الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
بقية الكنى
أبو بكر بن محمد بن سلمان
ابن حمايل: القاضي الفاضل الكاتب بهاء الدين بن القاضي شمس الدين بن غانم أحد الإخوة، تقدم ذكر أخيه شهاب الدين أحمد في الأحمد في الأحمدين، وسيأتي ذكر أخيه القاضي علاء الدين بن غانم في مكانه من حرف العين.
كان كاتباً بليغاً، لا يبيت من العي لديغا، إلا أن حظه لم يكن قويا، ولا هو في طريق المنسوب يرى سويا. وكان له ميل إلى الصور الجميله، والجفون الكحيله، والوجنات الأسيله، إذا رآها هام فيها صبابه، وذهبت نفسه إلا صبابه، على ما عنده من العفه، وثقل المسكة التي لا توازنها الشهوة بالخفه، وعليه روح في السماع، وحركات لا يخرج بها عن الضرب والإيقاع. يدور ودموعه سائله، ونفسه من الوجد زائله، فيجد الناس به أنسا، ويرون منه ما يسمعونه عن كآبة الخنسا.
كان كاتب إنشاء بطرابلس في أيام الأمير سيف الدين أسندمر، ثم إنه حضر إلى دمشق وكتب الإنشاء عند الصاحب شمس الدين بدمشق، ثم لما جرى للقاضي زين الدين عمر بن حلاوات ما جرى على - ما سيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمة عمر - جهز القاضي بهاء الدين بن غانم عوضه إلى صفد موقعاً، فأقام بها بين يدي نائبها الحاج أرقطاي تقدير تسع سنين.
ولما توفي زين الدين بن حلاوات موقع طرابلس نقل إليها القاضي بهاء الدين بن غانم، فتوجه إليها وأقام بها إلى سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، فقضى بها نحبه، وفارق من ألفه وأحبه في ليلة الجمعة ثامن عشري صفر من السنة، وكان قد حفظ التنبيه، ومن مسموعاته مسند الإمام أحمد على ابن علان.
وكان في صفد قد حصل له ميل إلى مغن يدعى طقصبا، وصار يعمل به السماع في كل ليلة، وقرر ذلك كل ليلة عند واحد من أكابر الناس. وأنشدني من لفظه لنفسه:
لا ترجّى مودةٌ من مغنّ
…
فمعنّى الفواد من يرتجيها
أبداّ لا تنال منه وداداً
…
ولك الساعة التي أنت فيها
وأنشدني أيضاً من لفظه لنفسه:
كدت أبلى ببليّه
…
من جفونٍ بابليّه
فتكت في القلب لكن
…
كانت التقوى تقيّه
وأنشدني من لفظه لنفسه:
يا من غدا مشتغلاً
…
عمن به يشتغل
بيتك قلبي وهو من
…
هجرك لي يشتعل
وأنشدني من لفظه لنفسه في بدر الدين بن الخشاب مشد صفد وشرف الدين بن كسيرات الناظر وكانت له عذبة:
يا ماعرا صفداً مذ حلّ منصبها
…
وحلّ بالشدّ عقداً من مآثرها
دقّت بدرّة نحسٍ لا خلاق له
…
أما تراها علت أكتاف ناظرها
وأنشدني من لفظه لنفسه:
يا سيّداً حسنت مناقب فضله
…
فعلت بما فعلت على الآفاق
حاشاك تكسر قلب عبدٍ لم يزل
…
توليه حسن صنائع الإشفاق
هب أنه أخطا وأذنب مرّةً
…
مولاي أين مكارم الأخلاق
كتب هو إلي من طرابلس وأنا مقيم بدمشق، وقد تأخرت مكاتباتي عنه، ثلاثة أوصال ورق أبيض وفي ذيلها مكتوب، ولم يك فيها غير ذلك:
