الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صلى
…
اذْهَبْ عَنْهُم الرجس وطهرهم أفضل التَّطْهِير. وعَلى
…
صَلَاة تصلنا بجواره وحبذا الْجوَار للمستجير.
أما بعد: فَالسنة هِيَ الْجنَّة الحصينة لمن تدرعها، والشرعة المنيعة لمن تشرعها، وردهَا صَاف وظلها ضاف، وبيانها واف وبرهانها شاف، وَهِي الكافلة بالاستقامة والكافية فِي السَّلامَة، وَالسّلم إِلَى دَرَجَات دَار المقامة، والوسيلة إِلَى الموافاة بصنوف الْكَرَامَة، قدوة
المتنسك وَعُرْوَة المتمسك، وبحر الْبَحْث وَعلم الْعلم، ومعدن الْجَوَاهِر السّنيَّة ومنبع الْآدَاب الدُّنْيَوِيَّة، حافظها مَحْفُوظ وملاحظها ملحوظ، والمقتدى بهَا على صِرَاط مُسْتَقِيم، والمهتدى بمعالمها صائر إِلَى مَحل النَّعيم الْمُقِيم، أهل الله لخدمتها خَواص خلقه، وَسَهل عَلَيْهِم فِي طلبَهَا متوعر طرقه فَمنهمْ من حملهَا وَاقْتصر، وَمِنْهُم من هز أفنانها فاجتنى الثَّمر لما هصر.
فَمن ثمَّ كَانَ من الْحُقُوق الْوَاجِبَة نشرها على النَّاس قاطبة يحملهَا الْآخِذ إِلَى الْغَالِب، ويبلغها الشَّاهِد إِلَى الْغَائِب. وَقَالَ رَسُول [صلى الله عليه وسلم] : نضر الله امْرَءًا سمع مَقَالَتي فوعاها، ثمَّ أَدَّاهَا كَمَا سَمعهَا فَرب مبلغ أوعى من سامع. فوظيفة الْحَامِل الْجَاهِل فِي هَذِه الْأَمَانَة أَن يُؤَدِّيهَا إِلَى أَهلهَا بِالْوَفَاءِ وَالتَّسْلِيم، ووظيفة الْحَامِل الحاذق أَيْضا أَن يُؤَدِّيهَا إِلَى من عساه أحذق مِنْهُ فِي الْفَهم والتفهيم، وليحذر أَن يحجب عَن الْمَزِيد باعتقاد أَنه ذَلِك الْعَظِيم. ففوق كل ذِي علم عليم،
وَمهما ظن أَنه لَيْسَ وَرَاء قدره مرمى، فقد حرم بركَة قَوْله عز وجل {وَقل رب زِدْنِي علما} [طه: 114] . وَقد كَانَ الْعلمَاء الربانيون من هَذِه الْأمة على مَا وهبوه من الْقُوَّة فِي غَايَة الخزع والهلع، يتدرعون الْعَجز الَّذِي يأباه الْيَوْم لكع بن لكع، حَتَّى كَانَ مَالك رحمه الله وَهُوَ الَّذِي لَا يقرى أحد كَمَا يقرى أَهْون مَا عَلَيْهِ أَن يَقُول فِيمَا لَا يدْرِي أَنه لَا يدْرِي، وَيُشِير بهَا إِلَى الأفاضل والأمائل، وَيَقُول: جنَّة الْعَالم لَا أَدْرِي فَإِذا أخطأها أُصِيبَت مِنْهُ الْمقَاتل.
وعزم أَمِير الْمُؤمنِينَ على أَن يحمل النَّاس فِي سَائِر المماليك على الإقتداء بموطأ مَالك رضي الله عنه وإطراح مَا عداهُ، وَأَن لَا يتجاوزه أحد، وَلَا يتعداه، فَمَنعه مَالك من ذَلِك، وَيخرج من أَن يكون فِي قواصي البسيطة من السّنَن المنقولة والعلوم المحفوظة نَوَادِر مَا أحَاط بهَا وَمن أَيْن للبشر قُوَّة مُحِيطَة. وَذَلِكَ أَن الصَّحَابَة رضي الله عنهم نشرُوا الْحق فِي الْبِلَاد، ونصحوا فِي النّظر للعباد، وَقد بَث الله فَضله حَيْثُ شَاءَ، وَلَعَلَّ فِي اللحوق مَا يفوق الْإِنْشَاء، وَقد يفهم الْفَرْع مَا خَفِي عَن الأَصْل، وَكَيف لأحد أَن يحْجر وَاسِعًا من الْفضل،
وَبِهَذَا يتنزل قَوْله عليه السلام: " رب مبلغ أوعى من سامع " على نصابه، وَيفهم على مَا هُوَ عَلَيْهِ والمتواضع هُوَ الَّذِي يَأْتِي الْبَيْت من بَابه. والعلوم وَاسِعَة وَمَا أُوتِيَ الْخلق مِنْهَا إِلَّا قَلِيلا. وَأُولَئِكَ أَيْضا الأقلون، والزيادات المتواقعة رَحْمَة وَمن يقنط من رَحْمَة ربه إِلَّا الضالون، وَمُقْتَضى الدَّلِيل أَن بَاب الزِّيَادَة مَفْتُوح إِلَى عصرنا هَذَا الَّذِي ساءت بِهِ الظنون، وَقعد الْمُحَقق فِيهِ فِي حيّز المغبون، فَإِن الشَّرِيعَة مَضْمُونَة الْحِفْظ مَأْمُونَة الإضاعة، متكفلة فِي ذمَّة الله إِلَى قيام السَّاعَة. فَيلْزم من ذَلِك أَن يؤهل الله لَهَا فِي كل عصر قومة بأمرها وخزنة لسرها،
يستنيرون جواهرها ويستبينون بواطنها وظواهرها، ويعالجون إرواء كل فصل بِمَا يَلِيق بالحكمة المضبوطة فِي ذَلِك الْفَصْل، ويتنزلون الْأَحْكَام على الْمصَالح السوانح الْمُخْتَلفَة الْفُرُوع المتفقة الأَصْل.
وَإِلَى هَذِه النُّكْتَة أَشَارَ مَالك رحمه الله فِي متقادم العصور بقوله: " تحدث للنَّاس فَتَاوَى بِقدر مَا أَحْدَثُوا من الْفُجُور ". وَفضل الله وَاسع فَمن زعم أَنه مَحْصُور فِي بعض العصور فقد حجر وَاسِعًا، ورضى بالهوينا، وَمَا أَفْلح من أصبح بهَا قانعاً، وَرُبمَا عقب النجيب والليالي كَمَا علمت حبالى مقربات يلدن كل عَجِيب.
وَالْمَقْصُود بِهَذِهِ الْمُقدمَة أَن الإِمَام أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ لما أودع كِتَابه من الْفِقْه الَّذِي اشْتَمَلت عَلَيْهِ التراجم مَا أودع، ورصع فِي عُقُود تِلْكَ الْأَبْوَاب من جَوَاهِر الْمعَانِي وَألْحق اللّبَاب مَا رصّع، ظَهرت من تِلْكَ الْمَقَاصِد فَوَائِد، وخفيت فَوَائِد، واضطربت الأفهام فِيمَا خفى، فَمن محوم وشارد.
فَقَائِل يَقُول: اخترم وَلم يهذب الْكتاب، وَلم يرتب الْأَبْوَاب.
وَقَائِل يَقُول: جَاءَ الْخلَل من النساخ وتجزيفهم والنقلة وتحريفهم.
وَقَائِل يَقُول: أبعد المنتجع فِي الِاسْتِدْلَال، فأوهم ذَلِك أَن فِي الْمُطَابقَة نوعا من الِاعْتِدَال.
وَبَلغنِي عَن الإِمَام أبي الْوَلِيد الْبَاجِيّ أَنه كَانَ يَقُول: " يسلم للبخارى فِي علم الحَدِيث، وَلَا يسلم لَهُ فِي علم الْفِقْه " ويعلل ذَلِك بِأَن أدلته عَن تراجمه متقاطعة، وَيحمل الْأَمر على أَن ذَلِك لقُصُور فِي فكرته وَتجَاوز عَن حد فطرته،
وَرُبمَا يَجدونَ التَّرْجَمَة وَمَعَهَا حَدِيث يتَكَلَّف فِي مطابقته لَهَا جدا، ويجدون حَدِيثا فِي غَيرهَا هُوَ بالمطابقة أولى وأجدى. فيحملون الْأَمر على أَنه كَانَ يضع التَّرْجَمَة ويفكر فِي حَدِيث يطابقها، فَلَا يعن لَهُ ذكر الْجَلِيّ فيعدل إِلَى الْخَفي، إِلَى غير ذَلِك من التقادير الَّتِي فرضوها فِي التراجم الَّتِي انتقدوها فاعترضوها.
ويقابل هَذِه الْأَقَاوِيل مَا أثرته عَن جدي رحمه الله سمعته يَقُول: كِتَابَانِ فقههما فِي تراجمهما: كتاب البُخَارِيّ فِي الحَدِيث، وَكتاب سِيبَوَيْهٍ فِي النَّحْو.
فَلَمَّا قدّر لي أَن أتصفّحها وأتلمّحها، لَاحَ لي عَن قرب وكثب مغزاه فِيهَا، فألفيتها أنواعاً:
مِنْهَا مَا يتَنَاوَلهُ الحَدِيث بنصه أَو ظَاهره وَهَذِه هِيَ الجلية. وَمِنْهَا مَا يتَنَاوَلهُ أَي يصدق عَلَيْهِ بِإِطْلَاقِهِ وَالْأَصْل نفي الْقُيُود. وَمِنْهَا مَا يكون ثُبُوت الحكم فِيهِ بطرِيق الأولى بِالنِّسْبَةِ إِلَى المنصوصة. وَمِنْهَا مَا يكون حكم التَّرْجَمَة فِيهِ مقيساً على حكم الحَدِيث قِيَاسا مُسَاوِيا. وَقد يعن لَهُ نَص التَّرْجَمَة فيعدل عَنهُ اكْتِفَاء بظهوره، ويعمد إِلَى حَدِيث آخر تتلقى مِنْهُ التَّرْجَمَة بطرِيق خَفِي لطيف فيذكره. وَمِنْهَا مَا لَا ذكر لَهُ فِي الحَدِيث الَّذِي أثْبته، لَكِن يكون الحَدِيث ذَا طرق أثْبته من بَعْضهَا لموافقة شَرط الْكتاب، وَلم يُثبتهُ من الطَّرِيق الْمُوَافقَة للتَّرْجَمَة لخلل شَرطهَا، فَيَأْتِي بِالزِّيَادَةِ الَّتِي لم توَافق شَرطه فِي التَّرْجَمَة، وَرُبمَا أَتَى بهَا فِي صِيغَة التَّعْلِيل كَحَدِيث وَقع لَهُ فِي " اللّقطَة ". وَقد بيّنه فِي بعض التراجم على مَوَاضِع الْخلاف. وَقد يترجم على صُورَة ويورد فِيهَا الْأَحَادِيث المتعارضة، ثمَّ قد بَينه على الْجمع إِن سنح لَهُ، وَقد يَكْتَفِي بِصُورَة الْمُعَارضَة تَنْبِيها على أَن الْمَسْأَلَة اجتهادية.
وَمِمَّا يستغربونه من تراجمه أَن يضمن التَّرْجَمَة مَا لم تجر الْعَادة بِذكرِهِ فِي كتب الْفِقْه، كترجمته على أكل الْجمار، فيظن أَن هَذَا لَا يحْتَاج إِلَى إثْبَاته بِدَلِيل خَاص، لِأَنَّهُ على أصل الْإِبَاحَة كَغَيْرِهِ، لَكِن لحظ هُوَ فِيهِ أَنه رُبمَا يتخيل أَن تجمير النّخل إِفْسَاد وتضييع لِلْمَالِ، فنبه على بطلَان هَذَا الْوَهم إِن سبق إِلَيْهِ أحد.
قلت: - رَضِي الله عَنْك! - وَقد سبق الْوَهم إِلَى بعض المعاصرين فانتقد على من جمّر نَخْلَة وَاحِدَة بعد أُخْرَى ليقتات بالجمار تحرجاً وتورعاً مِمَّا فِي أَيدي النَّاس لما عدم قوته الْمُعْتَاد فِي بعض الأحيان. وَزعم هَذَا الْمُعْتَرض إِن هَذَا إِفْسَاد خَاص لِلْمَالِ وَفَسَاد عَام فِي المَال. وَرُبمَا يلْحقهُ بنهي مَالك رحمه الله عَن بيع التَّمْر قبل زهوه على الْقطع إِذا كثر ذَلِك، لِأَن فِيهِ تسبباً إِلَى تقليل الأقوات. فَمَا وقفت على تَرْجَمَة البخارى ظَهرت لي كرامته بعد ثَلَاث مائَة سنة ونيف رحمه الله.
وَله أَمْثَال هَذِه التَّرْجَمَة كَثِيرَة ومجموع مَا وجدت لَهُ من هَذِه الْأَنْوَاع قريب أَربع مائَة تَرْجَمَة تحْتَاج التَّنْبِيه، فأثبتّها ونبهت على كل نوع مِنْهَا فِي مَكَانَهُ بأقصى الْإِمْكَان، وأخصر وُجُوه الْبَيَان. وَكَأَنَّهُ رحمه الله تحرج أَن يصنف فِي الْفِقْه على نعت التصانيف المشحونة بالوقائع الَّتِي عَسى كثير مِنْهَا لم يَقع، فَيدْخل فِي حيّز الْمُتَكَلف الَّذِي هدّد بِأَنَّهُ لَا يعان على الصَّوَاب، وَلَا يفتح لَهُ بَاب الْحق فِي الْجَواب. كَمَا نقل عَن مَالك رحمه الله أَنه كَانَ يكره أَن يُجيب عَن مَسْأَلَة لم تقع ويعتقد أَن الضَّرُورَة إِلَى الْجَواب خَلِيقَة بِأَن يرحم صَاحبهَا بالعثور على