الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: النظام التربوي
مقدمة
قدم الإسلام الحنيف بناءً تربويًّا متكاملًا للبشرية -يحقق لهم السعادة في الدنيا، والفوز بالجنة ورضوان الله في الآخرة- منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا. ويتسم البناء التربوي الإسلامي بخاصية فريدة تميزه عن كافة النظريات الوضعية وهي أن مصدره كتاب الله وسنة نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4] ، وهذا المصدر الإلهي للبناء التربوي الإسلامي هو الذي يؤكد صدقه وثباته المطلق، وفائدته العظمى للإنسان في الدنيا والآخرة معًا. وينبثق النظام التربوي في الإسلام من النظام التفسيري والرؤية الصادقة للكون والحياة والمجتمع والتاريخ والإنسان، فالله هو الخالق وهو سبحانه المنظم ومبدع الإنسان وخالقه بنوازعه وجوهرة، ومنزل الشريعة المناسبة له والقادرة على تنظيم شئونه، وعلى تحقيق التوازن أو التعادلية المعجزة لحاجاته الجسدية المادية والروحية والعقلية*.
وينطلق النظام الإسلامي في التربية من الفهم الصادق لحقيقة الإنسان والهدف من خلقه وأساليب تحقيق أهدافه ومصيره في الآخرة، وهي مقدمات لا بد منها حتى يستوي النظام التربوي غاية ووسيلة، ويحقق أهدافه.
فقد خَلَقَ الله سبحانه وتعالى الإنسان ليكون خليفة له في الأرض،
* للمزيد من المعلومات حول هذه القضية ارجع إلى دراسات المؤلف بعنوان: الإسلام وقضايا علم النفس، المنهج الإسلامي في تفسير المجتمع، والكتابان صادران عن دار الشروق- جدة.
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 165] . وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] . والهدف الأساسي من هذا الخلق والاستخلاف كما يوضحه لنا القرآن الكريم هو:
أولًا: توحيد الله سبحانه وعبادته: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56-58] .
ثانيًا: تعمير الكون والتعارف بين الناس شعوبًا وقبائل، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] .
ثالثاً: إقامة دين الله على الأرض وتتبع هدى الله سبحانه، الأمر الذي يتفق مع الفطرة السليمة التي خلق الله الناس عليها، قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] . وقال تعالى: {وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ، إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس: 22-25] ، والإنسان المفطور على التوحيد قد تغريه الحياة الدنيا لأنه ضعيف، فهو في حاجة مستمرة للاتصال بالله وتلقي هدايته، قال تعالى:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] . واستوجب الدين القيم انطلاق المسلمين للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] . وقال سبحانه؛ {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْف
وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] . والمسلم مطالب بالمجاهدة في سبيل إعلاء كلمة الله سبحانه ودحر الباطل وأهله {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] .
رابعًا: العمل بما يتفق مع التكريم الإلهي للإنسان {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] . فلا يهبط الإنسان عن مستوى الإنسانية الذى استحق من أجله التكريم الإلهي، وعليه أن ينشط في عمارة الأرض بما توحيه الآية الكريمة مِنْ حمله -في البر والبحر- ورزقه من -الطيبات- فيستغل هذه الطاقة الممنوحة له في كل اتجاه في إطار تقوى الله ومبادئ الإسلام الحنيف. فالإسلام هو الدين الوحيد الذي يدعو المؤمنين إلى إعمال عقلهم في كل اتجاه من الكون ومجتمعه وتاريخه من أجل فهم سنن الله في الكون والمجتمع والإنسان والتاريخ، ذلك لأن كل تفكير سليم سوف يسهم في إثبات عظمة الخالق سبحانه {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] .
ولقد زود الله سبحانه الإنسان بكل إمكانات الخلافة عن الله سبحانة وتلقي الهداية عنه قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] . وقال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5] . ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6-8] .
من رحمة الله سبحانه بعباده أن وجههم منذ الميلاد إلى الفطرة السليمة، وأودع فيهم ميلًا طبيعيًّا للارتباط بتوحيده سبحانه، يقول عليه السلام:"ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه" صحيح البخاري -4/144. وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا
أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] . غير أن الإنسان -على الرغم من فطرته السليمة- ضعيف أمام المغريات {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] . وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر، إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر] . وقال سبحانه: {خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ، فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ، أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 4-8] . وقال سبحانه مخاطبًا الإنسان: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا، وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق: 6-12] .
والواقع أن انحراف الإنسان عن الفطرة يؤدي إلى اختلال حياة الإنسان في الدنيا وإلى عذاب السعير في الآخرة، وهنا تبرز وظيفة التربية في الفكر الإسلامي الحنيف فهي المسئولة عن الحفاظ على الفطرة وتوجيه الإنسان للإيمان بالله وتوحيده فكرًا وسلوكًا، وهي المسئولة عن إعداد الإنسان الصالح، وهي مستمرة باستمرار وجود الإنسان على الأرض، وقد احتلت التربية والتعليم أهمية بالغة في الدين الإسلامي {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] . وقال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] . وقال عليه السلام: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقًا إلى الجنة" الترمذي 5/28. وقال عليه السلام: "من خرج في طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع" الترمذي 5/29. و "طلب العلم فريضة على كل مسلم" ابن ماجه 1/81.
