الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حسن بن محمد بن قلاوون
السلطان الملك الناصر ناصر الدين ابن السلطان الملك الناصر ابن السلطان الملك المنصور.
ملك قهر الجبارين أخيرا، وصبحهم في مأمنهم مغيرا، وجعلهم في السجون وحدانا وكانوا أكثر نفيرا، وملأ القلوب سطوه، ولم يدع أحداً ينقل في غير الطاعة خطوه، واحتجن الأموال، وأرى الناس الغير والأهوال، وبنى المدرسة العظمى، وأنفق البلغاء فيها حواصل أفكارهم نثراً ونظما، ووقف عليها الوقوف التي تجري سيولها، وتسري في البر خيولها. إلا أن الدهر ما أمهله لتتكمل بدورها وتتأمل العيون ما تتطاول إليه قصورها، ولو تمت لخذلت مستنصرية ببغداد عندها، واعترفت لها بالتعظيم عن نية طاهرة لا عن دها:
تعنو الكواكب إجلالاً لعزتها
…
وتستكين لها الأفلاك من عظم
كأنّها إرمٌ ذات العماد وإن
…
زادت بمالكها فخراً على إرم
ولم يزل في عز سلطانه وجبروته، ومروره في بيد طيشه ومروته إلى أن خلع من الملك، وأنزل من درجات النعيم إلى درجات الهلك، حالة ألفها الناس من أم ذفر، وغاية لا بد منها لكل سفر، وذلك في يوم الأربعاء تاسع جمادى الأولى سنة اثنتين وستين وسبع مئة.
وكان قد جلس على تخت الملك أولا بعد خلع أخيه الملك المظفر حاجي في بكرة الثلاثاء رابع عشر شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وحضر إلى دمشق الأمير سيف الدين أسنبعا المحمودي السلاح دار وحلف له العساكر بدمشق، فاستقر بيبغاروس في نيابة مصر، والأمير منجك في الوزارة والاستاذدارية والأمير سيف الدين شيخو يقرأ القصص عليه بحضور السلطان، ولم يزل الحال على ذلك إلى أن كان يوم السبت رابع عشري شوال سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، فقال السلطان يوماً بحضور القضاة، وأمراء الدولة حضور: أنا ما أنا رشيد؟ قالوا: الله الله، فقال: أنا ما أنا أهل للسلطنة؟ فقالوا: الله الله. فقال: إن كان الأمر هكذا فأمسكوا إلي هذا. وأشار إلى الوزير منجك، وكان النائب أخوه قد توجه إلى الحجاز هو والأمير سيف الدين طاز، ودبر هذا الأمر له الأمير علاء الدين مغلطاي أمير آخور، فأمسك الوزير، وكتب إلى الأمير طاز فأمسك بيبغاروس في طريق الحجاز على ما تقدم في ترجمة بيبغاروس، وزاد مغلطاي في إمساك الأمراء والنواب، على ما تقدم، ولم يزل الأمر كذلك إلى أن خلع الناصر حسن في ثامن عشري شهر جمادى الآخر نهار الاثنين سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة وأجلسوا أخاه الملك الصالح صلاح الدين صالح، على ما سيأتي في ترجمته.
ولم يزل الملك الناصر حسن بالقلعة داخل الدور السلطانية في مكان يلازمه لا يجتمع بأحد إلى أن أحس الأمير سيف الدين شيخو بأن الأمير سيف الدين جردمر أخا الأمير طاز قد قصد فتنة يثيرها، فحينئذ خلع الملك الصالح وأعاد الناصر حسن
إلى الملك وأجلسه على تخت السلطنة بكرة الاثنين ثاني العيد من شوال سنة خمس وخمسين وسبع مئة.
وحضر الأمير عز الدين أيدمر الشمسي إلى دمشق وحلف له العساكر، وأخرج الأمير سيف الدين طاز إلى حلب نائباً، ونقل أرغون الكاملي من نيابة حلب إلى مصر، فأقام قليلاً واعتقله بالإسكندرية، واستقل بالتدبير الأمير سيف الدين شيخو والأمير سيف الدين صرغتمس، وكان الأمير سيف الدين طشتمر القاسمي أمير حاجب، ولم يزل الأمر كذلك إلى أن جرح الأمير شيخو على ما سيأتي في ترجمته، وأقام قليلاً ومات رحمه الله تعالى.
وأمسك الأمير طاز وأخوته، وانفرد صرغتمش بالتدبير بعد موت شيخو إلى أن أمسكه الملك الناصر حسن على ما سيأتي في ترجمته وأمسك معه جماعة، وذلك في عشري شهر رمضان سنة تسع وخمسين وسبع مئة، فصفت له الدولة ولم يشاركه أحد في التدبير، وشرع في عمارة المدرسة العظمى التي ظاهر القاهرة، ولو كملت لكانت غاية في العظم وعلو البناء واتساعه، ويقال إنه كان قد أرصد لعمارتها في كل يوم عشرين ألف درهم، وأقامت على ذلك، والعمارة لا تعطل منها يوماً واحداً ثلاث سنين وأكثر، وخلع وما نجزت عمارتها، وعلى الجملة فهي أمر عجيب.
