الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ الْحَجْرِ
وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: حَجْرٌ لِحَقِّ الْغَيْرِ، نَذْكُرُ مِنْهُ هَاهُنَا
الْحَجْرَ عَلَى الْمُفْلِسِ
ــ
[المبدع في شرح المقنع]
[كِتَابُ الْحَجْرِ]
[تَعْرِيفُ الحجر وَحُكْمُهُ]
هُوَ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ وَالتَّضْيِيقُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحَرَامُ حِجْرًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 22] أَيْ: حَرَامًا مُحَرَّمًا وَسُمِّيَ الْعَقْلُ حِجْرًا، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنِ ارْتِكَابِ مَا يَقْبُحُ وَتَضُرُّ عَاقِبَتُهُ، وَهُوَ فِي الشَّرْعِ مَنْعٌ خَاصٌّ أَيْ: مَنْعُ الْإِنْسَانِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، وَالْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ قَوْله تَعَالَى:{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] أَيْ: أَمْوَالَهُمْ، لَكِنْ أُضِيفَتْ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ، لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ عَلَيْهَا مُدَبِّرُونَ لَهَا وقَوْله تَعَالَى:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] وَإِذَا ثَبَتَ الْحَجْرُ عَلَى هَذَيْنِ ثَبَتَ عَلَى الْمَجْنُونِ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
[أَنْوَاعُ الْحَجْرِ]
[النَّوْعُ الْأَوَّلُ حَجْرٌ لِحَقِّ الْغَيْرِ]
[الْحَجْرُ عَلَى الْمُفْلِسِ]
(وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: حَجْرٌ لِحَقِّ الْغَيْرِ) أَيْ: لِغَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ كَالْمُفْلِسِ، وَالْمَرِيضِ، وَالزَّوْجَةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ تَبَرُّعٍ عَلَى رِوَايَةٍ، وَالْعَبْدِ، وَالْمُكَاتَبِ، وَالْمُشْتَرِي مَالُهُ فِي الْبَلَدِ، أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ الْمَبِيعَ، وَالرَّاهِنِ، وَالْمُشْتَرِي بَعْدَ طَلَبِ شَفِيعٍ. وَضُرِبَ لِحَقِّهِ، كَالصَّغِيرِ، وَالْمَجْنُونِ، وَالسَّفِيهِ (نَذْكُرُ مِنْهُ هَاهُنَا الْحَجْرَ عَلَى الْمُفْلِسِ) أَيْ: لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ فَالْمُفْلِسُ: الْمُعْدِمُ وَمِنْهُ الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ: «مَنْ تَعُدُّونَ الْمُفْلِسَ فِيكُمْ؟ قَالُوا: مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ، وَلَا مَتَاعَ قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ الْمُفْلِسَ، وَلَكِنَّ الْمُفْلِسَ مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ وَيَأْتِي، وَقَدْ ظَلَمَ هَذَا وَأَخَذَ مِنْ عِرْضِ هَذَا فَيَأْخُذُ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَرُدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ. فَقَوْلُهُمْ ذَلِكَ إِخْبَارٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْمُفْلِسِ، لِأَنَّهُ عُرْفُهُمْ وَلُغَتُهُمْ.
وَمَنْ لَزِمَهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ لَمْ يُطَالَبْ بِهِ قَبْلَ أَجَلِهِ، وَلَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِهِ، فَإِنْ أَرَادَ سَفَرًا يَحِلُّ الدَّيْنُ قَبْلَ مُدَّتِهِ فَلِغَرِيمِهِ مَنْعُهُ إِلَّا أَنْ يُوثِقَهُ بِرَهْنٍ، أَوْ كَفِيلٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ قَبْلَهُ فَفِي مَنْعِهِ رِوَايَتَانِ وَإِنْ كَانَ حَالًّا وَلَهُ مَالٌ يَفِي بِهِ لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ
ــ
[المبدع في شرح المقنع]
وَقَوْلُهُ: لَيْسَ ذَلِكَ الْمُفْلِسَ، يَجُوزُ: لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الْحَقِيقَةِ بَلْ أَرَادَ فَلَسَ الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ حَتَّى إِنَّ فَلَسَ الدُّنْيَا عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْغِنَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ أَفْلَسَ بِالْحُجَّةِ إِذَا عَدِمَهَا، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَمَرٌ مُفْلِسٌ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ نَوَاهُ فَهُوَ خُرُوجُ الْإِنْسَانِ مِنْ مَالِهِ. فَحَجْرُ الْفَلَسِ مَنْعُ حَاكِمٍ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ يَعْجِزُ عَنْهُ مَالُهُ الْمَوْجُودُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَالْمُفْلِسُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَلَا مَا يَدْفَعُ بِهِ حَاجَتَهُ، وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ مَنْ دَيْنُهُ أَكْثَرُ مِنْ مَالِهِ.