وتحرص التربية الإسلامية على تحقيق التوازن والتكامل في شخصية
المسلم، وفي إشباع حاجاته وميوله، فلو كان الله سبحانه يريد للبشر أن يكونوا أرواحًا خالصة أو ملائكة مجردة عن الشهوة لفعل، ولو كان يريد لهم أن يكونوا كالأنعام يسعون وراء الشهوة الخالصة لفعل، لكنه سبحانه خلق الإنسان من قبضة طين ونفخة من روحه سبحانه، قال تعالى:{ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 6-9] . وقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم: 20] .
وعلى هذا فالروح والجسد في الإنسان متلازمان تتم بهما الحياة ولا يمكن إنكار أحدهما في سبيل الآخر، فلا يجوز للمؤمن بالكتاب أن يبخس الجسد حقًّا ليوفي حقوق الروح، ولا يجوز له أن يبخس الروح حقًّا ليوفي حقوق الجسد، ولا يحمد منه الإسراف في مرضاة هذا ولا مرضاة ذاك، يقول تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 87-88] . ويقول تعالى في مجال استنكار تحريم الزينة والطيبات من الرزق التي أحلها الله لعباده: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31-32] . وما هو محرم حدده الله في نفس السورة وفي سور أخرى حيث قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] . وأباح الله ممارسة الشهوات بالطرق التي أحلها الله {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِن
أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] : ويقول سبحانه وتعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14] . وفي مقابل هذه الشهوات مَنَحَ اللَّهُ سبحانه الإنسان ضوابط للتحكم والتوجيه فيما يرضي الله {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [النحل: 78]، وقال تعالى:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 57] . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلي بيوت أزواج النبي -صلي الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلي الله عليه وسلم- فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي -صلي الله عليه وسلم- قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ وأما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" البخاري 3/237.
ونستطيع القول أن النظام التربوي الإسلامي يأخذ في الاعتبار مجموعة من الأبعاد وهي:
أولًا: تحديد الصلة بين الخالق والبارئ المصور وبين الإنسان المخلوق.
ثانيًا: تنظيم أمور الناس في الدنيا -علاقاتهم بعضهم ببعض سياسيًّا واقتصاديًّا وأسريًّا وتربويًّا
…
إلخ- فالإنسان خلق ليعيش فترة ما في الحياة الدنيا وهو محتاج للشريعة التي تنظم له شئونه الدنيوية وعباداته معًا.
ثالثًا: بيان كيفية تحقيق الهدف السامي من استخلاف الله للإنسان في الأرض، وأسلوب معيشته على الرقعة المكانية التي تشمل الكرة الأرضية
كلها بشكل يحقق الهدف الذي خلق من أجله الإنسان الذي كرمه الله على سائر خلقه.
رابعًا: مراعاة البعد الزمني لعمر المتعلم فهو يبدأ في الدنيا ويمتد إلى الآخرة عبر مستقبل غير متناهٍ.
ولعل فلسفة التربية الإسلامية برزت من أول سورة نزلت على الرسول عليه الصلاة والسلام وهي، {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] . فالقراءة هنا والتعلم باسم الرب موجهة لما يرضيه، وهذه السمة ميزت التربية الإسلامية عن كل تربية سابقة أو لاحقه، فمخطط هذه التربية وواضع أصولها هو الخالق، وهو المعلم، وهو المربي الذي يعرف دقائق الإنسان وقدراته الإدراكية والاستيعابية، ويجعل هدف التربية تحقيق عبودية الإنسان لله، تلك العبودية التي تحقق له العزة على كافة المستويات الأرضية. وقد اتسمت كل فلسفات التربية الأخرى بأنها تتم في أطر ضيقة كالفردية أو العائلية أو القومية أو الإقليمية أو النزعة العرقية
…
وهي غالبًا ما تكون موجَّهةً لخدمة أسرة أو دولة أو مجتمع محدد
…
وهناك من فلسفات التربية ما أَدَّتْ إلى أبشع أنواع التجارب البشرية المريرة كأسلوب التربية في إسبرطة القديمة وأساليب التربية السوفيتية، وداخل الكميونات الصينية -والتي تحاول تجريد الإنسان من إنسانيته حيث تسعى إلى تجريده من الميول الدينية والأسرية والعاطفية، لتجعله عبدًا للأرض ينتج عليها ويدافع عنها ويحيا حياة جماعية حيوانية كاملة- ولا نستطيع أن نتناسى ما جره الأسلوب النازي في التنظيم والتربية في ألمانيا من دمار شملت آثاره العالم كله.
أما التربية الإسلامية فإنها لا تتم لصالح طبقة محددة أو باسم قومية أو مجموعة عرقية Ethnic Group أو باسم مجتمع محدد أو دولة معينة، لكنها تتم باسم الله خالق البشر والأكوان ولصالح الإنسان حيثما وجد سواء