الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سليمان بن أبي الحسن بن ريان
القاضي جمال الدين بن ريان الطائي، هو ابن عمر القاضي عماد الدين سعيد بن ريان المقدم ذكره.
كان رجل زمانه ونظير أقرانه.
يحب الخط المنسوب ويبالغ فيه، ويود لو ملك كل شيء ليذهبه في تلافيه، ويلزم أولاده بالتجويد، ويحرضهم على تحصيله وبياض وجههم بكثرة التسويد، ويجتهد على نسخ المصاحف الكبار، وينفق عليها جملة من اللجين والنضار، ماله في غير ذلك أرب، ولا يثنيه عن ذلك أحد في العجم ولا في العرب، وبقية وصفه يأتي في مرثيته نظماً، ومن هناك يعلم قدر ما كان فيه حقيقةً لا وهما.
نزل عن وظيفته لولده القاضي بهاء الدين الحسن في آخر عمره، وانقطع هو في بيته، وأقبل هو على ما يعينه في آخرته من أمره، إلى أن ابتلعه فم لحده، وأصبح عبرةً لمن تركه من بعده.
وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون حلب.
ومولده في حادي عشري شهر رمضان سنة ثلاث وستين وست مئة.
وكان والده رجلاً صالحاً من أهل القرآن، حرص على ولده هذا القاضي جمال الدين سليمان، وأقرأه القرآن الكريم، وكان يمنعه من عشرة أقاربه، وإذا رآه
يكتب القبطي المعرب يضربه وينكر ذلك عليه، فأبى الله تعالى إلا أن يجعل رزقه في صناعة الحساب.
ولم يزل مع ابن عمه القاضي عماد الدين سعيد بن ريان، فلما حج عماد الدين وتوجه إلى مصر وأخذ توقيعاً بنظر حلب، ووصل إلى دمشق توفي رحمه الله تعالى، فأخذ القاضي جمال الدين توقيعه، وتوجه به إلى حلب، وكان قراسنقر بها نائباً، ولعماد الدين عليه حقوق خدم، فاستقر القاضي جمال الدين ناظر جيش، ولم يزل بها إلى سنة ثماني عشرة وسبع مئة، فرسم له بنظر صفد في المال، فحضر إليها وأقام بها إلى أوائل سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، فطلب إلى مصر وولاه السلطان نظر الكرك ووكالة بيت المال، ثم إنه ولاه نظر حلب، ولم يخرج من مصر ولم يتوجه إلى الكرك، فحضر إلى حلب ناظر المال، فأقام بحلب مدة يسية، وتوجه إلى مصر وتولاها ثانياً.
ثم إنه عزل من نظر بيت المال وحضر إلى نظر المال بصفد ثانياً، فأقام قريباً من شهر، ثم طلب إلى مصر، وتولى نظر الجيش بحلب، ولم يزل إلى أن عزل في واقعة لؤلؤ، وأقام بطالاً مدة يسيرة، ثم إنه جهز إلى نظر طرابلس فأقام بها. ثم إنه حضر إلى صفد ثالثاً ناظر المال، وولده القاضي شرف الدين ناظر الجيش، فأقام بها مدة. ثم توجه إلى حلب ناظر الجيش.
ثم إنه استعفى وطلب الوظيفة لولده القاضي بهاء الدين الحسن ولزم بيته مدة.
ثم إن السلطان ولاه نظر الجيش بدمشق عوضاً عن القاضي فخر الدين بن
الحلي لما توفي رحمه الله تعالى، وأقام به إلى أن عزل في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا، فتوجه إلى حلب وأقام بها ملازماً بيته، لا يخرج منه إلا إلى صلاة الجمعة.
ولما كان في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، حضر إلى دمشق وتوجه منها إلى الحجاز وقضى حجة الإسلام وعاد فيها وقد ضعف، فركب محفةً وتوجه إلى حلب، ولم يزل في حلب على حاله إلى أن توفي.
ولقد رأيته يقوم في الليل ويركع قبل الفجر قريباً من عشرين ركعة، وله في كل اسبوع ختمة يقرؤها هو وأولاده، ويصوم في غير شهر رمضان. وكان ذهنه جيداً في العربية والأصول.
وسمع ابن مشرف وست الوزراء، وقرأ العربية على الشيخ شرف الدين أخي الشيخ تاج الدين، ويعرب جيداً، ويعرف الفرائض جيداً، والحساب وطرفاً صالحاً من الفقه، وعلى ذهنه نكت من المعاني والبيان والعروض، وينقل كثيراً من القراءات ومرسوم المصحف.
