الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومضت في طريقها بثبات وخطى حثيثة رغم المعوقات التي كانت تأتي للأسف غالبا من جانب بعض الولاة الذين كانوا يعنون بالجباية أكثر من الهداية، والأمر الجدير بالملاحظة والتنويه، والذي يسعد الباحث المسلم أن الضمير الجمعي للمسلمين هناك لم يستسلم لإجراآت الولاة وقاومها بقوة وأجبرهم على مراجعة أنفسهم وتصحيح الخطأ، وهذا شيء جميل، فالإسلام هو الذي علّم الناس كيف يدافعون عن حقوقهم.
ويبدو لي أن استياء مسلمي ما وراء النهر من دفع الجزية ليس راجعا إلى كونها عبئا ماليّا، ولكن لإحساسهم بالمهانة من دفعها وهم مسلمون، وبعد أن علمهم فقهاء المسلمون أنه لا جزية على مسلم.
*
العباسيون وانتشار الإسلام فيما وراء النهر:
رأينا فيما سبق من هذا البحث أن العباسيين- منذ قامت دولتهم سنة (132 هـ) - واصلوا سياسة الدولة الأموية في تثبيت الفتوحات فيما وراء النهر، بل التصدي لخطر الأتراك الشرقيين، ثم لخطر الصين عند ما ظهر، ومعنى هذا أن تغيير الحكومة الإسلامية، وانتقال الخلافة من الأسرة الأموية إلى الأسرة العباسية لم يغير من السياسة العامة للدولة الإسلامية، وهي تثبيت الفتوحات وعدم التفريط في أي إنجاز تحقق في البلاد المفتوحة وتهيئتها لقبول الإسلام عقيدة وفكرا وثقافة وسلوكا، في حرية تامة.
ومن الجدير بالذكر والتنويه أن العباسيين مضوا خطوات أبعد مما فعل الأمويون أنفسهم في تحقيق الأهداف الإسلامية العليا- وليس هذا اتهاما للأمويين بالتقصير وإنما تطور الظروف ساعد العباسيين وكان مواتيا لهم أكثر- أي: إنهم لم يقفوا عند مجرد مواصلة جهود الأمويين في الحفاظ على الفتوحات الإسلامية في بلاد ما وراء النهر، وإخضاع الأتراك الشرقيين للسيادة، والتصدي للخطر الصيني وإيقافه عند حده، بل مضوا بحركة انتشار الإسلام قدما إلى الأمام، وأعطوا بلاد ما وراء النهر عناية كبيرة ولم ينسوا أنها أسهمت بنصيب كبير في قيام دولتهم، وكانت تربة صالحة لنمو بذور دعوتهم، ولم يكن ذلك ممكنا لو لم تكن أقدام الإسلام قد رسخت في تلك البلاد منذ العصر الأموي، فالدعوة العباسية رفعت شعارات إسلامية وقامت على مرتكزات إسلامية من أهمها شعار المساواة بين المسلمين، من العرب وغيرهم، وهذا كان شعارا جذابا لأهل خراسان وما وراء النهر الذين كانوا يحسون أنهم يعاملون معاملة أقل من معاملة المسلمين من العرب.
ووجد أهل البلاد المتطلعون إلى مزيد من النفوذ والسلطان في الدعوة الجديدة ما يحقق آمالهم واستطاع أبو مسلم- الخراساني- أن يجتذب الدهاقين والفلاحين إلى دعوته «1» ، وأن يعبئ الجماهير في خراسان وما وراء النهر تحت رايته- لحساب العباسيين- ونجح في ذلك نجاحا كبيرا وضرب الضربة الأولى في إسقاط الدولة الأموية.
فلما قامت الدولة العباسية كان عليها أن تفي بوعودها وتحقق شعاراتها وتثبت أنها عند حسن ظن الناس، وإلا كان رد الفعل عنيفا وخطيرا.
والحق أن العباسيين بذلوا جهودا كبيرة في هذا المجال، وحاولوا محاولات جادة لتحقيق الشعارات التي رفعوها، ومكافأة الذين ساعدوهم في إقامة دولتهم ومنهم أهالي ما وراء النهر، وكان من وسائل ذلك توسعهم في استخدامهم في الإدارة وفي الجيش، وقد وضحت هذه الظاهرة منذ عهد المأمون وازدادت بروزا في عهد المعتصم وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.
