الغرب يعترفون صراحة بفضل الحضارة العربية الإسلامية على الحضارة الأوربية، وأنها كانت الأساس والشرارة التي انطلقت منها النهضة الأوربية، ومن هذا القبيل كتاب المستشرقة الألمانية سيجريد هونكه «شمس الله تسطع على الغرب» .
لكن للأسف الشديد، وعلى الرغم من تحرر كثير من المستشرقين من نظرة الحقد والتعصب على الإسلام في كتاباتهم وأبحاثهم، إلا أن ذلك كله ظل في دائرة العلماء والأوساط الأكاديمية، وظلت الصورة الشائعة الكريهة التي رسمتها الأبحاث المتعصبة هي الباقية والمترسبة في الذهنية الأوربية بصفة عامة، فنظرة الرجل الأوربي العادي إلى الإسلام، وكل من وما ينتمي إليه نظرة يحكمها الاستعلاء والازدراء؛ لأن مناهج التعليم التي يتلقاها الأطفال في أوربا وأمريكا حافلة بكل ما يحقر من الإسلام والمسلمين، فعندما يشب هؤلاء الأطفال، وينهون دراساتهم، ويصبحون رجالا في مواقع المسؤولية وإصدار القرار؛ فإنهم لا يستطيعون انفكاكا من الصورة القبيحة التي تلقوها عن الإسلام في مراحل التعليم المختلفة، فتكون تصرفاتهم وقراراتهم فيما يتعلق بعلاقاتهم بالعالم الإسلامي محكومة بصفة عامة بهذه الخلفية، ولا تؤثر فيها مطلقا الدراسات المنصفة؛ لأنها تجد الرواج على نطاق واسع، ويبدو أن الأمر متعمد، والدلائل على ذلك لا حصر لها.
نعود إلى الحديث عن بداية الاستشراق والدراسات الاستشراقية، تلك البداية التي لم يحسم القول فيها حتى الآن، وإن كنا نتفق مع من يرى أنها تعود إلى بدايات ظهور الإسلام، واحتكاكه بالعالم المسيحي الذي بدأ أولا في ساحات القتال كما أشرنا فيما سبق.
ولقد بدأ الاستشراق في الشرق نفسه قبل أن يبدأ في الغرب، وعلى أيدي رجال اللاهوت المسيحي في الكنائس والأديرة، فالقديس يوحنا الدمشقي (80- 137 هـ/ 700- 755 م) الذي كان واحدا من كبار رجال الكنيسة في الشام،
وكان قريبا من البلاط الأموي، إلا أنه كان شديد البغض للإسلام والمسلمين، ولعله أول من بدأ في التشكيك في الإسلام، وهز صورة النبي صلى الله عليه وسلم والإساءة إليه، فقد لقن أنصاره قصصا وأخبارا ملفقة ومزورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروجوها على نطاق واسع حتى وجدت طريقها إلى كتب التفسير، وبصفة خاصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة رضي الله عنه، فقد زعموا- زورا وبهتانا- أن ذلك الزواج كان وراءه قصة عشق بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين زينب «1» كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف: 5] .
وهذه الفرية التي ابتدعها ولفقها ذلك النصراني الحاقد راجت للأسف الشديد، وقبلها مفسر كبير كابن جرير الطبري، وتناقلها عنه غيره، فكانت أعظم فرية افتريت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجافي تماما خلقه، وما طبع عليه من الطهر والعفة، ولم يثبت في الصحاح شيء من هذا، ولم ينقل عن أحد من الصحابة بطريق مقبول، وهذا الذي لفقه يوحنا الدمشقي صورة مصغرة من تلفيقات رجال اللاهوت المسيحي لتقويض أسس العقيدة الإسلامية، فالسلطات الكنسية شرعت منذ وقت مبكر تهاجم بالجدل والمناظرات أسس العقيدة الإسلامية بأسلحة فكرية عن طريق انتشار الثقافات، بما تحمله من الدس والشبهات، والثقافات في الحقيقة تغزو المجتمعات، وقد يكون غزوها أشد فتكا من غزو الجيوش العسكرية.
يقول المستشرق الفرنسي ألفريد غيوم- في مقال له بعنوان «الفلسفة وعلم الكلام» : «وبمرور الزمن أسلم الكثير من اليهود والنصارى تخلصا من الجزية التي كانت تجبى من الموحدين، من أهل الكتاب من غير المسلمين، فهؤلاء الذين دخلوا كنف الدين- الإسلامي- حملوا معهم ثقافة الإمبراطورية البيزنطية، وثقافة اليونان، وهذه الانشقاقات الواسعة أفزعت السلطات الكنسية، فشرعت تهاجم بالجدل والمناظرات أسس العقيدة الإسلامية» .
ثم يستطرد قائلا: «فالقديس يوحنا الدمشقي كان يستطيع أثناء مناظراته إفحام مناظريه المسلمين ببراهين ثابتة مطواعة.... كان يوحنا وأمثاله يجادلون بحرارة شديدة، ويستدلون بالإسرائيليات، فإذا وجدوا الفرصة سانحة دسوا ما يريدون دسه على المسلمين، وربما اتخذوا من الروايات الإسرائيلية التي تقول: إن داود
(1) المستشار محمد عزت إسماعيل الطهطاوي- التبشير والاستشراق أحقاد وحملات (ص 36) من مطبوعات مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة (1377 هـ/ 1977 م) .
عليه السلام أحب زوجة قائده أوريا، وإنه عمل على التخلص منه حتى قتل، فتزوجها داود بعده، ربما عملوا مقارنات ومعادلات بينها وبين ما زعموه في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب» «1» .
هذا الذي لفقه وزوره يوحنا الدمشقي؛ الذي يوصف بالقديس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في زواجه من زينب بنت جحش قد يظنه بعض الناس أمرا هينا، ولكنه عند الله عظيم، فهو تشويه لصورة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يعد المثل الأعلى لكل مسلم، وإذا شوهت صورة النبي المعصوم، فماذا يبقى للمسلمين من قيم وأخلاق؟!.
يقول الأستاذ عباس محمود العقاد في هذا الصدد «2» : «وما اتفق خصوم الإسلام عن سوء نية على شيء كما اتفقوا على خطة التبشير في موضوع زواج النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص، فكلهم يحسب أن المقتل الذي يصاب منه الإسلام في هذا الموضوع هو تشويه سمعة النبي صلى الله عليه وسلم، وتمثيله لأتباعه في صورة معينة، لا تلائم شرف النبوة، ولا يتصف صاحبها بفضيلة الصدق في طلب الإصلاح، وأي صورة تغنيهم في هذا الغرض الأثيم كما تغنيهم صورة الرجل الشهواني الغارق في لذات الجسد، العازف في معيشته البيتية ورسالته العامة عن عفاف القلب والروح؟! وإنهم لعلى صواب في الخطة التي تخيروها لإصابة الإسلام في مقتل من هذا الطريق الوجيز، وإنهم لعلى أشد الخطأ في اختيارهم هذه الخطة بعينها، إذ إن جلاء الحقيقة في هذا الموضوع أهون شيء على المسلم العارف بدينه، المطلع على سيرة نبيه، فإذا بمقتله المظنون حجة يكتفي بها المسلم، ولا يحتاج إلى حجة غيرها لتعظيم نبيه، وتبرئه دينه من قالة السوء الذي يفترى عليه، فلا حجة للمسلم على صدق محمد صلى الله عليه وسلم في رسالته أصدق من سيرته في زواجه وفي اختيار زوجاته، وليس للنبوة آية أشرف من آيتها في معيشة نبي الإسلام من مطلع حياته إلى يوم وفاته، ما الذي يفعله الرجل الشهواني الغارق في لذات الجسد إذا بلغ من المكانة والسلطان ما بلغه محمد في قومه؟ لم يكن عسيرا عليه أن يجمع إليه أجمل بنات العرب، وأفتن جواري الفرس والروم على تخوم الجزيرة العربية، ولم يكن عسيرا عليه أن يوفر لنفسه ولأهله من الطعام والكساء والزينة ما لم يتوفر لسيد من سادات الجزيرة في زمانه، فهل فعل محمد ذلك بعد نجاحه؟ هل فعل ذلك في مطلع حياته؟ كلا لم يفعله قط، بل
(1) د. زاهرى عواض الألمعي- مع المفسرين والمستشرقين في زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش (ص 29، 30) .