ولي معه مباحث كثيرة رحمه الله تعالى.
ولما توفي كتبت إلى ولده القاضي شرف الدين حسين قصيدة رثيته بها وه:
أظمأت نفس المعالي يا ابن ريّانا
…
حتّى توقّدت الأحشاء نيرانا
وانهلّ دمع الغوادي فيك من حزنٍ
…
وشقّق البرق في الآفاق أردانا
ومزّق الصبح أثواب الدّجى ورمى
…
حلي النجوم وأضحى فيك عريانا
وكلّ ساجعة في الأيك نائحةٌ
…
تملي من الوجد في الأشجار أشجانا
أتت دمشق بك الأخبار من حلب
…
يا بئس ما خبّر النّاعي وناجانا
وددت من حرقتي لو كنت ذا شجن
…
لو أنّ للصخر قبل اليوم آذانا
تكاد تبكي المعالي فيك من جزعٍ
…
بالدمع لو وجدت للدمع أجفانا
من للظلام إذا نام الأنام غدا
…
يقطّع الليل تسبيحاً وقرآنا
ومن لمحرابك الزاكي فليس يرى
…
من بعد فقدك فيه قطّ إنسانا
كم قد ختمت كتاب الله متّعظاً
…
وفي تدبّره كم رحت ولهانا
وكم حثثت الخطا نحو الصلاة لأج
…
ل الصفّ الأوّل في الأسحار عجلانا
تواظب الصّوم في يوم الخميس وفي ال
…
إثنين حتى لقد أمسيت خمصانا
وكم ممالك قد دبّرت حوزتها
…
فكنت خير وزير قطّ ما خانا
وتستقيم بك الأحوال ماشيةً
…
حتى تفيض بك الأموال طوفانا
لله درّك كم جمّلت مدرسةً
…
وبالكتابة كم شرّفت ديوانا
فكنت في الجود غيثاً والهدى علماً
…
وفي الحجى حجة والعلم نهلانا
ثم اعتزلت الورى من غير ما سبب
…
إلا لتطلب من ذي العرش رضوانا
ومن أراد من الأُخرى جواهرها
…
أباع أعراض هذي المال مجانا
وكان أربح مالاً عند خالقه
…
وراج أرجح يوم الحشر ميزانا
فاذهب فأيّ ضريح أنت ساكنه
…
ترى التراب به روحاً وريحاناً
ولم يمت من بنوه سادةٌ نجبٌ
…
لما بنى مجدهم شادوه إتقانا
وجمّلوا الملك إذ زانوا مناصبه
…
وألبسوها من العلياء تيجانا
إن كوتبوا أو لقوا أو خوطبوا وجدوا
…
في الخط واللفظ في الهيجاء فرسانا
بهاؤهم ما يباهي عزمه أحدٌ
…
وفيهم شرفٌ باقٍ لهم زانا
وما شهابهم خافٍ بمطلعه
…
كما كمالهم قد حاز إحسانا
تعزّ يا شرف الدين الذي قبضت
…
يمنى علاه من العيّوق أرسانا
بيانه ظاهرٌ لو أنّ رونقه
…
للبدر لم يخش عند السّير نقصان
تالله ما دار كأسٌ من بلاغته
…
عليّ إلا أهزّ العطف نشوانا
له عبارات نظمٍ كلّما سحبت
…
ذيولها أعثرت في الحال سحبانا
مثل العيون التي في طرفها حور
…
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
فالناس في حلب حلّت بهم بهمٌ
…
وأصبح القوم خرساً في خراسانا
فلا يرع لكم سربٌ بحادثة
…
ولا رأى شأنكم خطبٌ ولا شانا
ولا يكدّر لكم شربٌ بنازلة
…
ولا حدت لكم الأحداث أضغانا
تحفّكم بركاتٌ من تقاه فقد
…
أخذتم منه حرزاً من سليمانا
يقبل الأرض وينهي ما عنده من الألم لهذه النازله، والقلق لهذه الرزية التي جعلت الدموع هاميةً هامله، والجزع لهذه الحادثة التي تركت الجوانح حاميه، فليت القوى لو كانت حاملة ف " إنا لله وإنا إليه راجعون " قول من فقد جماله، وعدم صبره واحتماله، وفجعه الدهر بواحده الذي ما رأت عينه مثاله، فرحم الله ذلك الوجه الجميل، وقدس تلك السريرة التي كان الصفاء لها ألزم زميل، وما بقي غير الأخذ فيما وقع بالسنه، والصبر على فقد من أثار النار في الفؤاد وسكن الجنه، وقد جهز المملوك هذه القصيدة التي يسبح نونها من الهم في يم، ويشرح في هذا المأتم ما تم، إن شاء الله تعالى.
