الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ فِي طَرِيْق الحُكْمِ وَصِفَتِهِ
وطريقُ كل شيء ما يتوصل به إليه (1).
والحُكْمُ لغةً: المنع (2).
واصطلاحًا: فصل الخصومات، أو الإلزام بحكمٍ شرعيٍّ لعقد رفع إليه فحكم به بلا خصومة (3)، وسُمِّيَ القاضي حاكمًا لأنه يَمنعُ الظالم من ظلمه.
وإذا حضره خصمان استحب أن يجلسهما بين يديه لحديث أبي داود "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن يجلس الخصمان بين يدي الحاكم"(4) وقال علي حين خاصم اليهودي في درعه إلى شريح: "لولا أن خصمي يهودي لجلست معه
(1) المطلع ص 399.
(2)
حَكَمْتُ وأحْكَمْتُ وحَكْمْتُ بمعنى: مَنَعْتُ ورددتُ، ومن هذا قيل للحاكم بين الناس: حاكمٌ لأنه يمنع الظالم من الظلم.
ينظر: معجم مقاييس اللغة 2/ 91، لسان العرب 12/ 141، والقاموس المحيط 4/ 98.
(3)
ينظر: التنقيح ص 301، وغاية المنتهى 3/ 425، وكشاف القناع 6/ 330، والروض المربع 2/ 368.
(4)
من حديث عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنهما مرفوعًا: أخرجه أبو داود، باب كيف يجلس الخصمان بين يدي القاضي، كتاب الأقضية برقم (3588) سنن أبي داود 3/ 302، والبيهقي، باب إنصاف الخصمين. .، كتاب آداب القاضي، السنن الكبرى 10/ 135، وضعّفه الألباني كما في ضعيف سنن أبي داود ص 354.
بين يديك" (1)، ولأنه أمكن للحاكم في العدل بينهما.
فإذا جلسا فله أن يسكت حتى يبدأ (2) وله أن يقول: أيُّكُما المدعي؛ لأنه لا تخصيص في ذلك لأحدهما، ومن سبق بالدَّعْوَى قدمه على خصحه لترجحه بالسبق، فإذا قال خصمه: أنا المدعي لم يلتفت القاضي إليه وقال له: أجب دعواه، ثم إن ادعيا معا قدم من قرع فإذا انتهت حكومته ادعى الآخر، ولا تسمع دعوى مقلوبة نحو أدَّعِيْ على هذا أنه يدعي عليَّ دينارًا مثلًا، فاستحلفنى له أنه لا حق له علي، سميت مقلوبة؛ لأن المدعي فيها يطلب أن يعطى المدعى عليه والمدعي في غيرها يطلب أن يأخذ من المدعى عليه فانقلب فيها القصد المعتاد، ولا تسمع دعوى حسبةٍ بحق اللَّه تعالى كعبادة من صلاة أو زكاة أو حج ونحوها وحَدٍّ وكفارةٍ ونذر وجزاء صيد قتله محرمًا أو في الحرم، وتسمع بلا دعوى بينة بذلك وبعتق ولو أنكر معتوق العتق لحق اللَّه تعالى، وكذا تسمع بطلاق وبوقف ووصية على غير معين، وبوكالة وإسناد وصية من غير حضور خصم (3) ولو كان بالبلد، ولا تسمع بينة بحق آدمي معين قبل دعواه، ولا تسمع يمينه إلا بعد دعواه وبعد شهادة الشاهد إن كان حيث يقضي بالشاهد واليمين، وأجاز بعض أصحابنا سماع الدعوى والبينة لحفظ
(1) سبق تخريجه ص 946.
(2)
أي أحد الخصمين.
(3)
في الأصل: خصمٌ حضور، فيه تقديم وتأخير.
وقف وغيره بالثَّبات بلا خصم (1)، وأجازه الحنفية (2)، وبعض الشافعية (3)، وبعض أصحابنا بخصم مُسَخَّرٍ (4) أي ينصب لينازع صورة، قال الشيخ تقي الدين:"وعلى أصلنا وأصل مالك إما أن تثبت الحقوق بالشهادة على الشهادة وقاله بعض أصحابنا، وإما أن يسمعها ويحكم بلا خصم وذكره بعض المالكية وبعض الشافعية، وهو مقتضى كلام أحمد وأصحابه في مواضع لأنا نسمعها على غائب وممتنع وميت، فسماعها مع عدم خصم أولى، فإن المشتري مثلًا قبض المبيع وسلم الثمن فلا يدعي ولا يدعى عليه، وإنما الغرض الحكم لخوف خصم مستقبل وحاجة الناس خصوصًا فيما فيه شبهة أو خلاف لرفعه". (5) قال المنقّح: "وعمل الناس عليه"(6). أي على ما قاله الشيخ تقي الدين فيما يقع من عقود البيوع والإجارات والأنكحة وغيرها، حيث يرفع للحاكم وتشهد به البينة فيحكم به بلا خصمٍ، قال الشيخ منصور: "قلت: ولا ينقض الحكم لذلك وإن كان الأصح خلافه، لما تقدم
(1) كتاب الفروع 6/ 524، والإنصاف 28/ 420 - 421، وشرح منتهى الإرادات 3/ 482.
(2)
المبسوط 17/ 39، وحاشية ابن عابدين 4/ 414، وبدائع الصنائع 6/ 222.
(3)
مغني المحتاج 4/ 406 - 407، وروضة الطالبين 11/ 175، ونهاية المحتاج 8/ 268 - 269.
(4)
في الأصل: مصخر.
(5)
ينظر: مجموع الفتاوى 35/ 356.
(6)
التنقيح ص 302.
أنه لا ينقض إلا ما خالف نص كتاب [أو](1) سنة أو إجماعًا". (2)
وتصح الدعوى بالقليل ولو لم تتبعه الْهِمَّةُ بخلاف الاستعداء للمشقة.
ويشترط لصحة الدعوى شروط: -
أحدها: ما أشار إليه بقوله: (وشُرِطَ كَوْنُ مُدَّعٍ ومُنْكِرٍ جَائِزَيْ التَّصَرُّفِ)؛ لأن قول غيره غير معتبر لكن تصح على سفيه فيما يؤآخذ به حال سفهه وبعد فك حجره كطلاقه وقذفه ونحوه؛ لأن إقراره به معتبر لعدم التهمة، ويحلف إذا أنكر فيما يحلف الرشيد في مثله.
