الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: فهم من قَوْله عز وجل: {وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} [الزلزلة: 8] فِي تِلْكَ القذاة من ذرة. وَكَأَنَّهُ تورع أَن ينزه لحيته عَن شَيْء وَلَا ينزه عَنهُ الْمَسْجِد.
[حفظه]
وَمن نَوَادِر الْمَنْقُول فِي حفظه، أَن أهل بَغْدَاد امتحنوه بِمِائَة حَدِيث حولوا أسانيدها وبدلوها، ثمَّ عرضهَا عَلَيْهِ عَارض فِي المحفل، فَجعل يَقُول فِي كل حَدِيث: لَا أعرفهُ. فاستقصر النظارة حفظه، فَلَمَّا أتم الْمعَارض الْمِائَة عطف البُخَارِيّ عَلَيْهَا فَجعل يَقُول: أما الحَدِيث الأول فَهُوَ كَذَا، وَإِسْنَاده عِنْدِي كَذَا، إِلَى أَن انْتهى إِلَى آخر فجوّدها من حفظه، فَأقر الْكل لَهُ بِالْفَضْلِ وبإحراز الحصل.
قَالَ سيدنَا رضي الله عنه قلت:
وَمن مناقبه الدِّينِيَّة ومآثره الدَّالَّة على خلوص النِّيَّة
أَنه امتحن بمناواة مُحَمَّد بن يحي الذهلي، وَكَانَ مُحَمَّد هَذَا من جملَة مشايخه، ومتعيناً فِي عصره، مُتَقَدما بِالسِّنِّ، ومتخصصاً بِالْفَضْلِ، وانتصاباً للإفادة، واشتهاراً زَائِدا على الْعَادة، وأمراً مُطَاعًا حَقًا مراعاً. وَاقْتضى لَهُ مَجْمُوع هَذِه الْأَحْوَال أَن ظهر على البُخَارِيّ، وَعبر فِي وَجه وجاهته، ووكر فِي اعْتِقَاد الْخلق صفو نزاهته، إِلَى أَن نَادَى عَلَيْهِ أَن لَا يجلس أحد إِلَيْهِ، فَأَقَامَ البُخَارِيّ بُرْهَة من الزَّمَان وحيداً فريداً، ثمَّ لم يكفه حَتَّى أجلاه عَن الوطن غَرِيبا شَرِيدًا، وانقسم
النَّاس فِي حَقه إِلَى قسمَيْنِ: أحنهما عَلَيْهِ وأدناهما إِلَيْهِ، هُوَ الَّذِي يظنّ فِيهِ الِاعْتِقَاد وَلَا يتجاسر على إِظْهَار تَعْظِيمه خشيَة الانتقاد؛ حَتَّى قيل عَنهُ رضي الله عنه إِنَّه دَعَا فِي سُجُوده ذَات لَيْلَة دَعْوَة ورخها من كَانَ مَعَه وأجابها من قبل دعاءه وسَمعه، وَذَلِكَ أَنه قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّه قد ضَاقَتْ عليّ الأَرْض بِمَا رَحبَتْ فاقبضني إِلَيْك " فَقبض لشهر من هَذِه الدعْوَة. ثمَّ لم يكن إِلَّا أَن اجْتمع الخصمان فِي دَار الْجَزَاء، وقدما على الحكم الْعدْل الْمنصف فِي الْقَضَاء فَانْقَلَبَ خمول البُخَارِيّ ظهوراً، وظهورُ غَيره دثوراً، وَقطع النَّاس بتعظيم البُخَارِيّ أعصراً ودهوراً وَقطع ذكر الذهلي حَتَّى كَأَن لم يكن شَيْئا مَذْكُورا، فَهُوَ إِلَى الْآن لَا يعرف اسْمه إِلَّا متوغل فِي معرفَة أَسمَاء الْمَشَاهِير والخاملين، وَلَا يمرّ ذكره على الْأَلْسِنَة إِلَّا فِي الْحِين بعد الْحِين، وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين وَالْعَمَل على الْخَوَاتِم وَعِنْدهَا يَزُول الشَّك بِالْيَقِينِ. وقصته مَعَ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي أسْند الْخَطِيب وَهَذَا مَعْنَاهُ:
قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن يَعْقُوب حَدثنَا مُحَمَّد بن نعيم، قَالَ سَمِعت مُحَمَّد بن حَامِد يَقُول سَمِعت الْحسن بن مُحَمَّد يَقُول، سَمِعت مُحَمَّد بن يحيى الذهلي يَقُول لَمَّا ورد مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ نيسابور: اذْهَبُوا إِلَى هَذَا الرجل الصَّالح الْعَالم فَاسْمَعُوا مِنْهُ، فَذهب النَّاس إِلَيْهِ وَأَقْبلُوا بِالْكُلِّيَّةِ عَلَيْهِ، حَتَّى ظهر الْخلَل فِي مجْلِس الذهلي فحسده بعد ذَلِك وَتكلم فِيهِ.
