الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأقبل بجمعه عليها، فأقام بها ثماني عشرة سنة ملتزماً أن لا يخرج من بابها ولا يشتغل بشيء من أسبابها.
وكان يشغل بالحرم الشريف في الفقه، إلى أن حلت أسواء الموت بالأسواني، وانتقل إلى السعد الباقي بعد الذل الفاني.
وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
الحسن بن علي بن محمود
الأمير الكبير بدر الدين أخو الملك المؤيد عماد الدين صاحب حماة.
كان له إقطاع كبير بحماه، ونعمة جليلة قد تغشت حماه، وأموال كاثرت النجوم، وكابرت أنواء الغيوم، مع ما عنده من النظر في العلوم، والمشاركة في الفضل لذوي الألباب والفهوم، وهو كان أكبر من أخيه، وإنما تقدم لأنه خدم الناصر لما كان في الكرك ولم يلو الأمير بدر الدين عليه، فقدمه وجعله صاحب حماة.
وصلي عليه غائباً بدمشق، في ذي الحجة سنة ست وعشرين وسبع مئة.
الحسن بن علي بن محمد
بن عدنان بن شجاع
الشيخ الإمام بدر الدين الحراني المعروف بابن المحدث المجود الكاتب.
كان قد كتب على الشيخ نجم الدين بن البصيص، فيقال: إنه ما ظهر من تلاميذه في حسن الكتابة مثل بدر الدين المذكور، ومثل الشيخ كمال الدين محمد بن علي بن الزملكاني.
كان أديباً فاضلاً في فنه عجيباً، ينظم وينثر، ويجري في جلبة البلاغة ولا يعثر، كتب عليه من أهل دمشق جماعة كثيرون، يحركون نوافج الثناء عليه ويثيرون، وكان قد أخمل نفسه بالتعليم، ورضي من الدهر بالتسليم، فعز بالقناعه، وشرف نفسه عن التجشم والرقاعه، ولم يذل نفسه على أحد بالترداد، ولا دخل مع أبناء الدنيا في جملة الأعداد، على أنه له ملك يدخله منه كفايته، ويصل إليه من التجويد ما هو نهايته، وكان إذا كتب كبت، وعثرت الرياح من خلفه وكبت، وأراك بأقلامه الروض، إذا نبت، والسيوف إذا كلت عن مضارب مداه ونبت.
ولم يزل على حاله إلى أن رمي ابن المحدث من الحين بحادثه، وحكم في تركته أيدي وارثه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الجمعة رابع ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
كان الملك الأوحد يصحبه، فتحدث له مع الأفرم أن يدخل ديوان الإنشاء فرسم له بذلك، فأبى الشيخ بدر الدين ذلك، فلامه الأوحد على ترك ذلك. فقال: أنا إذا دخلت بين الموقعين ما يرتب لي أكثر من خمسة دراهم كل يوم، وما يجلسونني فوق أحد من بني فضل الله، ولا فوق بني القلانسي، ولا فوق بني غانم، فما أكون إلا دون هؤلاء، ولو تكلمت قالوا: أبصر المصفعة، واحد كان فقيه كتاب، قال يريد يقعد فوق السادة الموقعين، وإذا جاء سفر ما يخرجون غيري، فإن تكلمت قالوا:
أبصر المصفعة، يحتشم عن السفر في خدمة ركاب مولانا أمير الأمراء، وهذا أنا كل يوم يحصل لي من التكتيب الثلاثون درهماً والأكثر والأقل، وأنا كبير هذه الصناعة، وأتحكم في أولاد الرؤساء والأكابر ونظم في ذلك:
لائمي في صناعتي مستخّفاً
…
بي إذا كنت للعلى مستحقّاً
ما غزالٌ يقبّل الكفّ منّي
…
بعد برّي ولم يضع لي حقّا
مثل تيسٍ أبوس منه يداً قد
…
صفرت من ندى لأسأل رزقا
فيولّي عني ويلوي عن ردّ
…
سلامي ويزدريني حقّا
فاقتصد واقتصر عليها فما عن
…
د إله السماء خيرٌ وأبقى
وقال أيضاً:
غدوت بتعليم الصغار مؤمّراً
…
وحولي من الغلمان ذو الأصل والفصل
يقبّل كفي منهم كلّ ساعة
…
ويعطونني شيئاً أعمّ به أهلي
وذاك بأن أسعى إلى باب جاهلٍ
…
أقبّل كفّيه أحبّ إلى مثلي
أميرٌ إذا ميّزت لكن بلا حجىً
…
وكم قد رأينا من أمير بلا عقل
قلت: نظم عجيب التركيب، والأول جيد وفيه لحنة، لكنها خفية.