(وَمَنْ لَزِمَهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ لَمْ يُطَالَبْ بِهِ قَبْلَ) حُلُولِ (أَجَلِهِ) ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ قَبْلَ الْأَجَلِ، وَمِنْ شَرْطِ الْمُطَالَبَةِ لُزُومُ الْأَدَاءِ (وَلَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِهِ) ، لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ لَا تُسْتَحَقُّ، فَكَذَا الْحَجْرُ (فَإِنْ أَرَادَ سَفَرًا يَحِلُّ الدَّيْنُ قَبْلَ مُدَّتِهِ) أَيْ: قَبْلَ قُدُومِهِ (فَلِغَرِيمِهِ مَنْعُهُ)، لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي تَأْخِيرِ حَقِّهِ عَنْ مَحَلِّهِ (إِلَّا أَنْ يُوَثِّقَهُ بِرَهْنٍ) يَجُوزُ (أَوْ كَفِيلٍ) مَلِيءٍ لِزَوَالِ الضَّرَرِ إِذَنْ (وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ قَبْلَهُ فَفِي مَنْعِهِ رِوَايَتَانِ) إِحْدَاهُمَا: لَهُ مَنْعُهُ.
قَالَ فِي " الْمُغْنِي ": هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَقَدَّمَهُ فِي " الْمُحَرَّرِ "، وَجَزَمَ بِهِ فِي " الْوَجِيزِ "، وَصَحَّحَهُ فِي " الْفُرُوعِ "، لِأَنَّ قُدُومَهُ عِنْدَ الْمَحَلِّ غَيْرَ مُتَيَقَّنٍ وَلَا ظَاهِرٍ، فَمَلَكَ مَنْعَهُ إِلَّا بِوَثِيقَةٍ، وَالثَّانِيَةُ: لَا يَمْلِكُ مَنْعَهُ وَهِيَ ظَاهِرُ الْخِرَقِيِّ، لِأَنَّ هَذَا السَّفَرَ لَيْسَ بِأَمَارَةٍ عَلَى مَنْعِ الْحَقِّ فِي مَحَلِّهِ، فَلَمْ يَمْلِكْ مَنْعَهُ مِنْهُ كَالسَّفَرِ الْقَصِيرِ، وَالْمُذَهَبُ أَنَّهُمَا فِي غَيْرِ جِهَادٍ مُتَعَيِّنٍ، زَادَ فِي " الْفُرُوعِ " وَأَمْرٍ مَخُوفٍ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَعْرِيضًا لِفَوَاتِ النَّفْسِ، فَلَا يَأْمَنُ مِنْ فَوَاتِ الْحَقِّ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِهِ لَمْ يَمْلِكْ تَحْلِيلَهُ.
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَلَهُ مَنْعُ عَاجِزٍ حَتَّى يُقِيمَ كَفِيلًا بِبَدَنِهِ وَوَجْهِهِ فِي " الْفُرُوعِ "(وَإِنْ كَانَ حَالًّا) ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ وَفَاءِ بَعْضِهِ حَرُمَ مُطَالَبَتُهُ، وَالْحَجْرُ عَلَيْهِ
وَيَأْمُرُهُ الْحَاكِمُ بِوَفَائِهِ، فَإِنْ أَبَى حَبَسَهُ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْحَبْسِ بَاعَ مَالَهُ وَقَضَى
ــ
[المبدع في شرح المقنع]
وَمُلَازَمَتُهُ (وَ) إِنْ كَانَ (لَهُ مَالٌ يَفِي بِهِ) أَيْ: بِدَيْنِهِ الْحَالِّ (لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ) لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْغُرَمَاءَ يُمْكِنُهُمُ الْمُطَالَبَةُ بِحُقُوقِهِمْ فِي الْحَالِّ (وَيَأْمُرُهُ الْحَاكِمُ بِوَفَائِهِ) أَيْ: بَعْدَ الطَّلَبِ، لِأَنَّ الْغُرَمَاءَ إِذَا طَلَبُوا ذَلِكَ مِنْهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَصْلِ الْقَضَاءِ الْمُنْتَصِبِ لَهُ، وَالْمُذَهَبُ يَجِبُ إِذَنْ عَلَى الْفَوْرِ وَيُمْهَلُ بِقَدْرِ ذَلِكَ اتِّفَاقًا، لَكِنْ إِنْ خَافَ غَرِيمُهُ مِنْهُ احْتَاطَ بِمُلَازَمَتِهِ، أَوْ كَفِيلٍ، أَوْ تَرْسِيمٍ عَلَيْهِ. قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ (فَإِنْ أَبَى حَبَسَهُ) لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «قَالَ: لَيُّ الْوَاجِدِ ظُلْمٌ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَغَيْرُهُمَا.
قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ وَكِيعٌ: عِرْضُهُ: شَكْوَاهُ، وَعُقُوبَتُهُ: حَبْسُهُ، وَلَيْسَ لِحَاكِمٍ إِخْرَاجُهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَمْرُهُ، أَوْ يُبَرِّئَهُ غَرِيمُهُ، فَإِذَا صَحَّ عِنْدَ الْحَاكِمِ عُسْرَتُهُ أَخْرَجَهُ، وَلَمْ يَسَعْهُ حَبْسُهُ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ مَعَ الْقُدْرَةِ ضُرِبَ. ذَكَرَهُ فِي " الْمُنْتَخَبِ "، وَغَيْرِهِ.
قَالَ فِي " الْفُصُولِ "، وَغَيْرِهِ: يَحْبِسُهُ، فَإِنْ أَبَى عَزَّرَهُ قَالَ: وَيُكَرِّرُ حَبْسَهُ وَتَعْزِيرَهُ حَتَّى يَقْضِيَهُ.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: لَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا، لَكِنْ لَا يُزَادُ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى أَكْثَرِ التَّعْزِيرِ إِنْ قِيلَ: يَتَقَدَّرُ فَائِدَةٌ: رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْحَبْسُ عَلَى الدَّيْنِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُحْدَثَةِ وَأَوَّلُ مَنْ حَبَسَ عَلَيْهِ شُرَيْحٌ وَكَانَ الْخَصْمَانِ يَتَلَازَمَانِ.
قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: فَأَمَّا الْحَبْسُ الْآنَ عَلَى الدَّيْنِ، فَلَا أَعْرِفُ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَا عَلَى إِزَالَتِهِ حَرِيصٌ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْحَبْسَ عَلَيْهِ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ،
دَيْنَهُ، وَإِنِ ادَّعَى الْإِعْسَارَ وَكَانَ دَيْنُهُ عَنْ عِوَضٍ كَالْبَيْعِ وَأَعْرَضَ، أَوْ عُرِفَ لَهُ مَالٌ سَابِقٌ حُبِسَ إِلَى أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى نَفَاذِ مَالِهِ أَوْ إِعْسَارِهِ وَهَلْ يَحْلِفُ مَعَهَا؟ عَلَى
ــ
[المبدع في شرح المقنع]
وَالنُّعْمَانِ، وَأَبِي عُبَيْدٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، وَغَيْرِهِمْ (فَإِنْ أَصَرَّ) عَلَى الْحَبْسِ، وَلَمْ يَقْضِ الدَّيْنَ (بَاعَ) الْحَاكِمُ (مَالَهُ وَقَضَى دَيْنَهُ) لِمَا رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ مَالَهُ وَبَاعَهُ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ الْخَلَّالُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَقَدْ ضُعِّفَ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَظَاهِرُهُ يَجِبُ، نَقَلَ حَرْبٌ: إِذَا تَقَاعَدَ بِحُقُوقِ النَّاسِ يُبَاعُ عَلَيْهِ وَيُقْضَى.
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا قَدَّمَهُ فِي " الْفُرُوعِ ".
فَرْعٌ: إِذَا مَطَلَهُ بِحَقِّهِ أَحْوَجَهُ إِلَى الشِّكَايَةِ فَمَا غَرِمَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَعَلَى الْمُمَاطِلِ (وَإِنِ ادَّعَى الْإِعْسَارَ وَكَانَ دَيْنُهُ عَنْ عِوَضٍ كَالْبَيْعِ، وَالْقَرْضِ، أَوْ عُرِفَ لَهُ مَالٌ سَابِقٌ)، زَادَ جَمَاعَةٌ: وَالْغَالِبُ بَقَاؤُهُ (حُبِسَ) ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَالِهِ، وَحَبْسُهُ وَسِيلَةٌ إِلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ كَالْمُقِرِّ بِيَسَارِهِ، وَكَذَا إِذَا لَزِمَهُ عَنْ غَيْرِ مَالٍ كَالضَّمَانِ وَأَقَرَّ بِالْمَلَاءَةِ فَيَقْبَلُ قَوْلَ غَرِيمِهِ: إِنَّهُ لَا يَعْلَمُ عُسْرَتَهُ بِدَيْنِهِ (إِلَى أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى نَفَادِ مَالِهِ) أَيْ: تَلَفِهِ، وَتُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ، وَغَيْرِهَا، لِأَنَّ التَّلَفَ يُطَّلَعُ عَلَيْهِ (أَوْ إِعْسَارِهِ) ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تُظْهِرُ عُسْرَتَهُ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا، وَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ حَبْسُهُ وَيَجِبُ إِنْظَارُهُ، وَلَا تَحِلُّ مُلَازَمَتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] وَتُعْتَبَرُ الْبَيِّنَةُ بِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ، ذَكَرَهُ فِي " الْمُغْنِي "، وَ " الشَّرْحِ " (وَهَلْ يَحْلِفُ مَعَهَا) أَيْ: مَعَ الْبَيِّنَةِ أَنَّهُ مُعْسِرٌ؛ (عَلَى وَجْهَيْنِ) أَحَدُهُمَا: لَا يَحْلِفُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ.
