الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبد الله بن الصنيعة المصري
الصاحب شمس الدين غبريال، بكسر الغين المعجمة وسكون الباء الموحدة وبعدها راء وياء آخر الحروف وبعد الألف لام، المصري.
كان أولاً كاتب الخزانة في أيام المنصور حسام الدين لاجين، وكان يصحب الأمير شمس الدين قراسنقر، ثم إنه انتقل إلى الشام وولي نظر الجامع الأموي والأسرى والأوقاف في المحرم سنة عشر وسبع مئة عوضاً عن شرف الدين بن صصرى. ولما حضر الأمير سيف الدين كراي لنيابة دمشق عزله عن نظر الجامع والأوقاف، وولى عوضه القاضي شرف الدين محمد بن جلال الدين النهاوندي قاضي صفد، ولما أمسك كراي وحضر الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك عزل شرف الدين النهاوندي وولى القاضي تقي الدين عمر بن السلعوس.
ثم إن الصاحب شمس الدين تولى نظر الدواوين بدمشق في نصف المحرم سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. عوضاً عن الشريف أمين الدين وبدر الدين بن أبي الفوارس لما حضر السلطان إلى دمشق، وتولى شد الدواوين معه الأمير فخر الدين أياس مملوك الأعسر عوضاً عن القرماني، وباشر نظر الدواوين على القالب الجائر، وأمسى كل أحد وهو في أمره حائر، دخل في ناصر الدين الدوادار، وتسلسل سعده وما دار، وخدم تنكز وبالغ في الخدمه، وثبت له على طول المدة،
قدم القدمه، وخدمته الأيام والليالي، وجرت أنهار دمشق له ذهباً، وأصبح حصاها لآلي، ووجه الناس بمباشرته السعيدة أماناً من الحوادث، وبقيت المناصب في أيدي مباشريها أوقافاً عليهم، تنتقل من وارث إلى وارث، وسد باب المرافعات والمصادرات، واغتنم أفعال الخير مع الناس بالمعاجلة والمبادرات، فكأنما كانت أيامه مواسم، وهبات هباته نواسم، وثغور الأيام فرحاً به في رحابه بواسم، والأرزاق بأقلامه قد أثقلت الغوارب وأعيت المناسم، وسعادات تدبيره لأدواء اللأواء حواسم، وربوع الجور والعدوان في مدة مباشرته طوامس ويقال: طواسم، وكأن أبا الطيب أراده بقوله:
لقد حسنت بك الأيام حتى
…
كأنك في فم الدنيا ابتسام
ورأى دمشق وتمتع بمحاسنها، وتنعم في ظلالها الوارفة من مساكنها، واقتنى بها الأملاك النفيسه، وحصل بها الأموال التي تكون البحار الزاخرة عليها مقيسه.
ولم يزل في سعادة بعد سعاده، وزيادة بعد زياده، إلى أن نقض حبله، ونفض ويله، فتغير له تنكز وتنكر، وأكمن له وتفكر، فاتفق مع السلطان على عزله، وأن يريه جده بعد هزله، فقبض عليه في حادي عشر شوال سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وبقي في الاعتقال إلى أن حضر السلطان من الحجاز فطلبه إلى مصر، فالتزم له بتكملة ألف ألف درهم.
ونزل إلى بيته وأقام بالقاهرة إلى أن أذنت شمسه بالغروب، وجرت الدموع عليه من الغروب.
وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة السبت ثامن عشر شوال سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
وكان الصاحب شمس الدين سعيد الحركات خفيفاً ظريفاً، حلو النادرة مليح التنديب، كان في متعممي دمشق شخص يعرف بالقاق يندب الناس عليه، ويمزحون معه بذلك ويظهر هو التأذي بعض الأوقات، فاتفق أنه سرق مرة جملة من الخشب من شيء كان يباشره، وذكر أمره للصاحب شمس الدين، فبقيت، فلما كان في بعض الأيام جاءه فقال له: يا مشؤوم، الناس يقولون عنك قاق، طلعت أنت نقار الخشب.
وكان فيه ستر وحلم، لم يقع لأحد من أكابر دمشق واقعة إلا وسد خرقها وتدارك رمقها وتلافى عطبها على أحسن الوجوه ولم يكشف لأحد رأساً ولا ضرب أحداً بالمقارع، ولا صادر أحداً ولا عزل أحداً. وكان كلما انتشأ أحد من الأمراء خواص السلطان خدمه وباشر أموره بالشام وثمر له وأهدى، وكان أولئك يعضدونه ويقيمونه، وإذا جاء أحد من مماليكهم أو من جهتهم أنزله عنده وأزاح أعذاره وخدمه، وكان مرجع دواوينهم إليه وأموالهم تحت يده يتجر لهم فيها ويتكسب مثل بكتمر الساقي وقوصون وبشتاك وغيرهم، كل من له علاقة بالشام ولا يخرج الحديث عنه، وكان هو والقاضي كريم الدين الكبير متعاضدين جداً، ودامت أيامهما مدة.