وأنشدني الشيخ شمس الدين محمد بن بادي الطيبي، قال: أنشدنا من لفظه لنفسه بدر الدين بن المحدث:
كن عاذراً شاتم المؤدب إذ
…
يأخذ من عرضه ويشتمه
لأنه ناكه على صغرٍ
…
ومن ينيك الصغير يظلمه
وكلّ فلسٍ حواه يأخذه
…
وكلّ وقت بالضّرب يؤلمه
نيكٌ وأخذٌ والضرب بعدهما
…
والحقد إحدى الثلاث يضرمه
قلت: ما جزم الشرط، ولا جوابه في الثاني، ويمكن توجيه إعرابه.
ومن شعره أيضاً:
بقل هو الله أحد
…
أُعيذ خدّاً قد وقد
وناظراً وسنانه
…
عليه طرفي ما رقد
أقول لما زارني
…
أنجز حرٌّ ما وعد
من كاسه وخدّه
…
تخال ورداً قد ورد
من حمل ثقل ردفه
…
ما قام إلاّ وقعد
ولا انثنى من لينه
…
إلاّ وقد قلت انعقد
كالظبي إلاّ أنّه
…
يفعل أفعال الأسد
في جيد من عنّفني
…
عليه حبلٌ من مسد
ومن شعر:
وقد عنّفوني في هواه بقولهم
…
ستطلع منه الذّقن فاقصر عن الحزن
فقلت لهم: كفّوا فإنّي واقعٌ
…
وحقّكم بالوجد فيه إلى الذّقن
ومن شعره فيمن يحبها، واسمها فرحة:
ما فرحتي إلاّ إذا وصلت
…
فرحة بين الكسّ والكاس
لا أن أراها وهي في مجلسٍ
…
ما بين طبّاخي وعدّاس
وشعره كثير، سقت منه جانباً جيداً في ترجمته في تاريخي الكبير، وخمس لامية العجم.
واجتمعت به غير مرة وأخذت من فوائده، وكان له مكتب برا باب الجابيه، ويكتب أولاد الرؤساء في المدرسة الأمينية بجوار الجامع الأموي، وكان كتب إلي قصيدة في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة لامية ملزومة وأجبته عنها بمثلها، والتزمت فيها الميم قبل اللام، وقد ذكرتها في ألحان السواجع.
؟ الحسن بن علي بن حمد بن حميد بن إبراهيم بن شنار بفتح الشين والنون، وبعد الألف راء. البليغ الناظم الناثر بدر الدين الغزي.
شاعر إذ قلت شاعر، طاف بكعبة البلاغة وعظم تلك المشاعر، يغوص على المعنى، ويجزل الألفاظ ويحكم المبنى، وينشدك القطعة، فتحسب أنه ضرب المثلث أو جس المثنى، متين التركيب بليغ المعاني، فصيح الألفاظ، إلا أنه يستعمل الغريب فيما يعاني، فيثقل على السمع بذاك وروده، وما تروق رياحينه ولا وروده.
وكتب المنسوب مع السرعه، وراعى الأصل في وضع الحرف وفرعه، إلا أنه كان ذا خلق فيه زعاره، وبادرة ليس وراءها حقد فهي في السر معاره، فنفرت عنه بعض النفوس، ولو خلا منها وضع على الرؤوس.
ودخل ديوان الإنشاء، فكان فيه بالشام شامه، وصدق هذه الدعوى أنه كان يحكي
بلونه مداده وأقلامه، ولكن كان حر النفس أبيها، سليم الطوية غبيها، لا يكذب لسانه، ولا يطوي الغل جنانه.
ولم يزل على حاله إلى أن صادته مخالب المنيه، وعدم الناس فواكه نظمه الجنيه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الخميس حادي عشر شهر رجب الفرد، سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وسبع مئة.