(و) الشرط الثاني: (تحرِيرُ الدَّعْوَى) لترتب الحكم عليها، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام:"إنما أقضي على نحو ما أسْمَعُ"(3)، ولا يمكن الحكم عليها مع عدم تحريرها، فلو كانت الدعوى بدين على ميت ذكر موته وحرر الدين، فإن كان أثمانًا ذكر جنسه ونوعه وقدره وحرر التركة، وفي "المغني" (4): "أو أن المدعى عليه وصل إليه من تركة مورثه ما يفي بدينه ويقبل قول وارثٍ في عدم التركة، ويكفيه أن
(1) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل.
(2)
ينظر: شرح منتهى الإرادات 3/ 482.
(3)
جزء من حديث أم سلمة رضي الله عنها مرفوعًا: أخرجه البخاري، باب موعظة الإمام للخصوم، كتاب الأحكام برقم (7169) صحيح البخاري 9/ 57، ومسلم، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، كتاب الأقضية برقم (1713) صحيح مسلم 3/ 1337.
(4)
14/ 68 - 69
يحلف أنه ما وصل إليه من تركة مورثه شيءٌ، ولا يلزمه أن يحلف أنه لم يخلف شيئًا؛ لأنه قد يحلف شيئًا لم يصل إليه فلا يلزمه الإيفاء".
(و) الشرط الثالث: (عِلْمُ مُدَّعًى بهِ) ليتمكن الحاكم من الإلزام به إذا ثبت (إلا فِيما نُصَحِّحُهُ) معاشر الحنابلة (مَجْهُولًا كوَصِيَّةٍ) بمجهولٍ بأن ادعى أنه وصى له بدابةٍ أو بشيءٍ ونحو ذلك، وكإقرار بمجهولٍ بأن ادَّعى أنه أقر له بمجهول فتصح وإذا ثبت طُولب مدعى عليه بالبيان، وكخلع أو طلاقٍ على مجهولٍ كإن سألته الخلع أو الطلاق على أحد دوابها ويتنازعان.
والشرط الرابع: كون الدّعوى (1) مصرحًا بها، فلا يكفي: لي عنده كذا حتى يقول: وأنا مطالبه.
والشرط الخامس: أن تكون الدعوى متعلقةً بالحال، فلا تصح بدين مؤجل لإثباته؛ لأنه لا يملك الطلب به قبل أجله، وتصح الدعوى بتدبير وكتابة واستيلاد لصحة الحكم بها وإن تأخر أثرها.
الشرط السادس: أن تكون الدعوى منفكة عمَّا يكذبها، فلا تصح بأنه قتل أو سرق من عشرين سنةً وسنُّه دونها ونحوه، ولا يشترط ذكر سبب الاستحقاق لعينٍ أو دين لكثرة سببه وقد يخفى على المدعي، ويعتبر تعيين مدعى به إن حضر بالمجلس لنفي اللبس بالتعيين، ويعتبر إحضار عين مدعى بها إن كانت بالبلد لتعين بمجلس الحكم نفيًا للبس، ولو ثبت أن العين المدعى بها بيده ببينة أو نكول حبس حتى يحضرها لتقع
(1) في الأصل: المدعى.
الدعوى على عينها أو حتى يدعي تلفًا فيصدق للضرورة؛ لأنه لا يعلم إلا من جهته وتكفي القيمة، وإن كانت العين المدعى بها غائبة عن البلد، أو كانت تالفةً، أو كانت في الذمة ولو غير مثلية كالبيع في الذمة بصفة، وكواجب الكسوة وصفها مدع كسَلَمٍ، والأولى ذكر قيمتها أيضًا، ويكفي في الدعوى ذكره نقد البلد إن اتحد وذكر قيمة جوهر ونحوه مما لا يصح فيه السَّلَمُ لعدم انضباط صفاته، وإن ادعى عقارًا غائبًا عن البلد ذكر موضعه وحدوده وتكفي شهرة عقار عندهما وعند حاكم عن تحديده، ولو قال مدعٍ: أطالبه بثوب غصبه قيمته [عشرة](1) فيرده إن كان باقيًا وإلا فقيمته، أو أطالبه بثوب قيمته عشرة أخذه مني ليبيعه بعشرين فيعطنيها إن كان باعه أو الثوب إن كان باقيًا أو قيمته إن تلف صح ذلك اصطلاحا مع ترديد (2) الدعوى للحاجة، (فَإِنْ ادَّعَى عَقْدًا) ولو غير نكاح كبيع وإجارة (ذَكَرَ شُرُوْطَهُ) للاختلاف في الشروط، وقد لا يكون صحيحًا عند القاضي فلا يتأتَّى الحكم بصحته مع جهله، إلا إن ادعى زوج استدامة الزوجية فلا يشترط ذكر شروط النكاح؛ لأنه لم يدع عقدًا وإنما يدعي خروجها عن طاعته، ويجزئ عن تعيين المرأة المدعى نكاحها إن غابت ذكر اسمها ونسبها، وإن ادّعته المرأة وأدَّعت معه نفقةً ومهرًا ونحوهما سمعت دعواها؛ لأنها تدَّعي حقًا لها تضيفه إلى سبب أشبه سائر الدعاوي، وإلا تدعي سوى النكاح فلا تسمع دعواها؛ لأنه حق للزوج فلا تسمع دعواها بحق لغيرها، ومتى
(1) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، والمثبت من شرح منتهى الإرادات 3/ 484.
(2)
في الأصل: ترتديد.
جحد الزوج الزوجية ونوى به الطلاق لم تطلق بمجرد (1) ذلك؛ لأن إنكاره النكاح ليس بطلاق ولو نواه؛ لأن الجحود هنا لعقد النكاح لا لكونها امرأته، ومن ادعى قتل مورثه ذكر وكونه عمدًا أو شبهه أو خطأ ويصفه، وأن القاتل انفرد بقتله أو شارك فيه، (أَوْ) ادعى (إرثًا ذَكَرَ سَبَبَهُ) وُجوبًا لاختلاف أسباب الإرث، (أَوْ) ادعى (مُحَلى بأَحَدِ النَّقْدَيْنِ قَوَّمَهُ بـ) النقد (الآخَرِ)، فإن ادعى محلى بذهب قَوَّمَهُ بفضةٍ، وإن ادعى محلى بفضة قومه بذهب لئلا يفضي تقويمه بجنسه إلى الربا، (أَوْ) ادعى محلى (بِهِمَا)، أو مَصُوغًا منهما مُبُاحًا تزيد قيمته عن وزنه (فبِأَيِّهِمَا) أي النقدين (شَاء) يقوم للحاجة أي انحصار الثمنية فيهما، وإذا ثبت أعطي عروضا.
