الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه السنة- سنة (95 هـ) - وقد أثر موت الحجاج في قتيبة تأثيرا كبيرا، فهو الذي كان يقف خلفه يشد من أزره بكل عزم وتصميم وأهم من هذا كله الثقة الكبيرة بين الرجلين والتي هي من أهم عوامل النجاح، يقول الكرديزي:«وحينما سمع قتيبة بموت الحجاج اغتم غمّا شديدا» «1» .
ولقد حزن قتيبة حزنا عميقا على موت قائده الكبير الحجاج، وتمثّل بهذين البيتين من الشعر؛ فقال:
لعمري لنعم الفتى من آل جعفر
…
بحوران أمسى أعلقته الحبائل
فإن تحي لا أملل حياتي وإن تمت
…
فما في حياة بعد موتك طائل
*
موقف الخليفة الوليد من قتيبة:
بعد أن أتم قتيبة فتح أقاليم الشاش وفرغانة عاد إلى مرو- عاصمة خراسان- وقد ترك هناك حاميات لحفظ النظام، وانتظر ما تأتي به الأيام بعد موت الحجاج، ولقد كان الخليفة الوليد بن عبد الملك يعرف طبيعة العلاقة بين الحجاج وقتيبة، ويعرف قدر الرجلين، وأن الثقة المتبادلة بينهما والتعاون كانت له ثمار طيبة وكان في مصلحة الإسلام والمسلمين، بل مصلحة الدولة، وإذا كان الحجّاج قد مات فليحاول الخليفة الاحتفاظ بقتيبة ليواصل جهاده وجهوده في خدمة الإسلام ولذلك كتب له يزكيه ويشجعه «2» ، وكان مما قال له:«قد عرف أمير المؤمنين بلاءك وجدك في جهاد أعداء المسلمين، وأمير المؤمنين رافعك، وصانع بك الذي يجب لك، فأتم مغازيك وانتظر ثواب ربك، ولا تغيّب عن أمير المؤمنين كتبك، كأني انظر إلى بلادك والثغر الذي أنت فيه» «3» .
أحدثت هذه الرسالة أثرا طيبا في نفس قتيبة، وأعطته دفعة قوية من العزم والتصميم، فعاوده نشاطه ورغبته في الغزو والجهاد فخرج من مرو ليواصل فتوحاته، حيث وصل إلى كاشغر، التي يقول عنها الطبري: إنها أدنى مدائن الصين ويلخص الطبري أعمال قتيبة في هذه المرحلة الأخيرة من مراحل جهاده في سبيل الله فيقول:
«وأوغل قتيبة حتى قرب من الصين، فكتب إليه ملك الصين أن ابعث رجلا من
(1) زين الأخبار- مصدر سابق (1/ 179) .
(2)
زين الأخبار (1/ 179) .
(3)
الطبري (6/ 492) .
أشراف من معكم يخبرنا عنكم، ونسائله عن دينكم» «1» .
اختار قتيبة عشرة- وقيل: اثني عشر- من خيرة رجاله، برئاسة هبيرة بن المشمرج الكلابي، وأرسلهم إلى ملك الصين، ويقص الطبري خبر تلك السفارة الإسلامية إلى بلاط ملك الصين في حديث طويل، ونكتفي منه بما انتهى إليه الحوار، حيث قال ملك الصين للوفد المسلم في أسلوب تغلب عليه نبرة التهديد:
انصرفوا إلى صاحبكم، فقولوا له: ينصرف عن بلادنا، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثت عليكم من يهلككم ويهلكه فرد عليه رئيس الوفد، في شجاعة وعزة المؤمن: أيها الملك كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون، وكيف يكون حريصا من خلّف الدنيا وراءه قادرا عليها وغزاك في بلادك، وأما تخويفك إيانا فإن لنا آجالا إذا حضرت وأكرمها الله بالقتل فلسنا نكرههه ولا نخافه «2» .
أعادت هذه المقالة ملك الصين إلى صوابه، وأيقن أنه أمام قوم لا يجدي معهم التهديد ولا الوعيد، فاعتدل في كلامه، وقال لهبيرة في نبرة جديدة غير نبرة التعالي الأولى: فما الذي يرضي صاحبكم؟ قال هبيرة: إنه حلف ألا ينصرف عن بلادكم حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم، ويعطى- أي: يأخذ منكم- الجزية. قال الملك: فإنا نخرجه من يمينه، فنبعث إليه ترابا من أرضنا فيطؤه، ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها، ثم دعا بصحاف من ذهب وملأها ترابا، وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء الملوك، ثم أجاز الوفد جوائز حسنة، فعادوا إلى قتيبة، فرضي وقبل الجزية وختم الغلمان، ووطئ التراب «3» .
اكتفى قتيبة بهذا من ملك الصين، ويبدو أن الذي حمله على التساهل وقبول الحل الوسط الذي عرضه الملك ما حدث في داخل الدولة الإسلامية فقد توفي الخليفة الوليد بن عبد الملك سنة (96 هـ) ، ولم تكن علاقة قتيبة على ما يرام مع الخليفة الجديد سليمان بن عبد الملك «4» (96- 99 هـ) لذلك لم ير أنه من المناسب أن يتوغل فاتحا في بلاد الصين وهو لا يحس بالأمان من ورائه.
وعلى كل حال حسب هذا الرجل العظيم والفاتح الكبير أنه في غضون عشر
(1) تاريخ الطبري (6/ 500- 503) .
(2)
الطبري (6/ 501- 503) .
(3)
المصدر نفسه (6/ 503) .
(4)
انظر زين الأخبار- مصدر سابق (1/ 179) .