ودخل الديوان في سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وكان قد وضع رسالة أنشأها نظماً ونثراً وسمها ب قريض القرين، عارض بها ابن شهيد في رسالة التوابع والزوابع.
وغالب نظمه أنشدني إياه بصفد ودمشق والقاهرة، كتب إلي بالقاهرة:
ليل التجنّب من أجفاننا شهبه
…
ومجدب الدمع ما كانت دما سحبه
ما لننوى أطلعت في غارب قمراً
…
يقلّه البان يوم البين لا غربه
تنظّمت عبراتي في ترائبه
…
عقداً كما انتثرت في وجنتي سحبه
يا من وفى الدمع إذ خان الوداد له
…
غدر الحبيب وفاء الدمع أو سببه
قد كنت أحسب صبري لا يذمّ وقد
…
مضى وفي ذمّة الأشواق أحنسبه
يا نازحاً سكن القلب الخفق ومن
…
إحدى العجائب نائي الوصل مقتربه
ما لاح برق ولا ناحت مطوّقةٌ
…
ولا تناوح من باب الحمى عذبه
إلاّ تساعد قلبي والدموع وأحنا
…
ء الضلوع على شوقٍ علا لهبه
حكيت يا برق قلبي في الخفوق ولم
…
يفتك إلا لهيب الوجد لا شنبه
من لي بأغيد بدر التم حين بدا
…
قد ساء إذ رام تشبيهاً به أدبه
ممنّع بالذي ضمّت غلائله
…
من القنا أو بما أصمت به هدبه
بين الأسنّة محجوبٌ ولو قدروا
…
ما قوس حاجبه أغنتهم حجبه
سلبني بالضّنى لحمي لواحظه
…
وهمّ أُسد الشرى المسلوب لا سلبه
لو لم يكن ريقه خمراً ومرشفه
…
كأساً لما بات يحكي ثغره حببه
كذا ابن أيبك لولا ما حواه لما
…
عن الكتائب أغنت في الورى كتبه
ذاد الأولى عن طريق المجد ثم نحا
…
آثاره فقلت أجبالهم كثبه
وآب يقطف من أغصانه ثمراً
…
إذا أتى غيره بالشوك يحتطبه
أقلامه فرحاً بالفضل أنملها
…
كلّ يخلّق ثوب المجد مختضبه
تكاد ألسنها تمتدّ من شغفٍ
…
إلى أجلّ معاني القول تقتضبه
يراعه روّعت لا مات أحرفها
…
حشاء منحرفٍ لا ماته يلبه
أضحت مسبّبة الأرزاق حين حكت
…
سبّابةً لعدوّ وقد وهى سببه
يا من يجيل قداح الميسر ارم بها
…
وارم الفجاج ليسرٍ نجحه طلبه
واقصد جناب صلاح الدين تلق فتىً
…
يهزّه حين يتلى مدحه طربه
بنت على عنق العيّوق همّته
…
بيتاً تمدّ على هام السها طنبه
قد أتعبت راحتاه الكاتبين ولم
…
يدركه حين جرى نحو العلى طربه
فاعجب لها راحةً تسقي اليراع ندىً
…
إذا لم تكن أورقت في ظلها قضبه
تناسب الدرّ من ألفاظها وإلى
…
بحر النّدا لا إلى بحر الدنا نسبه
يرضى ويغضب في حالي ندىً وردىً
…
وبين هذين منهول الحمى نشبه
رضاه للطّالي جدواه ثمّ على
…
ما تحتوي يده من ماله غضبه
فكتبت أنا إليه أشكره:
أغصن قدٍّ أقلّت بانه كثبه
…
أم درّ ثغر حبيبٍ زانه شنبه
أم روض حزنٍ جديد النبت قد نسمت
…
فيه أقاحيه لما أن بكت سحبه
أم جانب الأفق قد دجّت حنادسه
…
للعين لمّا ازدهت في لمعها شهبه
أم نبت فكرٍ جلاها لي أخو أدبٍ
…
خطابه زان جيد الدّهر أو خطبه
قريضه تعرفّ الأسماع جوهره
…
فتنتقي حليها منه وتنتخبه
فلو همى الشعر قطراً قبله لغدا
…
يروي الربا منه هامي الغيث منسكبه
ونثره لم يداخل مسمعي أحدٍ
…
إلاّ ورنّح منه عطفه طربه
وخطّه مثل صدغ زرّقته يد ال
…
حسن البديع وقاني الخدّ ملتهبه