(2)
حقائق الإسلام وأباطيل خصومه (ص 59- 62) .
فعل نقيضه، وكاد يفقد زوجاته لشكايتهن من شظف العيش في داره
…
والسيدة زينب بنت جحش- ابنة عمته- زوجها من مولاه ومتبناه زيد بن حارثة، فنفرت منه، وعز على زيد أن يروضها على طاعته، فأذن له النبي في طلاقها، فتزوجها عليه السلام؛ لأنه المسؤول عن زواجها، وما كان جمالها خفيّا عليه قبل تزويجها من مولاه؛ لأنها كانت بنت عمته، يراها من طفولتها، ولم تفاجئه بروعة لم يعهدها» .
نعود إلى يوحنا الدمشقي، الذي يمثل بواكير الاستشراق الكنسي الحاقد على الإسلام ورسوله ورسالته وحضارته، والذي نشأ في الشام، في كنف الدولة الأموية، ومع ذلك نجح في بث سموم أفكاره، حتى عرفت طريقها لكتب تفسير القرآن الكريم.
ويعاصر يوحنا الدمشقي ويماثله في الحقد على الإسلام، رجل لاهوت مسيحي آخر عاش في مصر، وهو حنا النقيوسي وقد يقول قائل: إن هذين الرجلين وأمثالهما لا يعدون مستشرقين؛ لأنهم أصلا من الشرق والمستشرق في عرف الناس هو رجل غربي يهتم بالدراسات الشرقية، وهذا القول ليس صحيحا؛ لأن الشرق والاستشراق في رأينا مفهوم حضاري أكثر منه مفهوم جغرافي، وقد قلنا: إن الأندلس تعتبر شرقية حضاريّا، وإن كانت غربية جغرافيّا. وبهذا المفهوم فإننا نعد كل من يهاجم الإسلام ويطعن في أسس عقائده، ويغمز ويلمز، فهو مستشرق مهما كان موطنه.
وليوحنا الدمشقي، وحنا النقيوسي اللذين عاشا في أواخر القرن الأول وبداية الثاني الهجري امتداد حتى الوقت الحاضر، فرجال مثل عزيز عطية سوريال، وهو مصري مسيحي كان أستاذا بجامعة الإسكندرية، ثم ذهب ليدرس في إحدى الجامعات الأمريكية، وهو شديد الحقد على الإسلام في كتاباته، ومثل بطرس عبد الملك، وهو الآخر مصري مسيحي، كان أستاذا بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، ثم هاجر إلى أمريكا، واشتغل بالتدريس في جامعة برنستون، ومثل فيليب حتى وهو لبناني مسيحي، هاجر إلى أمريكا، وأخذ الجنسية الأمريكية، وعمل بالتدريس في قسم الدراسات الشرقية في جامعة برنستون، وله العديد من المؤلفات عن تاريخ العرب والإسلام، وغير هؤلاء كثيرون، وكلهم رغم انضمامهم جغرافيّا إلى الشرق، فإنهم- بمناصبتهم الإسلام العداء- يعدون في نظرنا مستشرقين «1» وامتدادا ليوحنا الدمشقي، وحنا النقيوسي، وهم يشبهون حركة الشعوبية التي
(1) دكتور علي محمد عبد الوهاب- بين الإسلام والغرب
…
ضراوة ومرارة حصاد (ص 220، 221) ، دار ركابي- القاهرة (1996 م) .