فكتب هو الجواب إلي عن ذلك: يقبل الأرض وينهي ورود المثال الشريف يتضمن تعزي حسن لفظها، وأثر في القلوب وعظها، وتعين تسطيرها في صحائف الأفكار وحفظها، فوقف المملوك على محاسنها وأحاسنها، وشملته من مكامنها بميامنها، وتسلى بما حوت من مفصل الرثاء ومجموعه، وأسال من أجفانه دماً بدل دموعه، فيالها من رزية عظمت فيها المآتم، ومصاب كشفت حجبه السليمانية عن حزن له خاتم، وتحقق المملوك من أثناء أبيات القصيدة النونية بركات ذي النون، ونظر إلى نونها وقد غاص في بحر الفضائل فاستخرج دره المكنون، ولقد كتب المملوك جواب مولانا معترفاً فيه بالتقصير، مغترفاً من منهل فضله الغزير، وهو:
جدّدت في القلب آلاماً وأحزانا
…
أسالت الدّمع من جفنيّ طوفانا
فاعجب لجفنٍ يفيض الماء مدمعه
…
ومهجةٍ تلتظي بالحزن نيرانا
عزّيتنا في أبينا فاكتسبت به
…
أجراً وأوليتنا فضلاً وإحساناً
أكرم به من أبٍ شاعت مناقبه
…
في الناس واشتهرت بالجود إعلانا
كم بات في ظلمات الليل منتصباً
…
في خدمة الله يقضي الليل يقظانا
كم ختمةٍ قد تلاها في النهار وكم
…
أفنى الحنادس تسبيحاً وقرآنا
ولازم الصّوم أوقات الهواجر لا
…
يرتدّ عن صومه ديناً وإيماناً
وكان يخشن في دين الإله تقىً
…
عند الحفيظة إن ذو لوثةٍ لانا
وكان يخشى ويرجى في ندىً وردىً
…
والصّعب من رأيه تلقاه قد هانا
شبنا وأذهلنا عظم المصاب به
…
وكلّ صبّ به ذهل بن شيبانا
سارت جنازته والخلق تتبعها
…
والحزن عمّهم فينا وغشّانا
حتى ملائكة الرّحمن مذ علموا
…
طاروا إليه زرافات ووحدانا
نعى النّعاة وضجّوا بالنعيّ له
…
فأورثوا القلب أشجاناً وأحزانا
جار الزمان ولم يقصد بمصرعه
…
إلا ليهدم للمعروف أركانا
إن الخطوب التي ساقت منيّته
…
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
من ذا يوفّي علاه بالرثاء ولو
…
كان المرثّي له قسّاً وسحبانا
لم أقض بالشعر حقاً من علاه ولو
…
نظمت في كلّ يوم فيه ديوانا
لو قيل: من فاق أرباب الصّلاح تقىً
…
كان الجواب: سليمان بن ريّانا
إني لأعلم أنّ الله يجعله
…
أوفى البريّة عند الله ميزانا
حيّرتنا بمثال فيه تعزيٌ
…
به اتّعظنا وعزّانا وسلاّنا
فيه قريضٌ بديع النّظم مشتملٌ
…
على معانٍ حسانٍ فقن حسّانا
إن رمت تشبيهه بالرّوض كان له
…
فضلٌ على الرّوض لا يحتاج برهانا
الرّوض يذبل في وقتٍ ونظمك قد
…
وقاه فكرك طول الدّهر ماشانا
أو قلت ألفاظه مثل الكواكب لم
…
أكن موفّيه بالأوصاف تبيانا
إذ الكواكب في ضوء النهار أرى
…
أنوارها تختفي في الجو أحيانا
لكن أقول هذا العقد الثّمين وقد
…
نظمت ألفاظه درّاً وعقيانا
في أحمر الطرس قد سطّرت أحرفه
…
كالدّرّ خالط ياقوتاً ومرجانا
حفظت عهدك في حال الحياة ومن
…
بعد الممات فحيّا الله مولانا