وزاد في احتجان الأموال مصادرة الأمراء والكتاب وأصحاب الأموال، وزاد أيضاً في أخذ القرى الكبار الأمهات الأعيان من سائر المملكة الإسلامية بالشام جميعها ومصر واصطفائها لنفسه، ولم يمت أمير إلا وأخذ من إقطاعه خياره، ووفر بعض التقادم التي هي في العساكر لأمراء المئين، ولم يدع أحداً آمناً على نفسه من النواب ومن دونهم فلا يقيم النائب إلا دون السنة، وكذلك الأمراء لا يقيمون إلا أقل من سنة حتى
ينقلوا من إقطاعهم ومن مكانهم، ولم يزل الحال على ذلك إلى أن خلعه الأمير سيف الدين يلبغا الخاصكي في يوم الأربعاء تاسع جمادى الأولى سنة اثنتين وستين وسبع مئة كما تقدم، وأجلس السلطان الملك المنصور صلاح الدين محمد بن الملك المظفر حاجي، وورد إلى دمشق الأمير سيف الدين بزدار السلاح دار وحلف العساكر الشامية.
وكان بعض الأصحاب قد قصد مني نظم قصيدة أذكر فيها أمر السلطان وقهره وعمارته المدرسة المذكورة، وأن تكون واضحة بحيث يفهمها، فقلت:
إنّي بنظم مدائح السّلطان
…
فتق البيان من البديع لساني
النّاصر ابن الناصر الملك الذي
…
ملك القلوب بطاعة الرحمن
من بيت أملاك أبوه وجدّه
…
مع إخوةٍ صالوا على الحدثان
وأبو المحاسن بينهم حسن كما
…
سمّي حليف الحسن والإحسان
فتراه ما بين الملوك كأنّه
…
دين النّبيّ علا على الأديان
وتراه مثل البدر والأمراء مث
…
ل الزّهر في فلك من الإيوان
لا بل هو الشمس المنيرة في الضّحى
…
في رونقٍ وسناً ورفعة شان
أمست ملوك الأرض خاضعة له
…
في سائر الأقطار والبلدان
من عدله المشهور قد ملأ الملا
…
وكأنّه كسرى أنوشروان
لوعاينته ملوك عصرٍ قد مضى
…
لتقمّصوا بالذّلّ والإذعان
تتلو الحمائم في مناقب فضله
…
خطباً تهزّ منابر الأغصان
فترقّص الأعطاف من فرحس به
…
وتميل من طربٍ غصون البان
أيامه من يمنها وأمانها
…
مشكورةٌ فينا بكلّ لسان
قهر الأعادي بأسه فأذلّهم
…
ورماهم بالخزي والخسران
من خانه في ملكه فقد اغتدى
…
متبرّياً من ربقة الإيمان
والله سلّطه على أعدائه
…
ورمى الجميع بذلّة وهوان
الله أيّده ومكّن سيفه
…
من عنق كلّ منافق خوّان
وترى دما أعدائه بسيوفه
…
كشقائق نثرت على ريحان
لكنّه من رحمةٍ حقن الدّما
…
لم يمض فيها حدّ كلّ يمان
شكراً لخالقه الذي من لطفه
…
قد بات منصوراً على الأقران
وبنى بقاهرة المعزّ مدارساً
…
للفقه والتحديث والقرآن
أرسى قواعدها وشيّد صرحها
…
فعلت على العيّوق والدّبران
تتحيّر الأفهام في تكوينها
…
فنباؤها من أعظم البنيان
ليست على وجه البسيطة مثلها
…
من أرض توريز إلى أسوان
لو عاين المنصور رونقها غدا
…
من دهشةٍ لحقته كالحيران
هاتيك مدرسةٌ وأمّا هذه
…
فمدينةٌ في غاية الإتقان
للشافعيّ ومالكٍ وأبي حني
…
فةٍ الإمام وأحمد الشيباني
هو فارس الخيل الذي تجري به
…
كالبرق يوم السّبق في الميدان
فتطير أُكرته كرأس عدوّه
…
لما طغى من ضربة الجوكان
وكذاك يوم الحرب إن هزّت به
…
أيدي الكماة عوالي المرّان
يلقى الكفاح بوجهه وبنحره
…
ويكون ليث وغىً على الفرسان
نصر الضعيف على القويّ بباسه
…
فالظّلم في خزي وفي خذلان