سبحان من غيرّ أخلاق من
…
أحسن في حسن الوفا مذهبا
كان خليلاً فغدا بعد ذا
…
لمّا انقضى ما بيننا طقصبا
أشار بذلك إلى أمر طقصبا المذكور، وكان له عم أسود زوج أمه يدعى خليلاً، وكان ينغص علينا الاجتماع بحضوره، ولما كتب هذه كان طقصبا المذكور رحمه الله تعالى قد توفي بصفد من مدة، فحسن لذلك إبراز هذين البيتين في هذه الصورة، فكتبت أنا الجواب:
يا باعث العتب إلى عبده
…
وما كفاه العتب أو ندّبا
ومذكري عهداً لبسنا له
…
ثوب سرور بالبها مذهبا
مرّ فلم يحل لنا بعده
…
عيش ولم نلق الهوى طيّبا
ما كلّ ذي ودّ خليلٌ ولا
…
كلّ مليح في الورى طقصبا
فحبّذا تلك الليالي التي
…
كم يسّر الله بها مطلبا
ما أحدٌ في مثلها طامعٌ
…
هيهات فاتت في المنى أشعبا
وينهي بعد دعاء يرفعه في كل بكرة وأصيل، وولاء حصل منه على النعيم المقيم، ولا يقول: وقع في العريض الطويل، وثناء إذا مر في الرياض النافحة صح أن نسيم السحر عليل، وحفاظ ود يتمنى كل من جالسه لو أن له مثل المملوك خليل، ورود
المثال الكريم، فقابل منه اليد البيضاء بل الديمة الوطفاء، بل الكاعب الحسناء، وتلقى منه طرة صبح ليس للدجا عليها أذيال، وغرة نحج ما كدر صفاها خيبة الآمال، فلو كان كل وارد مثله لفضل المشيب على الشباب، ونزع المتصابي عن التستر بالخضاب، ورفض السواد ولو كان خالاً على الوجنه، وعد المسك إذا ذر على الكافور هجنه، وأين سواد الدجا إذا سجى من بياض النهار إذا انهار، وأين وجنات الكواعب النقية من الأصداغ المسودة بدخان العذار، وأين نور الحق من ظلمة الباطل، وأين العقد الذي كله در من العقد الذي فيه السبج فواصل، يا له من وارد تنزه عن وطء الأقلام المسوده، وعلا قدره عن السطور التي لا تزال وجوهها بالمداد مربده حتى جاء يتلألأ ضياء ويتقد، وأتى يتهادى في النور بالذي تعتقد فيه المجوسية ما تعتقد، ولكن توهم المملوك أن تكون صحف الود أمست مثله عفاء، وظن بأبيات العود السالفة أن تكون كهذه المراسلة من الرقوم خلاء:
لو أنها يوم المعاد صحيفتي
…
ما سرّ قلبي كونها بيضاء
فلقد سودت حال المملوك ببياضها، وعدم من عدم الفوائد البهائية ما كان يغازله من صحيحات الجفون ومراضها، وما أحق تلك الأوصال الوافدة بلا إفاده، الجائدة بزيارتها التي خلت من الجود بالسلام وإن لم تخل زورتها من الإجاده، أن ينشدها المملوك قول البحتري. أبي عبادة:
أخجلتني بندى يديك فسودت
…
ما بيننا تلك اليد البيضاء
وقطعتني بالوصل حتى إنني
…
متخوّفٌّ أن لا يكون لقاء
يا عجباً كيف اتخذ مولانا هذا الصامت رسولاً بعد هذه الفترة، وكيف ركن إليه في إبلاغ ما في ضميره ولم يحمله من در الكلام ذره، وكيف أهدى عروس تحيته ولم يقلدها من كلامه بشذره، ما نطق هذا الوارد إلا بالعتاب مع ما ندر وندب، ولا أبدى غير ما قرر من الإهمال وقرب.