وكانت كل تلك الإجراآت تصب في مجرى تعميق الإسلام عقيدة وفكرا وثقافة وسلوكا في بلاد ما وراء النهر، وسيزداد الإسلام رسوخا في البلاد مع مضي السنين خاصة تحت حكم الأسر التي حظيت بنوع من الاستقلال عن الخلافة العباسية كالأسرة الطاهرية (204- 259 هـ) والأسرة السامانية (261- 389 هـ) .
والتي كان ظهورها في حد ذاته جزآ من السياسة العباسية ومكافأة الذين أخلصوا للخلافة ولم يتمردوا عليها، وكان ظهور هذه الأسر بالفعل دفعة قوية للإسلام في بلاد ما وراء النهر، فقد واصل الطاهريون السياسة التي وضع أسسها الأمويون، وعمقها العباسيون، وهي سياسة التمكين للإسلام في الداخل ودرء الأخطار الخارجية، بل يمكن القول: إن الطاهريين كانوا أكثر إدراكا للخطر الذي هدد البلاد من الأتراك الشرقيين «2» .
والذي مكن الطاهريين من القيام بدورهم الكبير في التمكين للإسلام في بلاد ما وراء النهر وفاؤهم للخلافة العباسية واحتفاظهم بعلاقات ودية قوية معها، فلم يبددوا طاقاتهم وطاقاتها في التمرد ومحاولة الاستقلال الكامل عنها- كما فعل الصفاريون مثلا- بل حافظوا على الود واحترام الخلفاء إلى آخر عهدهم، والخلافة
(1) د. حسن أحمد محمود- الإسلام في آسيا الوسطى (ص 155) .
(2)
المرجع السابق (ص 167) .
نفسها حفظت لهم ذلك الموقف ووقفت معهم في صراعهم مع الصفاريين «1» .
وإذا كان الطاهريون قد قاموا بدور كبير ومهم في التمكين للإسلام والثقافة الإسلامية فيما وراء النهر، فإن السامانيين كان دورهم أكبر وأعظم أثرا فرغم أن كلا الأسرتين من أصل فارسي، إلا أن السامانيين كان دورهم فيما وراء النهر أعظم؛ لأن الطاهريين حكموا ما وراء النهر من خراسان، فقد كانت عاصمة دولتهم نيسابور، أما السامانيون فقد حكموا خراسان من وراء النهر فقد كانت عاصمتهم مدينة بخارى، لذلك كان من الطبيعي أن يكون اهتمامهم بما وراء النهر أعظم- لأنه مقر حكمهم ومركز دولتهم- ففي عهد السامانيين وضحت ثمار الجهود التي بذلها العرب في رفع مكانة الإسلام هناك طيلة قرنين من الزمان تقريبا، وأحرزت الحركة الإسلامية نجاحها المرجو، فثبت الإسلام في قلوب الأتراك الغربيين، بل أخذ ينتشر بين الأتراك الشرقيين، ودخلت الأمة التركية في الإسلام «2» وقامت بدورها الكبير في عالم الإسلام.
والحق أن الأمراء السامانيين لم يعملوا على تثبيت أركان الإسلام في بلاد ما وراء النهر فحسب، بل أولوا عنايتهم واهتمامهم للعلوم الإسلامية، فازدهرت الحضارة الإسلامية في عهدهم، وكانت عاصمتهم- بخارى- منارة من منارات العلم في العالم الإسلامي، وقد مدحهم الرحالة المسلمون الذين زاروا البلاد في عهدهم ومنهم المقدسي الذي قال عنهم: إنهم أحسن الملوك سيرة وإجلالا للعلم والعلماء، ولم تكن عنايتهم بالعلوم الدينية فقط، وإنما بالعلوم الطبيعية والأدبية، فنبغ في عهدهم الرودكي- أول شاعر غنائي فارسي- وفي عهد الأمير منصور بن نوح ترجم إلى الفارسية كتاب «تاريخ الأمم والملوك للطبري» ، من العلماء الذين لمعوا ونبغوا في عهدهم الفيلسوف والطبيب الشيخ الرئيس علي بن سينا.
تحدثنا حتى الآن عن الجهود الرسمية- جهود الحكومات الإسلامية في نشر الإسلام في بلاد ما وراء النهر- ابتداء من الأمويين، ومرورا بالعباسيين، ثم الطاهريين والسامانيين، ولم نتحدث عن الجهود غير الرسمية، التي قام بها أفراد أو جماعات كعمل تطوعي لنشر الإسلام، مثل الصوفية، يقول بار تولد: «وكان
(1) عصام عبد الرؤوف- تاريخ الإسلام في جنوب غرب آسيا (ص 17) .
(2)
انظر د. حسن أحمد محمود- الإسلام في آسيا الوسطى، مرجع سبق ذكره (ص 169) .
ظهور التبشير الفردي الإسلامي- سواء داخل العالم الإسلامي أو خارجه- مرتبطا بالتصوف الإسلامي فيحكى دائما في مناقب الصوفية أنهم استطاعوا إدخال كثيرين من الكفار في الإسلام وكان هؤلاء الصوفية يذهبون إلى الصحارى لإدخال الأتراك في الإسلام، وقد ظلوا حتى وقت قريب أكثر توفيقا من العلماء الذين درسوا في المدارس» «1» ويرى بارتولد أن توفيق الدعاة المسلمين ونجاحهم في نشر الإسلام بين الأتراك كان يعتمد على حقيقة راسخة وهي تفوق الإسلام على الديانات الآخرى من ناحية، فهو يقول:«ومن عوامل انتشار الإسلام بين الأتراك خاصة امتاز بها الإسلام على سائر الأديان العالمية، فعلى الرغم من أن أتباع البوذية وأتباع المسيحية أكثر عددا من المسلمين فإن الإسلام دين عالمي بمعنى الكلمة، أي ليس مقصورا على جنس أو مدينة، ولئن كانت بعض الديانات قد بذت الإسلام في هذه الناحية فإن توفيقها كان مؤقتا، ولم تستطع الحصول على نتائج دائمة كالإسلام» «2» وكان توفيق الدعاة ونجاحهم في الدعوة إلى الإسلام يعتمد كذلك على تفوق العالم الإسلامي ماديّا ومعنويّا على كل البلاد المتمدينة «3» ، من ناحية ثانية، إن تفوق العالم الإسلامي في كل مجالات الحياة جذب إليه أناسا آخرين، خارج بلاد ما وراء النهر، وأظن أن بلغار الفولجا يصلحون مثالا على ذلك، فقد اعتنقوا الإسلام طواعية، دون أن يصل إليهم سلطان المسلمين السياسي، ففي سنة (921 م) ، وفد على الخليفة المقتدر بالله العباسي في بغداد سفراء من البلغار، الذين اهتدوا إلى الإسلام، وطلبوا منه أن يرسل إليهم بعض العسكريين المتخصصين في بناء القلاع والاستحكامات، وكذلك بعض العلماء لتدريس الإسلام وكان بين البعثة التي أرسلها الخليفة ابن فضلان، الذي وصف الرحلة من بغداد إلى بلاد البلغار، ثم العودة إلى بغداد- فيما عرف برحلة ابن فضلان- مرورا ببلاد الخزر......
والظاهر أن ابن فضلان كان هو المكلف بتعليم البلغار تعاليم الإسلام «4» .
ويستنتج الأستاذ بارتولد من رحلة ابن فضلان هذه أن اتصال بلغار الفولجا بالعالم الإسلامي قد تم عن طريق الولايات الإسلامية التابعة للخوارزميين والسامانيين؛ لأن
(1) تاريخ الترك في آسيا الوسطى (ص 69) .
(2)
المرجع السابق (ص 70) .
(3)
المرجع السابق (ص 70) .
(4)
المرجع السابق (ص 65) .
الرحلة انطلقت من بغداد إلى حوض الفولجا مارة ببخارى وخوارزم، ولو لم تكن صلة البلغار بهذه الولايات الإسلامية قديمة؛ لكان الأولى أن تسلك الرحلة الطريق الأقصر إلى حوض الفولجا، وهو الطريق الذي يمر عبر قافقاسيا «1» .
هذا يدل بوضوح على رسوخ الإسلام في بلاد ما وراء النهر، وأنه أفاض على ما حولها من بلاد بطريق سهل وفي حرية تامة لعالمية الإسلام من ناحية، وتفوق العالم الإسلامي ماديّا ومعنويّا من ناحية ثانية.
ومن الجهود غير الرسمية التي تستحق التنويه في نشر الإسلام بين الترك، جهود التجار المسلمين الذين كانوا يجوبون الطرق التجارية التي تخترق تلك البلاد، إلى جانب تجارتهم كانوا يقومون بدور الدعاة إلى الله تعالى «2» ، وكانوا لبساطتهم في الدعوة ولغتهم السهلة وصدقهم وأمانتهم وحسن معاملتهم للناس أكثر تأثيرا من الدعاة الرسميين في جذبهم للإسلام، ومما يسر للتجار المسلمين مهمتهم تلك العلاقات الطيبة التي قامت بين الدولة الأموية وإمبراطورية الصين، فقد ذكر توماس آرنولد «3» نقلا عن المصادر الصينية أن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك أرسل في (108 هـ/ 726 م) سفيرا اسمه سليمان، إلى إمبراطور الصين هزوان كنج، ومع أن آرنولد لم يحدثنا عن طبيعة هذه السفارة ولا عن مهمتها، إلا أنها تدل على حسن العلاقة بين الدولة الأموية وإمبراطورية الصين- وسبق أن ذكرنا ما حدث من اتصال بين الفريقين أثناء فتوحات قتيبة ووصوله إلى كاشغر وسفارته إلى ملك الصين- تلك العلاقة التي تطورت إلى أفضل مع العباسيين- بعد الصدام الذي حدث بين الفريقين في معركة طالاس، التي سبقت الإشارة إليها سنة (752 م) .
فيذكر آرنولد أن إمبراطور الصين سوتسونج- وهو ابن الإمبراطور السابق- قد استغاث بالخليفة العباسي أبي جعفر المنصور ضد ثورة قامت عليه سنة (139 هـ/ 756 م) فأغاثه المنصور بفرقة من الجيش الإسلامي، التي لم تعد إلى بلادها بعد القضاء على الثورة، بل بقي الجنود المسلمون في الصين وتزوجوا وعاشوا هناك «4» ، والذي نقصده من الحديث عن حسن العلاقات بين المسلمين والصين أن الطرق التجارية
(1) المرجع السابق (ص 66) .
(2)
د. حسن أحمد محمد- مرجع سابق (ص 155) .
(3)
الدعوة إلى الإسلام (ص 332، 333) .
(4)
المرجع السابق (ص 333) .
أصبحت آمنة للتجار المسلمين يجوبونها مطمئنين يمارسون التجارة والدعوة إلى الإسلام في الوقت نفسه.
وخلاصه القول- في هذا البحث المتواضع- أن الإسلام منذ أن أدخله قتيبة بن مسلم الباهلي إلى بلاد ما وراء النهر- في نهاية القرن الأول الهجري- وهو يشق طريقة في ثبات وثقة، ويزداد رسوخا يوما بعد يوم بين السكان وأصبحت تلك البلاد العزيزة جزآ رئيسيّا من العالم الإسلامي تأثرت به وبتاريخه وأثرت فيه تأثيرا عظيما، وازدهرت فيها الثقافة الإسلامية، وخرجت للعالم الإسلامي عددا كبيرا من الفقهاء والمفسرين والمحدثين والمؤرخين والأطباء والفلاسفة، وأصبحت مدن كبخارى وسمرقند من أعظم وأشهر المراكز الحضارية في العالم الإسلامي.
ولا أدل على رسوخ الإسلام في تلك البلاد من صموده وتمسك الناس به على مدى القرون الماضية، رغم المحن والخطوب الهائلة التي مرت بها، والتي كان آخرها محنة وقوعها تحت براثن الحكم الشيوعي الملحد، منذ بداية هذا القرن، ذلك الحكم الذي مارس كل الأساليب الوحشية والهمجية للقضاء على الإسلام ومحوه من تلك البلاد، ولكنه فشل فشلا ذريعا- كما فشلت كل المحاولات السابقة- وأخيرا أذن الله تعالى بانقشاع الغمة وزوال المحنة فاندحرت الشيوعية وخرت صريعة بالسكتة القلبية، وأذهب الله تعالى عن بلاد ما وراء النهر الحزن والغم والهم وعادت بلادهم إلى حظيرة العالم الإسلامي لتستأنف دورها الحضاري العظيم وصدق الله العظيم الذي تكفل بحفظ دينه حيث يقول تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] ، والذي تكفل بإزهاق الباطل وإحقاق الحق، ووعد وعده الحق بنصر المؤمنين فقال تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الروم: 47] .