لوصفه شهدة بالحسن قد شهدت
…
وقد تبّرأ من ياقوته نسبه
ولابن مقلة عين ما رأت حسناً
…
هذا ولو عاينته ما انقضى عجبه
هذا هو البدر لا النجم البصيص فقد
…
مدّت على ابن هلالٍ في العلا طنبه
جزاك ربّك بدر الدين خير جزاً
…
عن امرىء لم يطل نحو العلا سببه
بالغت في مدحه فالله يجعله
…
كما تقول لتعلو في الورى رتبه
وكتبت أنا إليه ملغزاً في ضبع:
أيّها الفاضل الذي من يجاريه
…
تقوّى في ما ادعى وتقوّل
والّذي من أراد يبصر قسّاً
…
فعليه دون البريّة عوّل
هات، قل لي بالله ما حيوانٌ
…
ثابت الخلق قطّ لا يتحوّل
عينه إن قلعتها يتبدّى
…
حيواناً غير الذي كان أوّل
فكتب هو إلي الجواب عن ذلك:
يا إماماً طال الورى بمعانٍ
…
في المعالي يغوث من قد تطوّل
وإذا أعضل السؤال فما زا
…
ل عليه في المعضلات المعوّل
إنّ زهراً أهديته غضّ عنه
…
طرفه واستحال زهر المحوّل
حين ألغزت في معمّىً هداني
…
نحوه الفكر حين سوّى وسوّل
حيوانٌ إن صيّروا رأسه العين
…
رأوه إلى الجماد تحوّل
فابق واسلم تفيد علماً وجوداً
…
فيهما ليس لامرىء متأوّل
وكتبت أنا إليه وقد جاءته بنت:
تهنّ بها وإن جاءتك أنثى
…
لأنّ الشمس بازغة الجمال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب
…
ولا التذكير فخر للهلال
ولو كان النساء كمن أتانا
…
لفضلت النساء على الرجال
فكتب هو الجواب إلي:
أتاني من هنائك يا رئيساً
…
تتيه به المعاني والمعالي
ومن آثار جودك ما أراني
…
حياً أهدته لي ريح الشمال
وكم أقرأتني وقريت فضلاً
…
يفوت الحصر من أدبٍ ومال
وكتبت أنا إليه، وقد أهديت إليه أبلوجة سكر وكنت قبلها قد أهديت إليه قليل قطر:
أبلوجة بعثتها
…
محبةً لك عندي
في اللون والكون أضحت
…
تخالها نهد هند
فكتب الجواب إلي عن ذلك:
يقبل الأرض وينهي وصول صدقته الجاريه، وهديته التي جاءت بين الحسن والإحسان متهاديه، وهنديته التي قام نهدها مقام ثغر الغانيه، وأشرقت الأرض بنور وجهها من كل ناحيه، نهد أبرزه الصدر، وشهد ما تجرعت دون اجتناء حلاوته من إبر النحل مرارة الصبر، وهرم أكسب رونق الشباب وجه الدهر، ووجه طبع على دائرته ليلة تمامه البدر، فقابل الملوك تلك المنحة بدعائه وشكره المفرط وثنائه، ومدحه الذي تتدرج شواهد وده الصادق في أثنائه وتذكر بها ما مضى، شكر يد الكريم الذي استأنف إحسانه السابق وما انقضى، فذكر بنضار القطر السائل ولجين هذا الماء القائم، قول القائل:
وكذا الكريم إذا أقام ببلدةٍ
…
سال النضار بها وقام الماء
وكتب هو إلي:
يا ماجداً لم يزل نداه
…
أولى بتقريظ كلّ متن
ومن غدا بالصفاء يكنى
…
وودّنا عنه ليس نكني
نحن افتراقاً بنات نعش
…
في ظلمة الهمّ والتمنّي
فسر إلينا نكن ثرّيا
…
وادخل إلينا بغير إذن
ولا تدعنا نئنّ شوقاً
…
ولا تقل للرسول إنّي
فكتبت أنا الجواب عن ذلك:
أبياتك الغرّ قد أتتني
…
فشرّفتني وشنفّتني
شعرك فيها ظريف لفظٍ
…
لطيف معنىً خفيف وزن
قد أثقلت كاهلي بشكرٍ
…
فكلّ متني إذ كلّمتني
فإن أفز بالمثول فيكم