(وَإذَا حَرَّرَهَا) أي الدعوى فللحاكم سؤال خصم عنها وإن لم يسأل المدعي الحاكم سؤاله، (فَإنْ أَقَرَّ الْخَصْمُ) بالدعوى (حُكِمَ عليهِ بسؤالِ مُدّعٍ)؛ لأن الحق له فلا يستوفيه الحاكم إلا بمسألته، فيقول الحاكم للمدعى عليه: أخرج من حقه، أو قضيت عليك له، أو ألزمتك بحقه، أو حكمت عليك بالخروج منه ونحوه.
وإن أنكر مدعى عليه الدعوى بأن قال مدعى عليه لمدع قرضًا أو ثمنًا: ما أقرضني، أو ما باعني، أو ما يستحق عليَّ ما ادعاه ولا شيئًا منه، أو قال: لا حق له علي صح الجواب لنفيه عين ما ادعى به؛ لأن قوله: "لا حق له" نكرة
(1) في الأصل: بمجر.
في سياق النفي، فتعم (1) كل حق ما لم يعترف له بسبب الحق، فلا يكون قوله: ما يستحق علي ما ادعاه ولا شيئًا منه وما بعده جوابًا، فلو ادعت امرأة مهرها على معترف بزوجيتها فقال: لا تستحق عليَّ شيئًا لم يصح الجواب ولزمه المهر إن لم يقم بينة بإسقاطه، وكذا لو ادعت عليه نفقة أو كسوة، ولهذا لو أقرَّتْ مَريضةٌ في مرض الموت أن لا مهر لها على زوجها لم يقبل منها إلا ببينة أنها أخذته نَصًّا، نقله مهنّا (2)، أو أنها أسقطته عنه في الصحة، ولو قال مدعٍ: لي عليك مائة فقال: ليس لك مائة اعتبر قوله ولا شيئًا منها؛ لأن نفي المائة لا ينفي ما دونها كيمين، فلا يكفي الحلف على نفي المائة، فإن نكل عن اليمين عمَّا دون المائة حكم عليه بمائة إلا جزء، ومن أجاب مدعٍ استحقاقَ مبيع بقوله هو ملكي اشتريته من زيد مثلا وهو ملكه لم يمنع ذلك رجوعه على بائعه بثمن المبيع المستحق إذا أثبته ربه، قال في "تصحيح الفروع" (3):"وهو الصواب لا سيما إن كان المشتري جاهلًا أو الإضافة إلى ملكه في الظاهر، والوجه الثاني: ليس له الرجوع لاعترافه له بالملك وهو بعيد" انتهى.
ولو قال مدعى عليه لمدعٍ دينارًا: لا تستحق عليَّ حبة صحَّ الجواب ويعم حبات
(1) ينظر في مسألة: "النكرة في سياق النفي تعم": أصول السرخسي 1/ 160، وشرح مختصر الروضة ص 473، والمغني في أصول الفقه ص 116، اللمع في أصول الفقه ص 69، وإفاضة الأنوار على أصول المنار ص 99.
(2)
كتاب الفروع 6/ 467، والمبدع 10/ 58، والإنصاف 28/ 414، وشرح منتهى الإرادات 3/ 485.
(3)
6/ 468.
الدينار؛ لأنها تكرة في سياق النفي، ويعم ما دون الحبة من باب الفَحْوَى (1).
ولمدع أنكر خصمه أن يقول: لي بينة، وللحاكم إن لم يقل المدعي ذلك أن يقول له: ألك بينة؟ لما روي: "أن رجلين (2) اختصما إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حضرمي وكندي، فقال الحضرمي: يا رسول اللَّه! إن هذا غلبني على أرضي، فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي، فليس له فيها حقٌّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا، قال: فلك يمينه"(3) وهو حديث حسن صحيح قاله في "شرح المنتهى" لمصنفه (4).
(1) الفَحْوَى: ما يظهر للفهم من معنى الكلام ولَحْنِه، أو ما يُعرف من مذهب الكلام، وجمعه: الأَفْحَاءُ.
ينظر: معجم مقاييس اللغة 4/ 480، ولسان العرب 15/ 149، والقاموس المحيط 4/ 373.
(2)
في الأصل: رجلان.
(3)
من حديث وائل بن حجر رضي الله عنه: أخرجه مسلم بنحوه، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمينٍ فاجرةٍ بالنار، كتاب الإيمان برقم (139) صحيح مسلم 1/ 123، وأبو داود، باب الرجل يحلف على علمه فيما غاب عنه، كتاب الأقضية برقم (3623) سنن أبي داود 3/ 312، والترمذي، باب ما جاء في أن البينة على المُدَّعي واليمين على المدَّعى عليه، كتاب الأحكام، برقم (1340) الجامع الصحيح 3/ 625، وأحمد برقم (18384) المسند 5/ 414، والدارقطني، باب كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري، كتاب الأقضية، سنن الدارقطني 4/ 211، والبيهقي، باب ما يقول إذا جلس الخصمان بين يديه، كتاب آداب القاضي، السنن الكبرى 10/ 137.
(4)
3/ 486.
فإن قال مدع سأله الحاكم: ألك بينة؟ فقال: نعم قال له: إن شئت أحضرها، فإذا أحضرها لم يسألها الحاكم عمَّا عندها حتى يسأله المدعي ذلك؛ لأن الحق له فلا يتصرف فيه بلا إذنه، ولم يلقنها الحاكم الشهادة بل إذا مسألة المدعي سؤاله البينة قال: من كان عنده شهادة فليذكرها إن شاء، ولا يقول لهما: اشْهَدَا؛ لأنه أمر، وكان شريح يقول للشاهدين:"ما أنا دعوتكما ولا أنهاكما أن ترجعا، ولا يقضي على هذا المسلم غيركما، وإني بكما اليوم أقضي، وبكما أتقي يوم القيامة"(1) فإذا شهدت عنده البينة سمعها، وحرم عليه ترديدها، ويكره له طلب زلتها وانتهارها لئلا يكون وسيلة إلى الكتمان، ولا يكره قوله لمدعى عليه: ألك فيها دافع أو مطعن؟ بل يستحب قوله: قد شهدا عليك، فإن كان لك قادحٌ فبينه لي، وقيّده في "الْمُذْهَبِ" (2) و"الْمُسْتَوْعِبِ" (3): بما إذا ارتاب منها، فإن لم يأت بقادحٍ واتضح للحاكم الحكم وكان الحق لمعين وسأله الحكم لزمه فورًا، ويحرم الحكم ولا يصح مع علم الحاكم بضده أو مع ليس قبل البيان، ويأمر بالصلح لقوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ
(1) ينظر: أخبار القضاة 2/ 254 - 255، 291، 296 والمغني 14/ 252، 70.
(2)
"المُذْهَبُ في الْمَذْهَب" العبد الرحمن بن علي بن محمد أبي الفرج المعروف بابن الجوزي المتوفي سنة 597 هـ، وهو مجلد.
