الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في القسامة
(والقسامة) -بفتح القاف- وهي: اسم مصدر، من أقسم إقساما وقسامة (1)، قال الأزهري: "هم القوم يقسمون في دعواهم على رجل أنه قتل صاحبهم، سموا قسامة باسم المصدر، كعدل ورضا. (2)
وشرعا: (أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم)(3)، لا نحو مرتد، قال ابن قتيبة (4): "أول من قضى بالقسامة في الجاهلية الوليد بن المغيرة فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم (5). ولا تكون القسامة في دعوى قطع طرف ولا في جرح؛ لأنها
(1) ينظر: معجم مقاييس اللغة 5/ 86، ولسان العرب 12/ 481.
(2)
كتاب الزاهر ص 245.
(3)
المغني 12/ 188، والمحرر 2/ 150، والمبدع 9/ 31، وغاية المنتهى 3/ 293.
(4)
في كتابه المعارف ص 240.
(5)
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، عن أناس من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم:"أن القسامة كانت في الجاهلية فأقرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ما كانت في الجاهلية وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على يهود خيبر" أخرجه مسلم، باب القسامة، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات برقم (1670) صحيح مسلم 3/ 1295، وأبو داود، باب في ترك القود والقسامة، كتاب الديات برقم (4526) سنن أبي داود 4/ 179، والنسائي، باب القسامة، كتاب القسامة برقم (4708) المجتبى 8/ 5، وأحمد برقم (23156) المسند 6/ 602، والبيهقي، باب أصل القسامة. .، كتاب القسامة، السنن الكبرى 8/ 122.
ثبتت على خلاف الأصل في النفس لحرمتها فاختصت بها كالكفارة.
وشروط صحتها عشرة: -
أحدها: اللوث (1) وهو: العداوة الظاهرة وجد معها أثر قتل كدم أو لا لحصول القتل بما لا أثر له كغم الوجه والخنق؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم " [لم] (2) يسأل الأنصار هل بقتيلهم أثر أو لا"(3).
ولو كانت العدواة مع سيد مقتول؛ لأن السيد هو المستحق لدمه، وأم الولد والمدبر والمكاتب والمعلق عتقه بصفة في ذلك كالقن.
(1) اللوث في اللغة: الالتواء والاسترخاء ولي الشيء على الشيء، ولوث ثيابه بالطين: أي لطخها، ولوث الماء: أي كدره، واللوث: الجراحات، والمطالبات بالأحقاد.
ينظر: الصحاح 1/ 291، ومعجم مقاييس اللغة 5/ 219، ولسان العرب 2/ 185، والقاموس المحيط 1/ 173 - 174.
(2)
ما بين المعقوفين ليست في الأصل.
(3)
عن بشير بن يسار: أن عبد اللَّه بن سهل بن زيد ومحيصة بن مسعود بن زيد الأنصاريين خرجا إلى خيبر في زمان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهي يومئذ صلح وأهلها يهود فتفرقا لحاجتهما، فقتل عبد اللَّه بن سهل، فوجد في شربة مقتولا فدفنه صاحبه، ثم أقبل إلى المدينة، فمشى أخو المقتول عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة فذكروا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شأن عبد اللَّه وحيث قتل، فزعم بشير وهو يحدث عمن أدرك من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال لهم:"تحلفون خمسين يمبنا وتستحقون قاتلكم" قالوا يا رسول اللَّه! ما شهدنا ولا حضرنا، فزعم أنه قال:"فتبرئكم يهود بخمسين" فقالوا يا رسول اللَّه! كيف نقبل أيمان قوم كفار؟ فزعم بشير أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عقله من عنده. أخرجه البخاري، باب القسامة، كتاب الديات برقم (6898) صحيح البخاري 9/ 8، ومسلم، باب القسامة، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات برقم (1669) صحيح مسلم 3/ 1293.
والعداوة الظاهرة نحو ما كان بين الأنصار وأهل خيبر (1)، وما بين القبائل التي يطلب بعضها بعضا بثأر، وما بين البغاة وأهل العدل، وما بين الشرطة واللصوص.
ولا يشترط مع اللوث أن لا يكون بموضع القتل غير العدو نصا (2)؛ لأنه عليه السلام لم يسأل الأنصار هل كان بخيبر غير اليهود أو لا؟ مع أن الظاهر وجود غيرهم.
فإن لم يكن عداوة ظاهرة ولكن غلب على الظن صدق المدعي كتفرقة جماعة عن قتيل، أو وجد قتيل عند من معه سيف ملطخ بدم، أو في زحام، أو شهادة جماعة ممن لا يثبت القتل بشهادتهم كالنساء والصبيان والفساق ونحو ذلك فليس بلوث، لقوله عليه السلام:"لو يعطى الناس بدعواهم. . . " الحديث (3)، ومتى فقد اللوث وليست الدعوى بقتل عمد حلف مدعى عليه يمينا واحدة لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: "البينة على من ادعى، واليمين على من
(1) خيبر: موضع مشهور، غزاه النبي صلى الله عليه وسلم على ثمانية برد من المدينة جهة الشام، كان يطلق هذا الاسم على الولاية، فتحه النبي صلى الله عليه وسلم سنة 7 هـ، وقيل: سنة 8 هـ.
ينظر: مراصد الاطلاع 1/ 493، ومعجم البلدان 2/ 409 - 411.
(2)
المغني 12/ 193، والمبدع 9/ 33، والإنصاف 26/ 124، والإقناع 4/ 240، وكشاف القناع 4/ 70.
(3)
من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أخرجه البخاري، باب:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا. . .} كتاب التفسير برقم (4552) صحيح البخاري 6/ 29، ومسلم، باب اليمين على المدعى عليه، كتاب الأقضية برقم (1711) صحيح مسلم 3/ 1336.
أنكر، إلا في القسامة" رواه الدارقطني (1)، ولا يمين في دعوى قتل عمد مع فقد لوث لأنه ليس بمال.
الشرط الثاني: تكليف مدعى عليه القتل لتصح الدعوى لأنها لا تصح على صغير ولا مجنون.
الشرط الثالث: إمكان القتل منه، وإلا يمكن منه قتل لنحو زمانة لم تصح عليه دعواه كبقية الدعاوي التي يكذبها الحس.
الشرط الرابع: وصف القتل في الدعوى كأن يقول: جرحه بسيف أو سكين ونحوه في محل كذا من بدنه أو خنقه، فلو استحلفه حاكم قبل وصف مدع القتل لم يعتد به لعدم صحة الدعوى.
الشرط الخامس: طلب جميع الورثة فلا يكفي طلب بعضهم لعدم انفراده بالحق.
الشرط السادس: اتفاقهم على الدعوى فلا يكفي عدم تكذيب بعضهم إذ الساكت لا ينسب إليه حكم. (2)
الشرط السابع: اتفاق الورثة على القتل فإن أنكر بعضهم فلا قسامة.
(1) سبق تخريجه ص 339.
(2)
لا ينسب للساكت قول، هذه قاعدة فقهية ذكرها الإمام السيوطي في كتابه الأشباه والنظائر ص 142.
الشرط الثامن: اتفاقهم على عين قاتل نصا (1) فلو قال بعض الورثة: قتله زيد، وقال بعضهم: قتله بكر فلا قسامة.
الشرط التاسع: كون فيهم ذكور مكلفون (2) لحديث: "يقسم خمسون رجلا منكم وتستحقون دم صاحبكم"(3)، ولأن القسامة يثبت بها قتل العمد فلا تسمع من النساء كالشهادة، والدية إنما تثبت ضمنا لا قصدا، ولا يقدح غيبة بعض الورثة ولا عدم تكليفه ولا نكوله عن اليمين؛ لأن القسامة حق له ولغيره فقيام المانع بصاحبه لا يمنع حلفه واستحقاقه لنصيبه كالمال المشترك.
فلذكر حاضر مكلف أن يحلف بقسطه من الأيمان ويستحق نصيبه من الدية كما لو كان الكل حاضرين مكلفين، ولمن قدم من الغائبين أو كلف من الورثة أن يحلف بقسط نصيبه من الأيمان ويأخذ نصيبه من الدية لبنائه على أيمان صاحبه كما لو كان حاضرا مكلفا ابتداء.
الشرط العاشر: كون الدعوى على واحد معين
(1) الهداية 2/ 97، والمغني 12/ 218، والمقنع والشرح الكبير والإنصاف 26/ 144 - 147، والمحرر 2/ 151، وشرح الزركشي 6/ 205، وكتاب الفروع 6/ 47، والمبدع 9/ 38، وغاية المنتهى 3/ 294.
(2)
في الأصل: مكافؤن، والمثبت من شرح منتهى الإرادات 3/ 333.
(3)
من حديث سهل بن أبي حثمة: أخرجه البخاري، باب الموادعة والمصالحة مع المشركين بالمال وغيره. . .، كتاب الجزية برقم (3173) صحيح البخاري 4/ 80، ومسلم، باب القسامة، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات برقم (1669) صحيح مسلم 3/ 1291.
لقوله صلى الله عليه وسلم للأنصار: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برُمَّتِهِ"(1)، ولأنها بينة ضعيفة خُولف بها الأصل في قتل الواحد فاقتصر عليه.
فلو قال الورثة: قتله هذا مع آخر أو قتله أحدهما فلا قسامة لما تقدم من اشتراط اتحاد المدعى عليه.
ولا يشترط كون القسامة بقتل عمد لأنها حجة شرعية فوجب أن يثبت بها الخطأ كالعمد، ويقاد فيها إذا تمت الشروط العشرة وشروط القود لقوله عليه السلام:"يحلف خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برُمَّتِهِ" وفي لفظ لمسلم: "ويسلم إليكم"(2)، والرُّمَّة: الحبل الذي يربط به من عليه القود (3)، ولثبوت العمد بالقسامة كالبينة فيثبت أثره، وروى الأثرم بسنده عن عامر الأحول (4):"أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة في الطائف"(5).
(1) من حديث سهل بن أبي حثمة: أخرجه مسلم، كتاب القسامة، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات برقم (1669) صحيح مسلم 3/ 1292، وأبو داود، باب القتل بالقسامة، كتاب الديات برقم (4520) سنن أبي داود 4/ 177، والبيهقي، باب أصل القسامة والبداية فيها، كتاب القسامة، السنن الكبرى 8/ 119.
(2)
لم أقف عليه عند مسلم، وهو في المعنى كالذي قبله، وبنحوه أخرجه أحمد بلفظ:"ثم تسلمه" برقم (15664) المسند 4/ 566.
(3)
ويقال لكل من دفع شيئًا بجملته: أعطاه برُمَّته.
ينظر: لسان العرب 12/ 252، والقاموس المحيط 4/ 122.
(4)
عامر: بن عبد اللَّه الأحول، البصري، وثَّقه أبو حاتم، لم أقف على سنة وفاته.
ينظر: الجرح والتعديل 6/ 326، وتهذيب الكمال 14/ 65، وتهذيب التهذيب 5/ 77.
(5)
أخرجه البيهقي، باب ما جاء في القتل بالقسامة، كتاب القسامة، السنن الكبرى 8/ 127 وأعله بالإنقطاع.
(وإِذَا تَمَّتْ شُرُوطُهَا) المذكورة (بُدِئَ بأَيمانِ ذُكورِ عَصَبَتِهِ) أي القتيل (الوَارِثينَ) بدل من العصبة، أي بذكور الوارثين له فيقدمون بها على أيمان المدعى عليه فلا يمكن مدعى عليه من حلف مع وجود ذكر من ورثة القتيل، ومع وجود شرط القسامة لقيام أيمانهم مقام بينتهم هنا خاصة للخبر، (فيَحْلِفُونَ خَمْسِيْنَ يمينًا كُلّ) واحد (بقَدْرِ إِرْثِهِ) من القتيل لأنه حق ثبت تبعا للميراث أشبه المال، (ويُجْبَرُ كَسْرٌ) كابن وزوج فيحلف الابن ثمانية وثلاثين ويحلف الزوج ثلاثة عشر يمينًا؛ لأن للزوج الربع وهو من الخمسين اثنا عشر ونصف فيكمل فيصير ثلاثة عشر، وللابن الباقي وهو سبعة وثلاثون ونصف فيكمل فيصير كما ذكر، وقس على ذلك.
ويعتبر لأيمان قسامة حضور مدع ومدعى عليه وقت حلف كبينة عليه، ويجوز للأولياء أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله وإن كانوا غائبين عن مكان القتل قاله القاضي (1)، ولا ينبغي أن يحلفوا إلا بعد الاستيثاق وغلبة الظن، وينبغي للحاكم أن يعظهم ويعرفهم ما في اليمين الكاذبة.
ولا يعتبر فيها مولاة الأيمان ولا كونها في مجلس واحد.
وإن جاوز ذكور الورثة خمسين رجلا حلف منهم خمسون كل واحد يمينا
(1) ينظر: المغني 12/ 221، والشرح الكبير 13/ 126، وشرح منتهى الإرادات 3/ 335.
لقوله عليه السلام: "يقسم خمسون منكم. . " الحديث، وسيد في ذلك كوارث، فإن كان رجلا واحدا أو معه نساء حلفها، وإن كان اثنين فأكثر حلف كل منهم بقدر ملكه فيه.
ومتى حلف الذكور من الورثة فالحق الواجب بالقتل حتى في قتل عمد لجميع الورثة ذكورا ونساء؛ لأنه حق ثبت للميت فصار لورثته كالدين.
(فإن نكلوا) أي ذكور الورثة عن أيمان القسامة (أو كان الكل نساء) أو خناثا (حلفها) أي الخمسين يمينا (مدعى عليه وبرئ) لقوله عليه السلام: "فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم" أي يبرأون منكم وفي لفظ: "فيحلفون خمسين يمينا ويبرأون من دمه" إن رضي الورثة بأيمان مدعى عليه، لأنه عليه السلام لم يحلف اليهود حين قال الأنصار:"كيف نأخذ بأيمان قوم كفار".
ومتى نكل مدعى عليه عن شيء من الخمسين يمينا لزمته الدية، وليس للمدعي إن ردها المدعى عليه أن يحلف لنكوله عنها أو لا.
وإن نكل الورثة عن أيمان القسامة ولم يرضوا بيمين المدعى عليه فدى الإمام القتيل من بيت المال وخلى المدعى عليه؛ لأنه عليه السلام ودى الأنصاري من عنده لما لم ترض الأنصار بيمين اليهود، ولأنه لم يبق سبيل إلى الثبوت ولم يوجد ما يوجب السقوط فوجب الغرم من بيت المال لئلا يضيع المعصوم هدرا، كميت في
زحمة، كجمعة وطواف فيفدى من بيت المال نصا (1)، واحتج بما روي عن عمر وعلي (2)، ومنه ما روى سعيد في سننه عن إبراهيم (3) قال:"قتل رجل في زحام الناس بعرفة فجاء أهله إلى عمر فقال: بينتكم على من قتله فقال علي: يا أمير المؤمنين لا يعطل دم امرئ مسلم إن علمت قاتله، وإلا فأعط ديته من بيت المال"(4).
(1) المغني 12/ 194، وكتاب الفروع 6/ 51، والمبدع 9/ 33، والإقناع 4/ 244، وغاية المنتهى 3/ 295.
(2)
أخرجه عنهما: عبد الرزاق برقم (18317) المصنف 10/ 51، وعنه ابن حزم في المحلى 10/ 468.
وعن علي أخرجه عبد الرزاق أيضًا برقم (18316) المصنف 10/ 51، وابن أبي شيبة برقم (7906) الكتاب المصنف 9/ 394 - 395، وابن حزم في المحلى 10/ 468.
(3)
هو إبراهيم النخعي، سبقت ترجمته في ص 101.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة برقم (7906) الكتاب المصنف 9/ 395، وعنه ابن حزم في المحلى 10/ 468.