و:
على كلّ حالٍ أمّ عمرو جميلةٌ
…
وإن لبست خلقانها وجديدها
وبالجملة فقد مر ذكر المملوك بالخاطر الكريم، وطاف من حنوه طائف على المودة التي أصبحت كالصريم، وإذا كان الشاعر قد قال:
ويدلّ هجركم على
…
أنّي خطرت ببالكم
فكيف بمن دخل ذكره الضمير وخرج، وذكر على ما فيه من عوج، وما استخف بي من أمرني ومن ذكرني ما حقرني، والله تعالى يديم حياته التي هي الأمان والأماني، ويمتع بألفاظه الفريدة التي هي أطرب من المثالث والمثاني بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
فكتب هو إلي الجواب عن ذلك:
يا هاجراً من لم يزل قلبه
…
إليه من دون الورى قد صبا
أرسلت من بعد الجفا أسطراً
…
أرقص منها السمع ما أطربا
شفت فؤاداً شفّه وجده
…
من بعدما قد كاد أن يذهبا
قال لها العبد وقد أقبلت
…
أهلاً وسهلاً بك يا مرحبا
أحلّها قلباً صحيح الولا
…
ما كان في صحبته قلّبا
ولا نسي عهد خليل له
…
قديم عهد كان مع طقصبا
وقبل مواقع تلك الأنامل التي يحق لها التقبيل، وقابل بالإقبال تلك الفضائل المخصوصة بالتفضيل، وقابلها بالثناء الذي إذا مر بالمندل الرطب جر عليه من كمائم اللطف وكمه فضل المنديل، وتأملها بطرف ما خلا من تصور محاسن صديق ولا أخل بما يجب من التلفت إلى خليل، وشاهد منه الروضة الغناء، بل الدوحة الفيحاء، بل الطلعة الغراء، فوجدها قد تسربلت من المحاسن البديعة بأحسن سربال، وتحلت من المعاني البديهة بما هو أحلى في عين المحب المهجور وقلبه من طيف الخيال. لكن مولانا غاب عن مملوكه غيبةً ما كانت في الحساب، وهجره وهو من خاطره بالمحل الذي يظنه إذا ناداه بالأشواق أجاب، واتخذ بدعة الإعراض عن القائم بفرض الولاء سنه، واشتغل عمن له عين رضىً عن نسيان ما مضى من كليلة ودمنه، فخشي المملوك من تطاول المده، وخامر قلبه تقلبات الأيام، فخاف أن تبقى أسباب المقاطعة ممتده، ووثق بما يتيقن من حسن الموافاة ويعتقد، فاقتضى حكم التذكار لطف الاقتصار، توصلا إلى تفقد التودد، ومن عادات السادات أن تفتقد بذكر أيام خلت مسرة وهناء، وليال أحلى من سواد الشباب، أولت بوصال الأحباب اليد البيضاء.
لو أنّ ليلات الوصال يعدن لي
…
كانت لها روح المحبّ فداء
فيالها من مليحة أقبلت بعد إعراضها، ولطيفة رمقت بإيماء جفن مواصلتها وإيماضها، وبديعة استخرج غواص معانيها من بحار معانيها كل دره، وصنيعة أبدى نظام لآليها من غرر أياديها أجمل غره، ورفيعة جددت السرور وشرحت الصدور فعلت بما فعلت إكليل المجره، ومتطولة رغبت المقصر فيما يختصر وحببت، ومتفضلة قضت بحق تفضيلها على ما سبق وأوجبت:
مودّتها في مهجتي لا يزيلها
…
بعاد ولا يبلي الزمان جديدها
والله يشكر ما خوله من فضل هذه المعالي والمعاني، ويمتع بفضائله التي تغني أغانيها عن المثالث والمثاني.
وبيني وبينه مكاتبات ومراجعات غير هذه، وقد أوردت شيئاً من ذلك في كتابي ألحان السواجع.
وأخبرني يوماً أنه زار قبر طقصبا المذكور فوجد قبره قد نبت به أنواع من الزهر، وطلب مني نظم شيء في ذلك فأنشدته أنا لنفسي:
بنفسي حبيب قبره راح روضةً
…
خمائلها مسروقةً من مخايله
درى أنّه لا صبر للناس بعده
…
فأهدى لهم أنفاسه في شمايله
وأنشدته أيضاً لنفسي:
لا تنكروا زهراً من حول تربته
…
أضحى نسيم الصّبا من نشرها عطرا
هذه محاسن ذاك الوجه غيّرها
…
بطن الثرى فاستحالت فوقه زهرا