ينظر: سير أعلام النبلاء 21/ 368، والذيل على طبقات الحنابلة 1/ 418.
(3)
3/ 319 - 320.
النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (1)، ومع علمه ضده أو مع لبس لم يره شيئًا يحكم به، ويحرم الاعتراض على القاضي لتركه تسمية الشهود، قال في "الفروع" (2):"وذكر شيخنا أن له طلب تسمية البينة ليتمكن من القدح بالاتفاق، ويتوجه مثله حكمت بكذا ولو لم يذكر مستنده". من بينة أو إقرار أو نكول فيحرم الاعتراض عليه لذلك.
وله الحكم ببينة وبإقرار في مجلس حكمه وإن لم يسمعه غيره نصًّا، نقله حرب (3)؛ لأن مستند قضاء القاضي هو الحجج الشرعية، وهي البينة أو الإقرار، فجاز له الحكم بهما إذا سمعها في مجلسه وإن لم يسمعه أحد، لحديث أم سلمة مرفوعًا:"إنما أنا بشر مثلكم تختصمون إليَّ، ولعل أن يكون بعضكم ألْحَنَ بحجته من بعضٍ فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار" رواه الجماعة (4)، فجعل مستند قضائه ما يسمعه
(1) سورة النساء من الآية (105).
(2)
6/ 470.
(3)
قال في المقنع 28/ 423: "ولا خلاف في أنه يجوز له الحكم بالإقرار والبينة في مجلسه إذا سمع معه شاهدان، فإن لم يسمعه معه أحدٌ أوسمعه معه شاهدٌ واحدٌ فله الحكم به نصَّ عليه". ا. هـ.
وينظر: المغني 14/ 33، والشرح الكبير والإنصاف 28/ 423، وشرح الزركشي 7/ 258، والمبدع 10/ 60.
(4)
أخرجه البخاري، باب موعظة الإمام للخصوم، كتاب الأحكام برقم (7169) صحيح البخاري 9/ 57، ومسلم، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، كتاب الأقضية برقم (1713) صحيح مسلم 3/ 337، وأبو داود، باب في قضاء القاضي إذا أخطأ، كتاب الأقضية برقم (3583) =
لا غيره، ولأنه إذا جاز الحكم بشهادة غيره فبسماعه أولى، ولئلا يؤدي إلى ضياع الحقوق، ولا يحكم قاضٍ بعلمه في غير هذه المسألة ولو في غير حد للخبر (1)، ويقول الصديق:"لو رأيت حدا على رجل لم آخذه حتى تقوم البينة"(2)، ولأن تجويز القضاء بعلم القاضي يؤدي إلى تهمته وحكمه بما يشتهي مع الإحالة على علمه لكن يجوز الاعتماد على سماعه بالاستفاضة؛ لأنها من أظهر البيان، ولا يتطرق [إلى](3) الحاكم تهمة إذا استند إليها، فحكمه بها حكم بحجة لا بمجرد علمه الذي لا يشاركه فيه غيره، ذكره في "الطُّرُق الحكمية"(4)،
= سنن أبي داود 3/ 301، والترمذي، باب ما جاء في التشديد على من يُقضى له بشيء ليس له أن يأخذه، كتاب الأحكام برقم (1339) الجامع الصحيح 3/ 624، والنسائي، باب الحكم بالظاهر، كتاب آداب القضاة برقم (5401) المجتبى 8/ 233، وابن ماجة، باب قضية الحاكم. . .، كتاب الأحكام برقم (2317) سنن ابن ماجة 2/ 777، وأحمد، برقم (25952) المسند 7/ 413.
(1)
الذي سبق وهو حديث أم سلمة رضي الله عنها مرفوعًا. رواه الجماعة.
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10/ 144، وأعله بالانقطاع، وأورده الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 4/ 197، وضعّفه بالانقطاع.
(3)
ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، والمثبت من شرح منتهى الإرادات 3/ 487.
(4)
ص 202.
ويعمل بعلمه في عدالة بينة وجرحها بغير خلاف لئلا يتسلسل الاحتياج إلى معرفة المزكين أو جرحهم، فلو لم يعمل بعلمه في ذلك لاحتاج كل من المزكين إلى مزكين ثم يحتاجون أيضًا إلى مزكين وهكذا.
ومن جاء من المدعين ببينةٍ فاسقةٍ استشهدها الحاكم لئلا يفضحها وقال لمدعٍ: زدني شهودًا ولم يقبلها لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (1).
(وَإِنْ أَنْكَرَ) مدعًى عليه (و) الحال أن (لا بَيِّنَةَ) بأن قال المدعي: ما لي بينة (فقولُهُ) أي المنكر (بيمينِهِ)، فيعلم المدعيَ حاكمٌ بذلك، لحديث وائل بن حجر:"أن رجلًا من حضرموت، ورجلًا من كندة، أتيا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي: إن هذا غلبني على أرضي ورثتها من أبي، وقال الكندي: أرضي في يدي لا حق له فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: شاهداك أو يمينه، فقال: إنه لا يتورع من شيءٍ، قال: ليس لك إلا ذلك" رواه مسلم (2)،
= "الطرق الحكمية في السياسة الشرعيَّة" للإمام المحقق أبي عبد اللَّه محمد بن أبي بكر الدمشقي ابن القيم الجوزية المتوفى سنة 751 هـ، وهو كتابٌ مشهورٌ ومطبوعٌ في مجلد بتحقيق الشيخ محمد حامد الفقي، دار الكتب العلميَّة.
(1)
سورة الحجرات من الآية (6).
(2)
سبق تخريجه ص 960.
فإن سأل (1) إحلافه (2) ولو علم عدم قدرته على حقه -ويكره له إحلافه إذن لئلا يضطر إلى اليمين الكاذبة- أحلف على صفة جوابه نصًّا (3)، لا على صفة الدعوى؛ لأنه لا يلزمه أكثر من ذلك الجواب فيحلف عليه، وإذا حلف خلى سبيله، وتحرم دعواه عليه ثانيًا، وتحليفه أيضًا كبريء.
ولا يعتد بيمين إلا بأمر حاكم بسؤال مدع طوعًا، فإن حلف بلا أمر حاكم، أو حلفه حاكم بلا سؤال مدعٍ أو بسؤاله كرهًا لم تسقط عنه اليمين.
ولا يصل اليمين منكر باستثناء لأنه يزيل حكمها، وتحرم تورية وتأويل في حلف بأن يريد بلفظه ما يخالف ظاهره إلا لمظلوم فيجوز له التورية والتأويل لدفع الظلم.