قَالَ الْفَقِيه - وَفقه الله -: قلت: تَحْسِين الظَّن يُوجب تَحْرِير هَذِه الْعبارَة وَكَأَنَّهُ أَرَادَ - وَالله أعلم -: فَعَلَ مَعَه فعل الحاسدين بِتَأْوِيل عِنْده - وَالله أعلم -.
قَالَ: وَأخْبرنَا أَبُو حَازِم قَالَ، سَمِعت الْحسن بن أَحْمد بن شَيبَان يَقُول، سَمِعت أَبَا حَامِد يَقُول: رَأَيْت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل فِي جَنَازَة أبي عُثْمَان والذهلي يسْأَله عَن الْأَسْمَاء والكنى والعلل، وَهُوَ يمرّ كَأَنَّهُ السهْم. فَمَا أَتَى على ذَلِك شهر حَتَّى تكلم فِيهِ وَقَالَ: من اخْتلف إِلَيْهِ، لَا يخْتَلف إِلَيْنَا، وتعلل بِأَن أهل بَغْدَاد كاتبوه بِأَنَّهُ تكلم فِي اللَّفْظ. وَكَانَ الذهلي يَقُول: من قَالَ: " لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق " فَهُوَ مُبْتَدع يزْجر ويهجر، وَمن قَالَ: الْقُرْآن مَخْلُوق فَهُوَ كَافِر يقتل وَلَا ينظر.
وَالَّذِي صَحَّ عَن البُخَارِيّ رحمه الله أَنه سُئِلَ عَن اللَّفْظ، وضايقه السَّائِل فَقَالَ: أَفعَال الْعباد كلهَا مخلوقة. وَكَانَ يَقُول مَعَ ذَلِك: الْقُرْآن كَلَام الله غير مَخْلُوق.
وَذكر أَن مُسلم بن الْحجَّاج رحمه الله ثَبت مَعَه فِي المحنة، وَقَالَ يَوْمًا الذهلي - وَمُسلم فِي مَجْلِسه -: من كَانَ يخْتَلف إِلَى هَذَا الرجل، فَلَا يخْتَلف إِلَيْنَا، فَعلم مُسلم أَنه المُرَاد، فَأخذ طيلسانه وَقَامَ على رُؤُوس الأشهاد، فَبعث إِلَى الذهلي بِجَمِيعِ الْأَجْزَاء الَّتِي كَانَ أَخذهَا عَنهُ.
وَمن تَمام رسوخ البُخَارِيّ فِي الْوَرع أَنه كَانَ يحلف بعد هَذِه المحنة، أَن الحامد والذام عِنْده من النَّاس سَوَاء، يُرِيد أَنه لَا يكره ذامه طبعا. وَيجوز أَن يكرههُ شرعا، فَيقوم بِالْحَقِّ لَا بالحظ، ويحقق ذَلِك من حَاله أَنه لم يمح اسْم الذهلي من جَامعه، بل أثبت رِوَايَته عَنهُ، غير أَنه لم يُوجد فِي كِتَابه إِلَّا على أحد وَجْهَيْن:
إِمَّا أَن يَقُول: " حَدثنَا مُحَمَّد " ويقتصر. وَإِمَّا أَن يَقُول: " حَدثنَا مُحَمَّد بن خَالِد ". فينسبه إِلَى جد أَبِيه.
فَإِن قلت: فَمَا لَهُ أجمله، وأنفي أَن يذكر بنسبه الْمَشْهُور؟
قلت: لَعَلَّه لما اقْتضى التَّحْقِيق عِنْده أَن يبْقى رِوَايَته عِنْده خشيَة أَن يكتم علما رزقه الله على يَدَيْهِ وعذره فِي قدحه فِيهِ بالتأويل والتعويل على تَحْسِين الظَّن، خشِي على النَّاس أَن يقعوا فِيهِ بِأَنَّهُ قد عدّل من جرحه، وَذَلِكَ يُوهم أَنه صدقه على نَفسه فيجر ذَلِك إِلَى البُخَارِيّ وَهْنا، فأخفى اسْمه وغطّى رسمه وَمَا كتم علمه، فَجمع بَين المصلحتين، وَالله أعلم بمراده من ذَلِك.
قَالَ سيدنَا ومولانا الْفَقِيه رضي الله عنه: هَذَا آخر مَا سنح لنا إثْبَاته من مناقبه، ليعظم بذلك وَقع الْعلم عِنْد طَالبه. رزقنا الله الْعَمَل بِمَا علمنَا، والعذر فِيمَا جهلنا، والتوفيق فِيمَا قُلْنَا، أَو فعلنَا، وَأَدَاء الْأَمَانَة فِيمَا حملنَا.
وَهَذَا أَوَان نفتح الْمَطْلُوب بعون الله وتيسيره، وعَلى الله قصد السَّبِيل فِي تحري الصَّوَاب وتحريره، وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل.