الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صلح الحديبية الذي كان في نهاية العام السادس الهجري.
فهل توافق كل هذه الحوادث الكبيرة والخطيرة، والتي غيرت مجرى التاريخ العالمي كله، وأثرت في مصير البشرية، ووجهته وجهة جديدة، هل كان هذا التوافق مجرد مصادفات، أو أن في الأمر تدبيرا إلهيّا يريده الله ولا ندرك نحن أبعاده؟
…
الله وحده هو الذي يعلم حقيقة ذلك.
على كل حال كان من حسن الحظ- كما أسلفنا- أن الإسلام ظهر وقوي واشتد عوده ومضى على ظهوره ما يقرب من عشرين عاما، قبل أن يتنبه الفرس والروم كلاهما لخطورة ما حدث، ولم يقدروا أبعاده، ولم يستطيعوا أن يفهموا أن دينا جديدا قد نزل، وأن دولة جديدة قامت على أساس هذا الدين. وأن العرب- الذين كانوا يحتقرونهم بالأمس- سوف يخرجون من جزيرتهم تحت راية هذا الدين. وسوف يدعونهم للدخول في دينهم، فإن أجابوا فهم إخوانهم؛ لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن رفضوا وقاوموا الدين وصدوا الناس عنه؛ فسوف يحاربونهم ويقهرونهم جميعا، وينتزعون منهم سيادة العالم، وسوف يخلصون الشعوب من نير حكمهم واستغلالهم، ويوجهون مصيرها وجهة صالحة نافعة، ويخرجونها من ضلالات الوثنية والشرك بالله إلى توحيده توحيدا خالصا من كل شائبة، وسوف يقيمون العلاقات الإنسانية على أسس فاضلة ومثل عليا. فلما بدأ الفرس والروم جميعا. يدركون أن الإسلام خطر على سلطانهم، وأرادوا مقاومته كان الوقت متأخرا جدّا بالنسبة لهم. ففي خلال هذه السنوات التي انشغل فيها الفرس بالروم والروم بالفرس، استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن ينشر الإسلام في شبه الجزيرة العربية. وأن يؤسس دولة الإسلام الفتية. وأن يخرج بالإسلام من شبه الجزيرة العربية إلى العالم، فالإسلام لم يأت للعرب وحدهم، وإنما لكل الجنس البشري، وهنا بدأت العلاقات بين المسلمين والروم.
*
المسلمون قبل اتصالهم بالروم:
في الفترة المكية من حياة الإسلام، كان النبي صلى الله عليه وسلم مشغولا بأمر قريش ودعوتها إلى الإسلام، ومقاومتها للإسلام. فلم يكن ممكنا ولا منطقيّا أن يخاطب العالم الخارجي ويدعوه للإسلام، قبل أن يسلم أهل مكة وهم أهله وعشيرته الأقربون.
ولم يحدث اتصال- في تلك الفترة- بأمم أخرى غير العرب، سوى ذلك الاتصال
الذي حدث مع الحبشة عند هجرة المسلمين إليها في العام الخامس من البعثة النبوية «1» .
كذلك في السنين الأولى بعد الهجرة، لم تتهيأ الفرصة أمام النبي صلى الله عليه وسلم للاتصال بالعالم الخارجي؛ لأنه كان أمامه مهمات شاقة كان لا بد أن ينجزها قبل أن يخاطب العالم، ليبلغ رسالته للناس جميعا. كان أمامه أمر بناء الدولة الإسلامية وإرساء دعائمها، وكانت أمامه قريش، التي لا زالت مصرة على مقاومة الدعوة وصد الناس عنها. والحقيقة أن موقف قريش من الإسلام كان في غاية الخطورة؛ لأن بقية العرب كانوا يتربصون بإسلامهم أمر قريش؛ لأن قريشا كانوا أئمة العرب وأهل البيت الحرام، وقادة العرب لا ينكرون ذلك. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي لأمر قريش الأولوية على سواه. «فلما افتتحت مكة ودانت له قريش ودوخها الإسلام، عرفت العرب أنهم لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عداوته، فدخلوا في دين الله
…
» «2» .
وكان أمام النبي صلى الله عليه وسلم مشكلة اليهود، وتامرهم على الإسلام والمسلمين، وكيدهم لهم. وقصة اليهود مع الإسلام منذ ظهورة قصة طويلة، فمنذ هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة بدأت فصول هذه القصة التي لم تنته بين الإسلام واليهود حتى الآن.
وعند هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة عاهد اليهود واعتبرهم مواطنين في دولة الإسلام، وضمن لهم حرية عقيدتهم وشعائرهم الدينية وأحسن معاملتهم «3» . ولكنهم لم يحسنوا هذه المعاملة؛ لما جبلوا عليه من لؤم الطبع والمكر والخيانة؛ فهم شر الدواب الذين ينقضون عهدهم في كل مرة، ولا يرعون عهدا ولا وعدا.
فبعد الانتصار الرائع للرسول صلى الله عليه وسلم على قريش في غزوة بدر الكبرى، في رمضان من السنة الثانية للهجرة، تحركت أحقاد يهود بني قينقاع وحزنوا على هزيمة قريش، وأظهروا استياءهم لانتصار المسلمين، وأخذوا يتحرشون بهم، ولم يراعوا ما بينهم وبين المسلمين من عهود، فنقضوها ونكثوا بها، فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة «4» .
(1) انظر قصة الهجرة إلى الحبشة في ابن هشام (1/ 343) وما بعدها.
(2)
البداية والنهاية- ابن كثير (5/ 40) وانظر كذلك الروض الأنف- السهيلي (7/ 357) ، والكامل ابن الأثير (2/ 286) .
(3)
راجع نصوص معاهدة المدينة- ابن هشام (2/ 119) وما بعدها، محمد حميد الله- الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة (ص 41) وما بعدها، وحياة محمد. د. هيكل (ص 225) وما بعدها.
(4)
انظر في أمر بني قينقاع سيرة ابن هشام (2/ 426) . وابن كثير- البداية والنهاية (4/ 3، 4) .
ثم جاء دور بني النضير بعد غزوة أحد في العام الهجري الثالث، وتامرهم لقتل النبي صلى الله عليه وسلم، مما جعل طردهم من المدينة أمرا ضروريّا؛ جزاء هذا المكر الخبيث، وتخليص عاصمة الإسلام من هذا الميكروب اللعين «1» . ولكن بني النضير لم يتعظوا بما حل بهم، فقد استمروا في التامر ضد الرسول والمسلمين، ولعبوا دورا خطيرا في تأليب قريش وحلفائها لمهاجمة المدينة فيما عرف بغزوة الأحزاب في نهاية العام الخامس للهجرة، كما تولى زعيمهم حيىّ بن أخطب أمر تأليب بني قريظة وحملهم على نقض عهودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، والانضمام إلى قريش والأحزاب في محاولة استئصال المسلمين، وأوقعهم في ارتكاب الخيانة العظمى ضد الدولة الإسلامية في وقت الحرب. الأمر الذي جعل لزاما على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعاقبهم العقاب العادل، فلم يكد الأحزاب يرجعون خائبين، حيث ردهم الله تعالى بغيظهم لم ينالوا خيرا، حتى تحرك الرسول بسرعة وحاصر يهود بني قريظة وقضى عليهم «2» . ولكن دسائس اليهود وأحقادهم لم تنته بطرد بني قينقاع وبني النضير من المدينة، واستئصال بني قريظة، بل استمروا في التامر من خيبر «3» وغيرها من المستعمرات اليهودية في شمال المدينة، الأمر الذي كان يشكل عقبة كبيرة في طريق انطلاق الدعوة الإسلامية، وكان وجود اليهود في خيبر وما جاورها من واحات يهودية في شمال المدينة بينها وبين الشام، يعد خطرا على الدعوة الإسلامية التي لا بد أن تسلك هذا الطريق لتخرج إلى العالم. ولذلك لم يكد الرسول صلى الله عليه وسلم يعود من الحديبية في نهاية العام السادس للهجرة حتى تحرك لحصار اليهود في خيبر، والقضاء على أخطر وكر من أوكار الخيانة والغدر ضد الإسلام في شبه الجزيرة العربية. داهم الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود في خيبر، وصاح الصيحة التي زلزلت الأرض تحت أقدامهم:«الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ» «4» بدأت المعارك في خيبر شرسة، ولكن تحت ضربات جند الله القوية، أخذت حصون خيبر المنيعة تتساقط في أيدي المسلمين بما فيها ومن فيها، وأذعنوا واستسلموا وطلبوا الصلح، هنا يقدم لنا
(1) انظر في أمر بني النضير ابن هشام (2/ 191) وانظر كذلك ابن كثير (4/ 74) .
(2)
انظر في أمر بني قريظة ابن هشام (3/ 252) وانظر كذلك محمد أحمد باشميل- غزوة مؤتة (ص 7، 8) ومنتجومري وات- محمد في المدينة (ص 324) . ود. هيكل- حياة محمد (ص 32) وما بعدها.
(3)
منتجومري وات- محمد في المدينة (ص 332) .
(4)
ابن هشام (3/ 380) .