…
فإنه غاية التمنّي
وإن تخلّفت عن حماكم
…
يا طول دقّي في الجرن حزني
وكتب هو إلي وقد توالت الأمطار والثلوج في العشر الآواخر من رمضان سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة: كيف مولانا ألحف الله ظله، وأرشف طله ووبله، وحمل على أعناق الأيام كله، وجعل مثله السحاب الجود ولا أعرف مثله، وضاهى برزقه هذا الغيث الواقع على خلاف القياس كله، فإن هذا اليوم قد عزز الصّنى والصنبر وعجز الصبر وعزى سكان الأجداث بالأحياء فكل بيت قبر:
يومٌ كأن سماءه
…
حجبت بأجنحة الفواخت
جاء الطوفان والبحر المحيط، وجاب الصخر بوادي الربوة دم سيله العبيط، وجال في وجه البسيطة حياؤه فما انبسطت الخواطر بجوهره البسيط، أخفت النجوم في ليله، واطلع الحي القيوم على زنته الراجحة وكيله، وتراكمت سحبه الساترة فضاء الأفق بفضل ذيله، وأجلب على الوهاد والربا برجله الطامة وخيله، فكأنما وهت عرى ذلك الزمهرير فهبط، أو هيض جناح السحاب الجون فسقط، أو حل سلك النحوم الزاهر ففرط جوهر ذلك القطر لما انفرط، فالجدران لهيبته مطرقة، والعمران قد
تداعت ولا يقيل البناء جموعها المتفرقه، والطرق قد شرقت بالسيول فلا تنطق آثارها المغربة ولا المشرقه، وقد قص جناح الارتكاض، وحصت قوادمه، فما تنهض وعظمه مهتاض، والسيل قد بلغ الزبا، وسوى بين الوهاد المتطامنة والربا، وبكت السقوف بعيون الدلف، وحملها المطر بيده العادية على خطه خسف، واستدل لها بمنطق الرعد على أن قدامها الخير، فقالت: هذا خلف، وشهر الصوم قد بلغ غايته، وعيد الفطر قد نصب رايته، وتلا آيته، وطلب من الموسر والمعسر كفايته، فأعاذ الله مولانا من الطلب فيه، ولا ألجأه إلى السعي لابتغاء فضل الله إلا بفيه، بمنه وكرمه.
فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك: العجب من سؤال مولانا عن المملوك كيف حاله، وعنده علم هذا العناء الذي نصب على الأين والنصب تمييزه وحاله، وهي حال أبي الطيب، وما علم ابن منصور بها، ولو علم استعمل التباله. أما ترى هذا النوء الذي ذم نواله وحمد نواه، وأذهل الصائم عن صومه، فما بيت أمره ولا نواه وشغله من حسه فما يدري أفطر على تمرة أم نواه؟، قد هال الجبال أمره، فشابت من الفرق إلى القدم، وغمرت سيوله الأباطح والربا، ولكن من الزيادة بدم، كيف يهنأ العيش وبروق الجو سيوف تخترط، ونفس هذه الرعود يخرج بعدما حبس في حشا السحاب وانضغط، وإلحاح سائل هذا المطر، فلو كان قطره دراً لما مدّ الفقير إليه يداً ولا التقط، وتوالي هذه الغيوث التي لو عاينها ابن هانىء لما قال:
ألؤلؤٌ دمع هذا الغيث أم نقط