قَالَ الْقَاضِي: سَوَاءٌ شَهِدَتْ بِتَلَفِ الْمَالِ، أَوِ الْإِعْسَارِ، لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ مَقْبُولَةٌ، فَلَمْ يُسْتَحْلَفْ مَعَهَا، كَمَا لَوْ شَهِدَتْ بِأَنَّ هَذَا عَبْدُهُ، وَالثَّانِي: بَلَى، وَذَكَرُهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى عَنْ أَصْحَابِنَا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ بَاطِنٌ خَفِيَ عَلَى الْبَيِّنَةِ، وَالْمَذْهَبُ كَمَا قَطَعَ بِهِ
وَجْهَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ حَلَفَ وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَا يَفِي بِدَيْنِهِ
ــ
[المبدع في شرح المقنع]
الشَّيْخَانِ، وَصَحَّحَهُ فِي " الرِّعَايَةِ "، وَ " الْفُرُوعِ " أَنَّهَا إِنْ شَهِدَتْ بِالتَّلَفِ فَطُلِبَ مِنْهُ الْيَمِينُ عَلَى عُسْرَتِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى أَمْرٍ مُحْتَمِلٍ خِلَافَ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ، وَإِنْ شَهِدَتْ بِالْإِعْسَارِ، فَلَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْذِيبِ الْبَيِّنَةِ.
تَنْبِيهٌ: ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ مَتَى تَوَجَّهَ حَبْسُهُ حُبِسَ، وَلَوْ كَانَ أَجِيرًا فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، أَوِ امْرَأَةً مُزَوَّجَةً، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ، وَالزَّوْجِيَّةَ لَا تَمْنَعُ مِنَ الْحَبْسِ إِنْ قِيلَ بِهِ.
وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعِي امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا، فَإِذَا حُبِسَ لَمْ يَسْقُطْ مِنْ حُقُوقِهِ عَلَيْهَا شَيْءٌ قَبْلَ الْحَبْسِ بَلْ يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهَا كَحَبْسِهِ فِي دَيْنِ غَيْرِهِ فَلَهُ إِلْزَامُهَا بِمُلَازَمَةِ بَيْتِهِ، فَإِنْ خَافَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهُ بِلَا إِذْنِهِ فَلَهُ أَنْ يُسْكِنَهَا حَيْثُ لَا يُمْكِنُهَا الْخُرُوجُ، كَمَا لَوْ سَافَرَ عَنْهَا.
(وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ) أَيْ: لَمْ يَكُنْ دَيْنُهُ عَنْ عِوَضٍ كَأَرْشِ جِنَايَةٍ، أَوْ قِيمَةِ مُتْلَفٍ، أَوْ مَهْرٍ، أَوْ عِوَضِ خُلْعٍ، أَوْ ضَمَانٍ، وَلَمْ يُقِرَّ بِالْمَلَاءَةِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ سَابِقٌ (حَلَفَ) أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ (وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ) ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمَالِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الْحَبْسُ عُقُوبَةٌ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ ذَنْبًا يُعَاقَبُ بِهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ مَالِهِ بِخِلَافِ مَنْ عُلِمَ لَهُ مَالٌ، فَإِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُعْلَمَ ذَهَابُهُ.
وَفِي " التَّرْغِيبِ " يُحْبَسُ إِلَى ظُهُورِ إِعْسَارِهِ.
وَفِي " الْبُلْغَةِ " إِلَى أَنْ يَثْبُتَ.
وَظَاهِرُ الْخِرَقِيِّ يُحْبَسُ فِي الْحَالَيْنِ، وَالْمَذْهَبُ مَا تَقَدَّمَ.
مَسْأَلَةٌ: يَحْرُمُ أَنْ يُحَلَّفَ مُعْسِرٌ لَا حَقَّ عَلَيْهِ، وَيَتَأَوَّلَ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَمَنْ سُئِلَ عَنْ غَرِيبٍ وَظَنَّ إِعْسَارَهُ شَهِدَ.
فَائِدَةٌ: قَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا عَفَّانُ ثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ - مِثْلُهُ صَدَقَةٌ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ، فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ، فَأَنْظَرَهُ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ» . إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ (وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَا يَفِي بِدَيْنِهِ) أَيِ: الْحَالِّ، وَلَا كَسْبَ لَهُ، وَلَا مَا يُنْفِقُ مِنْهُ غَيْرَهُ، أَوْ خِيفَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