ويحرم حلف معسر خاف حبسًا أنه لا حق له علي ولو نوى الساعة، ويحرم حلف من عليه دين مؤجل أراد غريمه منعه من سفر فأنكر وحلف لا حق له عليَّ ولو نوى الساعة نصًّا (4)، ولا يحلف مدعى عليه في شيءٍ مختلف فيه لا يعتقده نصًّا، وحمله الموفّق على الورع، ونقل عن أحمد: لا يعجبني نحو إن باع شافعي لحمًا متروك التسمية عمدًا لحنبلي بثمن في الذمة وطالبه به وأنكر مجيبًا لا حق لك
(1) أي المُدعي.
(2)
أي المنكر.
(3)
المغني 14/ 232، وكتاب الفروع 6/ 475، والمبدع 10/ 63، والإنصاف 28/ 429، وكشاف القناع 6/ 337.
(4)
كتاب الفروع 6/ 476، والإنصاف 28/ 432، وغاية المنتهى 3/ 433 - 434.
علي، وتوقف أحمد في اليمين فيمن عامل بحيلة ربوية إذا أنكر الآخذ الزيادة. (1).
ومن توجهت عليه اليمين فلم يحلف وامتنع قال له حاكم: إن حلفت وإلا قضيت عليك بالنكول نصًّا (2)، ويسن تكراره ثلاثًا قطعًا لحجته، (فَإِنْ نَكَلَ) عن اليمين فلم يحلف (حُكِمَ عَلَيْهِ) أي حكم عليه قاضٍ (بـ) شرط (سؤالِ مُدَّعٍ) الحكم عليه (في مالٍ وما يُقْصَدُ بهِ) المال كالبيع وأجله وخياره ورهن وإجارة وشركة ونحو ذلك.
(ويُسْتَحْلَفُ في كُلِّ حَقٍّ آدميٍّ) من مال وما قصد به المال مما يثبت بشهادة رجل وامرأتين (سِوَى نِكَاحٍ ورَجْعَةٍ ونَسَب ونحوها) كطلاق وقذف وقصاص مما ليس بمال ولا يقصد به المال فلا يستحلف فيه، و (لا) يستحلف (في حَقِّ اللَّه) تعالى (كحدِّ) زنًا وشربٍ (وعبادةٍ) من صلاة أو زكاة أو حج ونحوها.
(واليَمِيْنُ الْمَشْرُوْعَةُ) في قطع النزاع هي اليمين (باللَّه) تعالى (وَحْدَهُ) الذي لا يسمى به غيره نحو: واللَّه، والرحمن، وخالق الخلق، ورازق العالمين، ونحو ذلك، (أَوْ بِصفةٍ)(3) من صفاته تعالى، كوجه اللَّه، وعظمته، وكبريائه، وعزته، ونحو ذلك، (ويُحْكَمُ بالبيِّنة بعد
(1) ينظر: غاية المنتهى 3/ 434، وشرح منتهى الإرادات 3/ 492.
(2)
المغني 14/ 233، والكافي 4/ 514، والمقنع والشرح الكبير والإنصاف 28/ 432، والمحرر 2/ 208، وكتاب الفروع 6/ 476، والمبدع 10/ 64.
(3)
في أخصر المختصرات المطبوع ص 263: أو بصفته.
التَّحليف)؛ لأنها لا تبطل بالاستحلاف كما لو غابت عن البلد، وإن كان لمدعٍ شاهد واحد بالمال وأقامه عرفه القاضي أن له أن يحلف مع شاهده ويستحق، فإن قال: لا أحلف وأرضى بيمينه استحلف له وانقطع النزاع، فإن عاد المدعي وقال: أحلف مع شاهدي لم يسمع منه، نقله في "الشرح"(1)، وإن وجد مدع مع شاهده آخر فشهد عند القاضي بحقه كملت بينته وقضى له بها، وإن قال مدع: لي بينة وأريد يمينه فإن كانت حاضرةً بالمجلس فليس له إلا أحدهما، لحديث:"شاهداك أو يمينه"(2)، وأوْ (3) للتخيير فلا يجمع بينهما، ولإمكان فصل الخصومة بالبينة فلا يشرع غيرها مع إرادة مدع إقامتها وحضورها، وإلا تكن البينة حاضرة بالمجلس فله تحليفه ثم إقامة البينة لقول عمر:"البينة الصادقة أحب إليَّ من اليمين الفاجرة"(4) ويلزم من صدق البينة فجور اليمين المتقدمة فتكون أولى.
وإن سأل مدع ملازمة مدعى عليه حتى يقيم البينة أجيب في المجلس حيث أمكن إحضارها فيه؛ لأنه من ضرورة إقامتها، ولا ضرر فيه على المدعى عليه، بخلاف ما إذا بعدت أو لم يمكن إحضارها فإن إلزامه الإقامة إلى حضورها يحتاج إلى حبس أو ما يقوم مقامه ولا سبيل إليه، فإن لم تحضر البينة في المجلس صرفه ولا ملازمة لغريمه
(1) 28/ 445.
(2)
جزء من حديث سبق تخريجه ص 960.
(3)
في الأصل: والواو.
(4)
أخرجه البيهقي معلقًا في السنن الكبرى 10/ 182. وضعّفه الألباني في الإرواء 8/ 263.
نصًّا (1)؛ لأنه لم يثبت له حق يحبس به ولا يقيم به كفيلًا، ولئلا يتمكن كل ظالم من حبس من شاء من الناس بلا حق.
وإن سكت مدعى عليه أو قال: لا أقر ولا أنكر، أو قال: لا أعلم قدر حقه ولا بينة قال الحاكم: إن أجبت وإلا جعلتك ناكلًا وقضيت عليك بالنكول، ويسن تكراره ثلاثًا، فإن أجاب وإلا قضى عليه.
ولو قال مدعى عليه في جواب من ادعى ألفًا: إن ادعيت ألفا برهن كذا في بيدك أجبتك وإلا فلا حق علي فجوابه صحيح، أو قال: إن ادعيت هذا الألف بثمن كذا بعتنيه ولم أقبضه فنعم، وإلا فلا حق لك علي فجواب صحيح، لا إن قال: لي مخرج مما ادعاه فليس جوابًا صحيحًا؛ لأن الجواب إما إقرار أو إنكار وليس هذا واحدًا منهما.
وإن قال مدعى عليه: في حساب أريد أن أنظر فيه وسأل الإنظار أنظر ثلاثة أيام، ويلازمه المدعي فيها لإمكان ما يدعيه وتكليفه الإقرار في الحال إلزام له بما لا يتحققه؛ لأنه يجوز أن يكون له حق لا يعلم قدره أو يخاف أن يحلف كاذبًا، وأن لا يكون عليه حق فيقر بما لا يلزمه فوجب إنظاره مما لا ضرر على المدعي في إنظاره إليه وهو ثلاثة أيام جمعًا بين الحقين، أو قال مدعى عليه بعد ثبوت الدعوى عليه ببينة: قضيته أو أبرأني من المدعى به ولي بينة به وسأله الإنظار لزمه
(1) المغني 14/ 221، والشرح الكبير والإنصاف 28/ 442، وكتاب الفروع 6/ 482، والمبدع 10/ 67، وكشاف القناع 6/ 339.