كأن الأيام قواف اندمجت في الليل، أو النجوم أقاح ولكن غطاها تراكم السحاب بالذيل، أو كأن الله جعل الزمان سرمداً، فما يتعاقب فيه شمس ولا قمر، ولا تصفو لجة الأفق بضوء ولا ترميها الدياجي بكدر؛ قد تزاحمت الغياهب على المواقيت بالمناكب وجهلت المدد فيا وحشتا لحاجب الشمس ومحيا القمر وعيون الكواكب، أكل هذا تشريع تشرين، وشره شره الذي نتجرع من أمره الأمرين، وشهرة شهره، فيا أيام كانون إذا جئت ماذا تبيعين وتشرين، أما المساكن فأهلها مساكين، وأفواههم من الحزن مطبقة فما تفتحها السكاكين، قد انتبذ كل منهم زاوية من داره، وتداخل بعض في بعض لتضمه بقعة على مقداره، هرباً من توقيع أكف الوكف، وخوفاً من ركوع الجدار وسجود السقف، وما يعتقد المملوك أن في كانون هذه الجمرات، ولا أن ساباط سباط وأذى آذار يرمي القلوب بهذه الحسرات، وتمام التعثير في الركوب إلى دار السعادة، والكتابة التي صارت في هذا الزمان زيادةً في نقص السيادة، واتساع هذه الأهوال، وضيق ذات اليد مضاف إلى ضيق النفوس، وبصاق هذا الثلج في وجه الضاحك منا والعبوس، وسكر هذه الميازيب التي لا تبوك إلا على الرؤوس، وأشغال الديوان التي تكاثر المطر، ولا تبلغ الغاية من الوطر، فنحن من الديوان في جامعة لا جامع، وباب البريد على عدد الساعات ودقه هامع وبرقه لامع، لا يفتر وروده، ولا يزال يصل حديده، وتصل وفوده، وكل كتاب يصل معه يتفرع منه
إشغال عدد حروفه، وتطلب في الوقت الحاضر، فلو كانت بالطابع لانهارت جوانب حروفه، وصاحب الديوان في تنفيذ أسرع من هذه البروق، وأنفذ من السهم في القضاء الذي ليس فيه ما يصد ولا ما يعوق، فهو إذا دبر المهمات نجز، ودمر العداة، وجنز، وهذا العيد أقبل، وما لنا بتكاليفه قبل، وكل من يختص بشيء منها يلحظك بطرف متخازر كأنهما به قبل، والاستعانة بالله على هذه الشرور التي اتصلت نقط خطها، والفرار إليه من هذه الخطوب التي نعجز عن شيل سيلها وحد حطها، والله يرزق مولانا وإيانا حلاوة الصبر، ويجعل العدو بين جانحتي قبر، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
وكتبت له توقيعاً لما دخل ديوان الإنشاء، لوحت فيه في غير موضع بلقب كان يلقب به، ونسخته في الجزء السادس والعشرين من التذكرة التي لي، وكتبت له أيضاً توقيعاً بنظر قمامة.
وبيني وبينه مكاتبات وبداءات ومراجعات نظماً ونثراً، وقد أوردتها في كتابي ألحان السواجع.
وأنشدني من لفظه لنفسه:
ثغر من قد هويته يهدي
…
في ظلام الدجنّة الحالك
بالثريّا شبّهته ظلماً
…
والثريا أقلّ من ذلك
وأنشدني من لفظه لنفسه:
أنا القليل العقل في صرف الذي
…
أملكه في كلف المشارب
ما نلت من تضييع موجودي سوى
…
تصفية الكاسات في شواربي
وأنشدني من لفظه لنفسه:
أعجب ما في مجلس اللهو جرى
…
من أدمع الرّاووق لمّا انسكبت
لم تزل البطّة في قهقهةٍ
…
ما بيننا تضحك حتى انقلبت
وأنشدني من لفظه لنفسه:
يا من يلوم في التصابي خلنّي
…
فأذني عن الملام قد نبت
تصفية الكاسات في شواربي
…
أضحكت البطّة حتى انقلبت
وأنشدني من لفظه لنفسه:
وصفراء حال المرج يصبغ ضوءها
…
أكفّ الندامى وهو في الحال ناصل
وتهفو بألباب الرجال لأنها
…
دويهيةٌ تصفرّ منها الأنامل
وأنشدني من لفظه لنفسه:
شممت نسيم زهر الّلوز لمّا
…
خرجنا بكرةً ننفي السجونا
فتحت الدوح شاهدنا بدوراً
…
وفي أعلاه عاينّا غصونا
وأنشدني من لفظه لنفسه:
وأهيف كالغصن المرنّح شاقني
…
فطار إليه القلب من فرط شوقه
رأى البدر يحكي وجهه وهو سافرٌ
…
فحمّله من جوره فوق طوقه
وأنشدني من لفظه لنفسه:
سرت من بعيد الدار لي نسمة الصّبا
…
فقد أصبحت حسرى من السير ظالعه
ومن عرق مبلولة الجيب بالندى
…
ومن تعبٍ أنفاسها متتابعه
وأنشدني من لفظه لنفسه:
غصنٌ رشيق القدّ لان معاطفاً
…
نشوى وبالشّعر المرّجل أورقا
وبمثل بدر التّمّ أينع فانظروا
…
هذا القوام أجلّ أم غصن النّقا
وأنشدني من لفظه لنفسه:
يا صاحباً ما زال من إنعامه
…
لثياب راجيه المؤمل رافي
قد قطّعت فرجيّتني حتى لقد
…
ظهر القطوع بها على أكتافي
وكان يوماً هو والشيخ محمد الغزي جالسين في الجامع الأموي، عند الشيخ جمال الدين محمد بن نباته، وكل يذكر مساوئ صاحبه، وينشد هجوه فيه. فقال بدر الدين الغزي: لا قلت أنا، ولا قلت أنت، في هذه الساعة ننظم بديهاً يكون هجواً، وأطرق قليلاً ثم أنشد:
يا بن أبي طرطور خلّ الهجا
…
وخذ كلاماً راق في حسنه
أنا وأنت اثنان كلٌّ غدا
…
منا يروم الفضل في فنّه
فواحد يكذب في قوله
…
وآخر يكذب في ذقنه
وأنشدني من لفظه لنفسه موشحةً عارض بها موشحة ابن سناء الملك المشهورة، وأجاد:
أذكى الهوى وهاجه برد اللمى
…
في ثغر ريم مايس القدّ
يحميه أن أرومه لحظٌ أرى
…
فرط الفتور سيفه الهندي
ظبيٌ رمى فؤادي
…
من لحظه بسهم
وقد حمى رقادي
…
لمّا أباح سقمي
فالطرف للسّهاد
…
وللسّقام جسمي
واعجب من انقيادي
…
إليه وهو خصمي
لكنّها اللّجاجه ترمي بها
…
عقل الحليم سورة الوجد
إياك أن تلومه فاللوم في
…
هذي الأمور قلّما يجدي
أفديه ظبي أُنس
…
ألمى الشفاه أحوى
حشاشتي ونفسي
…
مرعى له ومثوى
كذّبت فيه حسّي
…
إذ لم تلنه شكوى
وجسمه بلمسي
…
عند العناق يطوى
يا حسن الاندماجه في خصره
…
المضنى السقيم وهو في البرد
والقامة القويمه بالخّد
…
كالغصن النضير ناضر الورد
لله منه طرف
…
يدمي القلوب لحظا
ووجنة تشفّ
…
ولا تنيل حظّا
يرقّ إذ يرفّ
…
قلبي لها ليحظى
تريك حين تصفو
…
جسماً يخال فظّا
كالراح في الزجاجه تزهى بها
…
كف النديم عندما تبدي
أشعةً عظيمه تندى إذا
…
شيمت وتوري جذوةً تهدي
يا لوعة الغرام
…
زيدي ويا جفوني
بأدمعي الهوامي
…
جودي ولا تخوني
فهتف الحمام
…
قد هيّجت شجوني
وكلّ مستهام
…
مستأنف الحنين
لا تنكر انزعاجه للبرق في
…
الليل البهيم مقلة تهدي
إلى الحشا السليمه خفقاً
…
أباتته سميري ليلة الصّد
دع ذا وقل مديحا
…
في أحمد بن يحيى
من لم يزل مزيحا
…
أعذار كلّ عليا
منتسباً صريحا
…
آخرة ودنيا
تخال من يوحى
…
في الدست حسن رؤيا
إذا أرى ابتهاجه للجود
…
والداعي المضيم ساعة الجهد
فالكف منه ديمه والوجه
…
شمسٌ ذات نور في سما المجد
للسّر منه حصن
…
على الورى مطلّ
ليست به تظنّ
…
عوراء تستدلّ
غاراته تشنّ
…
على العدى فتبلو
أخبارهم ويعنو
…
منهم لها الأجلّ
فمن رأى هياجه سوّاه
…
بالليث الكليم وهو في السّرد
ونفسه الكريمه في السلم
…
كالغيث المطير ساعة الرّفد