وطلبه السلطان مرات إلى مصر، فراح على البريد وعاد بزيادة إكرام وإنعام وزيادة معلوم، ولما كان في سنة أربع وعشرين وسبع مئة طلبه السلطان إلى مصر وخلع عليه وباشر نظر الدولة مع الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي الوزير وذلك في شهر رمضان، فأقام بالديار المصرية على كره منه لأنه ألف دمشق واعتدال مزاجها،
فسعى سعياً جيداً وعاد إلى دمشق على عادته وقاعدته في نظر الدواوين، ووصل إلى دمشق في يوم الاثنين ثامن عشري صفر سنة ست وعشرين وسبع مئة، وفرح الناس به واستبشروا، وعاد القاضي كريم الدين الصغير ناظر دمشق إلى مصر.
ولم يزل بدمشق على أكمل ما يكون من السعادة إلى أن قبض عليه تنكز بأمر السلطان في التاريخ المذكور، وجعل في المدرسة النجيبية ورسم عليه الأمير علاء الدين المرتيني، فكان يكون قدامه وإذا دخل إلى الطهارة وعاد منها يقوم الأمير يمسك له فرجيته ويلبسها له. ووزن في الشام أربع مئة ألف درهم ثم إن المرسوم ورد بطلبه إلى مصر فتوجه إليها ولما وصل نزل في الطبقة التي على دار الوزارة بقلعة الجبل وجاء إليه القاضي شرف الدين النشو، وقعد بين يديه، ولم يعرف من هو لبعد عهده بمصر، فقال: السلطان يسلم عليك، فلحظته أنا وغمزته، فعلم أنه كبير، فقام وقف له وأجلسه إلى جانبه فأسررت أنا إليه أن هذا هو النشو ناظر الخاص، فقام وقف وعامله بما يجب وحلف له أنه ما يعرفه، فقبل اعتذاره، ولما راح من عنده جاء إليه الأمير صلاح الدين الدوادار برسالة عن السلطان، وكان الأمير علاء الدين بن هلال الدولة مشد الدواوين يروح إليه في الرسائل عن السلطان هذا وهو قاعد على مقاعد سنجاب ومقاعد سرسينا، ولم أر أنا ولا غيري مصادراً مثله إلى أن قال له النشو: يا مولانا وزنت في الشام أربع مئة ألف فكمل لنا ألف ألف، فقال: السمع وألف طاعة، وكتب خطه بست مئة ألف درهم، ونزل إلى بيته، ولم يزل يحمل إلى أن بقي عليه مئتا ألف، فاستطلقها له الأمير سيف الدين قوصون من السلطان، ولو أن بكتمر الساقي يعيش له ما جرى عليه بعض ذلك، وكان أعاده لأنه شفع فيه عن طريق الحجاز وسير الإفراج عنه إلى الشام، ومات بكتمر بعد ذلك ثم إن أعداءه غيروا
السلطان عليه، وقيل له: إن في دمشق ودائع فكتب السلطان إلى تنكز، فتتبع ودائعه وظهر له شيء كثير، فحمل ذلك إلى السلطان.
ولما مات رحمه الله تعالى وقع بين أولاده اختلاف في الميراث، فطلع ابنه صلاح الدين يوسف ولم يكن له ولد ذكر غيره ودخل إلى السلطان ونم على أخواته، فأخذ منهم شيء كثير من الجوهر، فيرى الناس أن الذي أخذ من ماله أولاً وآخراً ما يقارب الألفي ألف درهم، وما أظنه نكب ظاهراً غير هذه المرة، وسمعته ليلةً يقول: من حين باشرت الكتابة ما أعلم أنني اشتريت لي مركوباً ولا قماشاً ألبسه أنا ولا أهلي، وفي هذه المصادرة لم يشك أحد عليه ولا رفع فيه قصة لا في الشام ولا في مصر، ولما أفرج عنه خرج الناس له بالشمع وفرحوا به فرحاً عظيماً.
وعمل بعد موته في دمشق محضر بأنه خان في مال السلطان واشترى به أملاكاً، وشهد فيه كمال الدين مدرس الناصرية، وابن أخيه القاضي عماد الدين، وعلاء الدين بن القلانسي، وعز الدين بن المنجا، وغيرهم من الأكابر، وامتنع عز الدين بن القلانسي ناظر الخزانة من ذلك، ونفذ المحضر إلى مصر، وأراد السلطان بيع أملاكه فوقف له قوصون واستطلقها منه لأولاده.