إنظاره ثلاثة أيام فقط؛ لأن إلزامه في الحال تضييق عليه، وإنظاره أكثر من ذلك تأخير للحق عن مستحقه بلا ضرورة، فجمع بين الحقين، وللمدعي ملازمته زمن الإنظار لئلا يهرب، ولا ينظر إن قال: في بينة تدفع دعواه؛ لأنه لم يبين سببه (1)، فإن عجز عن البينة حلف المدعي على نفي ما ادعاه واستحق ما ادعى به، فإن نكل عن اليمين حكم عليه بنكوله وصدق المدعى عليه؛ لأن الدعي إذن منكر وجبت عليه يمين فنكل عنها فحكم عليه بالنكول كما لو كان مدعى عليه ابتداءً، هذا إن لم يكن المدعى عليه أنكر سبب الحق، فأما إن كان أنكره ثم ثبت فادعى قضاءً أو إبرأءً سابقًا إنكاره ما ادعاه من ذلك فلو ادعى عليه ألفًا من قرض أو ثمن مبيع فقال: ما اقترضت منه وما اشتريت منه فثبت أنه اقترض أو أشترى (2) منه ببينة أو إقرار فقال: قضيته قبل هذا الوقت أو أبرأني لم يقبل ذلك منه وإن أقام به بينة نصًّا (3)؛ لأن إنكار الحق يقتضي نفي القضاء أو الإبراء منه؛ لأنهما لا يكونان إلا عن حقٍ سابقٍ فيكون مكذبا لنفسه، وإن ادعى قضاء أو إبراء بعد إنكاره قبل منه ببينة؛ لأن قضاءه بعد إنكاره كالإقرار به، فيكون قاضيًا لما هو مقرٌّ به، فتسمع دعواه به كغير المنكر، وإبراء المدعي بعد إنكاره إقرار بعدم استحقاقه فلا تنافي، وإن قال مدعى عليه بعين جوابًا
(1) أي الدفع.
(2)
في الأصل: شرا.
(3)
المحرر 2/ 209 - 210، وكتاب الفروع 6/ 484، والمبدع 10/ 70، والإنصاف 28/ 451، وغاية المنتهى 3/ 436.
لمدعيها: وإنت بيدك أو لك أمس لزمه إثبات سبب زوال يده، وإن عجز عن إثباته حلف مدع على بقائه، وإن العين لم تخرج عنه بوجه وأخذها، وإن قال مدع: لا أعلم لي بينة ثم أتى بها سمعت؛ لأنه يجوز أن تكون له بينة لا يعلمها ثم علمها، ونفي العلم لا ينفيها (1) فلا تكذيب لنفسه، أو قال عدلان: نحن نشهد لك فقال: هذه بينتي سمعت لما سبق، ولا تسمع إن قال: ما لي بينة ثم أتى بها نصًّا (2)؛ لأنه مكذب لها، أو قال: كذب شهودي، أو قال: كل بينة أقيمها فهي زُوْرٌ أو بَاطِلَة أو لا حق لي فيها فلا تسمع بينته بعد ولا تبطل دعواه بذلك؛ لأنه لا يلزم من بطلان الدليل بطلان المدعى فله تحليف خصمه لاحتمال أنه محق ولم يشهد عليه، ولا ترد البينة بذكر السبب إذا سكت عنه المدعي في دعواه لعدم المنافاة إذن، بل بذكر سبب ذكر المدعي غيره، كإن طالبه بألف قرضا فأنكره فشهدت بألف من ثمن مبيع أو أجرة أو غصب للتنافي.
ومتى شهدت بينة بغير مدعى به كإن ادعى دينارا فشهدت بدراهم فهو مكذب لها
(1) في الأصل: لا ينفاها.
(2)
الهداية 2/ 128، والمغني 14/ 271 - 272، والكافي 4/ 463، والمقنع والشرح الكبير والإنصاف 28/ 440 - 441، والمحرر 2/ 209.
قال الزركشي: "وقيل: يقبل سواء أحلفه الحاكم أو لم يحلفه؛ لاحتمال أن تكون البينة سمعت ذلك من غير أن يعلم فأشبه ما لو قال: لا أعلم في بينة، أو لاحتمال أن يكون قال ذلك عن نسيان واللَّه أعلم". ا. هـ. شرح الزركشي 7/ 394.
نصًّا (1)، فلا تسمع، وفي "المستوْعِب" (2) و"الرِّعاية" إن قال:"أستحقه وما شهدوا به وإنما ادعيت بأحدهما لأدعي بالآخر وقتا آخر ثم ادعاه ثم شهدوا به قبلت". (3)
ومن ادعى شيئًا أنه له الآن لم تسمع بينته إن شهدت أنه كان له أمس أو أنه كان في يده أمس لعدم التطابق حتى تَبين سبب يد الثاني نحو غاصبة أو مستعيرة، بخلاف ما لو شهدت البينة أنه وإن ملكه بالأمس اشتراه من رب اليد فإنه يقبل.
وقال الشيخ تقي الدين: "إن قال: ولا أعلم له مزيلًا قُبِلَ وقال: لا يعتبر في أداء الشهادة قوله، وأن الدين باقٍ في ذمة الغريم بل يحكم الحاكم باستصحاب الحال إذا ثبت عنده سبب الحق إجماعًا"(4). ومن ادُّعِيّ عليه بشيء فأقر بغيره لزمه ما أقر به إذا صدقه المقر له، لحديث:"لا عذر لمن أقر"(5) والدّعوى بحالها
(1) كتاب الفروع 6/ 482، والمبدع 10/ 67، والإنصاف 28/ 441، والإقناع 4/ 394، وغاية المنتهى 3/ 434.
(2)
3/ 424.
(3)
ينظر: كتاب الفروع 6/ 482، والإنصاف 28/ 441، وشرح منتهى الإرادات 3/ 493.
(4)
الاختبارات ص 619.
(5)
أورده الإمام السخاوي في المقاصد الحسنة ص 468 ونقل عن شيخه بأنه حديث لا أصل له وليس معناه على إطلاقه صحيحا.
نصا (1)، فله إقامة البينة بها أو تحليفه.
