الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حرف الحاء
حاجي محمد بن قلاوون
السلطان الملك المظفر سيف الدين، ابن السلطان الملك الناصر، ابن السلطان الملك المنصور.
ولد وأبوه في الحجاز سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. وكان ذا منظر وشكاله، ووجه كأن البدر سأله الحسن وشكا له. قد غرته الشبيبه، وضرته بإقبالها الدنيا الحبيبة، فأقبل على من قابله بمراءاة غشه، وسلم قياده لمن شركه في عشه، فأفنى أمراء الدولة، واستنفد حيله في القبض عليهم وحوله، وزاد في سفك الدماء، وأثار بالفتن عجاج الأرض إلى السماء. لا جرم، إن الدهر قلب له ظهر المجن في المحن، وملأ القلوب عليه بالأحقاد والإحن، ولم تطل مع ذلك المده، ولم ينفعه من ادخره عدةً من الغده، حتى ركبوا بالسلاح إلى قبة النصر، وسلبوا ثما أغصانه بالهصر، ورموه بالحصر والحصر، ونقلوا ألف ألفه بالملك من المد إلى القصر، وأنزلوا كوكبه إلى حضيض الأرض وبعد أوج القصر فخر على الألاءة لم يوسد وراح أقل من ظبي تحبل، وكان كأنه نمر تأسد. وضرجوا خد الأرض بدمه، وصبغوا كافوره بعندمه،
وأبقوه رجمةً لعدوه، وألقوه في مهد تعرى من هدوه، وتركوه تسفي الريح عليه الرمل، وتبكي الغمائم على من انصدع له من الشمل؛ وكان أخوه الملك الكامل قد حسبه وأراد هلاكه، وقيل: إنه أمر أن يبنى عليه حائطان.
وكان الأمراء قد كتبوا إلى يلبغا اليحيوي نائب دمشق بأن يبرز إلى ظاهر دمشق، فبرز - على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في ترجمته - فاحتاج الكامل إلى أن يجرد عسكر الشام، فخرجوا إلى السعيدية أو الخطارة، ورجعوا إليه، فركب ونزل إليهم، فنصرهم الله تعالى عليه، وجرحوا أرغون العلائي، كما تقدم، وخلعوا الكامل وصعدوا إلى القلعة وأخرجوا حاجي من سجنه وأجلسوه على كرسي الملك وحلفوا له؛ وكان القائم بذلك الأمير سيف الدين ملكتمر الحجازي، والأمير شمس الدين آقسنقر، وأرغون شاه.
وكان جلوسه على الكرسي مستهل جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وسبع مئة، وخلعوه في ثاني عشر شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وكان ملكه سنةً وثلاثة أشهر واثني عشر يوماً.
وورد له الأمير سيف الدين بيغرا إلى دمشق، وحلف عسكر الشام، وانتظمت الأمور، وصفا له الملك، ولم يزل كذلك إلى أن أمسك الحجازي وآقسنقر وقرابغا وأيتمش وصمغار وبزلار وطقبغا وجماعة من أولاد الأمراء، فنفرت القلوب منه
واستوحشت، وتوحش يلبغا نائب الشام، وجرى له ما جرى، يأتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى.
وكان الذي فعل ذلك كله ودبره وأشار به وفعله شجاع الدين أغرلو مشد الدواوين، على ما تقدم في ترجمته، فأمسكه وفتك به بعد أربعين يوماً بمواطأة مع الأمير سيف الدين الجيبغا الخاصكي المقدم ذكره، ومع غيره. وكان قد فرق مماليك السلطان وأخرجهم إلى الشام وإلى الوجه البحري والقبلي بعدما قتل بيدمر البدري، والوزير نجم الدين طغاي تمر الدوادار، قبل الفتك بأغرلو، وهؤلاء الأمراء الذين قتلهم كانوا بقية الدولة الناصرية وكبارها ولهم المعروف، فزاد توحش الناس منه، وركب الأمير سيف الدين أرقطاي النائب بمصر وغالب الأمراء والخاصكية إلى قبة النصر. فجاءه الخبر فركب في من بقي عنده بالقلعة، وهم معه في الظاهر دون الباطن، فلما تراءى الجمعان ساق بنفسه إليهم، فجاء إليه الأمير سيف الدين بيبغاروس أمير مجلس وطعنه فقلبه إلى الأرض، وضربه الأمير سيف الدين طان يرق بالطبر من خلفه، فجرح وجهه وأصابعه، وكتفوه وأحضروه إلى الأمير سيف الدين أرقطاي ليقتله، فلما رآه نزل وترجل ورمى عليه قباءه، وقال: أعوذ بالله، هذا سلطان، ما أقتله، فأخذوه ودخلوا به إلى تربة كانت هناك وقضى الله أمره فيه في التاريخ المذكور.
ثم إن الأمراء بالقاهرة اجتمعوا وكتبوا إلى نائب الشام الأمير سيف الدين أرغون شاه يعرفونه القضية ويطلبون منه ومن أمراء الشام من يصلح للسلطنة، وجهزوا الكتاب على يد الأمير سيف الدين أسنبغا المحمودي السلاح دار. وكان ذلك ثاني عشر شهر رمضان بكرة الأحد.
ولما كان يوم الثلاثاء رابع عشر الشهر المذكور، عقدوا أمرهم على أن يولوا أخاه ناصر الدين حسن ابن الملك الناصر محمد، فأجلسوه على كرسي الملك وحلفوا له، وسموه بالملك الناصر، وجهزوا إلى الشام، وحلفوا له العساكر؛ فسبحان من لا يحول ولا يزول.
وقلت أنا في ذلك، وفيه لزوم الفاء المشددة:
خان الرّدى للمظفّر
…
وفي الثرى قد تعفّر
كم قد أباد أميراً
…
على المعالي توفّر
وقاتل النفس ظلماً
…
ذنوبه ما تكفّر
وقيل: إن أحد الأسباب في قتلته أن الأمير سيف الدين الجيبغا الخاصكي، أتى إليه يوماً، فوجده فوق سطح يلعب بالحمام، فلما أحس به نزل فقال: من هذا؟ قالوا له: ألجيبغا؛ فطلبه فصعد إليه، وكانت الوحشة قد ثارت، فقال له: ما يقول الناس؟! قال: خير، فألح عليه، فقال له: يا خوند. أنت تدبر الملك برأي الخدام والنساء، وتلعب بهذا الحمام، فاغتاظ منه وقال: ما بقيت ألعبها، ثم إنه أخذ منها طائرين، وذبحهما، ولما رآهما مذبوحين، طار عقله، وقال: والله لا بد ما أحز رأسك هكذا، فتركه ومضى، فنزل المظفر وقال لخواصه: يا صبيان، متى دخل إلي هذا بضعوه بالسيوف، فسمع ذلك بعض الجمدارية، فخرج إلى الجيبغا، وقال له: لا تعد تدخل إليه، وعرفه الصورة، فخرج وعمل على مقتضى ذلك، وضاع ملكه وروحه منه لأجل الحمام.