وكان يسمع البخاري في ليالي رمضان، وليلة ختمه يحتفل بذلك، ويعمل في كل سنة مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ويحضره الأكابر والأمراء والقضاة والعلماء ووجوه الكتاب، ويظهر تجملاً زائداً ويخلع على الذي يقرأ المولد، ويعمل بعد ذلك سماعاً للأمراء المحتشمين.
وعمر جامعاً حسناً، شرع فيه في شعبان سنة ثماني عشرة وسبع مئة على باب شرقي عند دير القعاطلة، ووقف عليه وقوفاً، وعمر بالرحبة بيمارستاناً، وعمر بكرك نوح عليه السلام بالبقاع طهارة وأجرى إليها الماء في قناة هناك.
وكتبت أنا إليه من الرحبة:
يا سيّد الوزراء ذكرك قد علا
…
وكأنّه حيث اغتدى كيوان
لك جامع بدمشق أضحى جامعاً
…
للفضل فيه الحسن والإحسان
وأمرت أن يبنى برحبة مالك
…
من جودك المبرور مارستان
أنشأت ذاك وذا فجئت بآيةٍ
…
صحّت بها الأديان والأبدان
وكتبت إليه يوماً وأنا بدمشق....
وكتبت إليه عن الأمير سيف الدين تنكز من الديار المصرية يعلمه بوصوله وتقبيله الأرض بين يدي السلطان وبحضور الإقبال الشريف عليه وإفاضة الإنعامات الشريفة عليه في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، ونسخة الكتاب: أسبغ الله ظل المقر الكريم العالي المولوي الصاحبي الشمسي، وسر قلبه بأخبار أحبابه، وسرى همه الذي توهمه بسببهم لما تقمص من الدجا أسود جلبابه، وسير أنباءهم التي هي أطرب وأطرى من زهر الروض تحت وقع ربابه. المملوك يخدم بدعائه الذي يتمسك من القبول بأقوى أسبابه. وبثنائه الذي يجد الندمان منه نشوة لا يجدها في كأسه المرصع بدر حبابه، ويقبل اليد الكريمة التي تخجل البحر إذا طمى في عبابه، وينهي
إلى العلم الكريم أنه سطرها من الأبواب الشريفه، خلد الله سلطانها، ونصر أعوانها، بعدما وصل إليها في يوم كذا وقبل الأرض بالمواقف الشريفه، وود لو استعار فم الثريا للثم تلك المواطئ التي هي على الكواكب منيفه، وفاز برؤية وجه مولانا السلطان الذي أخجل البدر في سعوده، وترقى على أوجه وهو في معارج صعوده، وود لو أن أعضاءه جميعها عيون، وكل جارحة فيها تطالب أشواقها بمالها في ذمة النوى من ديون، وشملت المملوك الصدقات الشريفة بتشريف أثقل كاهله، وجعل ربوع آماله بالمسرات آهله، وتوالى الإنعام الشريف في كل يوم على الأنعام، وأغرقته المواهب العميمة بأياديها إلى أن عام، وتزايد الجبر الشريف في كل ساعة يكون فيها بالمواقف الشريفة ماثلا، وفتح على المملوك بصالح أدعية ما ترك منها سهماً في كنانة ضميره إلا إذا كان له ناثلا، هذا إلى ما يتحف به في كل يوم من جمل التفاصيل التي يحار العقل في نقوشها، وتتأصل في المحاسن مباني عروشها، ومن الخيل التي ترى الشهب عند شهبها مستقله، ويود الأفق لو كانت تجعل مسيرها في مجرته لأنها تملأ الطرق بالأهله، ولم يصف المملوك أنواع هذه الصدقات الشريفة التي عمت، وكملت بدور بدرها وتمت، إلا إشعاراً لمولانا، بسط الله ظله، بأن نصيبه منها يحضر صحبة المملوك، ويناله منها ما يخجل القمر في التمام والشمس في الدلوك، وقد جهزها لمملوك على يد فلان ليطمئن خاطره الكريم، ويتحقق ما المملوك عليه من الأخبار التي تسره وتحل من قلبه في الصميم، وبعد قليل يأخذ دستورا بالعود، ويعلم أنها ساعة يشب لها الفؤاد ناراً ويشيب الفود، وإذا استخرج المراسيم الشريفة شرفها الله تعالى وعظمها بالرجوع، ورسم بذلك، وهو أمر يمنع الجفون من الهجوع، عجل المملوك