(وشرط في بينة عدالة ظاهرا، و) كذا (في كثر عقد نكاح باطنا أيضًا) لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (2) وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (3) وقوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (4) والفاسق لا يؤمن كذبه، وأما في عقد النكاح فتكفي العدالة له ظاهرا فلا يبطل لو بانا فاسقين وتقدم (5) ، واختار الخرقي وأبو بكر وصاحب "الروضة" تقبل شهادة كل مسلم لم يظهر منه ريبة (6)؛ لقبوله عليه الصلاة والسلام شهادة الأعرابي برؤية الهلال (7)، وقول
(1) كتاب الفروع 6/ 482، والمبدع 10/ 67، والإنصاف 28/ 441 - 442، والإقناع 4/ 394، وشرح منتهى الإرادات 3/ 494.
(2)
سورة الطلاق من الآية (2).
(3)
سورة البقرة من الآية (282).
(4)
سورة الحجرات من الآية (6).
(5)
ص 252.
(6)
ينظر: كتاب الروايتين والوجهين 3/ 79، والمغني 14/ 43، والمقنع والشرح الكبير والإنصاف 28/ 476 - 478، والمحرر 2/ 207، وكتاب الفروع 6/ 470، وشرح الزركشي 7/ 262، وغاية المنتهى 3/ 431.
(7)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال فقال: أتشهد أن لا إله إلا اللَّه؟ قال: نعم، قال: أتشهد أن محمدا رسولا اللَّه؟ قال: نعم، قال: يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا" أخرجه أبو داود، واللفظ =
عمر: "المسلمون عدول"(1)، ولأن ظاهر المسلم العدالة لأنها أمر خفي سببها الخوف من اللَّه تعالى ودليله الإسلام، فإذا وجد اكتفي به ما لم يقم دليل على خلافه، فإن جهل إسلامه رجع إلى قوله والعمل على الرواية
= له، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان، كتاب الصوم برقم (2340) سنن أبي داود 2/ 302، والترمذي، باب ما جاء في الصوم بالشهادة، كتاب الصوم برقم (691) الجامع الصحيح 3/ 74، والنسائي، باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان. .، كتاب الصيام برقم (2112 - 2113) المجتبى 4/ 131 - 132، وابن ماجة، باب ما جاء في الشهادة على رؤية هلال رمضان، كتاب الصيام برقم (1652) سنن ابن ماجة 1/ 529، والدرامي، باب الشهادة على رؤية هلال رمضان، كتاب الصوم برقم (1692) سنن الدارمي 2/ 9، وابن حبان، باب ذكر إجازة الشاهد الواحد إذا كان عدلا على رؤية هلال رمضان، كتاب الصوم برقم (3446) الإحسان 8/ 229 - 235، والدارقطني، كتاب الصيام، سنن الدارقطني 2/ 158، والحاكم، باب من صام يوم الشك. .، كتاب الصوم، المستدرك 1/ 424، والبيهقي، باب الشهادة على رؤية هلال رمضان، كتاب الصيام، السنن الكبرى 4/ 211، من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس به. والحديث قال عنه الترمذي:"حديث ابن عباس فيه اختلاف. . . وأكثر أصحاب سماك رووا عن سماك عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا". ا. هـ، ورجح النسائي إرساله، وقال الحاكم:"قد احتج البخاري بأحاديث عكرمة واحتج مسلم بأحاديث سماك بن حرب. وهذا الحديث صحيح ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
(1)
أخرجه الدارقطني في سننه 4/ 207، وابن حزم في المحلى 9/ 393، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 155 - 156، وصححه الألباني في الإرواء 8/ 258.
الأولى، وقولهم: ظاهر المسلم العدالة ممنوع بل الظاهر عكسه؛ لأن العادة إظهار الطاعة وإسرار المعصية، وقول عمر معارض بما روي عنه أنه أتي بشاهدين فقال لهما:"لست أعرفكما ولا يضركما أني لم أعرفكما"(1) والأعرابي الذي قبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادته صحابي والصحابة عدول.
(و) شرط (في مزك معرفة) خبرة مزك باطنة بصحبة أو معاملة من (جرح وتعديل، و) شرط (معرفة حاكم خبرته) أي المزكي (الباطنة) كالمعرفة المتقدمة، ويكفي في تزكية الشاهد عدلان يقول كل منهما: أشهد أنه عدل ولو لم يقل: أرضاه لي وعلي؛ لأنه إذا كان عدلا لزم قبوله على مزكيه وغيره، ولا يكفي قوله: لا أعلم إلا خيرا، (وتقدم بينة جرح) على بينة تعديل؛ لأن الجارح يخبر بأمر باطن خفي على العدل، وشاهد العدالة يخبر بأمر ظاهر، ولأن الجارح مثبت للجرح، والمعدل ناف له والمثبت مقدم على النافي، وإذا عصى في بلده فانتقل منه فجرحه اثنان في بلده وعدله اثنان في البلد الذي انتقل إليه قدمت التزكية، ويكفي فيها الظن بخلاف الجرح، قاله في "المبدع"(2)، وتعديل خصم وحده لشاهد عليه تعديل له؛ لأن البحث عن عدالته لحقه، ولأن إقراره بعدالته إقرار بما يوجب الحكم عليه لخصمه فيؤخذ بإقراره وكذا تصديقه للشاهد تعديل له، ولا تصح التزكية في واقعة واحدة يقول مزك: أشهد أنه عدل في شهادته في هذه القضية
(1) بنحوه أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10/ 125، وصححه الألباني في الإرواء 8/ 260.
(2)
10/ 86.
فقط، ومن ثبتت عدالته مرة لزم البحث عنها مرة أخرى مع طول المدة بين الشهادتين؛ لأن الأحوال تتغير مع طول الزمن، (فمتى جهل حاكم حال بينة) فلم يعلم قوة ضبطها ودينها (طلب التزكية) أي طلب من يزكيها (مطلقا) من غير تقييد. بحال دون حال، (ولا يقبل فيها) أي التزكية (و) لا (في الجرح ونحوهما إلا رجلان)، فلا يقبل في ذلك شهادة النساء؛ لأنها شهادة فيما ليس بمال ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال غالبا أشبه الشهادة في القصاص، فإذا ارتاب الحاكم من عدلين لزمه البحث عما شهدا به بسؤال كل واحد منهما منفردا عن كيفية تحمله ومتى وأين، ويسأله هل تحمل الشهادة وحده أو مع صاحبه، فإن اتفقا وعظهما وخوفهما، لحديث أبي حنيفة قال: "كنت عند محارب بن دثار (1) وهو قاضي الكوفة، فجاء رجل فادعى على رجل حقا فأنكره، وأحضر الدعي شاهدين شهدا له، فقال المشهود عليه: والذي تقوم به السماء والأرض لقد كذبا علي، وكان محارب بن دثار متكئا فاستوى جالسا وقال: سمعت ابن عمر يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الطير لتخفق بأجنحتها، وترمي ما في حواصلها من هول يوم القيامة، وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار، فإن صدقتما فاثبتا، وإن كذبتما فغطيا رؤوسكما
(1) محارب بن دثار: بن كردوس بن قرواش، السدوسي، الكوفي، الفقيه، قاضي الكوفة، وليها لخالد بن عبد اللَّه القسري، كنيته: أبو دثار، توفي سنة 116 هـ.
ينظر: تهذيب الكمال 27/ 255 - 258، وسير أعلام النبلاء 5/ 217 - 219.
وانصرفا، فغطيا رؤوسهما وانصرفا" (1)، فإن ثبتا بعد وعظهما حكم بشهادتهما بسؤال مدع وإلا يثبتا لم يقبلهما، وإن أقام بينة بدعواه وسأل حبس خصمه في غير حد حتى تزكى بينته أجيب ثلاثة أيام ويقال له: إن جئت بالمزكين فيها وإلا أطلقناه، أو أقام بينة وسأل كفيلا به في غير حد، أو جعل مدعى به بيد عدل حتى تزكى بينته، أو أقام شاهدا بمال وسأل حبسه حتى يقيم الآخر أجيب ثلاثة أيام لتمكنه من البحث فيها فلا حاجة لأكثر منها بل في حبسه أكثر منها ضرر كثير، وإن جرح البينة خصم أو أراد جرحها كلف بينة وينتظر ثلاثة أيام لقول عمر في كتابه لأبي موسى الأشعري: "واجعل لمن ادعى حقا غائبا أمدا ينتهى إليه فإن أحضر بينته أخذت له حقه وإلا استحللت القضية عليه فإنه أنفى للشك وأجلى للفهم (2) " (3) ويلازمه المدعي في الثلاثة
(1) أورده أبو نعيم في حلية الأولياء 7/ 264، والخطيب في تاريخ بغداد 11/ 63، وابن عدي في الكامل 6/ 2149، والعقيلي في الضعفاء 4/ 123، والمتقي في كنز العمال 7/ 13.
وقوله "وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار" الحديث أخرجه ابن ماجة، باب شهادة الزور، كتاب الأحكام، برقم (2373) سنن ابن ماجة 2/ 794، والحاكم، باب ظهور شهادة الزور، كتاب الأحكام، المستدرك 4/ 98، والبيهقي، باب وعظ القاضي الشهود، كتاب آداب القاضي، السنن الكبرى 10/ 122، من طريق محمد بن الفرات التميمي، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر مرفوعا. والحديث قال الحاكم:"صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وواففه الذهبي، وقال البيهقي:"محمد بن الفرات الكوفي ضعيف". وضعف الحديث الألباني كما في ضعيف الجامع الصغير 3/ 244.
(2)
في الأصل: للفم.
(3)
أخرجه بنحوه الدارقطني في سننه 4/ 206 - 207، والبيهقي في معرفة السنن والآثار 14/ 240، وصحح إسناده الألباني في الإرواء 8/ 241 - 242.
أيام لئلا يهرب فيضيع حقه وظاهره أنه لا يحبس فيها فإن أتى بها وإلا حكم عليه.
ولا يسمع جرح لم يبين سببه بذكر قادح فيه عن رؤية، ويعرض جارح بزنا أو لواط، فإن صرح ولم تكمل بينة حد.
وإن جهل حاكم لسان خصم ترجم له من يعرفه قال أبو جمرة (1) -كنت أترجم بين الناس وبين ابن عباس (2) وأمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت فتعلم كتاب اليهود قال: "حتى كنت أكتب للنبي صلى الله عليه وسلم كتبه وأقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه" رواه أحمد والبخاري (3)، ولا يقبل في ترجمة وجرح وتعديل في زنا أو لواط إلا أربعة رجال عدول كشهود الأصل، ويعتبر فيمن رتبه الحاكم يسأل سرا عن الشهود لتزكية
(1) في الأصل: أبو حمزة، والمثبت من كتب الحديث والتراجم.
وأبو جمرة: نصر بن عمران بن عصام الضبعي، البصري، أحد الأئمة الثقات، توفي بسرخس سنة 128 هـ.
ينظر: تهذيب الكمال 29/ 362 - 365، وسير أعلام النبلاء 5/ 243 - 244.
(2)
أخرجه البخاري، باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم وفد عبد قيس على أن يحفظوا الإيمان والعلم. . .، كتاب العلم برقم 87، صحيح البخاري 1/ 24، ومسلم، باب الأمر بالإيمان باللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الدين. . .، كتاب الإيمان برقم 17، صحيح مسلم 1/ 47.
(3)
سبق تخريجه ص 944.
أو جرح شروط الشهادة الآتية، وتجب الشافهة فيمن يعدل أو يجرح ونحوه، فلا تكفي كتابته أنه عدل أو ضده ونحوه كالشهادة، وإذا رتب الحاكم [من يسأل](1) عن الشهود كتب أسماءهم وصنائعهم ومعايشهم وموضع مساكنهم وصلاتهم ليسأل عنهم أهل سوقهم ومسجدهم وجيرانهم، وكتب حلاهم كأسود أو أبيض أو أنزع أو أغم أشهل أو أكحل أقنى الأنف أو أفطس رقيق الشفتين أو غليظهما طويل أو قصير أو ربعة للتمييز، ويكتب المشهود له أو عليه وقدر الحق فيكتب لكل ممن يرسله رقعة بذلك، وينبغي أن يكونوا غير معروفين لئلا يستمالوا بنحو هدية، وأن لا يكونوا من أهل الأهواء والعصبية، وأن يكونوا أصحاب عفة من ذوي العقول الوافرة براء من الشحنة والبغضة، فإذا رجعوا فأخبر اثنان بالعدالة قبل الشهادة، وإن أخبرا بالجرح ردهما، وإن أخبر أحدهما بالجرح والآخر بالعدالة بعث آخرين، فإن عادا وأخبرا بالتعديل تمت بينته وسقط الجرح؛ لأن بينته لم تتم، وإن أخبرا بالجرح ثبت وسقط التعديل، ومن نصب للحكم بجرح أو تعديل أو لسماع بينة قنع الحاكم بقوله وحده إذا قامت البينة عنده؛ لأنه حاكم أشبه غيره من الحكام، ومن سأله حاكم عن تزكية من شهد عنده أخبره وجوبا بالواقع وإلا لم يجب عليه؛ لأنه لم يتعين عليه.
(1) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، والمثبت من شرح منتهى الإرادات 3/ 490.